المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب مبادىء التصوف، وهوادي التعرف - الدر الثمين والمورد المعين

[ميارة]

الفصل: ‌كتاب مبادىء التصوف، وهوادي التعرف

‌كتاب مبادىء التصوف، وهوادي التعرف

ختم هذا النظم بمبادىء علم التصوف وفاء بما وعد به صدر النظم في قوله (وفي طريقة الجنيد السالك) وتفاؤلا لأن يكون السعي في تصفية القلب وتطهيره خاتمة الأمر والمبادىء جمع مبدأ وهو في اصطلاح أكثر الأصوليين ما يتوقف عليه المقصود بوجه ما ولا يخلو توقف المقصود عليه إما أن يكون باعتبار معرفته أو باعتبار الشروع فيه أو باعتبار البحث عن مسائله فإن توقف باعتبار معرفته فإن كان من جهة المعنى فهو الحد ومعرفته تستلزم معرفة الموضوع وإن كان من جهة اللفظ فهو الاسم وإن توقف عليه باعتبار الشروع فيه فإن كان باعتبار الغاية والمقصود منه فهي الفائدة وفي معناها معرفة الفضيلة وكذا معرفة فضل واضعه فإن ذلك مما يبعثه على الشروع فيه وإن كان باعتبار الإذن في الشروع فهو الحكم وإن توقف باعتبار البحث في مسائله فيسمى ذلك بالاستمداد عند الاصوليين وبالمبادىء عند المنطقيين ولا شك أن ما ذكره الناظم في هذا الكتاب من مسائل التصوف من التوبة والتقوى وغض البصر عن المحارم وما ذكر بعده يتوقف عليه غيره مما هو أرقى منه مما هو المقصود بالذات قال الإمام الهروي واعلم أن العامة من علماء هذه الطائفة والمشيرين إلى هذه الطريقة اتفقوا على أن النهايات لا تعلم إلا بتصحيح البدايات كما أن الأبنية لا تقوم إلا على الأساس وتصحيح البدايات هو إقامة الأمر على مشاهدة الاخلاص ومتابعة السنة وتعظيم النهي على مشاهدة الخوف وغاية الحرمة والشفقة على العالم يبذل النصيحة وكف المؤوفة ومجانبة كل صاحب يفسد الوقت وكل سبب يفتن القلب على أن الناس في هذا الشأن ثلاثة نفر: رجل يعمل بين الخوف والرجاء شاخصا إلى الحب مع صحبة الحياء فهذا هو الذي يسمى المريد ورجل مختطف من وادي الفرقة إلى وادي الجمع وهو الذي يقال له المراد ومن سواهما مدع مفتون مخدوع وجميع هذه المقامات يجمعها رتب ثلاث

الرتبة الأولى أخذ القاصد في السير. الرتبة الثانية دخوله في القربة. الرتبة الثالثة حصوله على المشاهدة الجاذبة إلى عين التوحيد في طريق الفناء اهـ

ثم قال واعلم أن الأقسام العشرة التي ذكرتها في صدر هذا الكتاب هي قسم البدايات وهي عشرة أبواب

الباب الأول اليقظة قال تعالى {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله} والقومة لله تعالى هي اليقظة من سنة الغفلة والنهوض عن ورطة الفترة وهو أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه.

ص: 543

الثاني التوبة قال تعالى {من لم يتب فأولئك هم الظالمون} فسقط اسم الظلم عن التائب

الثالث المحاسبة قال تعالى {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} وإنما يسلك طريق المحاسبة بعد العزيمة على عقد التوبة

الرابع الإنابة قال تعالى {وأنيبوا إلى ربكم واسلموا له} والإنابة الرجوع.

الخامس التفكر قال تعالى {وأنزلنا إليك الذكر ليتبن للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} والتفكر تصرف البصيرة لاستدراك البغية.

السادس التذكر قال تعالى {وما يتذكر إلا من ينيب} والتذكر فوق التفكر فإن التفكر طلب والتذكر وجود

السابع الاعتصام قال تعالى {واعتصموا بالله هو مولاكم} والاعتصام بحبل الله والمحافظة على طاعته من إقبال أمره والاعتصام به هو التوقي عن كل موهم والتخلص عن كل تردد

الثامن الفرار قال تعالى {ففروا إلى الله} والفرار هو الهرب مما لم يكن إلى ما لم يزل

التاسع الرياضة قال تعالى {والذين يؤتون ما أوتوا وقلوبهم وجلة} والرياضة تمرين النفس على قبول الصدق.

العاشر السماع قال تعالى {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} ونكتة السماع حقيقة الانتباه اهـ باختصار فقف عليه لي محله إن شئت وفي تسمية التصوف تصوفا أقوال قال الشيخ زروق رحمه الله تعالى في قواعده وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف ورأس ذلك بالحقيقة خمس.

أولها من الصوفة لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير لها. الثاني أنه من صوفة الفقهاء للينها فالصوفي هين لين الثالث أنه من الصفة إذ جملته اتصاف بالمحامد وترك الأوصاف المذمومة. الرابع أنه من الصفاء وصح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى

تخالف الناس في الصوفي واختلفوا

جهلا وظنوه مأخوذا من الصوف

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى

صافي فصوفي حتى سمي الصوفي

الخامس أنه منقول من الصفة لأن صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الصوف حيث قال تعالى {يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه} وهذا هو الأصل الذي يرجع اليه كل قول فيه والله أعلم اهـ

وقيل سمي بذلك لأنه يصفي القلوب وهو كما قال أبو حامد الغزالي رضي الله عنه تجريد القلب لله

ص: 544

واحتقار ما سواه، قال وحاصله يرجع الى عمل القلب والجوارح في شرح نظم الإمام ابن ذكرى لشيخ شيوخنا سيد أحمد المنجور

علم به تصفية البواطن

من كدرات النفس في المواطن

ما نصه: التصوف علم يعرف به كيفية تصفية الباطن من كدورات النفس أي عيوبها وصفاتها المذمومة كالغل والحقد والحسد والغش وطلب العلو وحب الثناء والكبر والرياء والغضب والأنفة والطمع والبخل وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء، وهذا لأن علم التصوف يطلع على العيب والعلاج وكيفيته فبعلم التصوف يتوصل إلى قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بذلك إلى تخلية القلب من غيرالله وتحليته بذكره سبحانه اهـ ثم قال في شرح قوله

وبه وصول العبد للاخلاص

روح العبادة بالاختصاص

الاخلاص إفراد الله تعالى بالطاعة بالقصد وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله دون شيء آخر من تصنع لمخلوق واكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى ولا شك أن العبد إنما يصل الى هذا باطلاعه على عيوب النفس وآفات العمل وكيفية العلاج حتى يتحرز من الرياء والخفاء وقصد الهوى النفسي وأشار بقوله روح العبادة بالاختصاص أي بسبب اختصاص المعلم بالله سبحانه إلى قول السيد ابن عطاء الله: الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها: قال سيدي أبو عبد الله بن عباد إخلاص كل عبد هو روح أعماله فبوجود ذلك حيلتها وصلاحيتها للتقرب بها ويكون فيها أهلية وجود القبول لها وبعدم ذلك يكون موتها وسقوطها عن درجة الاعتبار وتكون إذ ذاك أشباحا بلا روح وصورا بلا معان ثم قال في شرح قوله

وذاك واجب على المكلف

تحصيله يكون بالعرف

يعني أن علم التصوف فرض عين على كل مكلف وذاك أن الغالب أن الانسان أن الانسان لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد فيجب عليه أن يتعلم ما يتخلص به من ذلك قال أبو حامد رضي الله عنه وكيف لا يجب عليه وقد قال ثلاث مهلكات الحديث ولا ينفك بشر عنها أو عن بقية ما سنذكره من مقدمات أحوال القلب كالكبر

ص: 545

والعجب وأخواتهما وتتبع هذه الثلاث المهلكات وإزالتها فرض عين ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها ومعرفة أسبابها ومعرفة علاجها فإن من لا يعرف الشر يقع فيه والعلاج ممكن وهو مقابلة الشيء بضده فكيف يمكن دون معرفة السبب والمسبب فأكثر ما ذكرناه في ربع المهلكات من فروض الأعيان وقد تركه الناس كافة اشتغالا بما لا يعني وأشار بقوله تحصيله يكون بالمعرف إلى تحصيل علم التصوف بمعنى الاتصاف بثمرته يكون بالشيخ المعرف للمريد عيوب نفسه وخبايا حظوظها قال الإمام أبو عبد الله بن عباد ولا بد للمريد في هذا الطريق من صحبة شيخ محقق مرشد قد فرغ من تأديب نفسه وتخلص من هواه فيسلم نفسه إليه وليلزم طاعته والانقياد اليه في كل مايشير به عليه من غير ارتياب ولا تردد فقد قالوا من لم يكن له شيخ فإن الشيطان شيخه وقال أبو علي الثقفي رضي عنه لو أن رجلا جمع العلوم كلها وصحب طوائف الناس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ وإمام أو مؤدب ناصح ومن لم يأخذ آدابه من آمر له وناه يريه عيوب أعماله ورعونات نفسه لا يجوز الاقتداء به في صحيح المعاملات انتهى

وقد استفيد من هذا الكلام ثلاث مسائل

الأولى أن بالتصوف يصل العبد الى الاخلاص الذي هو روح العبادة.

الثانية أن معرفته فرض عين على كل مكلف.

الثالثة أن تحصيل هذا العلم لا بد له من الشيخ

ولفظ هوادي في ترجمة الناظم جمع هاد اسم فاعل من هدى بمعنى بين وأرشد وهو معطوف على مبادىء والتعرف مصدر تعرف إذا طلب المعرفة ولعل المراد المعرفة وعبر بالتعرف للسجع والحاصل أنه وصف المسائل المذكورة في هذا الكتاب بوصفين بكونها يتوقف عليها المقصود ولذلك سماها مبادي وبكونها ترشد للمعرفة فمصدوق المتعاطفين في الترجمة شيء واحد والله أعلم وهو مسائل الكتاب لا أن المبادي غير الهوادي كما قد يعطيه العطف والله أعلم

وَتَوْبةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يُجتَرَمْ

تَجِبُ فَوْراً مُطْلَقاً وهْيَ النَّدَمْ

بِشَرْطِ الاِقْلَاعِ ونَفْيِ الاِصْرَارْ

وليَتلَافَ مُمْكِناً ذَا اسْتِغْفارْ

أخبر أن التوبة تجب أي وجوب الفرائض على الأعيان من كل ذنب أي كبيرا كان أو صغيرا كان حقا لله تعالى أو لآدمي أو لهما كان الذنب معلوما عنده أو مجهولا فتجب التوبة من الذنوب المجهولة إجمالا ومن المعلومة تفصيلا وجملة يجترم بالجيم صفة الذنب ومعناها يذنب لأن الجرم هو الذنب، قال في الصحاح الجرم الذنب والجريمة منه

ص: 546

تقول منه جرم واجرام واجترام بمعنى انتهى وأن وجوب التوبة على الفور لا على التراخي فمن أخرها وجب عليه التوبة من ذلك التأخيروالظاهر أن الاطلاق راجع للفورية فكما تجب التوبة من كل ذنب فكذلك تجب فورا في جميعها ويحتمل رجوع الاطلاق للذنب فيكون لتأكيد العموم المستفاد من لفظ كل كما ما تقدم وأن التوبة هي الندم أي على المعصية من حيث أنها معصية وإن شئت قلت لقبحها شرعا فالندم على شرب الخمر لاضراره بالبدن ليس بتوبة وإنما يكون الندم المذكور توبة بثلاثة شروط

الأول الاقلاع أي عن الذنب في الحال بحيث يتركه ويتجنبه فورا ولكن هذا إنما يشترط في معصية اتصلت بالتوبة فلو تاب من معصية بعد الفراغ منها كشرب الخمر بالأمس سقط هذا الشرط

الشرط الثاني أن ينوي أن لا يعود إلى ذلك أبداً وهذا الشرط لا بد منه في حق من تاب بعد الفراغ من المعصية، وفي حق من تاب حال التلبس بها فيلزمه مع الإقلاع أن ينوي أن لا يعود أبداً وعلى هذا الشرط عبر بنفي الاصرار إذ هو كما في الرسالة المقام على الذنب واعتقاد العودة اليه على أن الواو في كلام الرسالة بمعنى أو فإذا انتفيا ثبت مقابلهما وهو الاقلاع ونية أن لا يعود أبدا وهو الثاني هو المراد هنا وعلى هذا فنفي الاصرار أعم من الاقلاع فلو اكتفى بنفي الاصرار على الاقلاع لكفى والله أعلم، ولا يشمل الاقلاع من غير نية أصلا إذ لا بد في التوبة من النية لأنها روح العمل

الشرط الثالث تلافي ما يمكن تلافيه وتداركه من الحق الناشىء عنها كحق القذف فيتداركه بتمكين نفسه عن المقذوف أو وارثه ليستوفيه وإلى ذلك أشار بقوله وليتلافى ممكنا وقيل لا يشترط ذلك بل يجب عليه فإن لم يفعله فتوبته صحيحة وذلك ذنب آخر تلزمه التوبة منه، قلت ويظهر من كلام بعضهم أن هذا الشرط آيل الى شرط الاقلاع وذلك ظاهر فإن من وجب عليه حق يمكنه تلافيه فلم يفعل لم يقلع إذ ما من وقت إلا وفيه عاص بترك التلافي فإن لم يمكن تدارك الحق كما إذا لم يكن مستحقه موجودا سقط هذا الشرط كما يسقط أيضا في توبة معصية لا ينشأ عنها حق لآدمي وذا استغفار حال التائب النادم واستغفاره شرط كمال لا شرط صحة والتوبة لغة الرجوع وشرعا الرجوع من أفعال مذمومة شرعا إلى أفعال محمودة شرعا وقيل الرجوع عن أربعة أشياء إلى أربعة أشياء من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة ومن البدعة إلى السنة ومن الغفلة إلى اليقظة وقيل نفور النفس عن المعصية بحيث يحصل عن ذلك الندم على المعاصي والعزم على الترك في المستقبل والاقلاع في الحين فيرد المظالم

