الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محظورات في الحوار
ينظر الكثيرون من الغيورين إلى الحوار نظرة المتشكك المرتاب في أهدافه ومقاصده، كما لا تخطئ عيونهم رؤية بعض الأخطاء التي يقع فيها المحاورون من المسلمين، مما يعزز اعتقادهم بعدم جدوى الحوار لغلبة مفاسده.
ويرى المتشككون في الحوار أن منطلقات الحوار تدعو للريبة، وأن الذي دفع الغرب بمؤسساته المختلفة تجاه الحوار انفتاح شعوبه على الإسلام، واعتناق ألوف منهم إياه؛ ورأت تلك المؤسسات أن لا جدوى من المجابهة والتحدي، فلجؤوا إلى الحوار للظهور بمظهر الِندّ، لا المهزوم، والموافق لا المجابه، ولعلهم بذلك يطفؤون روح التشوّف إليه لدى رعاياهم، ويُثبتون فيهم هامشية الفروق بين الأديان، وعليه فإن الواجب يفرض علينا تفويت الفرصة عليهم والامتناع عن معونتهم في بلوغ غاياتهم من الحوار.
ومما عمّق هذا الشعور المرتاب أن المؤسسات الكنسية صرحت بنيّتها استغلال الحوار، وجعله وسيلة للتبشير، يقول الدستور الرعوي الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني:"تبدو الكنيسة رمز هذه الإخوة التي تنتج الحوار الصادق وتشجعه، وذلك بفعل رسالتها التي تهدف إلى إنارة المسكونة كلها بنور البشارة الإنجيلية".
كما أصدرت الكنيسة الكاثوليكية وثيقة بعنوان: (حوار وبشارة) عام 1991م، جاء فيها: "إن المسيحين وهم يعتمدون الحوار بروح منفتح مع أتباع التقاليد الدينية الأخرى؛ يستطيعون أن يحثوهم سلمياً على التفكير في محتوى معتقدهم
…
".
وأما مجلس الكنائس العالمي البروتستنتي فقد صرح بالدعوة إلى استغلال الحوار للتبشير في كتاب (توجيهات للحوار)، وفيه:"يمكننا بكل صدق أن نحسب الحوار كإحدى الوسائل التي من خلالها تتم الشهادة ليسوع المسيح في أيامنا". (1)
(1) دعوة التقريب بين الأديان (2/ 780 - 782).
لكنا نلفت النظر إلى أن الحوار الذي تشير إليه الكنيسة ليس الحوار الذي تديره المؤسسات العلمية والثقافية التي لا يمكن التأثير عليها، فمثل هؤلاء الحوار معهم محبذ ومحمود، لكن الحوار الذي تنشده الكنيسة وتمارسه حقيقة في كثير من المواطن هو الحوار مع دهماء المسلمين وعامتهم، وهو ما قد ينجح فيه التبشير ويحقق ما يحذره المتشككون والرافضون لمشروع الحوار.
كما يحجم المتشككون في مصداقية جولات الحوار السابقة عن المشاركة في جولاته اللاحقة لما يرونه من مشاركة بعض الأطراف الإسلامية التي لا يخلو منهجها من دخن كالعصرانيين وغيرهم ممن لا يعبرون عن الموقف الإسلامي الأصيل في قضايا الحوار، ولعل من أهم أسباب اتساع هذه المثلبة تباعد الغيورين عن هذا الميدان الذي تضمن مشاركتهم فيه ظهور الموقف الإسلامي الناصع المبني على هدي الكتاب والسنة.
وينقل الدكتور أحمد سيف التركستاني بعض حجج المانعين من الحوار، إذ يرون "أن الحوار يقود إلى الفتنة والصدام"، وقاعدة سد الذرائع - حسب رأيهم - تبرر الإعراض عن المشاركة في الحوار، وهذه الحجة يراها الدكتور التركستاني نوعاً من تغييب الحقيقة، ويرى أن تجاوزها ممكن، إذا أخذنا "بشروط الحوار الصحيح الخالي من الجدل العقيم أو غير الملتزم بآداب الحوار". (1)
كما يحجم البعض عن المشاركة في الحوار لأنه "يعطي الفرصة لتلميع الآراء الباطلة" وهذا تعميم لا يوافق عليه الدكتور التركستاني، إذ يرى "الغالب أن الآراء الباطلة إنما تكتسب بريقها إذا انفردت بالأجواء والأضواء، بعيداً عن الاعتراض عليها والتصدي لها بالحوار"، ويصل إلى نتيجة مفادها أن "الحوار يعطي الفرصة لتوهين الآراء الباطلة وخفض درجة توهجها وبريقها، وذلك بما يكشفه من الحق المناقض لها ومن الباطل المنطوي فيها". (2)
(1) مشروعية حوار الأديان (17).
