المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌دعاء القنوت في صلاة الوتر

‌دُعَاءُ القُنُوتِ فِي صَلَاةِ الوِتْرِ

الحديث هنا عن دعاء القنوت في صلاة الوتر، ففي أبي داود والنسائي وغيرهما عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال:"عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ"1.

وهذا دعاءٌ عظيمٌ مشتملٌ على مطالب جليلة ومقاصد عظيمة، ففيه سؤال الله الهدايةَ والعافيةَ، والتوَلِّي والبركة والوقاية، مع الإقرار بأنَّ الأمورَ كلَّها

1 سنن أبي داود (رقم:1425)، وسنن النسائي (رقم:1745) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (رقم:1263) .

ص: 116

بيده وتحت تدبيره، فما شاء كان وما لَم يشأ لَم يكن1.

وقوله في أوَّل هذا الدعاء: "اللَّهمَّ اهدني فيمن هديت" فيه سؤالُ الله الهداية التامَّة النافعة الجامعة لعلم العبد بالحقِّ وعمله به، فليست الهدايةُ أن يعلمَ العبدُ الحقَّ بلا عمل به، وليست كذلك أن يعمل بلا علمٍ نافعٍ يهتدي به، فالهدايةُ النافعةُ هي التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح.

وقوله: "فيمَن هَدَيت" فيه فوائد:

أحدها: أنَّه سؤال له أن يدخلَه في جملة المهديين وزُمرتِهم ورفقتهم وحسن أولئك رفيقاً.

الثانية: أنَّ فيه توسلاً إليه بإحسانه وإنعامه، أي: يا

1 انظر في شرح هذا الدعاء: شفاء العليل لابن القيم (ص:111)، ودروس وفتاوى في الحرم المكي للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله (ص:131 ـ 137) .

ص: 117

رب قد هَديتَ من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً فأحسن إليَّ كما أحسنتَ إليهم واهدني كما هَدَيتَهم.

الثالثة: أنَّ ما حصل لأولئك من الهدى لَم يكن منهم ولا بأنفسهم وإنَّما كان منك فأنت الذي هَدَيتَهم.

وقوله: "وعافنِي فيمَن عافيت" فيه سؤالُ الله العافية المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والأمراض والأسقام والفتن، وفعل ما لا يحبُّه وترك ما يحبه، فهذه حقيقةُ العافية، ولهذا ما سُئل الرَّبُّ شيئاً أحبَّ إليه من العافية، لأنَّها كلمةٌ جامعةٌ للتخلُّص من الشَّرِّ كلِّه وأسبابه، ومِمَّا يدل على هذا ما رواه البخاري في الأدب المفرد وغيرُه عن شَكَل بن حُميد رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! علِّمني دعاءً أنتفعُ به، قال: "قل اللَّهمَّ عافنِي من شَرِّ سَمعي

ص: 118

وبصري ولساني وقلبي وشَرِّ مَنِيِّي" 1.

فهي دعوةٌ جامعةٌ وشاملةٌ للوقاية من الشرور كلِّها في الدنيا والآخرة، وفي الأدب المفرد وغيره عن العباس عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: قلت يا رسول الله! علِّمنِي شيئاً أسأل الله به، فقال:"يا عباس! سلِ اللهَ العافيةَ، ثمَّ مكثتُ قليلاً ثم جئت فقلت: علِّمني شيئاً أسأل اللهَ به يا رسول الله! فقال: يا عباس! يا عمَّ رسول الله! سَلِ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة"2.

وقوله: "وتولَّنِي فيمَن تولَّيتَ" فيه سؤالُ الله التَّوَلِّي الكامل الذي يقتضي التوفيقَ والإعانةَ والنصرَ والتسديدَ والإبعادَ عن كلِّ ما يغضب الله، ومنه قوله

1 الأدب المفرد (رقم:663)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:515) .

2 الأدب المفرد (رقم:726)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:558) .