ص: 547

ويتحلل من الاعراض ويسلم نفسه للقصاص إن أمكن ذلك وهذا هو الذي ذكره الناظم ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم الندم توبة أي معظمها الندم على حد قوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفات أي معظم أركانه عرفات والعبارات متقاربة المعنى قال الإمام سيدي عبد الرحمن الجزولي في شرح الرسالة: التوبة نعمة من الله تعالى على العبد وأبوابها مفتوحة ما لم يعاين أي الموت قال تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذ حضر أحدهم الموت أي حضرت أسبابه ومقدماته وما لم تطلع الشمس من مغربها قال تعالى {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل} والتوبة مما خصت به هذه الأمة لأنه كان من قبلنا إذا أذنب ذنبا يجده مكتوبا على باب داره وكفارته اقتل نفسك أو افعل كذا والتوبة مأخوذة من الثوب لأن يستر به العورة

كما تستر التوبة الذنوب وليس بينهما فرق اهـ وانتظر قوله مأخوذة من الثوب فإن الثوب بالمثلثة والتوبة بالمثناة فمادتهما متغايرة والله أعلم

وفي شرح جمع الجوامع لالعراقي قال الواسطي كانت التوبة في بني اسرائيل بقتل النفس كما قال تعالى {فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} قال فكانت توبتهم إفناء نفوسهم وتوبة هذه الأمة أشد وهي إفناء نفوسهم عن مرادها مع رسوم الهياكل ومثله بعضم بمن أراد كسر لوزة في قارورة لكن ذلك يسير على من يسره الله عليه اهـ، قال الجزولي وأما حكمها فهي فرض عين والأصل فيها الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى {وتوبوا الى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا توبو إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم} الآية. ولعل وعسى من الله تعالى بمعنى الوجوب وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم «توبوا فإني أتوب في كل يوم سبعين مرة

ص: 548

وفي بعضهاـ مائة مرة» وقال «والتائب من الذنب كمن لا ذنب له» والاجماع على أنها واجبة ويجب على كل مكلف مسلما كان أو كافرا حراً أو عبداً ذكراً كان أو أنثى مريضا أو صحيحا مقيما أو مسافراً، الشيخ لا خلاف أنها واجبة على الفور ولا قائل بأنها على التراخي فمن أخرها فهو عاص تجب عليه التوبة من تأخيرها لأنها معصية ثانية ثم قال وهي على قسمين واجبة من المحظور ومندوبة من المكروه اهـ

(تنبيهات) الأول ظاهر قوله من كل ذنب وجوب التوبة من الذنب كبيراً كان أو صغيراً من الكبائر فتفتقر اليها اتفاقاً وفي الصغائر ثلاثة أقوال الأول أنها تفتقر إلى التوبة قاله القاضي عبد الوهاب وهو ظاهر قول الرسالة والتوبة فريضة من كل ذنب وهذا القول هو ظاهر النظم، قال أبو بكر بن الطيب وهو المشهور الثاني أنها لا تفتقر إلى توبة بل توبتها اجتناب الكبائر لقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} وهو قوله في أول الرسالة وغفر الصغائر باجتناب الكبائر الثالث أنها إن كانت منوطة بالكبيرة كالقبلة لمن أراد الزنا ثم تاب عنه غفرت باجتناب الكبيرة وإن كانت منفردة مستقلة بنفسها افتقرت الى التوبة وهل تكفير الصغائر باجتناب الكبائر على القول به قطعي أو ظني قولان لجماعة الفقهاء والمحدثين والأصوليين

الثاني الكبيرة والصغيرة نسبة وإضافة وإلا فكل ذنب فهو كبير بالنظر الى مخالفة ذي الجلال والاكرام وقال ابن عباس كل ما عصى الله تعالى به فهو كبيرة فتسمية بعض الذنب صغائر إنما هو تكفيرها باجتناب غيرها مما هو أكبر منها فكلها كبائر وبعضها أكبر من بعض ولهذا لم يأت في الشرع لفظ يحصرها في عدد معين وإنما ذلك ليكون الناس من اجتناب جميع المنهيات على حذر لئلا يواقعوها وما ورد في الاحاديث من تسميتها بالسبع الموبقات لا يدل على حصرها في سبع ولهذا قال ابن عباس هي الى السبعين وروي الى سبعمائة أقرب منها الى السبع وقد اختلف في الكبيرة على ستة أقوال فقيل هي ما توعد عليه بخصوصه في الكتاب أو السنة كقوله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية وقيل ما فيه حد كالزنا والسرقة الآية الزانية والزاني الآية والسارق السارقة الآية

ص: 549

قال الرافعي وهم الى ترجيح هذا أميل وقيل هي ما نص الكتاب على تحريمه كقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} الآية أو وجب في جنسه حد وقيل أنها أخفيت ليكون الناس من اجتناب جميع المنهيات على حذر مخافة الوقوع فيها وقال الاستاذ أبو اسحق الإسفرايني والشيخ الإمام والد صاحب جمع الجوامع هي كل ذنب ونفيا الصغائر نظر الى عظمة من عصى بذلك وشدة عقابه وقيل وهو المختار وفاقا لإمام الحرمين إنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ثم سرد صاحب جمع الجوامع منها نحو السبعة والثلاثين رأيت أن أذكرها منظومة ليسهل حفظها

قال الإمام جلال الدين السيوطي في الكوكب الساطع في نظم جمع الجوامع في المسألة برمتها ما نصه

وفي الكبيرة اضطراب إذ تحد

فقيل ذو توعد وقيل حد

وقيل ما في جنسه حد وما

كتابنا بنصه قد حرما

وقيل لا حد لها بل أخفيت

وقيل كل والصغائر بقيت

والمرتضى قول إمام الحرمين

جريمة تؤذننا بغير مين

بقلة اكتراث من أناه

بالدين والرقة في تقواه

[ش] كالقتل والزنا وشرب الخمر

ومطلق المسكر ثم السحر

والقذف واللواط ثم الفطر

ويأس رحمة وأمن المكر

والغصب والسرقة والشهادة

بالزور والرشوة والقياده

منع الزكاة وديانة فرار

خيانة في الكيل والوزن ظهار

نميمة كتم شهادة يمين

فاجرة كذب على النبي يبين

وسب صحبه وضرب المسلم

سعاية عقوق قطع الرحم

حرابة تقديمه الصلاة أو

تأخيرها ومال أيتام رووا

وأكل خنزير وميت والربا

والغل أو صغيرة قد واظبا

انتهى وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في شرح العمدة سلك بعد المتأخرين طريقا فقال إذا أردت أن تعرف الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإذا نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليها فهي من الكبائر وذلك مثل

ص: 550

إلقاء المصحف في القاذورات وتضميخ الكعبة بالعذرة فهذا من الكبائر ولم ينص عليها الشارع انتهى

وقد كنت لفقت في نقل تقي الدين هذا أبياتاً لتكمل الفائدة بضمنها لنظم السيوطي المذكور آنفاً وهي قولنا:

ولتقي الدين عن بعض نظر

فيما نشا عن بعض ما منها ذكر

من المفاسد مع الذي نشا

عن غيرها من مغفل مما تشاء

فإن تساويا أو أربى الآخر

فهي كبيرة وقس ما يذكر

ثم قال تقي الدين بعد كلام ولابد مع هذا من أمرين

أحدهما أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فقد يقع الغلط في ذلك ألا ترى أن السابق إلى الذهن أن مفسدة الخمر السكر هو تشويش العقل فإن أخذ هذا بمجرده لزمه منه أن لا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة لخلائها عن المفسدة المذكورة مع أنها كبيرة وإن خلت عن المفسدة المذكورة لأنها تقترن بها مفسدة التجرؤ على شرب الخمر الكثير الموقع في المفسدة فهذا الاقتران يصيرها كبيرة

الثاني إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى بعض الكبائر مساوية لبعض الكبائر أو زائدة عليها فامساك امرأة محصنة لمن يزني بها أو مسلماً معصوما لمن يقتله كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال اليتيم المنصوص على كونه من الكبائر وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تقضي إلى قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم كان ذلك أعظم من الفرار من الزحف المنصوص على كونه منها وكذلك تفعل على القول بأن ما رتب عليه لعن أو وعيد فهو كبيرة متعتبر المفسدة بالنسبة إلى ما رتب عليه شيء من ذلك فما ساوى أقلها فهي كبيرة وما نقص فليس بكبيرة اهـ

فلا بد من ذكر فروع

الأول إذا وقعت التوبة بشروطها فهل تقبل قطعا أو ظناً فمذهب القاضي أنه لا يقطع بها ومذهب الشيخ أبي الحسن القطع بها والخلاف إنما هو في توبة المؤمن العاصي وأما توبة الكافر من كفره وهي إسلامه فالإجماع على أنها مقبولة قطعاً لقوله تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وفي القطع بقبول توبته فتح لباب الإيمان وسوق إليه في عدم القطع بقبول توبة المؤمن وبقائه بين الرجاء والخوف، سد لباب العصيان ومنع منه

الثاني واختلف هل تصح التوبة من بعض الذنوب أم لا فذهبت المعتزلة إلى أن ذلك لا يصح ولا خلاف بين أهل في صحتها وهي طاعة من الطاعات ويطلب بالتوبة فيما بقي وعلى هذا إذا أسلم الكافر فيصح إسلامه وإن كان يزني ويسرق

ص: 551

وحكمه حكم المؤمن العاصي فأما التوبة من كل الذنوب فهي التوبة النصوح

الثالث إذا تذكر المذنب ذنبه فهل يجب عليه تجديد الندم أو لا قولان للقاضي وإمام الحرمين قائلا يكفيه أن لا يبتهج ولا يفرح عند تذكره

الرابع من تاب ثم عاود فهل تكون عودته نقصاً أم لا قولان للقاضي مع ابن العربي وإمام الحرمين قائلاً توبته الأولى صحيحة وهذه معصية أخرى واختاره المتأخرون

الخامس هل توبة الكافر نفس إسلامه أم لا بد من الندم على الكفر فأوجبه الإمام وقال غيره إيمانه لأن كفره ممحو بإيمانه وإقلاعه عنه قال تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}

السادس الذنب الذي يتاب منه إن كان حقاً لله فيكفي فيه الندم والاقلاع ويشرع في قضاء الفوائت كالصلاة والصيام وشبه ذلك وإن كان حقا لآدمي وجب عليه رده إن كان مالاً والتحلل منه إن كان عرضاً فإن لم يجده ولا وجد أحداً من ورثته فإنه يستغفر الله ويتصدق عليه وإن كان نفساً وجب عليه تسليم نفسه للاولياء إن أمكن ذلك فإن لم يفعل مع الإمكان فمذهب الجمهور صحتها وهذه معصية أخرى ويجب عليه أن يتوب منها وقيل لا تصح وهو مرجوح

وحَاصِلُ التَّقْوَى اجتِنابٌ وَامْتَثاَلْ

في ظاهِرٍ وَباطِنٍ بِذَا تُنالْ

فَجَاءَتِ الأَقْسامُ حقّاً أَرْبَعَةْ

وَهِيَ لِلسَّالِكِ سُبْلُ المَنْفَعَةْ

أخبر أن حاصل التقوى ومدارها المأمور بها في غير ما آية هي اجتناب أي للمنهيات في الظاهر والباطن وامتثال أي للمأمورات في الظاهر أيضا والباطن وبذلك الاجتناب والامتثال تنال التقوى وتدرك وإذا كان كذلك فأقسامها أربعة: اجتناب وامتثال في الظاهر فهذان قسمان اجتناب وامتثال في الباطن فهذان قسمان آخران ففي ظاهر وباطن يتنازع فيه اجتناب وامتثال وأن التقوى للسالك طريق إلى المنفعة أي الأخروية وسبل بضم السين وسكون الباء تخفيفاً عن ضم جمع سبيل وهو الطريق وأعلم أن التقوى في عرف الشرع هي وقاية الإنسان نفسه عما يضره في الآخرة قال البيضاوي والمتقي اسم فاعل من قوله وقاه فاتقى والوقاية فرط الصيانة ولها ثلاث مراتب

الأولى التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى {ألزمهم كلمة التقوى}

والثانية التجنب عن كل ما فيه إثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعنى بقوله {تعالى}

ص: 552

ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا

والثالثة أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بسرائره وهي التقوى الحقيقي المطلوبة بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} اهـ

في تفسير ابن جزي: درجات التقوى خمس أن يتقي العبد الكفر وذلك مقام الإسلام أن يتقي المعاصي والمحرمات وهو مقام التوبة وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد وأن يتقي حضور غير الله على قلبه وهو مقام المشاهدة، قال والبواعث على التقوى عشرة خوف العقاب الدنيوي والأخروى ورجاء الثواب الدنيوي والأخروي فهذه أربعة وخوف الحساب والحياء من نظر الله وهو مقام المراقبة والشكر على نعمه لطاعته والعلم لقوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وتعظيم جلال الله وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة فيه لقول القائل

