الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي شده الإسلام، وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله:((لا حلف في الإسلام)) والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجاباً عاماً على قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين، فقال تعالى:{إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} (الشورى: 42) ". (1)
وقال ابن حجر: "ويمكن الجمع بأن المنفيّ ما كانوا يعتبرونه في الجاهليّة من نصر الحليف ولو كان ظالماً، ومن أخذ الثّأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها، ومن التّوارث ونحو ذلك ، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدّين ونحو ذلك من المستحبّات الشّرعيّة كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد". (2)
وهكذا، فإن الأمة المسلمة لا تتوقف في حوارها مع الآخرين على القضايا الدينية، بل تمد أيديها إلى الآخرين، وهي تسعى في حوارها إلى تحقيق المصالح المشتركة التي تنشدها الأطراف المختلفة، عبر حوار التعامل والتعايش الذي يؤمِّن المزيد من الاستقرار والرخاء لشعوب الإنسانية، ويعين البشرية على تجاوز الكثير من الشرور على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي، وغيرها.
ج. حوار الوحدة
وهو الحوار الذي يهدف إلى إزالة الفروق والاختلافات العقدية والشعائرية بين المتحاورين وتمييع خصائص الأديان وتجاوزها تجاه وحدة الأديان والتقريب بينها.
وهذه الدعوة التلفيقية قديمة متجددة، ترعاها مؤسسات من مختلف الملل والنحل، ولكل منها أهدافه التي يرنو من خلالها إلى اجتذاب الآخرين
(1) الجامع لأحكام القرآن (10/ 169).
(2)
فتح الباري (10/ 502).
وصهرهم في بوتقته.
ولعل من أبرز من ينادي بالوحدة بين الأديان؛ الحركة الماسونية بمناشطها ومؤسساتها المختلفة وامتداداتها المعاصرة، يقول محمد رشاد فياض رئيس محفل الشرف الأعظم الماسوني محققاً هدف الماسونية المزعوم المتمثل في الإخاء الإنساني:"الميمات الثلاثة في الموسوية والمسيحية والمحمدية يجتمعون [هكذا] في ميم واحدة هي ميم الماسونية، لأن الماسونية عقيدة العقائد .. وإن باءَيْ البوذية والبرهمية يجتمعان في باء البناء، بناء هيكل المجتمع الإنساني". (1)
ووصل هذا الاتجاه التلفيقي إلى المسلمين أول ما وصل عن طريق غلاة الصوفية من القائلين بالحلول والاتحاد، كابن سبعين وابن هود والتلمساني .. حيث يجوزون التدين بمختلف الأديان، يقول ابن تيمية:" بل يجوزون التهود والتنصر، وكل من كان من هؤلاء واصلاً إلى علمهم فهو سعيد، وهكذا تقول الاتحادية منهم، كابن سبعين وابن هود والتلمساني ونحوهم، ويدخلون مع النصارى بيعهم، ويصلون معهم إلى الشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين". (2)
يقول ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
…
إذا لم يكن دينه إلى ديني داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت
…
ركائبه فالحب ديني وإيماني
وقد كان جهل التتار بالإسلام سبباً في تبنيهم لهذه الدعوة أيضاً، يقول ابن تيمية رحمة الله عليه: "فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك
(1) دعوة التقريب (1/ 360).
(2)
مجموع الفتاوى (14/ 164).
الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين
…
وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجح دين المسلمين، وهذا القول فاش غالب فيهم حتى في فقهائهم وعبّادهم، لاسيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم، فإنه غلبت عليهم الفلسفة، وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم". (1)
ويقول رحمه الله: " وهذا من جنس جهال التتر أول ما أسلموا، فإن الإسلام عندهم خير من غيره، وإن كان غيره جائزاً ". (2)
ثم دبَّت الحياة من جديد في فكرة وحدة الأديان على أيدي البهائية الباطنية، ثم جمال الدين الأفغاني ومدرسته العقلانية، فقد أسس محمد عبده، والقس الإنجليزي إسحاق تيلور، وجمال رامز بك (قاضي بيروت)، بمشاركة نفر من الإيرانيين، أسسوا جمعية سرية للتقريب بين الأديان في بيروت، وذلك عام (1301هـ/ 1883م).
يقول الأفغاني في الأعمال الكاملة: " هكذا نجد الأديان الثلاثة: الموسوية والعيسوية والمحمدية على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية .. لقد لاح لي بارق أمل كبير: أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثل ما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها".
ثم يشنع الأفغاني على الذين يصرون على اختلاف الأديان الذين أسماهم: "المزاربة الذين جعلوا كل فرقة بمنزلة حانوت، وكل طائفة كمنجم من مناجم الذهب والفضة، ورأس مال تلك التجارات ما أحدثوه من الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية". (3)
(1) مجموع الفتاوى (28/ 523).