ص: 119

تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1، وقوله:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 2، وقوله:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وقوله:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 4، وهي ولايةٌ خاصة بهم تقتضي حفظهم ونصرهم وتأييدهم ومعونتهم ووقايتهم من الشرور، ويدلُّ على هذا قولُه في هذا الدعاء:"إنَّه لا يَذلُّ من واليت" أي أنَّه منصورٌ عزيزٌ غالب بسبب توليك له، وفي هذا تنبيه على أنَّ مَن حَصَل له ذلٌّ في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله، وإلَاّ فمع الولاية الكاملة ينتفي الذُّلُّ كلُّه، ولو سلط عليه من في

1 سورة: البقرة، الآية (256) .

2 سورة: الأعراف، الآية (196) .

3 سورة: آل عمران، الآية (68) .

4 سورة: الجاثية، الآية (19) .

ص: 120

أقطار الأرض فهو العزيز غير الذليل.

وقوله: "وبارك لي فيما أعطيت" البركةُ هي الخير الكثير الثابت، ففي هذا سؤال الله البركة في كلِّ ما أعطاه من علم أو مال أو ولد أو مسكن أو غير ذلك؛ بأن يثبِّتَه له ويوسِّعَ له فيه، ويحفظه ويسلمَه من الآفات.

وقوله: "وقني شر ما قضيت" أي شرَّ الذي قضيتَه، فإنَّ الله تعالى قد يقضي بالشر لحكمة بالغة، والشرُّ واقعٌ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، فإنَّ فعلَه وخلقَه خيرٌ كلُّه، وهذا الدعاء يتضمن سؤال الله الوقاية من الشرور والسلامة من الآفات والحفظ عن البلايا والفتن.

وقوله: "إنَّك تقضي ولا يقضى عليك" فيه التوسل إلى الله سبحانه بأنَّه يقضي على كلِّ شيء، لأنَّ له الحكمَ التامَّ والمشيئةَ النافذةَ والقدرة الشاملة، فهو

ص: 121

سبحانه يقضي في عباده بما يشاء ويحكم فيهم بما يريد، لا رادَّ لحُكمه ولا معقب لقضائه، وقوله:"ولا يقضى عليك" أي: أنَّه سبحانه لا يقضي عليه أحدٌ من العباد بشيء، فالعباد لا يحكمون على الله، بل الله سبحانه هو الذي يحكم عليهم بما يشاء ويقضي فيهم بما يريد.

وقوله: "إنَّه لا يذل من والَيت ولا يعز من عاديت" هذا كالتعليل لما سبق في قوله: "وتولَّني فيمن توليت"، فإنَّ الله سبحانه إذا تولَّى العبدَ فإنَّه لا يَذِلُّ، وإذا عادى العبدَ فإنَّه لا يَعِزُّ، ولا يُطلب نيلُ العز، والوقايةُ من الذل إلَاّ منه سبحانه، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

وقوله: "تباركت ربنا وتعاليت" معنى تباركت

1 سورة: آل عمران، الآية (26) .

ص: 122

أي تعاظمتَ يا الله، فلك العظمةُ الكاملة والكبرياء التام، وعظُمَت أوصافُك وكثرت خيراتُك وعمَّ إحسانُك.

وقوله: "وتعالَيت" أي: أنَّ لك العلوِّ المطلق ذاتاً وقدراً وقهراً، فهو سبحانه العَليُّ بذاته، قد استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وكماله، والعليُّ بقَدْره، وهو علوُّ صفاته وعظمتُها، فإنَّ صفاته عظيمةٌ، لا يماثلها ولا يقاربها صفةُ أحد، والعليُّ بقهره حيث قَهَرَ كلَّ شيء، ودانت له الكائناتُ بأسرها، فجميع الخلق نواصيهم بيده فلا يتحرك منهم متحرِّك ولا يسكن ساكن إلَاّ بإذنه.

وعلى كلٍّ فهذا دعاءٌ عظيم جامع لأبواب الخير وأصول السعادة في الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يعتني به في هذه الصلاة ـ صلاة الوتر ـ التي يختم بها صلاة الليل، ولا بأس لو زاد المسلمُ على ذلك الدعاءَ

ص: 123

لعموم المؤمنين بما استطاع من خير، والاستغفارَ لهم، والدعاءَ على أعدائهم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموفِّق.

وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 124