تعصى الإله وأنت تظهر حبه

هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

وقال آخر

قالت وقد سألت عن حال عاشقها

بالله صفه ولا تنقص ولا تزد

فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ

وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

انتهى والسالك أي إلى الله تعالى وهو المريد ويقابله المجذوب وهو المراد وهذا الثاني أعلى، قال الشيخ العارف سيدي أبو عبد الله بن عباد رضي الله عنه ونفعنا به: بنو آدم في أول نشأتهم ومبدأ خلقتهم وخروجهم من بطون أمهاتهم موسومون بالجهل وعدم العلم قال الله تعالى {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} ثم إن الله تعالى لما اختص بعضهم بخصوصية عنايته واختار منهم من أهله لولايته وما ذلك إلا بحصول العلم الذي يتضمنه قوله تعالى {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} الذي يحقق لهم النسبة ويوجب لهم الزلفة والقربة المشار إلى ذلك بقوله {لعلكم تشكرون} جعلهم على قسمين مرادين ومريدين وإن شئت قلت مجذوبين وسالكين وكلاهما مراد ومجذوب على التحقيق قال الله عز وجل {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} فالمريدون السالكون إلى الله تعالى في حال سلوكهم محجوبون عن ربهم برؤية الأغيار

ص: 553

فالآثار والأكوان ظاهرة لهم موجودة لديهم والحق تعالى غيب عنهم فهم يستدلون بها عليه في حال ترقيتهم والمرادون المجذبون واجههم الحق بوجهة الاكرام وتقرب إليهم فعرفوه به فلما عرفوه على هذا الوجه انحجبت الأغيار عنهم فلم يروها فهم يستدلون به عليها ففي حال تذللهم فهذا حال الفريقين وبعيد ما بينهما وذلك أن المستدل به على غيره عرف الحق الذي هو الوجود الواجب لأهله وهو المختص بوصف القدم وأثبت الأمر المشار به إلى الآثار العدمية من وجود أصله المشار به إلى المؤثر المتحقق وجوده والمستدل بغيره عليه على عكس ما ذكرنا لأنه استدل بالمجهول على المعلوم وبالمعدوم على الموجود وبالأمر الخفي على الظاهر الجلي وذلك لوجود الحجاب ووقوفه مع الأسباب وعدم احتظائه بالوصول والاقتراب وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه بالأشياء الحاضرة ومتى بعد حتى تكون الآثار القريبة هي التي توصل إليه أو فقد حتى تكون الآثار الموجودة هي التي تدل عليه

عجبت لمن ينبغي عليك شهادة

وأنت الذي أشهدته كل مشهد

يَغُضُّ عَينَهُ عَنِ المحارِمِ

يَكُفُّ سَمْعَهُ عَنِ الْمَآَثِمِ

كَغِيبَةٍ نَمِيمةٍ زُورٍ كَذِبْ

لِسَانُهُ أَحْرَى بِتَرْكِ مَا جُلِبَ

يَحْفَظُ بَطْنَهُ مِنَ الحَرَامِ

يَتْرُكُ مَا شُبِّهَ بِاهتِمامِ

يَحْفَظُ فَرْجَهُ وَيتَّقِي الشَّهيدْ

في البَطْشِ والسَّعْي لِمَمْنوع يُريدْ

وَيُوقِفُ الأمُورَ حَتَّى يَعْلَمَاَ

ماَ الله فِيهِنْ بِهِ قَدْ حَكَمَا

[ش] يُطَّهِرُ الْقَلْبَ مِنَ الرِّياءِ

وَحَسَدٍ عُجْبٍ وكُلِّ داءٍ

قال الإمام سيدي عبد الرحمن الجزولي في شرح الرسالة: الدين شيئان امتثال الأوامر واجتناب النواهي واجتناب النواهي أشد على النفس من امتثال الأوامر لأن امتثال الأوامر يفعله كل أحد واجتناب النواهي لا يفعله إلا الصديقون وهذا كله لا يتوصل إليه إلا بالعلم قال الله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} والدليل على أن ترك النواهي أشد قوله صلى الله عليه وسلم لقوم قدموا من الغزو «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس عن هواها» وروي

ص: 554

عنه صلى الله عليه وسلم أن قال «خلق الله الجنة فحفها بالمكاره وخلق النار فحفها بالشهوات» وخلق للنار سبعة أبواب وخلق لابن أدم سبعة جوارح فمتى أطاع الله بجارحة من تلك الجوارح السبعة غلق عنه باب من تلك الأبواب ومتى عصى الله بجارحة من تلك الجوارح السبعة استوجب الدخول من باب من تلك الأبواب

والجوارح السبعة هي السمع والبصر واللسان واليدان والرجلان والبطن والفرج وسميت جوارح لأنها كواسب تكسب الخير والشر وأصل صلاح هذه الجوارح وفسادها من القلب لأن القلب كالسلطان والجوارح كالأجناد لا تفعل إلا ما أمرها به القلب وقد قال «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» قالها ثلاثاً. فينبغي للإنسان أن يجعل من جوارحه حاجباً يمنع عنها كل شيء بأن يمتثل الأمر ويجتنب النهي حتى يجري أفعاله وأقواله كلها على سنن للشرع قال الله تعالى {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} وقد نبه أبو محمد على هذا في أول الكتاب حيث دعا وقال أعاننا الله على رعاية ودائعه وهي الجوارح باجتناب المنهيات وحفظ ما أودعنا من شرائعه بامتثال المأمورات فمن رعى ودائعه وحفظ شرائعه فقد فاز، قال صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» الشيخ: والجوارح نعمة من الله على العبد وأمانة لديه ومن أشد الطغيان وغاية الخسران استعانة العبد بنعمة الله على معصية الله تعالى وخيانته لما أمنه الله تعالى عليه اهـ

وقد اشتمل كلام الناظم في هذه الأبيات على أربع مسائل:

الأولى: حفظ الجوارح السبعة كل بما يليق به الثانية ترك الأمور المشبهات بالحلال مع عدم القطع بكونها منه. الثالثة الوقوف على الأمور التي لم يعلم حكم الله فيها فلا يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. الرابعة تطهير القلب من أمراضه كالرياء والحسد والعجب وغير ذلك

فقوله يغض ويكف ويحفظ في الموضعين ويترك ويتقي ويوقف ويطهر لفظها لفظ الخبر والمراد الطلب ولولا رفعها لقلت إنها على حذف لام الأمر لكنها إذا حذفت يبقى عملها وهو الجزم والغض والستر وغض البصر عن المحارم فرض عين والدليل عليه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من

ص: 555

أبصارهم ويحفظوا فروجهم} فقرن الأمر بغض البصر مع الأمر بحفظ الفرج وهو في الأخير للوجوب باجماع وأتى بمن الدالة على التبعيض ليبقى جواز النظر إلى الزوجات ونحوها إذ لو قال يغضوا أبصارهم للزم غض البصر مطلقاً حتى لا يرى الإنسان أين يمشي، وأما السنة فقول صلى الله عليه وسلم العينان تزنيان وزناهما النظر والإجماع على تحريم النظر إلى المحارم وهي النساء والمراد من الصبيان على جهة الالتذاذ وإلى ما يكره مالكه أن ينظر له فيه من الكتب والأمتعة ونحوها وإلى الملاهي الملهية على أحد القولين والقول الآخر بالكراهة فقط ومن المحرم أيضاً النظر في عورات النساء وعيوبهن والنظر إلى أخيه المسلم بعين الاحتقار والازدراء وانظر هل مما نحن بصدده من نظر العين أو هما من

عمل القلب وهو الظاهر إذ لا يحتاج إلى العين في تلك الرسالة وليس في النظرة الأولى بغير تعمد حرج ومفهومه أن في الثانية الحرج وكذا في الأولى بتعمد وقد روي عنه أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تتبع النظرة النظرة فإن النظرة الأولى لك والثانية عليك قيل معناه لا تتبع نظر عينيك نظر قلبك وقيل معناه لا تتبع النظرة الأولى الواقعة سهواً بالنظرة الثانية التي وقعت عمداً وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه العيون مصائد الشيطان، وقال بعض الحكماء من أرسل طرفه استدعى حتفه، وجاء في قوله تعالى {يعلم خائنة الاعين} أنها النظرة الثانية {وما تخفي الصدور} قيل الأولى

(فرع) من تابع التفكير اختياراً فهو كمتعمد النظر ومن دفعه من قبله ما استطاع ولم يندفع لما كلف به مما ليس في مقدوره ولا بسبب له فيه فلا شيء عليه فيه

(فرع) يجوز النظر إلى المرأة المتجالة وهي الكبيرة التي لا أرب للرجال فيها مشتقة من التجلي وهو الظهور ولا تحجب لانقطاع أربها من النكاح وانظر هل هذا لكل أحد وإنما يباح النظر إليها لمن لا يتهم أن يتعلق بها قلبه كالشاب وأما الشيخ فلا يجوز له النظر إليها إذ قد يتشوف إليها وقد جاء عن أبي حنيفة لكل ساقطة لاقطة ويدل على

ص: 556

الثاني أنهم أباحوا النظر إلى الوحش ولم يبيحوه إلى العلى وما ذلك إلا للتشوف وعدمه

(فرع) يجوز النظر إلى الشابة لعذر من شهادة عليها إذا باعت أو اشترت أو تزوجت فيجوز للشهود النظر إليها ليتحققوا صفاتها ويكتبوها أعني صفات الوجه والسن والقد وهذا إذا كانوا لا يعرفونها وأما إن عرفوها فلا ينظروا إليها ويكتفوا بسماع كلامها وكذلك إن أخبرهم بها مخبر فحصل لهم العلم بذلك وقال ابن شعبان ينبغي أن لا يشهد لشابة أو عليها إلا من يبلغ ستين سنة من الشهود ومن الشهادة لها الشهادة على جرح فيها وهل هو مأمومة أو جائفة أو غيرهما وشبه الشهادة عليها نظر الطبيب والجرائحي إذا كان في الوجه أو في اليدين والرجلين وأما في الفرج فلا يجوز واختلف إذا كان في سائر الجسد فقيل يقطع عليه الثوب وينظر إليه وقيل لا ينظر إليه إلا النساء ونظر الراقي وقد ذكر عن الشيخ أبي يعرى نفعنا الله ببركاته أنه كان يرقي النساء فأنكر ذلك عليه بعض الفقهاء فلما وصلوا إليه قال لهم جئتم لكذا أليس أنكم تقولون يجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع الداء أفلا جعلتموني كالطبيب الكافر فانقطعوا

(فرع) يجوز للخاطب أن ينظر من المخطوبة الوجه والكفين بعلمها وهذا إذا خطبها لنفسه وكان يظن الإجابة وإلا لم يجز له ذلك

(فرع) اختلف في عبد المرأة هل يجوز له النظر إليها أو يمنع، ثالث الأقوال يجوز إذا كان وغداً أي قبيح المنظر ولا يجوز إن كان غير وغد واختلف في عبد زوجها وعبد الأجنبي وهل يدخلان عليها ويريان شعورها أم لا قولان المشهور المنع

(فرع) واختلف فيمن أراد شراء أمة هل يجوز له أن ينظرها أما الأطراف فلا خلاف أنه يجوز له أن ينظرها كما أنه لا خلاف أنه لا يجوز له النظر إلى الفرج وفي النظر إلى جسدها قولان الجواز والمنع

(فرع) يجوز لكل من الزوجين النظر إلى فرج الآخر ولحسه بلسانه وكذا السيد مع أمته وقيل بكراهة ذلك لأنه يؤدي إلى ضعف البصر، قاله بعض الأطباء وكذا يكره النظر لعورة الصبيان

(فرع) اختلف هل يجوز للرجل أن يرى شعر أم زوجته أم لا على قولين وكذا اختلف في العم والخال هل تضع المرأة خمارها عندهما أم لا فكرهه الشافعي وعكرمة لكونهما ينعتانها لأبنائهما وأجازه بعضهم

هذا بعض ما يتعلق بالبصر وأما السمع

ص: 557

فيجب عليه أيضاً أن يكف سمعه عن كل ما يأثم بسماعه كالغيبة والنميمة والزور والكذب ونحوه وعلى ذلك نبه الناظم بقوله يكف سمعه عن المأثم كغيبة ونميمة زور وكذب ويأتي تفسيرها قريباً في عد آفات اللسان إن شاء الله قال في الرسالة ولا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل كله قال الشيخ الجزولي يشتمل الغناء والملاهي الملهية والغيبة وسماع كلام امرأة لا تحل لك وسماع المحلقين للقصص وغيرها والباطل كثير ومفهومه أنه لم يتعمد فلا إثم عليه ولكن ذلك إذا سمعه وألغاه وأعرض عنه كالنظرة الأولى فأما إذا سمعه فتمادى على سماعه فهو مأثوم والأصل في ذلك قوله تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقوله «المستمع شريك القائل»