(2)
مشروعية حوار الأديان (17 - 18).
وإذ نسجل هذه الاعتراضات وتلك النظرات المتشككة في مصداقية الحوار، فإننا نرى ضعفها وعدم كفايتها في تغييب صوت الحق عن مجالس الحوار والنقاش، وما تؤدي إليه من تصحيح للمفاهيم الخاطئة وتحييد لبعض القوى والمؤسسات المعادية للإسلام، بل واجتذاب غير المسلمين ودعوتهم إلى دين الله القويم.
وفراراً من الوقوع في أخطاء الماضي، وسعياً للوصول إلى صورة منضبطة بآداب الشرع نعرض لبعض الأخطاء والمحظورات التي ترتكب في الحوار:
1 -
الوقوع في المداهنة
لما كانت ملتقيات الحوار بعموم أنواعها تهدف إلى استثمار العلاقات الإنسانية كان لابد أن تتسم لقاءاتها بالكثير من المجاملة التي يحاول المتحاورون من خلالها تغييب الكثير من الشقاق الذي تكنه عقولهم وقلوبهم للآخرين.
وقد رأينا كيف أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ببسط الوجه وحسن اللقاء، وكيف صنع مع أساطين الكفر وصناديد الشرك.
لكن المجاملة والمراءاة قد تؤدي ببعض المتحاورين إلى المداهنة والابتذال، والخضوع بالقول، وكتمان الحق، والسكوت عن الباطل، وقد تدفع بالبعض إلى موادة محاوريهم واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وموالاتهم وموافقتهم في مواقفهم وآرائهم ومعتقداتهم، مما يوقع المحاور المسلم في سخط الله وغضبه.
فقد أمر الله المؤمنين بالصدع بالحق وعدم كتمانه، فقال آمراً نبيه وهو في مكة:{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (الحجر: 94).
وقال تعالى منبهاً ومحذراً المؤمنين من الوقوع فيما وقع به بنو إسرائيل: {وإذ أخذ الله ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون} (آل عمران: 187)، فالمداهنة ليست من شأن المسلم ولا سَمته.
ولما جاء وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم معتقده في المسيح عليه السلام، ولم يبال عليه الصلاة والسلام بغضبهم من ذلك، فقالوا: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ((وما أقول؟)) قالوا: تقول: إنه عبد. قال: ((أجل. إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول))، فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأرنا مثله. فنزلت الآية:{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59). (1)
وللمداهنة المستقبحة صور كثيرة أهمها الثناء على معتقدات الآخرين وتسويغها، أو التوقف في كفرهم واعتبارهم إخوة لنا يجمعنا بهم الإيمان بالله وغير ذلك مما لا يخفى تحريمه، وقد سبق بيان بعضه.
والعجب من وقوع بعض المحاورين في هذا المنكر البغيض تطوعاً من غير ضرورة ولا مسوغ مفهوم إلا التزلف للآخرين واسترضاؤهم بما يغضب الله العظيم.
وأمثال هؤلاء مدعوون لقراءة ما قاله جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي، إذ لم يمنعه ضعفه وغربته من أن يقول الحق من غير مداهنة بين يدي ملك لا تدرى عواقب مخالفته. فقد قال سفير قريش عمرو بن العاص: "والله لأنبئنهم غداً عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم
…
والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
قالت [أم سلمة]: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله.
فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول - والله - فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن.
(1) رواه الطبري في تفسيره (3/ 296).
فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ". (1)
ويمكننا أيضاً أن نلحظ في القصة إباء جعفر وامتناعه عن السجود للنجاشي خلافاً لعادة الناس مع الملوك، فقد تركه لحرمته في الإسلام، مع مسيس الحاجة إليه تألفاً لقلب النجاشي نحوه ونحو المسلمين الملتجئين إلى جواره وأرضه " فسلم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل بعث إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل ". (2)
2 -
تعظيم من لا يرضى الله تعظيمه
وهذا التعظيم مذموم لما فيه من مدحة أو ثناء لا يستحقه المحاور غير المسلم، قال صلى الله عليه وسلم:((لا تقولوا للمنافق سيداً، فإنه إن يكن سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل). (3)
قال أبو الطيب الآبادي: "لأنّه يكون تعظيماً له، وهو ممّن لا يستحقّ التّعظيم، فكيف إن لم يكن سيّداً بأحد من المعاني؛ فإنّه يكون مع ذلك كذّاباً ونفاقاً". (4)
وحين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم ملوك الأرض صانعهم ورفق بهم، لكنه لم يضف عليهم عظيم الألقاب، بل توقى في خطابهم، من غير أن يبعد عن ملاطفتهم واستمالتهم، فقد كتب إلى هرقل إمبراطور الروم قائلاً:((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم .. )). (5)
قال ابن حجر: "فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة ; لأنّه معزول بحكم الإسلام، لكنّه لم يخله من إكرام لمصلحة التّألّف .. ". (6)
(1) رواه أحمد ح (4386).
(2)
الحديث السابق.
(3)
رواه أبو داود ح (4977).
(4)
عون المعبود (13/ 221).
(5)
رواه البخاري ح (6261)، ومسلم ح (1773).
(6)
فتح الباري (1/ 38).
قال النووي في فوائد الحديث: " التوقي في المكاتبة ، واستعمال الورع فيها ، فلا يفْرِط ولا يفَرِّط ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلى هرقل عظيم الروم)) ، فلم يقل: ملك الروم ، لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام .. ولم يقل: إلى هرقل فقط ، بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم ، أي الذي يعظمونه ويقدمونه، وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام، فقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: 125)، وقال تعالى: {فقولا له قولاً ليناً} (طه: 44) ". (1)
3 -
تصدي بعض من لا يحسنون الحوار له
وفي بعض جولات الحوار رأينا ضعفاً وخوراً عند من يتصدى له، ويقع ذلك منهم بسبب قلة معرفتهم بالعلوم الشرعية أو غيرها من الأسباب، في وقت نرى فيه حرص النصارى واليهود على إشراك أكبر كفاءاتهم العلمية والكنسية في حوارهم مع الآخرين.
وهذا العيب في بعض المحاورين من المسلمين قد يدفع بالمحاور إلى الشطط في مجاراة الآخرين، فينساق إلى ما هو باطل، أو يقصر عن تبيان ما هو حق، فتقصر حجته، وتكسد بضاعته.
وقد حذر الله تعالى من هذا الصنيع، فقال:{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً} (الإسراء: 36).
قال ابن تيمية: "والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعد ما تبين". (2)
وقال رحمه الله مشنعاً على الشهرستاني قصوره في مجادلته للفلاسفة: "ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة، حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وما ذمه من الشرك، ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل .. كان قولهم أظهر، فكان رده عليهم ضعيفاً لضعف العلم بحقيقة دين الإسلام .. ". (3)
وهذا العيب نعاه القرآن الكريم على أهل الكتاب، فقال عز وجل:
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 156).
(3)
الرد على المنطقيين (536 - 537).
{ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66).
قال القرطبي: "الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده .. وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن، فقال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125) ". (1)
وقال ابن كثير: " الآية هذه إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم .. فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجليتها ". (2)
وقال ابن تيمية مبيناً ضرر الجدال بلا علم على المسلمين: "وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظرُ ضعيفَ العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى ذلك الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإنَّ ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة". (3)
وتجنباً لهذا المحذور أوصى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة أن " لا يتولى الحوار إلا المختصون من علماء المسلمين "، وأكده في دورته الحادية والعشرين:" أن يتولى تمثيل الرابطة فيها العلماء المختصون بالمواضيع المطروحة في جدول أعمالها ".
4 -
الخروج عن آداب الإسلام في الحوار
ومما يؤخذ على بعض المشاركين في الحوارات العامة، خاصة غير الرسمية منها، - كتلك التي تجري على شبكة الإنترنت - الاستمرار في الحوار، ولو فقد مصداقيته وضل أهدافه، وساء أدبه، فاكتسى من السباب سربالاً، ومن العناد جلباباً.
وهذا ولا ريب من الجدال المذموم، و" قد تكون المصلحة في الامتناع عن مجادلة طائفة منهم أو مع أفراد لسبب أو لآخر، وهذا استثناء
…
". (4)
(1) الجامع لأحكام القرآن (4/ 108).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 373).
(3)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 173).
(4)
انظر: الحوار مع أهل الكتاب (162).
وفي نبذ الجدل العقيم الصادر عن طائفة غير مؤمنة، يقول الله تعالى:{ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون - قالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون - إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} (الزخرف: 58 - 57).
