المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شرح حديث عمار في الذكر بين التشهد والتسليم - أذكار الطهارة والصلاة

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

الفصل: ‌شرح حديث عمار في الذكر بين التشهد والتسليم

‌شرح حديث عمار في الذِّكر بين التشهد والتسليم

لقد مرَّ معنا حديثُ عمار بن ياسر رضي الله عنه المشتمل على ذلكم الدعاء العظيم الذي كان يدعو به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاته، وهو ما رواه النسائي وغيره عن عطاء بن السائب عن أبيه رضي الله عنه قال: "صَلَّى بنَا عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه صَلَاةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ القَوْمِ: لَقْدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: أَمَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ تَبعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ ـ هُوَ أبي غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ ـ فَسَأَلَهُ عَن الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بهِ القَوْمَ: اللَّهُمَّ بعِلْمِكَ الغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْب وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَب، وَأَسْأَلُكَ

ص: 97

القَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَا بزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ" 1.

وهو حديثٌ عظيمُ النفع كبيرُ الفائدة، مشتملٌ على معان عظيمة ودلالات نافعة متعلقة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وإنَّما تعظم فائدةُ المسلم من مثل هذه الدعوات المباركة بوقوفه على معانيها وفهمه لدلالاتها ومراميها ومجاهدته لنفسه على تحقيقها، وفيما يلي وقفةٌ في بيان بعض معاني هذه الحديث2.

1 سبق تخريجه.

2 ينظر للاستزادة كتاب "شرح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه" لابن رجب.

ص: 98

قوله: "اللَّهمَّ بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفَّنِي إذا علمت الوفاة خيراً لي" فيه تفويضُ العبد أموره إلى الله، وطلب الخيرة في أحواله منه سبحانه، متوسِّلاً إليه سبحانه بعلمه الذي أحاط بكلِّ شيء، وأنَّه سبحانه يعلم خفايا الأمور وبواطنَها، كما يعلم ظاهَرها وعَلَنَها، وبقدرته النافذة في جميع الخلق، فلا مُعَقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، ومن المعلوم أنَّ العبدَ لا يعلم عواقب الأمور ومآلاتها، وهو مع هذا عاجزٌ عن تحصيل مصالحه ودفع مضارِّه، إلَاّ بما أعانه الله عليه ويسَّرَه له، فتبقى حاجة العبد ماسة إلى العليم القدير سبحانه، بأن يصلحَ له شأنَه كلَّه، ويختار له الخير حيث كان، ولهذا قال: أحينِي ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، ولهذا جاء النهيُ في السُّنَّة عن تَمَنِّي الموت لضُرٍّ نزل بالعبد لجهل العبد

ص: 99

بالعواقب، ففي البخاري عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لا يتمَنَّى أحدكم الموت، إمَّا مُحسناً فلعلَّه يزداد، وإما مُسيئاً فلعلَّه يستعتب" أي: يسترضى الله بالإقلاع عن الذنوب وطلب المغفرة.

وقوله: "وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة" أي: أن أخشاك يا الله في السِّرِّ والعلانية، والظاهر والباطن، وفي حال كوني مع الناس أو غائباً عنهم، فإنَّ من الناس مَن يرى نفسه يَخشى الله في العلانية والشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس وأنظارهم، وقد مدح الله من خافه بالغيب، قال تعالى:{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} 1، وقال تعالى:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 2.

1 سورة: الأنبياء، الآية (49) .

2 سورة: ق، الآية (33) .

ص: 100

وقوله: "وأسألُك كلمةَ الحقِّ في الرِّضَا والغضب"، فيه سؤالُ الله قولَ الحقِّ حال رضا الإنسان وحال غضبه، وقول الحق في الناس حال الغضب عزيز؛ لأنَّ الغضبَ يحمل صاحبه على أن يقول خلافَ الحق ويفعل غير العدل، وقد مدح الله من عباده من يغفر إذا غضب، دون أن يحمله غضبه على البغي والعدوان، قال تعالى:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 1، ومَن كان لا يقول إلَاّ الحقَّ في الغضب والرضا، فهذا دليلٌ على شدة إيمانه وأنَّه يملك زمام نفسه، وفي الحديث:"ليس الشديد بالصرعة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب"2.