قال الشاعر

وسمعك صن عن سماع القبيح

كصون اللسان عن النطق به

فإنك عند سماع القبيح

شريك لقائله فانتبه

قال وهذا الحديث يعارض ما قال مالك في موطأ يحيى بن يحيى قال له أوصني قال أوصيك بثلاث الأولى اجمع لك فيها علم العلماء هي إذا سئلت عن شيء لا تدري فقل لا أدري والثانية اجمع لك فيها طب الأطباء وهي أن ترفع يدك من الطعام وأنت تشتهيه والثالثة اجمع لك فيها حكمة الحكماء وهي إذا كنت في قوم فكن أصمتهم فإن أصابوا أصبت معهم وإن أخطأوا سلمت منهم مع أنه قال في الحديث المستمع شريك القائل فيحمل ما قاله مالك على ما إذا كان لا يقدر على تغييره ولا على أن يقوم عنهم قال ابن شعبان وكذلك الأمرد من الصبيان لا يحل سماع كلامه إذا كان فيه لين يخاف منه اللذة قال أبو حامد ولا يصلي خلفه الأشفاع لأنه يتلذذ بصوته ثم قال الشيخ الجزولي عند قوله ولا سماع شيء من الملاهي والغناء: والملاهي آلة الغناء كالمزمار والأتار وما أشبه ذلك والغناء ممدود وهو كلام موزون طيب مفهوم المعنى محرك للقلب وتحريم سماع الملاهي والغناء عام في الرجال والنساء وإذا حرم سماع الملاهي على الانفراد فأحرى إذا اجتمعا وظاهره سواء اتخذ ذلك حرفة أو لا أكثر التردد إليه أم لا، أما إن اتخذه حرفة أو أكثر التردد إليه فلا خلاف في المذهب أنه حرام وأن ذلك جرحة في شهادته وإمامته واختلف فيمن ليس ذلك حرفة له وقل حضوره له فقيل حرام وقيل مباح،

ص: 558

الشيخ: ومذهب مالك أن سماع آلة اللهو كلها حرام إلا الدف في النكاح والكبر على خلاف وكذلك استعمالها وبيعها وشراؤها ولا يجوز وقيل يجوز الاستماع اليها وقال أبو حامد الطبل والقصب والدف والقضيب فيجوز سماعه ولا يحرم إلا ما ورد في الشرع تحريمه وذلك كالأتار والمزامير والعود والقرن المعتاد للشرب فيمنع تبعا لمنع شرب الخمر ليكون ذلك مبالغة في الانقطاع وأما الغناء فمذهب مالك منعه سواء كان بآلة أو بغير آلة وروي عن الشافعي إجازته إذا كان بغير آلة ثم قال فإن كان يحرك ما في القلب من الخوف ومحبة الله تعالى كان مندوباً إليه وإن كان يحرك

محبة المخلوق لغلبة الشهوة وتمكنه من الشيبة فالسماع في حقه حرام ومن لم يتصف باحدى الوصفين المتقدمين اتخذه مستراحاً يتقوى به على حاله فهو مكروه عند أهل الفضل والدين لأنه لهو ولعب واختلف عندهم في التواجد فقيل لا يجوز وإن من حسن الأدب الإصغاء وترك المشقة والحركة وخصوصاً الشاب بين يدي المشايخ والمبتدىء بين يدي المنتهي وذهب بعضهم إلى جوازه ورجاء لتحقيق الوجد وتهييج ما هو كامن في البطن ككمون النار في الحجر ولا تظن أن ذلك لفهم المعنى بل ذلك ثابت في كل الحيوانات وخصوصاً الإبل فإنها كلما طالت عليها البراري وسمعت الحداء مدت أعناقها وطوت المراحل ثم قال: ويقال أن الطير كانت تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته وقال أبو سليمان لا يحصل في القلب ما ليس فيه ولكن يحرك ما هو فيه/ الشيخ: وللسماع عندهم شروط منها المكان والإمكان والإخوان وطول الاشتياق وأن لا يحضر هناك شاب يخاف منه الفتنة قال وقد اتفق أربعون شيخاً أن ما على الشيخ اللبيب أشد من الشاب وقال ومن البدعة الكبرى ما نشاهده في كثير مما يدعي لنفسه العبادة والتقدم في الزهد وينسب نفسه إلى التصوف والفقر من الاضطراب وأنواع الرقص والإيماء باليد والرأس والضرب على الصدر والوقوع على الحاضرين حتى يؤدي ذلك إلى الضحك والطنز والاستهزاء وأما اللسان فأشار إليه بقوله (لسانه أحرى بترك ما جلب) فلسانه أحرى جملة اسمية والمبتدأ على حذف مضاف يدل عليه يكف وبذلك المضاف يتعلق بترك وبنى (جلب) للمجهول للوزن والجالب هوالناظم أي كف لسانك بترك ما جلبناه وذكرناه وأتينا به في كف السماع من الغيبة والنميمة والزور والكذب ونحوها من المآثم أحرى أي في الوجوب من كف السماع عن ذلك والأحروية ظاهرة قال في الرسالة ومن الفرائض صون اللسان عن الكذب والزور والفحشاء والغيبة والنميمة والباطل وكذلك قال رسول الله «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» قال الشيخ الجزولي اللسان نعمة من الله تعالى على

ص: 559

العبد وهو أشد الجوارح السبعة وروي أنه ما من صباح إلا والجوارح تشكو به وتقول ناشدناك الله إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وخطر اللسان عظيم لا يسلم منه إلا بالصمت ولذلك مدحه وحث عليه فقال «من صمت نجا» وقال «الصمت حكم وقليل فاعله» وقال «من تكفل لي ما بين لحييه ضمنت له على الله الجنة» وقال ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ما من شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان وروي عنه أنه قال لساني سبع إن أطلقته أكلني. وحقيقة الكذب الاخبار عن الشيء على غير ما هو عليه والصدق ضده والشك في الحديث كالكذب فيه قال مالك من حدث بكل ما سمع فهو كاذب فينبغي أن لا يحدث الانسان إلا بما علمه قطعاً أو سمعه أو نقل إليه نقلاً متواتراً ثم إن كان الكذب سهواً فلا إثم فيه ولا حرج لقوله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وإن كان عمداً فهو محرم باجماع، في الجملة وإن كان تعرض له أحكام الشريعة الخمسة باعتبار متعلقاته والدليل على تحريمه في الجملة الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاث من كن فيه فهو منافق من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» ومعناه منافق في العمل لا في الاعتقاد وقال أيضاً إياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن

ص: 560

الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً إلى غير ذلك مما ورد والاجماع على أن الكذب محرم فمن أباحه استفسر فإن أباح ما هو حرام منه فإنه يستناب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل فحكمه في الجملة التحريم ثم قد يكون واجباً مثل أن يكذب لإنقاذ نفس أو مال كما إذا هرب الإنسان من ظالم إلى جهة فيسألك عنه فتقول له جاز يميناً وهو على الشمال فالكذب في هذا واجب يؤجر عليه فإن صدق أثم وعليه أن يحلف إذا طلب منه اليمين ويلغز بيمينه ولا يلزمه الطلاق إن حلف واللغز أن ينوي في يمينه طلاق الدابة من وثاقها أو الحجر من الأعلى إلى الأسفل واختلف إذا حلف ولم يلغز في يمينه هل يلزمه الطلاق أم لا على قولين سببهما هل هو كالمكره أم لا، ويكون حراماً وهو الكثير فيه كالكذب لقطع حق مخلوق أو على وجه المزاح للانبساط وكلاهما حرام والأول أشد من الثاني والتوبة من الأول الاستحلال من المظالم والنية أن لا يعود ومن الثاني الندم والنية أن لا يعود ويكون مستحباً وهو الكذب على الكفار بأن يقول لهم إن المسلمين تهيئوا للقائكم بكثرة العدد وتأمر عليهم البطل فلان ونحو ذلك ويكون مكروهاً وهو الكذب للزوجة ومباحاً وهو الكذب للاصلاح بين المسلمين إذا وقعت بينهم شحناء وقيل في هذا إنه مندوب قال والعرض على الضيف بغير جد حرام من وجهين أحدهما أنه أطعمه الحرام والثاني كذب من غير منفعة وانظر هل يجوز التعريض بالكذب كما روي عن اللخمي أنه إذا أتاه من يكره رؤيته يقول لجاريته قولي له انظره في المسجد وروي عن الشعبي أنه كان إذا أتاه من يكره رؤيته يقول لجاريته اجعلي اصبعك في وسط دائرة وقولي له ليس هو هنا فأباح هذا وكره التصريح قال أبو حامد وتباح المعاريض تخفيفاً كقوله

عليه السلام «لا تدخل الجنة عجوز» وقوله في عين زوجك بياض لأن هذه الكلمة أوهمت خلاف المراد فيباح هذا مع النساء والصبيان لتطيب قلوبهم بالمزاح ومن يتمتع من أكل الطعام فلا ينبغي أن يكذب ويقول لا أشتهي شيئاً إذا كان يشتهي بل يعدل إلى المعاريض وقد قال لامرأة قالت ذلك «لا تجمعي بين كذب وجوع» والزور أيضاً وهو الإخبار

ص: 561

بالشيء على غير ما هو عليه إلا أنه خاص بالشهادة مشتق من زور الصدر وهو اعوجاجه لا من نزور الكلام الذي هو تحسينه وقال الزناتي من زور زوراً إذا مال عن الصواب ودليل تحريمه الكتاب وهو قوله تعالى {والذين لا يشهدون الزور} {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} والسنة وهو قوله «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول قال الاشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور» وأجمعت الأمة على تحريمه والفحشاء مأخوذة من فحش الشيء إذا ظهرت قبائحه واشتهرت قولاً كان أو فعلاً والمراد هنا القول القبيح، قال إن الله يكره الفاحش البذيء وهو الذي لا يكني عن الألفاظ المتفاحشة فيدخل فيه كل ما يستحيا منه أن يذكر بمحضر أهل الفضل والصلاح ومن يجب توقيره كالآباء والإخوة كذكر الغائط والجماع بألفاظ العامة السفهاء والسفلة من الناس والغيبة وهي أن تقول في أخيك ما لو سمعه لكرهه ولو كان ذلك فيه سواء كان ذلك في نفسه أو بدنه أو ماله أو ولده أو في فعله أو قوله أو في دينه أو دنياه حتى في ثوبه وردائه ودابته وكل ما يتعلق به حتى قولك واسع الكم أو طويل الذيل سواء كان تصريحاً أو تعريضاً أو بالاشارة أو الرمز وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} قيل وجه الشبه بينهما أن الميت لا ينتصر لنفسه وأما السنة فقوله «إياكم والغيبة فإنها أشد من الزنا» وفي رواية «أشد من ثلاثين زنية في الاسلام» وقال «من أراد أن يفرق حسناته يميناً وشمالاً فليغتب الناس» وقال عليه الصلاة والسلام «الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب الرقيق» وقال حأتدرون من المفلس من أمتي قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال «إنما المفلس من أمتي الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد شتم هذا

ص: 562

وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا نفذت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وقال «من اغتيب أخوه بمحضره فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة وإن لم ينصره أذله الله في الدنيا والآخرة» وقال ابن المبارك «لو كنت ممن يغتاب الناس لاغتبت أبوي فإنهما أحق بحسناتي» وروى عن الحسن أنه بلغه أن رجلاً اغتابه فأهدى له طبقاً من رطب فقيل له في ذلك فقال بلغني أنه أهدى إلي حسناته وهي أحب ما عنده فأهديت له أحب ما عندي وقال مالك رضي الله عنه أدركت أناساً بالمدينة لا عيوب لهم فاشتغلوا بعيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوباًوأدركت أناس بالمدينة لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم، ثم قال: وأشد الغيبة غيبة القراء لأنها تجمع بين الغيبة وتزكية النفس والنفاق وكلها حرام كأن يقول أصلح الله فلاناً لقد أساء فيما جرى له فيظهر من نفسه الدعاء له ويقول بلسانه ما ليس في قلبه لأن مراده أن يسمع الناس قبحه وإلا دعا له سراً أو كتم معصيته أو يقول الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان لطلب الدنيا وهو يعرض بغيره/ الشيخ: ومن الغيبة أن يقول: السدراتي فعل كذا لأن ذلك تكرهه قبيلته فلو قال: كان فلان يفعل كذا وكذا ففي كونه غيبة قولان والمستمع للغيبة شريك للمتكلم بها فيجب على من سمعها أن يقوم من ذلك الموضع الذي سمعها فيه إن أمكنه ذلك وإن لم يمكنه نهاهم عن ذلك بقول غليظ مظهراً في وجهه ذلك فإن انتهوا فهو المطلوب وإلا أبغضهم في قلبه وكذبهم لأنهم فساق فإن قال لهم دعوا غيبة الناس ومقصوده إظهار الورع فلا يخرجه ذلك عن الغيبة قال بعض العلماء الغيبة فاكهة القراء ومزبلة الأتقياء ومراتع النساء وتباح الغيبة في مواضع عند السلطان لدفع ظلم والشكاية به فيذكر للسلطان أمره وما فعل له أما عند غيره ممن لا قدرة له على الدفع فلا، وعند الاستغاثة على تغير المنكر ورد الظالم عن ظلمه بمن له قدرة على ذلك أيضاً وعند المفتي كقول هند رضي الله عنهما للنبي إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، وعند التحذير من مصاهرة أو شركة أو مجاورة وعند التعريف به فيذكر عدالته أو جرحته ويدخل في ذلك دعاء من عرف باسم فيه عيب بذلك الاسم