قال الطبري: " ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد هؤلاء المشركين في محاجتهم إياك بما يحاجونك به طلب الحق، بل هم قوم خصمون، يلتمسون الخصومة بالباطل ". (1)
يقول ابن تيمية: "وقد يُنهى عنها [أي المناظرة] إذا كان المناظَر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله، وهو السوفسطائي، فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بيّنة بنفسها ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك". (2)
وقال ابن سعدي في وصف المجادلة المحمودة: "أن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق، لا المغالبة ونحوها)). (3)
ومثل هذا الحوار ينجر عادة إلى السباب المحرم، الذي لا يتوافق مع الدعوة بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، بل هو نوع من الرعونة والفحش وسوء الخلق.
وهذه الصفات أبعد ما تكون عن المؤمن، إذ ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)). (4)
قال الغزالي: "المؤمن ليس بلعان؛ فينبغي ألا يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم، دون الأشخاص المعينين، فالاشتغال بذكر الله أولى، فإن لم يكن ففي السكوت سلامة". (5)
ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ادع على المشركين .. قال:((إنّي لم أبعث لعّانًا، وإنّما بعثت رحمةً)). (6)
(1) جامع البيان (25/ 88).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 173 - 174).
(3)
تيسير الكريم الرحمن (3/ 93).
(4)
رواه أحمد ح (3829) والترمذي ح (1977)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ح (1610).
(5)
إحياء علوم الدين (3/ 125).
(6)
رواه مسلم ح (2599).
قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون، فذكروا بلال بن أبي بردة [الوالي] فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه لأذاه لابن عون وامتحانه له، وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن عون؛ إنما نذكره لما ارتكب منك! فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: "لا إله إلا الله"، "ولعن الله فلاناً"، فلأن يخرج من صحيفتي:"لا إله إلا الله"؛ أحب إلي من أن يخرج منها: "لعن الله فلاناً". (1)
وخشية الانجرار إلى السباب وتقويض غايات الحوار ومقاصده نهى الله عن المؤمنين عن سب ولمز آلهة المشركين وأصنامهم، فقال:{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم} (الأنعام: 108).
وقد نقل المفسرون في سبب نزولها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: "إما أن تنهى محمداً وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه"، فنزلت الآية. (2)
وقد أفاد القرطبي منها النهي عن سب ولمز سائر ما يقدسه الآخرون، لا من باب التعظيم لها، بل سياسة وتألفاً، يقول:"حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في مَنَعة، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسُبَّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنه بمنزلة البعث على المعصية .. وفيها دليل على أن المحقَّ قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين". (3)
5 -
هجر المصطلحات والأساليب الشرعية
ومما يقع به المتحاورون أحياناً هجر المصطلحات والأساليب والحجج الشرعية والتباعد عنها تقرباً إلى الآخرين أو غيره مما يرونه مصلحة للدعوة.
وهذا الصنيع مجاف، بل منافٍ لما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبته المشركين.
(1) انظر: إحياء علوم الدين (3/ 126).
(2)
انظر: لباب النقول في أسباب النزول (119)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 61).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 61).
ومن ذلك أنه لما قدم ضماد مكة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله))، فكانت هذه الكلمات سبباً في إسلامه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:(أعد علي كلماتك هؤلاء .. لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغنَ ناعوس البحر. فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام). (1)
ولما كتب النبي صلى الله عليه وسلم رسائله إلى الملوك صدّرها بالبسملة كما في رسالة هرقل ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم .. )). (2)
قال النووي في فوائد الحديث: "ومنها: استحباب تصدير الكتاب ببسم الله الرّحمن الرّحيم ، وإن كان المبعوث إليه كافرًا". (3)
ولا يمنع هذا مخاطبتهم بلغاتهم وطريقتهم إذا دعت الحاجة إليه، مع الالتزام بالضوابط الشرعية، قال ابن تيمية:"أما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم، فليس بمكروه، إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه". (4)
إن تعرفنا على محظورات الحوار - التي تخرج به عن ضوابط الشريعة الغرَّاء - يؤزنا لممارسة الحوار ضمن ضوابط الشريعة وآدابها، واللذان يكفلان تحقيق المقاصد والغايات الشرعية التي نتوخى الوصول إليها من خلال حوارنا مع الآخرين.
(1) رواه مسلم ح (868).
(2)
رواه البخاري ح (6261)، ومسلم ح (1773).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108).
(4)
الفتاوى الكبرى (1/ 452).