المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ومن الأذكار المتعلقة بالصلاة

‌ومن الأذكار المتعلقة بالصلاة

لا نزال في الحديث عن الأذكار المتعلقة بالصلاة، خرج الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال:"كَشَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ والنَّاسُ صفوفٌ خلفَ أبي بكر رضي الله عنه فقال: أيُّها الناس إنَّه لَم يَبْقَ من مُبَشِّرات النُّبُوَة إلَاّ الرؤيا الصالحَة يراها المسلمُ أو تُرَى له، ألَا وإنِّي نُهيتُ أن أقرأَ القرآنَ راكعاً، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ عز وجل، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهدوا في الدُّعاء فقَمِنٌ أن يُستجابَ لَكم"1.

فقد أوضح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما يَختَصُّ به هذان الرُّكنان العظيمان؛ الركوع والسجود من ذكر يُناسب هيئتَهما بعد ذكره للنهي عن قراءة القرآن

1 صحيح مسلم (رقم:479) .

ص: 73

فيهما؛ لأنَّهما حالتَا ذلٍّ وخضوع وتطامن وانخفاض، فأمَّا الركوعُ وهو حال انخفاض وتطامن وخضوع، فيُشرع للمسلم فيه أن يَذكر عظمةَ ربِّه، وأنَّه سبحانه العظيم الذي له جميع معاني العظمة والجلال، كالقوَّة والعزَّة وكمال القدرة وسعة العلم وكمال المجد وغيرها من أوصاف العظمة والكبرياء، وأنَّه لا يَستحق أحدٌ التعظيمَ والتكبيرَ والإجلالَ والتمجيدَ غيره، فيَستحق على العباد أن يُعظِّموه بقلوبهم وألسنتِهم وأعمالهم.

قال ابن القيم رحمه الله: "فأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق سبحان ربي العظيم، فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1، قال:(اجعلوها في ركوعكم)

وبالجملة فسِرُّ الركوع تعظيمُ الرب جل جلاله

1 سورة: الواقعة، الآية (74) .

ص: 74

بالقلب والقالب والقول؛ ولهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظِّموا فيه الرب")1. اهـ كلامه رحمه الله.

وأما السجود ـ وهو حال قرب من الله، وخضوع له، وتذلل بين يديه، وانكسار له سبحانه ـ فيُشرع للمسلم فيه أن يُكثرَ من الدعاء، والدعاءُ في هذا المحل أقربُ إلى الإجابة، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَقرَبُ ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدُّعاء"، وفي الحديث المتقدم قال عليه الصلاة والسلام:" وأما السُّجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يُسْتجابَ لكم"، أي: حَريٌّ وجَدير أن يُستجاب لكم؛ لأنَّ العبدَ أقربُ ما يكون من ربِّه وهو ساجد، وأفضلُ الأحوال له حالٌ يكون فيها أقربَ إلى الله، ولهذا كان الدعاء في هذا المحلِّ أقربَ إلى الإجابة، ومن الأدعيةِ

1 كتاب الصلاة (ص:176) .

ص: 75

المأثورة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في السجود ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذ برِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذ بكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"1.

وقد دلَّ هذا الحديثُ العظيمُ على أنَّه لا مَفَرَّ إلَاّ إلى الله، ولا مَلجَأَ منه إلَاّ إليه، فأزمَّةُ الأمور كلُّها بيده، ونواصي العباد معقودةٌ بقضائه وقدَره، الأمرُ كلُّه له، والحمدُ كلُّه له، والمُلك كلُّه له، والخيرُ كلُّه في يديه، فمنه تعالى المَنْجَى، وإليه المَلْجَأ، وبها الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خلقه بمشيئته، وهذا كلُّه

1 صحيح مسلم (رقم:486) .

ص: 76

تحقيقٌ للتوحيد والقدر، وأنه لا ربَّ غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، بل الأمر كلُّه لله، ليس لأحد سواه منه شيء.

وقوله في ختام هذا الدعاء: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فيه الاعترافُ بأنَّ شأنَ الله سبحانه وعظمتَه وكمالَ أسمائه وصفاته أعظمُ وأجَلُّ من أن يُحصيها أحدٌ من الخلق، أو يبلغ أحد حقيقةَ الثناء عليه غيره سبحانه.

ومن أدعية السجود كذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، أَوَّلَهَ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ"1.

1 صحيح مسلم (رقم:483) .

ص: 77

وقوله: "ذنبي كله" أي: ذنوبي جميعَها، فإنَّ المُفرد إذا أضيف يَعُمُّ، ثم إنَّ هذا التعميم والشمولَ في هذا الدعاء ليأتي طلب الغفران على جميع ذنوب العبد ما علمه منها وما لَم يعلمه، لا سيما والمقامُ مقام دعاء وتضرع وإظهار العبودية والافتقار، فناسب ذكرَ الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً؛ ولهذا قال:"دقَّه وجلَّه، أوَّلَه وآخرَه، وعلانيتَه وسرَّه" وهذا أبلغُ وأحسنُ من الإيجاز والاختصار.

ثمَّ إنَّ بين السَّجدَتين ركناً لا بدَّ منه في الصلاة، وهو الجلسة بين السجدتين، وقد شُرع فيه من الدعاء ما يليق به ويُناسبه، وهو سؤالُ العبد المغفرةَ والرحمةَ والهدايةَ والعافيةَ والرِّزقَ؛ فإنَّ هذه الأمور تتضمَّن جلب خيري الدنيا والآخرة، ودفع الشرور فيهما.

فعن حذيفة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي" رواه

ص: 78

أبو داود1.

أي: أنَّه صلى الله عليه وسلم يُكرِّرُ هذا الدعاء بين السجدتين، لا أنَّه يقوله مرتين فقط.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كَانَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي" رواه أبو داود والترمذي2.

وسؤالُ المغفرة فيه الوقاية من شَرِّ الذنوب، وسؤالُ الرَّحمة فيه تَحصيلُ الخير والبرِّ والإحسان، وسؤال الله أن يَجْبُرَه فيه سدُّ حاجته، وجَبْرُ كسره، وأن يرد عليه ما ذهب من الخير وأن يعوضه، وسؤال

1 سنن أبي داود (رقم:874)، وصحَّحه العلَاّمة الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (رقم:777) .

2 سنن أبي داود (رقم:850)، وسنن الترمذي (رقم:284) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (رقم:756) .

ص: 79

العافية فيه السلامة من الآفات والفتن والنجاة من البلايا والمحن، وسؤال الهداية فيه التوصل إلى أبواب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وسؤال الرزق فيه نيل ما به قَوام البدن من الطعام والشراب، وما به قوام الروح من العلم والإيمان.

فجاء هذا الدعاء العظيم المشروع في هذه الجلسة جامعاً لأصول السعادة محيطاً بأبواب الخير، مشتملاً على سُبُل الفلاح في الدنيا والآخرة، فما أعظمَه من دعاء، وما أحسنَ إحاطته وجمعه.

ص: 80