ص: 563

كالأعرج والأعمش والطويل إذا قصد صفته لا غيبته والعدول الى اسم آخر أولى وعند ذكر بدعة المبتدع سواء أكانت بدعته ظاهرة يدعو إليها أو خفية يلقيها لمن يظفر بها وعند ذكر فسق الفاسق المجاهر بفسقه قال عليه الصلاة والسلام «من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة فيه» قال أبو حامد والصحيح أن ذكر الفاسق بمعصية يخفيها ويكره ذكرها لا يجوز من غير عذر اهـ باختصار وبعضه بالمعنى وقد نظم بعضهم هذه المواضع السبعة التي تجوز فيها الغيبة في بيت فوطأ له شيخنا الامام العالم الحاج الأبر سيدي أبو العباس أحمد محمد بن القاضي رحمه الله ببيتين آخرين قبله وهما هذان

ألا إن اغتياب الناس ذنب

عظيم الوصف من أردى المناكر

فحب غيبة إلا حروفا

ببيت جاء عن بعض الأكابر

تظلم واستغث واستفت حذر

وعرف بدعة فسق المجاهر

ثم قال الإمام الجزولي ودواء الغيبة في التفكر بالوعيد الوارد فيها من تبديد حسناته وغيره وبالتفكر في عيوب نفسه فيشغله ذلك عن عيوب الناس قال صلى الله تعالى عليه وسلم «طوبى لعبد شغلته عيوبه عن عيوب الناس» وبالصمت أيضاً والنميمة هي أن ينقل الانسان من غيره إلى غيره ما يكره المنقول فيه سماعه أو المنقول عنه التحدث به سواء كان ذلك بالكلام أو بغيرهما وهي محرمة بالكتاب والسنة وبالاجماع قال تعالى {لا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم} وقال {ويل لكل همزة لمزة} وهو الذي يعيب الناس ويفسد بينهم وقال صلى الله عليه وسلم «أشد الناس عذاباً يوم القيامة المشاءون بالنميمة والقطاعون بين الاخوان» وقال «لا يدخل الجنة قتات» والقتات النمام والاجماع على تحريمها لأنها تؤدي إلى التقاطع والتدابر المنهي عنهما وقال صلى الله عليه وسلم «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله اخوانا» ومن نقل ما يكره فيجب عليه خمسة أشياء: أن لا يصدق الناقل لقوله تعالى {يا أيها الذين

ص: 564

آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وأن ينهاه عن ذلك لأنه من باب النهي عن المنكر وأن يبغضه في الله تعالى لأن الله تعالى يبغض النمام والحب في الله والبغض في الله من الإيمان وأن لا يفحص عن حقيقة ما قاله له لقوله تعالى {ولا تجسسوا} وهذا تجسس وأن لا يعاقب بذلك المنقول عنه لأن في ذلك نميمة/ الشيخ: فكيف يحب الانسان ويعتقد أنه ناصح له كما هو في زماننا من ينقل إليه ما يكره ويوجب عليه خمس مسائل كما تقدم، وقد روي عن بعض الصالحين أنه دخل عليه رجل فقال له: ان فلاناً قال فيك كذا وكذا فقال له يا هذا طالت غيبتك عني وألزمتني ثلاثة أشياء شوشتني وشغلت خاطري بعد أن كان فارغاً وبغضت إلي أخي بعد أن كان حبيبي وأدخلتني الشك فيك بعد أن كنت عندي مأموناً

الشيخ: النميمة أشد من الغيبة لأن فيها الغيبة وزيادة كذلك يحرم أنواع سائر الباطل ككثرة المزاح لأنه يؤدى إلى ذهاب الهيبة والوقار ولذا قال بعض الحكماء لا تمازح الشريف فيحرقك ولا الدنيء فيتجاسر عليك ومن الباطل تزكية الانسان نفسه وذم الطعام بل إن أعجبه أكله وإلا تركه واللعنة فلا يجوز لعن إنسان معين وإن كان كافراً وأما لعن الجنس فيجوز لخبر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده وقد ذكر الامام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه من أنواع الباطل المتعلقة باللسان عشرين آفة

الأولى الكلام فيما لا يعني وهو ما لا يعود على الانسان منفعة لا في دنياه ولا في آخرته ولذا قيل إن العاقل لا ينبغي له أن يرى إلا ساعيا في تحصيل حسنة لمعاده أو درهم لمعاشه، وقال بعض الحكماء من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يغنيه

والثانية فضول الكلام كتكرار ما لا فائدة في تكراره والاتيان بالألفاظ المستغنى عنها وذكر الله في غير محل التعظيم كقوله الهم أخر هذا الكلب أو الحمار وفضول الكلام لا تنحصر بل المهم محصور في قوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف

والثالثة الخوض في الباطل مثل حكايات أحوال النساء ومجالس أهل الخمر ومقامات

ص: 565

الفساق وتنعم الاغنياء وتجبر الملوك

والرابعة المراء والجدال في الدين

والخامسة الخصومة واللدده

السادسة التصنع في الكلام بتكلف السجع ونحوه.

والسابعة السب والفحش.

والثامنة اللعن لانسان أوحيوان أو جماد.

والتاسعة الغناء والشعر.

والعاشرة كثرة المزاح والافراط منه

والحادية عشرة الاستهزاء والسخرية ويكون بالأقوال والأفعال والمحاكاة.

والثانية عشرة إفشاء السر وهو منهي عنه لما فيه من التهاون.

والثالثة عشرة الوعد الكذوب إذ هو من علامات النفاق.

والرابعة عشر الكذب وأحرى في اليمين

والخامسة عشر الغيبة.

والسادسة عشرة النميمة.

والسابعة عشرة كلام ذي اللسانين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.

والثامنة عشرة المدح لما قد يكون فيه من الكذب والرياء ومدح الظالم ولما يدخل على الممدوح من الكبر والعجب والرضا عن النفس ونحو ذلك.

والتاسعة عشرة الغفلة عن دقائق الخطأ في بحر الكلام لا سيما ما يتعلق بالله وصفاته مثاله ما روى حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لايقل أحدكم ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت» وذلك لأن العطف بالواو يوهم التشريك وقال عليه الصلاة والسلام «لاتقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم

ص: 566

ربكم» وقال صلى الله عليه وسلم «من قال أنا بريء من الاسلام فإن كان صادقا فهو كما قال أو كاذباً فلا يرجع إلى الاسلام سالماً» .

العشرون سؤال العوام عن غير ما كلفوا به من علم العقائد كسؤالهم عن الحروف هل هي قديمة أو حادثة ونحو ذلك اهـ باختصار وبعضه بالمعنى وقد كنت حالة قراءة هذا المحل من الرسالة لفقت في هذه الآفات أبياتاً لتحفظ وهي هذه:

وللكلام من الآفات فاستمعن

عشرون خذ عدها عن عالم رجل

ما ليس يعنيك والفضول فاجتنبن

والخوض في باطل مراء مع جدل

خصومة وتصنع الكلام وزد

سباً ولعناً غنا كشاعر محل

مزح وسخرية وعد كذوب كذا

إفشاء سر مع الكذاب ذي الحيل

نميمة غيبة مدح يضاف لها

ومن له فاعلمن وجهان كالجبل

والسهو عن خطايا لدى الكلام وزد

شغل ذوي الجهل بالتوحيد والعلل

من غير ما كلفوا خوضاً به وهنا

قد ما رمت بالتفصيل والجمل

ويستعان على السلامة من هذه الأشياء بالخلوة ومجانبة الناس وبالصمت ففي الحديث من صمت نجا وفي الصمت حكمة وقليل فاعله قيل للسلامة عشرة أجزاء منها في الصمت وقال بعض الحكماء في الصمت سبعة آلاف خير وقد جمع ذلك في سبع كلمات في كل كلمة ألف خير وهي حصن من غير حائط، زينة من غير حلى، راحة الكرام الكاتبين، هيبة من غير سلطان، ستر العيوب، عبادة من غير عناء، الاستغناء عن الاستعذار إلى أحد، وقد كنت لفقت في ذلك بيتين وهما قولنا

وفي الصمت حسن ثم زينة راحة

كذا هيبة ستر عبادة واستغنا

وفي كلها ألف من الخير فاعلمن

فتبلغ سبعاً من ألوف بلا عنا

وأشرت بقولنا بلا عنا أن الصمت الجامع لهذا الخير كله لا مشقة فيه ولا كلفة وزينة

ص: 567

وعبادة بالرفع وحذف التنوين للوزن وحذف العاطف في بعض المعاطيف للوزن أيضا قال الشيخ الجزولي وبالجملة فآفات اللسان كثير فينبغي للانسان أن لا يتكلم بكلام حتى يرويه في قلبه فإن كان خيراً قاله وإن كان شراً سكت عنه لأن اللسان ترجمان القلب وجميع ما يتكلم به الانسان على أربعة أقسام قسم ليس فيه إلا المضرة فهذا حرام، وقسم فيه مضرة ومنفعة فهذا كالأول لأن مضرته ذهبت بمنفعته وصار حراماً، وقسم ليس فيه مضرة ولا منفعة فلا ينبغي الاكثار منه لئلا يذهب العمر باطلاً، وقسم ليس فيه إلا المنفعة فهذا هو المطلوب فخرج من هذا أن ثلاثة أرباع الكلام لا خير فيها وليس له من كلامه إلا الرابع اهـ، ولبعضهم على آداب الطالب

ولو يكون القول في القياس

من فضة بيضاء عند الناس

إذا لكان الصمت من عين الذهب

فافهم هداك الله آداب الطلب

وأما حفظ البطن من الحرام المستلزم لأكل الحلال المشار إليه بقول الناظم (يحفظ بطنه من الحرام) فواجب أيضاً بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقد قال تعالى {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} وقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} قال ابن عباس قد أمر الله المؤمنين بما أمر به الرسل وقدم تعالى أكل الحلال على صالح الأعمال تنبيهاً على أن الانتفاع بالأعمال لا يتوصل إليه إلا بعد إصلاح الرزق واكتسابه من حله ولهذا قال بعض الحكماء من أكل الحلال أطاع الله أحب أم كره ومن أكل الحرام عصى الله أحب أم كره لأنه إذا أكل الحلال شربت عروقه منه ونشطت للعبادة وإذا أكل الحرام شربت عروقه منه وكسلت عن العبادة وأما السنة فقوله «طلب الحلال فريضة على كل مسلم» وقوله «إن لله ملكاً على بيت المقدس ينادي كل يوم ألا من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل» قال أبو حامد الصرف النافلةوالعدل الفريضة وقال:

ص: 568

من أكل الحلال أربعين يوماً نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة على لسانه ـ وفي رواية أخرى ـ وزهده الله الدنيا وقال من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفي ثمنه درهم حرام لم يقبل الله صلاته ما دام عليه. وقال: كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به. وقال: أول ما يفقد هذه الأمة [هذه الأمة درهم حلال وأخ صالح». وقال عمر: كنا ندفع أربعين باباً من الحلال مخافة الوقوع في الشبه من الحرام، وإنما الورع في الحلال وأما الحرام فتركه واجب، قيل من أنفق الحرام في طاعة الله كان كمن طهر ثوبه بالبول. وفي التوراة: من لم يبال من أين رمطعمه لم يبال الله من أي باب من أبواب النار أدخله. والإجماع على طلب الحلال فرض عين على كل مكلف، واختلف في الحلال هل هو موجود أم لا؟ فقيل: إنه موجود، وإنما قل طلابه، وقيل: هو ضالة مفقودة للحديث الأخير، ولا يعرف الحلال من الحرام إلا بالعلم.

الشيخ: وينبغي للإنسان أن لا يكثر من طلب المال مخافة أن يكتسب بعضه من الحرام ويجب على المكلف ترك الحرام جملة من غير تفصيل، وأكل الحلال المجمع عليه، فإن لم يجده فالمتفق عليه، فإن لم يجده فالمختلف فيه في المذهب، فإن لم يجده فالمختلف فيه في غير المذهب، فإن لم يجده فكما قال القاسم بن محمد: لو كانت الدنيا كلها حرامًا لما كان لنا بد من العيش. فمن حصل له كسب طيب فأراد شراء قوته فليتلطف في شراء الطيب جهده، فإن بذل جهده واستفرغ طاقته وقع إن شاء الله على ما تسكن إليه نفسه، فإن تعذرت عليه معرفة أصله فشراء الخبز أولى من شراء الدقيق، وشراء الدقيق أولى من شراء الزرع، وشراء الزرع المجلوب أولى من شراء الزرع القريب، واختلف هل يجب عليه السؤال أم لا؟ وعلى القول بوجوبه فلا يقدم على شراء سلعة حتى يسأل عن أصلها، فإن لم يجد من يسأل فلينظر حلية البائع يفحص عن ذلك جهده. قال بعض العلماء: أصول الحلال عشرة: صيد البر، وصيد البحر، وتجارة بصدق، وإجارة]

ص: 569

[بنصح، والفيء إذا قسم على وجهه، وميراث عن أصل طيب، وماء الغدير، وما أنبتته الأرض غير الممتلكة، وهدية من أخ صالح، والسؤال عند الحاجة. اهـ. من الجزولي مختصراً ملفقاً من مواضع ولبعضهم في ذلك:]

ياصاح إن للحلال الحر

عشر أصول وهي صيد البحر

وموت حل وماء الغدر

ثم هدية المحب فادر

من حله الله لا للشكر

وصنعه بالنصح لا بالمكر

والتجر بالصدق وصيد الفقر

ثم السؤال عن شديد الفقر

ونبت أرض لم تكن للغير

والفيء يقسم بغير جور

وانفرد الثعالبي بالمهر

فزاده موافقاً للعشر

لنص تقييد الجزولي الخير

جزاه ربنا كل خير

انتهى ثم قال الإمام الجزولي وأما عدد الوجوه التي يكسب منه المال الحرام فهو أن تقول اعلم أن أخذ أموال الناس من غير حلها على وجهين إما برضا أربابها أو بغير رضاه معشرة أوجه: فعدها ثم قال والذي برضاهم ستة عشر وجها وعدها قال وزاد بعضهم الغرور الخلابة اهـ