(2)
الرد على المنطقيين (282).
(3)
دعوة التقريب بين الأديان (1/ 398 - 399).
وفي عام 1987م دعا المفكر الفرنسي روجيه جارودي ـ عقب إعلانه اعتناق الإسلام ـ إلى الملتقى الإبراهيمي في قرطبة، واتخذ من (القلعة الحرة) مقراً لمؤسسته ومتحفه ومناشطها التلفيقية التوحيدية.
يقول جارودي: "إنني عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد بأني أتخلى عن مسيحيتي ولا عن ماركسيتي، ولا أهتم بأن يبدو هذا متناقضاً أو مبتدعاً".
ويقول: "هذا النضال هو نضال كل أصحاب العقيدة أو المؤمنين بعقيدة، مهما يكن نوع إيمانهم، ولا يهمني ما يقوله الإنسان عن عقيدته: أنا مسلم، أو: أنا مسيحي، أو: أنا يهودي، أو: أنا هندوسي". (1)
وأبرز معالم هذا الاتجاه من اتجاهات الحوار:
- اعتقاد كل طرف صحة إيمان الطرف الآخر، وتسويغه، من غير أن يقتضي ذلك الخروج عن المعتقد الأصلي.
- اعتقاد صحة جميع صور العبادات، فالكل يعتبرونه طريقاً موصلاً إلى رضا الله، لأنه تعظيم وعبادة لله، وعليه فلا يحكم على شيء من صور العبادة المختلفة بالبطلان.
- الاشتراك في صلوات وممارسات وطقوس تجمع بين أتباع الأديان في محل واحد، وذلك حرصاً على إزالة الفروق وتمييعها.
- تجنب البحث في المسائل المختلف عليها، والتي تظهر التناقض والاختلاف بين الفرقاء الذين يراد جمعهم في نسق واحد.
- اعتماد أسلوب التلفيق والتوفيق بين المتناقضات والمختلفات للوصول إلى صورة مشتركة، تتجاوز الاختلافات.
- تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة.
وقد كان لعلماء الإسلام وقفات صارمة مع هذا الاتجاه التلفيقي أو التوفيقي بين الأديان، حيث رأوا مناقضته لأصول الإسلام ومبادئه، وأنه من المداهنة
(1) دعوة التقريب بين الأديان (2/ 935 - 937)، والحوار مع أهل الكتاب (128 - 132).
التي حرمها الله ورسوله، قال تعالى:{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود: 113)، قال أبو العالية:" لا ترضوا أعمالهم، فتمسكم النار " قال ابن زيد: "الركون الإدهان، وقرأ: {ودوا لو تدهن فيدهنون} (القلم: 9)، قال: تركن إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيم من كفرهم بالله وكتابه ورسله". (1)
قال الطبري مبيناً ما في الآية من تحذير من اللين والمطاوعة في الدين: " ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك". (2)
ولا يخفى أن المداراة أو الرفق من آداب الإسلام في معاملة المخالفين، ولا يخفى على المحقق الفرق بينه وبين الإدهان المحرم، قال القرطبي في التفريق بينهما:"والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا ، وهي مباحة، وربما استُحبت ، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ". (3)
ومن صور المداهنة التي يقع بها المتحاورون في وحدة الأديان، تسميتهم للمعابد والكنائس بيوت الله، وهي إلى كفران الله وعصيانه أقرب.
قال شيخ الإسلام حين سئل عن تسمية البِيَع بيوت الله: "ليست بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي [أي البيع] بيوت يكفر فيها بالله .. فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار". (4)
لكن تلك المداهنة المحرمة دون الحكم بإيمان أهل الملل وتسويغ معتقداتهم،
أو حتى الارتياب في ثبوت كفرهم وبطلان عقائدهم وعباداتهم، فإن الشك في كفرهم وفساد مذهبهم كفر مخرج من الملة.
(1) جامع البيان (12/ 127).
(2)
جامع البيان (29/ 21).
(3)
فتح الباري (10/ 454).
(4)
مجموع الفتاوى (22/ 162).
يقول القاضي عياض: "ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". (1)
يقول ابن تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب". (2)
وهكذا فإن الإسلام يرفض دعوات الحوار التي ترنو إلى إشاعة وحدة الأديان وصهرها، ويراها ناقضاً من نواقض الإسلام.
وصدق الشاعر، وهو يصف حال أولئك الذين يرومون جمع النقائض:
أيها المنكح الثريا سهيلا
…
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
…
وسهيل إذا استقل يمان
(1) الشفا (2/ 1071).
(2)
مجموع الفتاوى (28/ 524)، وانظر مختصر الفتاوى المصرية (507).