وقوله: "وأسألك القصد في الفقر والغنى" أي أن يكون مقتصداً في حال فقره وغناه، والقصد هو

1 سورة: الشورى، الآية (37) .

2 صحيح البخاري (رقم:6114) .

ص: 101

التوسط والاعتدال، فإن كان فقيراً لَم يقتر خوفاً من نفاد الرِّزق ولم يُسرف بتحميل نفسه ما لا طاقة له به، كما قال تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} 1، وإن كان غنيًّا لَم يحمله غناه على السَّرف والطغيان، قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 2، والقوام: القصد والتوسط، وهو في كلِّ الأمور حسن.

وقوله: "وأسألك نعيماً لا ينفد" النَّعيم الذي لا ينفد هو نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 3، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} 4.

1 سورة: الإسراء، الآية (29) .

2 سورة: الفرقان، الآية (67) .

3 سورة: النحل، الآية (96) .

4 سورة: ص، الآية (54) .

ص: 102

وقوله: "وأسألك قرَّة عين لا تنقطع" قرة العين من جملة النعيم، والنعيم منه ما هو منقطع ومنه ما لا ينقطع، ومن قرَّت عينه بالدنيا فقرة عينه منقطعة وسروره فيها زائلٌ، وهو مع ذلك مَشُوبٌ بالخوف من الفواجع والمنغِّصات، ولهذا فإنَّ المؤمن لا تقرُّ عينُه في الدنيا إلَاّ بمحبة الله وذكره والمحافظة على طاعته، كما قال صلى الله عليه وسلم:"وجُعلَت قرَّةُ عينِي في الصلاة" 1 ومَن حصلت له قرَّة العين بهذا فقد حصلت له قرَّةُ العين التي لا تنقطع في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة.

وقوله: "وأسألك الرِّضا بعد القضاء" سأل الرضا بعد القضاء؛ لأنَّه حينئذ تبيَّن حقيقة الرِّضا، وأما الرِّضا قبل القضاء فإنَّه عزمٌ من العبد على الرضا، وإنَّما يتحقَّق الرضا إذا وقع القضاء.

1 سنن النسائي (رقم:3879)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:3098) .

ص: 103

وقوله: "وأسألك بَردَ العيش بعد الموت" وهذا يدلُّ على أنَّ العيشَ وطيبَه وبرده إنَّما يكون بعد الموت، فإنَّ العيش قبل الموت منغِّصٌ، ولو لَم يكن له منغِّصٌ غير الموت لكفى، فكيف وله منغِّصات كثيرة من الهموم والغموم والأسقام والهرم ومفارقة الأحبة وغير ذلك.

وقوله: "وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلة" وهذا قد جمع فيه بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقاء الله سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة وهو النَّظر إلى وجهه الكريم، ولَمَّا كان تَمامُ ذلك موقوفاً على عدم وجود ما يضُرُّه في الدنيا أو يفتنه في الدين، قال في غير ضراء مضرَّة ولا فتنة مضلة.

ورؤية المؤمنين لربِّهم يوم القيامة أمر تظافرت فيه النصوص، وتكاثرت فيه الأدلة، ولا يُنكره إلَاّ مَن

ص: 104

ضل عن سواء السبيل، بل إنَّه أعلى نعيم أهل الجنة وأعظمُ ملاذهم، يقول صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّةَ، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألَم تبيِّض وجوهَنا؟ ألَم تدخلنا الجنَّة وتنْجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعْطُوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربِّهم عز وجل"، رواه مسلم1، نسأل الله الكريم من فضله.

وقوله: "اللَّهمَّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" زينة الإيمان تشمل زينة القلب بالاعتقاد الصحيح والأعمال القلبية الفاضلة، وزينة اللِّسان بالذِّكر وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، وزينة الجوارح بالأعمال الصالحة والطاعات المقربة إلى الله.

وقوله: "واجعلنا هداة مهتدين" أي بأن نَهدي

1 صحيح مسلم (رقم:181) .

ص: 105

أنفسنَا ونهديَ غيرَنا، وهذا أفضل الدرجات، أن يكون العبد عالماً بالحقِّ متَّبعاً له، معلِّماً لغيره مرشداً له، فبهذا يكون هادياً مهدياً، نسأل الله أن يهدينا إليه جميعاً، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

ص: 106