وقد كنت حالة قراءة هذا المحل من الرسالة لفقت في هذا أبياتاً لتتم الفائدة بضمها لأبيات أصول الحلال المتقدمة وهي هذه وأخذ مال الغير إما بالرضا

ومن ربه أولا ذا عشراً أرضا

غصبا تعدية حرابة ترى

سرقة وخلة ولا امترا

ثم اقتطاعا ودلالة علم

بكرة ربه خيانة وسم

ثم خديعة وغشاً والذي

مع الرضا فست عشرة احتذى

وهي الربا ثم القمار والرشا

وثمن الجاه وكلب لا تشا

حلوان كاهن ومهر للبغي

وثمن القرد وسنور بغي

عليهما وأجرحجام كذا

ما يأخذ القاضي وشاعر خذا

وثمن الصورة آلة اللعب

نائحة كذا الوصف قد طلب

ثم بدا خلافه زيد الغرر

خلابة والكل يرمي بشرر

ص: 570

إذ كلها أصل الى الحرام

والخلف قل في أجرة الحجام

نقل ذا في شرحه الجزولي

ذو العلم بالفروع والأصول

عامله الإله باللطف الخفي

بفضله ولم يزل بنا حفى

والاقتطاع أي باليمين الكاذبة والدلالة أي أخذ مال الغير بالاستدلال عليه لصحبة ونحوها إن علم طيب نفس صاحب المال بذلك فهو حلال وإن علم أن نفسه لا تطيب به أو جهل فهو حرام وكذا ما يؤخذ على وجه الحياء ووصف الكلب بجملة (لا تشا) لإفادة أن المراد به الذي لا يجوز اتخاذه وقيل ثمنه حرام مطلقا وسنور بالخفض عطف على القرد ومعنى بغى عليهما أي ظلماً بالبيع تكميلا للبيت وآلة نائحة بالخفض عطف على الصور مدخول الثمن وآلة اللعب الملاهي كالعود ونحوه والثمن بالنسبة الى الصورة وآلة اللهو حقيقة وبالنسبة للنائحة المراد به الأجرة والذي أعطى لوصف مطلوب وجوده ثم بدا عدمه وهو كان يعطي على أنه عالم فإذا به جاهل وأشرت بقولي يرمي بشرر إلى التنفير عن هذه الأشياء والبعد عنها وحفي بالحاء المهملة أي مكرم خبر زال ووقف عليه بالسكون على لغة ربيعة ويدخل في حفظ البطن من الحرام ما حرم أكلها كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة وما ذكر معها في الآية إذا أنفذت مقاتلها أو لم تنفذ وأيس من حياتها على خلاف في التي لم تنفذ مقاتلها وكذا الخمر وغيره من المسكرات قليلها وكثيرها والحشيشة كذلك وأما الأفيون وغيره من المفسدات فلا يحرم منه الا القدر المؤثر في العقل ويجوز استعمال اليسير منه الذي لا يؤثر لدواء ونحوه وقد اختلفت فتاوى شيوخنا فمن قبلهم من قرب عصره في استفاف دخان العشبة المسماة على لسان متعاطيها بطابة فمنهم من شدد المنع في ذلك ومنهم من أجازه لمن احتاج له لمرض ونحوه ولم يقطع بتحريمها

(تنبيه) لا خصوصية للبطن في بالحفظ من الحرام بل وكذلك سائر الجسد فكما لا يحل لك أن تأكل إلا طيباً أي حلالاً فكذلك لا يحل لك أن تلبس إلا طيباً ولا تسكن إلا طيباً ولا تركب إلا طيباً ويجب عليك أن تستعمل سائر ما تنتفع به طيباً كما في الرسالة وأما ترك المشبهات فمطلوب أيضاً وزاد الناظم قوله بالاهتمام أي بقصد ونية ليفيد الوجه الأكمل وأن الثواب إنما يحصل في المتروك مع النية لا بمجرد الترك فمن ترك محرماً أو متشابهاً بنية الامتثال أثيب على تركه ومن تركه ولم يخطر بباله فلا ثواب له والأصل في ترك المشبهات ما أخرجه أهل الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا

ص: 571

يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب قال الإمام ابن حجر الهيتمي في الأربعين للنووي الحلال ما نص الله أو الرسول أوالمسلمون على تحليله بعينه أو جنسه ومنه أيضاً ما لم يعلم فيه منع على أسهل القولين والحرام ما نص أو أجمع على تحريمه بعينه أو جنسه على أن فيه حدا أو تعزيزاً أو وعيداً ثم قال والمشتبه به هو كل ما ليس بواضح الحل والحرمة مما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني والأسباب فبعضها يعضده دليل الحلال وبعضها يعضده دليل الحرام ومن ثم فسر أحمد واسحق وغيرهما والمشتبه بما احتار فيه وفسره أحمد مرة باختلاط الحلال والحرام ثم الحصر في ثلاثة صحيح لأنه إن نص أو أجمع على الفعل الحلال أو على المنع جازماً فالحرام أو سكت عنه أو تعارض فيه نصان ولم يعلم المتأخر منهما فالمشتبه ثم ذكر كلاماً عجيباً في بيان المشتبه تركته لطوله فراجعه إن شئت وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: وحاصل ما فسر به العلماء المشبهات أربعة أشياء أحدها تعارض الأدلة، [والثاني: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى. والثالث: أن المراد بها قسم المكروه؛ لأنه يجتذبه جانباً الفعل والترك. والرابع: أن المراد بها، المباح ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجع الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج. اهـ. وفي جواز الإقدام عليها قولان: قال الجزولي: وقد اختلف في المتشابه فقيل: مباح؛ لقوله تعالى: "وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً"[البقرة: 29]، وقيل: حرام كقوله تعالى: "أحل لكم الطيبات"[المائدة: 5]. ومن العلماء من توقف فيه. اهـ.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» فمعناه أنه بصدد الوقوع في الحرام لا من أكثر تعاطيها ربما صادف الحرام المحض، وإن لم يتعمده لا أن من ارتكب مشتبهاً فعل حرامًا، لكن الأولى تركه ليبرأ الدين والعرض كما قال صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في شرح قوله: وحاصل التقوى اجتناب وامتثال، عن ابن جزي أن ترك الشبهات هو مقام الورع وهي الدرجة الثالثة من درجات التقوى، وحديث النعمان هذا]

ص: 572

[أحد الأحاديث الأربع التي مدار الإسلام، والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس» ، والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امريء ما نوى» ولبعضهم فيها:

عمدة الدين عندنا كلمات

أربع من كلام خير البرية

اتق الشبهات وازهد

ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية

وأما حفظ الفجر وحفظ اليد من البطش بها لممنوع يريده، وحفظ الرجل من السعي لممنوع يريده المشار إليه بقول الناظم:

يحفظ فرجه ويتقي الشهيد

في البطش والسعي لممنوع يريد] فواجب أيضاً ومعنى يتقي يحذر والشهيد فعيل بمعنى فاعل أي الحاضر وهو الله تعالى وفي البطش يتعلق بيتقي والبطش التناول والأخذ الشديد، والسعي عطف على في البطش ولممنوع يتنازع فيه البطش والسعي وجملة يريد صفة لممنوع، قال في الرسالة: ولتكف يدك عما لا يحل لك من مال أو جسد أو دم ولا تسع بقدميك فيما لا يحل لك ولا تباشر بفرجك أو بشيء من جسدك ما لا يحل لك قال الله تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}

الجزولي: قوله من مال أو جسد أو دم ذكر ثلاثة أشياء فلا يحل أخذ مال الغير ولا قتله ولا جرحه ولا مباشرة جسده لا بالفرج ولا باليد إلا أن مباشرة الفرج أشد من مباشرة الجسد وهذا في غير المرأة المتزوجة وأما الرجال فيما بينهم فلا يباشر فرجه بفرجه ولا بيده ولا يجوز له مباشرة جسده بيده إلا أن يقصد بذلك اللذة فيمنع وكذا يجب أن يكف يده عن أن يكتب بظلم

ص: 573

أحد أو بقتله ولا يجوز إعانة هذا الكاتب بشيء من آلات الكتابة وكذا يكف يده عن الكتب للظالم إذا مدحه أو قال فيه ما ليس فيه وكما لا يحل لك أن تسعى بقدميك فيما لا يحل لك كمشيك في حائط غيرك أو فدانه إذا كان يتضرر من ذلك فكذلك لا يحل لك أن تسعى بهما إلى ما لا يحل لك من زنى أو غصب أو غيره ومن السعي المحرم السعي إلى أبواب الظلمة لقوله عليه الصلاة والسلام من تواضع لغني لأجل غناه فقد ذهب ثلثا دينه قال أبو عمر للغني الشاكر فما بالك بغيره ولأن في وقوفه هناك إعانة لهم على فعلهم وأما لحوائج المسلمين ومنافعهم فجائز وكذلك للمداراة على نفسه والدفع عنها/الشيخ: ويؤخذ من الآية فوائد

الأولى تحريم المتعة وهي أن يعير الأمة مدة لمن يستمتع بها ثم يردها وشذ من قال بجوازها من العلماء

الثانية تحريم الاستمناء باليد وفي جوازه ومنعه وكراهته ثلاثة أقوال

الثالث تحريم ما يفعله شرار النساء من المساحقة وهي بآلة أشد منها بغيرها ويعاقب من فعل ذلك منهن لأن هذه الثلاثة خارجة عن التزويج وملك اليمين اللذين لا يحل الوطء إلا بهما

الرابعة تحريم وطء البهيمة لأن المراد بملك اليمين من الإناث الآدميات فلا يجوز وطء البهيمة ولا يصح ما أشيع عن الشافعية من جواز وطء الذكور بملك اليمين وأما كونه يوقف الأمور أي يقف عنها ولا يرتكبها حيث يجهل حكمها حتى يعلم أي يغلب على ظنه ما حكم الله به في تلك الأمور بالنظر في الأدلة أو في كتب العلم إن كان أهلا لذلك أو بالسؤال لأهل العلم لقوله تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وحينئذ يفعل أو يترك فواجب أيضاً لقوله «لايحل لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه» وليس هذا من باب ترك الشبهات المتقدم لأن الشبهات ما اختلف فيه العلماء أو ما تجاذبته الحلية والتحريم فلتاركها لذلك شعور بالحكم في الجملة وتركها ورع كما مر وهذه المسألة فيمن لا شعور له بالحكم أصلاً والتوقف عنها حتى يعلم حكمها واجب فقهاً لا ودعاً والله أعلم قال الإمام شهاب الدين القرافي في الفرق الثالث والتسعين حكى الغزالي في إحياء

ص: 574

علوم الدين والشافعي في رسالته الاجماع على أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله تعالى في الاجارة ومن قارض وجب عليه أن يعلم حكم الله تعالى في القراض ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة وكذا الطهارة وجميع الأعمال والأقوال فمن تعلم وعمل بمقتضى ما علم فقد أطاع الله تعالى طاعتين ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين ومن علم ولم يعمل بمقضي علمه فقد [أطاع الله وعصاه معصية، ثم قال: إذا تقرر هذا وأنه لابد من تقدم العلم بما يريد الإنسان أن يشرع فيه، فمثله قوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» [الإسراء: 36] فنهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع غير المعلوم، فلا يجوز الشروع في شيء حتى يعلم فيكون طلب العلم واجباً في كل حال، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:«طلب العلم فريضة على كل مسلم» . قال الشافعي رضي الله عنه: العلم قسمان: فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين علمك بحالتك التي أنت فيها، وفرض الكفاية ما عدا ذلك. اهـ. ببعض اختصار.

قال الشيخ زروق في قواعده ما معناه: إن وجوب تعلم أحد علم حاله إنما هو بوجه إجمالي يبرئه من الجهل بأصل حكمه بقدر وسعه وما وراء ذلك إنما هو فرض الكفاية، إذ لا يلزمه تتبع المسائل إلا عند النازلة، والله أعلم. وأما تطهير القلب من أمراضه كالرياء والحسد، والعجب، والكبر، والغل، والحقد، والبغي، والغضب لغير الله تعالى، والغش، والسمعة، والبخل، والإعراض عن الحق استكباراً، والخوض فيما لا يغني، والطمع وخوف الفقر، وسخط المقدور، والبطر، وتعظيم الأغنياء لغناهم، الاستهزاء بالفقراء لفقرهم، والفخر، والخيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة، والتزين للمخلوقين، والمداهنة، وحب المدح بما لم يفعل، والاشتغال بعيوب الخلق عن عيوبه، ونسيان النعمة، والمحبة والرغبة والرهبة لغير الله تعالى كلها حرام إجماعاً؛ فقال الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: معرفة حدودها وأسبابها وعلاجها فرض عين، وقال غيره: إن رزق الإنسان قلباً سليماً من هذه الأمراض المحرمة كفاه ولا يلزمه تعلم دوائها، فأما الرياء فهو مشتق من الرؤية والسمعة مشتقة من السماع، والرياء طلب المنزلة في قلوب الناس بإرادتهم خصال الخير. قال الشيخ الجزولي: وهو حرام موجب لمقت الله تعالى، ودليل تحريمه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:]

ص: 575

[يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين» [النساء: 143]، وقال تعالى:«فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون» الآية [الماعون: 4] إلى غير ذلك وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله عملاً فيه ذرة من الرياء» وقال: «الرياء الشرك الأصغر» . وقال: «الرياء فيكم أخفى من دبيب النمل على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء» . فخافوا من ذلك فقال لهم: «إني أخبركم بما يذهب قليل ذلك وكثيره، وهو أن تقول: اللهم إني أعوذ بك من أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم» .

وقيل لمعاذ: حدثنا! حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى حتى ظننا أنه لا يسكت، فسكت ثم قال: قال لي: «يا معاذ» قلت: لبيك بأبي وأمي أنت يا رسول الله؛ فقال: «إني أحدثك بحديث فإن حفظته نفعك وإن لم تحفظه وضيعته انقطعت حجتك يوم القيامة، يا معاذ إن الله تعالى جعل مصاعد أعمال بني آدم السموات السبع، وجعل على كل مصعد ملكاً لا يصعد بشيء من الأعمال إلا عليهم فتصعد الحفظة بعمل صالح فيما يظهر لهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب، فإذا انتهت إلى سماء الدنيا قال لهم الملك الموكل بها: ردوا هذا العمل واضربوا به وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من يغتاب الناس يجاوزني إلى غيري، فإذا صعدوا بعمل سلم صاحبه من الغيبة ووصلوا إلى السماء الثانية قال لهم الملك الموكل بها: ردوا هذا العمل واضربوا به وجه صاحبه أنا صاحب النميمة أمرني ربي أن لا أدع عمل صاحب النميمة يجاوزني إلى غيري، فإذا صعدوا بعمل سلم صاحبه من الغيبة والنميمة فوصلوا إلى السماء الثالثة يقول الملك الموكل بها: ردوا هذا العمل واضربوا به وجه صاحبه أنا صاحب الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمل من يتكبر على الناس يجاوزني إلى غيري، فإذا صعد بعمل سلم صاحبه من الغيبة والنميمة والكبر، فوصلوا به إلى السماء» ]

ص: 576

[الرابعة قال لهم الملك الموكل بها: ردوا هذا العمل واضربوا به وجه صاحبه أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، فإذا صعدوا بعمل سلم صاحبه مما تقدم ووصلوا به إلى السماء الخامسة قال لهم الملك الموكل بها: ردوا هذا العمل واضربوا به وجه صاحبه أنا صاحب الحسد أمرني ربي أن لا أدع عمل صاحبه يجاوزني إلى غيري. فإذا صعدوا بعمل سلم صاحبه مما تقدم ووصلوا إلى السماء السادسة قال لهم الملك الموكل بها: ردوا هذا العمل واضربوا به وجه صاحبه أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمل من لا يرحم عباد الله يجاوزني إلى غيري، فإذا صعدوا بعمل سلم صاحبه مما تقدم ووصلوا به إلى السماء السابعة وله دوي كدوي النحل وضوء كضوء الشمس معه ثلاث آلاف ملك قال لهم الملك الموكل بها: ردوا هذا العمل بعمل سلم صاحبه مما تقدم وقطعوا به الحجب وضعوه بين يدي الله تعالى قال لهم: أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه، وأنه لم يردني بالعمل وأراد به غيري ردوه عليه فعليه لعنتي؛ فتقول الملائكة: عليه لعنتك ولعنتنا، فتلعنه السموات السبع ومن فيهن». وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا راءى العبد بعمله يقول الله تعالى للملائكة: انظروا إلى عبدي كيف يستهزيء بي ولا يستحي مني»، والإجماع على أن الرياء حرام وعلامات الرياء ثلاث: الكسل، والتقليل من العمل في الوحدة، والنشاط وتكثير العمل بين الناس والزيادة في العمل إذا أثنى عليه والنقص منه إذا ذم. وأما معالجته وتطهير القلب منه فهو بأن يزيل من قلبه أربعة أشياء: حب المحمدة وخوف المذمة واستجلاب المنفعة ودفع المضرة، ويعلم أن النافع والضار إنما هو الله تعالى، وأنه لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوه مما لا يقدره الله له لم يقدروا على ذلك وكذلك عكسه، فإذا اعتقد ذلك تقوى يقينه وسلم من الرياء، ولو دخل على الإنسان الرياء في أثناء العبادة فالمشهور أنه لا يأثم، وقيل: إن عالجه وزال فلا إثم عليه، وإن تركه وتمادى أثم.]

الشيخ: وقد روي عن بعض العلماء أنه لازم الصف الأول أربعين سنة فلما كان ذات يوم عاقه عائق عنه فصلى في الصف الأخير فأصابه من ذلك خجل فأعاد كل ما صلى في الصف الأول لما رأى أنه دخله في ذلك الرياء

الشيخ: وقد يدخل على الانسان الرياء في بيته وهو وحده مثل أن ينطر في كتبه فيجد فيها مسألة غريبة أو مشكلة فيحفظها ليلقيها على غيره فيمدح بذلك ولذلك قال «تخوفت على أمتي الشرك أما أنهم لا يعبدون

ص: 577

صنماً ولا وثناً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولكنهم يراءون بأعمالهم» انتهى ببعض اختصار

وأما الحسد فقال الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان

إحداهما أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى حسداً فحد الحسد كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه الحالة الثانية أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكنك تشتهي لنفسك مثلها وهذه الحالة تسمى غبطة وقد تسمى حدا كما يسمى الحسد غبطة ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني وقد قال صلى الله عليه وسلم «المؤمن يغبط والمنافق يحسد»

فالحسد حرام إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر فهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وأذية الخلق فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد ولو أمنت فسادها لم يغمك تنعمه ويدل على تحريم الحسد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا» وقال زكريا صلوات الله وسلامه عليه. وقال الله تعالى [حم] الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي. وقال صلى الله عليه وسلم. «أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا ويقتتلوا»

قال بعض السلف إن أول خطيئة كانت هي الحسد حسد إبليس آدم أن يسجد له فحمله الحسد على المعصية وأما الغبطة والمنافسة فليست بحرام بل هي إما واجبة وإما

ص: 578

مندوب إليها أو مباحة ثم قال وأما بيان الدواء الذي ينفى به مرض الحسد عن القلب فاعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل

والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين وأنه لا ضرر به على المحسود في الدنيا والدين ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة أما كونه ضرر عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته واستنكرت ذلك واستبشعته وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان وناهيك بها جناية على الدين ثم قال: وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك وتتعذب به ولا تزال في كمد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله عن نعم يفيضها عليهم فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها وتتألم بكل بلية تصرف عنهم فتبقى مغموماً محزوناً كما تشتهيه لأعدائك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزتها في الحال نقد لنفسك، ولا تزال النعمة على المحسود يحسدك وأما كونه لا ضرر فيه على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك بل ما قدر الله من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل قدره الله تعالى ولا حيلة في دفعه بل كل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب ولذلك شكا نبي من الأنبياء عليهم السلام امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله تعالى إليه فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي ما قدرناه في الأزل فلا سبيل إلى تغييره فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام اقبالها فيها ومهما لم تزل النعمة بالجسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا كان عليه إثم في الآخرة اهـ، ولبعضهم في الحسد

ألا قل لمن ظل لي حاسداً

أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه

لأنك لم ترض لي ما وهب

فجزاك عني بأن زادني

وسد عليك وجوه الطلب [/شع [

وقال آخر

عداتي لهم فضل علي ومنة

فلا أذهب عني الرحمن الأعاديا [/شع [

هموا بحثوا عن زلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا [/شع [

وقال آخر

لا مات أعداؤك بل خلدوا

حتى يروا منك الذي يكمد [/شع [

لا زلت محسوداً على نعمة

فإنما الكامل من يحسد [/شع [

ص: 579

وأما العجب فقال في الإحياء أيضا: اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة وللعالم في كمال نفسه في علم وعمل ومال وغيره حالتان إحداهما أن يكون خائفاً على زواله مشفقاً على تكدره أو سلبه من أصله فهذا ليس بعجب والأخرى أن لا يكون خائفاً من زواله ولكن يكون فرحا به من حيث أنه نعمة من الله تعالى عليه من حيث إضافته إلى نفسه وهذا أيضا ليس بعجب وله حالة ثالثة وهي العجب وهي أن يكون غير خائف عليه بل يكون فرحاً به مطمئناً إليه ويكون فرحه من حيث إنه كمال ونعمة ورفعة وخير لا من حيث إنه عطية من الله تعالى ونعمة منه فيكون فرحه من حيث إنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث أنه منسوب إلى الله تعالى بأنه منه فمتى غلب على قلبه أنه نعمة من الله تعالى مهما شاء سلبه زال العجب بذلك عن نفسه فإذا العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم وهو مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} ذكر ذلك في معرض الإنكار وقال تعالى وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم، وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات وثلاث منجيات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال لأبي ثعلبة إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الهلاك في اثنين العجب والقنوط، وقال مطرف لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أبيت قائماً وأصبح معجباً، وقال صلى الله عليه وسلم لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أكبر من ذلك العجب فجعل العجب أكبر من الذنوب وقيل لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئاً فقالت إذا ظن أنه محسن

ص: 580

وآفات العجب كثيرة لأنه يدعو إلى الكبر إذ العجب أحد أسبابه فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى، هذا مع العباد وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها بنسيانها وما يتذكره منها يستصغره فلا يجتهد في تداركها وتلافيها بل يظن أنها تغفر له، وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويمن على الله بفعلها وينسى نعمة الله تعالى عليه بالتوفيق إليها والتمكن منها ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها ومن لا يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعاً فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع وإنما يتفقد من يغلب عليه الخوف دون العجب والمعجب يغتر بنفسه وربه تعالى، ويأمن مكر الله تعالى وعذابه ويظن أنه عند الله تعالى بمكان وأن له عنده حقا بأعماله التي هي نعمة من نعمه وعطية من عطاياه، وعلة العجب الجهل المحض فعلاجه المعرفة المضادة للجهل فقط إذ لامعنى لعجب العبد بعبادته وعجب لعالم بعلمه وعجب الجميل بجماله وعجب الغني بغناه لأن ذلك كله من الله تعالى والعبد إنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده والمحل أيضا من وجوده وفضله اهـ باختصار

والفرق بينه وبين الكبر الذي هو خلق في النفس هو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه أن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به والعجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده لتصور أن يكون معجباً ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون معه غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال فعند ذلك يكون يكون التكبر ومن أراد استقصاء حقائق أمراض القلب وأسبابها وعلاجها لتطهير القلب منها وما ورد في ذمها فعليه بالربع الثالث من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي وهو ربع المهلكات فإنه يجد من ذلك ما يشفي العليل ويبرد الغليل

وَاعْلَمْ بأَنَّ أَصْلَ ذِي الآفاتِ

حُبُّ الرِّياسَةِ وَطَرْحُ الآتِي

رَاسُ الخَطَايا هُوَ حُبُّ الْعاجِلَهْ

لَيْسَ الدُّوَا إِلاّ في الاِضْطِرَارِ لَهْ

أخبر أن أصل هذه الآفات أي آفات القلوب وهي أمراضها التي يطلب من الأنسان تطهير قلبه منها مثل الكبر والحسد وغيرهما كما تقدم إنما هو حب الرياسة في الدنيا الذي قيل فيه إنه آخر ما ينزع من قلوب الصديقين ونسيان الآخرة وعنه عبر بطرح الآتي كما استدل على ذلك بقوله «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وعن الدنيا عبر بالعاجلة قال الله تعالى {من كان يريد العاجلة عجلنا} الآية ولماذكر أن

ص: 581

أصل الآفات هو الدنيا بدليل الحديث المتقدم أرشدك إلى أن دواء تلك الآفات والمختص منها هو في اللجوء والاضطرار إليه سبحانه وتعالى في التغلب على النفس ومخالفة هواها وسوقها إلى الطاعة وهي تنفر وتميل إلى المعصية لأن ذلك طبعها قال الله تعالى {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} وقال تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} وقد سمى جهاد النفس الجهاد الأكبر لأن مشقة جهاد النفس دائمة ومشقة جهاد العدو في وقت دون وقت لأن جهاد النفس متصل بالإنسان وجهاد العدو منفصل عنه ولأن جهاد النفس لا يحصل إلا بامتثال جميع المفروضات بخلاف جهاد العدو وأجمع العلماء والحكماء أن لا طريق لسعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى وترك الشهوات وقال «المؤمن من بين خمس شدائد مؤمن يحسده وكافر يقاتله ومنافق يبغضه وشيطان يضله ونفس تنازعه» وذكر أن راهباً نصرانياً كان يتعبد في صومعته فلا يأتيه ذو عاهة إلا يبرأ بمر يده عليه فسمع به رجل صالح فتعجب من ذلك فأتاه وسأله بماذا بلغت هذه المنزلة فقال بمخالفة هوى النفس فقال له ذلك الرجل أعرضت لا إله إلا الله عليها قط فقال لا ولا أعرفها فقال دعني إلى غد فإني أعرضها عليها هذه الليلة فذهب الرجل الصالح فلما أتاه من الغد قال له النصراني أمدد

يمينك وأنا أقول لك لا إله إلا الله ثم قال له عرضتها على نفسي البارحة فنفرت منها غاية النفور فقلت إن فيها رضاء الله تعالى وليكن من دعائك اللهم ملكنا نفوسنا ولا تسلطها علينا صح من الجزولي وقد ورد في ذم الدنيا والجاه أحاديث فعليك بالاحياء إن أردت الوقوف على ذلك

يَصْحَبُ شَيْخاً عَارِفَ المَسالِكْ

يَقِيهِ فِي طَرِيقِهِ الْمَهالِكْ

يُذَكِّرُهُ الله إِذَا رَآهُ

وَيُوصِلُ الْعَبْدَ إِلى مَولاهُ

يُحاسِبُ النَّفْسَ عَلى الأَنْفاسِ

وَيَزِنُ الْخَاطِرَ بالْقِسْطاسِ

وَيَحْفَظُ الْمَفْرُوضَ رَاسِ المَالِ

والنَّفْلَ رِبْحَهُ يُوَالِي

وَيُكْثِرُ الذِّكْرَ بِصَفْوِ لُبِّهِ

وَالْعَونُ فِي جَمِيع ذَا بِرْبِّهِ

يُجَاهِدُ النَّفْسَ لرَبِّ الْعَالَمِينْ

وَيَتَحلَّى بِمَقَامَاتِ اليَقِينْ

ص: 582

خَوْفٌ رَجَا شُكْرٌ وَصَبْرٌ تَوْبَهْ

زُهْدٌ تَوَكلُّ رِضاً مَحَبَّهْ

يَصْدُقُ شاهِدَهُ فِي الْمُعَامَلةْ

يَرْضَى بِمَا قَدَّرَهُ الإِلَهُ لَهْ

يَصِيرُ عِنْدَ ذَاكَ عَارِفاً بِهِ

حُرَّاً وَغَيْرُهُ خلَا مِنْ قَلْبِهِ

فَحَبَّهُ الإِلهُ وَاصْطَفَاهُ

لِحَضْرَةِ الْقدُّوسِ واجتَبَاهُ

أما صحبة الشيخ العارف بالمسالك جمع مسلك موضع السلوك يعني الطريق الموصلة إلى الله تعالى الذي يقي صاحبه المهالك ويذكره الله إذا رآه ويوصله إلى مولاه فقال الشيخ الإمام العارف الولي سيدي أبو عبد الله بن عباد أثناء شرحه لقوله السيد العارف ابن عطاء الله لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين ما نصه ولا بد للمريد في هذه الطريق من صحبة شيخ محقق مرشد قد فرغ من تأديب نفسه وتخلص من هواه فليسلم نفسه إليه وليلتزم طاعته والانقياد إليه في كل ما يشير به عليه من غير ارتياء ولا تأويل ولا تردد فقد قالوا من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه وقال أبو علي الثقفي رضي الله عنه لو أن رجلا جمع العلوم كلها وصحب طوائف الناس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح ومن لم يأخذ أدبه من آمر له أو ناه يريه عيوب أعماله ورعونات نفسه لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المقاصات وقال سيدي أبو مدين رضي الله عنه من لم يأخذ الأدب من المتأدبين أفسد من يتبعه، قال المؤلف رحمه الله في لطائف المنن إنما قد يكون الاقتداء بولي دلك الله عليه وأطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه فطوى عنك شهود بشريته في وجوه خصوصيته فألقيت إليه القياد فسلك بك سبيل الرشاد يعرفك برعونات نفسك في كمائنها ودفائنها ويدلك على الجمع على الله ويعلمك الفرار عما سوى الله ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى أن يوفقك على إساءة نفسك ويعرفك بإحسان الله إليك فيفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منها وعدم الركون إليها ويفيدك العلم باحسان الله إليك الاقبال عليه والقيام بالشكر إليه والدوام على ممر الساعات بين يديه قال فإن قلت فأين من هذا وصفه لقد دللني على غرب من عنقاء مغرب فاعلم أنه لا يعوزك وجدان الدالين وإنما قد يعوزك وجود الصدق في طلبهم «جد صدقاً تجد مرشداً» ويجد ذلك في آيتين من كتاب الله تعالى قال الله سبحانه {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} وقال سبحانه {فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} فلو اضطررت إلى من يوصلك إلى الله اضطرار الظمآن إلى الماء والخائف إلى الأمن لوجدت ذلك أقرب إليك من وجود طلبك ولو اضطررت إلى الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدته لوجدت الحق منك قريباً ولك

ص: 583

مجيباً ولوجدت الوصول غير متعذر عليك ولتوجه الحق بتيسير ذلك عليك اهـ

وفي كلامه رحمه الله تعالى تنبيه على أن الشيخ من منح الله وهداياه للعبد المريد إذا صدق في إرادته وبذل في مناصحة مولاه جهد استطاعته لا على ما يتوهمه من لا علم عنده وعند ذلك يوفقه الله لاستعمال الآداب معه لما أرشده على مرتبته ورفيع درجته قال سيدي أبو مدين رضي الله عنه الشيخ من شهدت له ذاتك بالتقديم وسرك بالتعظيم الشيخ من هذبك بأخلاقه وأدبك بإطراقه وأنار باطنك بإشراقه الشيخ من جمعك في حضوره وحفظك في مغيبه

قال في لطائف المنن: وليس شيخك من سمعت منه إنما شيخك من أخذت عنه وليس شيخك من واجهتك عبارته إنما شيخك الذي سرت فيه إشارته وليش شيخك من دعاك إلى الباب إنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب وليس شيخك من واجهك مقاله إنما شيخك الذي نهض بك حاله هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلت فيه أنوار ربك نهض بك إلى الله ونهضت إليه وسار بك حتى وصلت إليه ولا زال محاذياً لك حتى ألقاك بين يديه فزج بك في نور الحضرة وقال ها أنت وربك اهـ

وآداب المريد مع الشيخ والشيخ مع المريد كثيرة مذكورة في كتب أئمة الصوفية رضي الله عنهم ومن أبلغ ذلك وأوجزه ما ذكره الإمام أبو القاسم القشيري قال رضي الله عنه: فشرط المريد أن لا يتنفس نفساً إلا بإذن شيخه ومن خالف شيخه من نفس سراً أو جهراً فسيرى غيه من غي ما يحبه سريعاً ومخالفة الشيوخ فيما يسترونه منهم أشد مما يكابدونه بالجهد وأكثر لأن هذا يلتحق بالخيانة ومن خالف شيخه لا يشم رائحة الصدق فإن صدر منه شيء فعليه بسرعة الاعتذار والافصاح عما حصل منه من المخالفة والخيانة ليهديه شيخه إلى ما فيه كفارة جرمه ويلتزم في الغرامة ما يحكم به عليه فإذا رجع المريد إلى شيخه بالصدق وجب على شيخه جبران تقصيره بهمته فإن المريدين عيال على شيوخهم فرض عليهم أن ينفقوا من قوة أحوالهم ما يكون جبراناً لتقصيرهم اهـ، وقال الشيخ العارف محي الدين أبو العباس البوني رحمه الله: وإياك أن تحقر فعلاً يخطر لك إلا أن تلقيه للشيخ طاعة كان أو معصية على أي نوع برز لك ولو اختلف عليك ألف مرة في الساعة اختلف إليه ساعة في الخاطر ليعلمك الدواء الذي تزعجه به أو يحمل عنك بهمته قال ولقد رأيت تلميذاً من أصحاب شيخنا الامام تاج العارفين أبي أحمد عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدي رحمه الله تعالى وكنت جالساً عنده فدخل عليه وفي يده باقلات فقال يا سيدي إني وجدت هذه الباقلات فما أصنع بها فقال له اتركها حتى تفطر عليها فقلت يا سيدي حتى الباقلات يعلم بها فقال يا ولدي

ص: 584

لو خالفني في لحظة من خطراته لم يفلح أبداً، فإذا جوهدت النفس بهذه المجاهدات وقوتلت بهذه المقاتلات رجعت عن جميع مألوفاتها الدينية وعاداتها الردية وزال عنها النفور والاستكبار ودانت لمولاها بالعبودية والافتقار وتركت أعمالها وصفت أحوالها وهذه هي خاصيتها التي خلقت لأجلها ومزيتها التي شرفت من قبلها وإنما ألفت سوى هذا لمرض أصابها من الركون لهذا العالم الأدنى والأنس بالشهوات التي تزول وتفنى حتى امتنع عليها ما خلقت لأجله من موجب سعادتها وغاية شرفها وإفادتها فلما تعالجت بما ذكرناه عادت إلى الصحة وإلى طبعها الأصلي فألفت العبودية والتزمتها وصارت بذلك مطمئنة صالحة لأن يقال لها {يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} ثم قال وعلامة وصول المريد إلى هذا المقام الحميد أن تستوي عنده الأحوال ولا يتأثر باطنه بما يواجه به من قبيح الأفعال والأقوال لاستغراق قلبه في مطالعة حضرة الكمال قال أبو عثمان الخيري رحمه الله لا يكمل الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء في المنع والعطاء والعز والذل قال محمد بن خفيف رضي الله عنه قدم علينا بعض أصحابنا فاعتل وكان به علة البطن فكنت أخدمه وآخذ منه الطست طول الليل فغفوت مرة فقال لي لعنك الله فقيل لي كيف وجدت نفسك عند قوله لعنك الله قال كقوله رحمك الله!؟ وحكي عن ابراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال ما سررت في الاسلام إلا مرات معدودات كنت في مركب يوماً وكان رجل يحكي الحكايات المضحكة فضحك منه الناس وكان يقول رأيت وقتاً في معركة الترك علجا ثم كان يأخذ بلحيتي ويمر يده على حلقي هكذا حين حكايته والناس يضحكون منه ولم يكن في ذلك المركب عنده أحد أصغر مني ولا أحقر فسررت بذلك، ويوماً آخر كنت جالساً فجاء إنسان وبال علي وكان حاتم الأصم رضي الله عنه رجل يسيء القول فيه وفي أصحابه ويواجههم كل يوم بالقبيح فوقع عليه جذع من السقف في بعض الأيام في حال مواجهة القوم بالسب والشتم فمات فقال الحمد لله فقيل له هذا خلاف ما تأمرنا به فقال ما حمدت الله شماتة ببلوته بل حمدت الله إذ لم أسر بنكبته، هذا وأشباهه معلوم من أحوالهم ضرورة أبلغ من هذا كله محبة الموت وكراهية البقاء في الدنيا شوقاً إلى لقاء المولى قال بعضهم حقيقة زوال الهوى من القلب حب لقاء الله تعالى في كل نفس من غير اختيار حالة يكون المرء عليها فإذا وجد المريد هذه العلامات في نفسه فقد خرج من عالم جنسه ووصل إلى حضرة قدسه وكان كما قال الشاعر

لك الدهر طوعاً والأنام عبيد

فعش كل يوم من زمانك عيد

ص: 585

وكما قال سيدي أبو العباس بن العريف رضي الله عنه في هذا المعنى

يدم لك سر طال عنك اكتتامه

ولاح صباح كنت أنت ظلامه

فأنت حجاب القلب عن سر غيبه

ولولاك لم يطبع عليه ختامه

فإن غبت عنه حل فيك وطنبت

على مركب الكشف المصون خيامه

وجاء حديث لا يمل سماعه

شهي إلينا نثره ونظامه

إذا سمعته النفس طال نعيمها

وزال عن القلب المعنى غرامه

وأنشدوا في معناه أيضاً

قولي لآمالي ألا فابعدي

وقد الأحباب لي موعدي

قد كنت قبل اليوم مستأنساً

منك بخل مشفق مسعدى

وإن نسيم الوصل قد هب نحوهم

رطيبا فلي عندك ظل ندى

وحيث لاحت لي أعلامهم

فليس لي فقر إلى مرشد

وإن لم يجد في نفسه هذه العلامات فليستمر على سلوكه ومجاهداته لا يغتر بما يتراءى له من سني حالاته فإنه لم يصل بعد ولم يصل له من هوى نفسه فقد وليس طريق موت النفس يقطع جميع الارفاق عنها وردها الى الاجتزاء بالحشيش والنخالة والمبالغة في التقشف والتقلل مع قطع النظر عن أحوال القلب وهممه وقصوره وإرادته وترك الالتفات إلى ما يحمد منها وما يذم فذلك كله غلو وبدعة وقد غلط في هذه طوائف من الناس وعملوا عليه في رياضتهم ومجاهدتهم ولم يقصدوا بذلك إخلاص العبودية لربهم فأداهم ذلك إلى اختلال عقولهم وانحلال قوى أبدانهم ولم يحصلوا من أمرهم على فائدة وذلك بجهلهم بالسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة اهـ كلام الشيخ ابن عباد رضي الله عنه وأما محاسبة النفس على الأنفاس فقد أطال الإمام الغزالي في الإحياء الكلام في ذلك نحو ثلاثين ورقة في كتاب المراقبة والمحاسبة وذلك أثناء الربع الثالث من الكتاب المذكور فعليك به إن أردت استقصاء المسألة ولنذكر نبذة يسيرة من ذلك قال رحمه الله تعالى:

قال الله عز وجل {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وقال ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه وقال يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم} الآية فعرف أهل البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد وأنهم سيناقشون في الحساب وتحققوا أنه لا ينجيهم من ذلك إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة

ص: 586

النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله تعالى وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال تعالى {يا أيها الذين آكنوا اصبروا وصابروا ورابطوا فرابطوا أنفسهم أولا} بالمشارطة ثم بالمراقبة ثم بالمحاسبة ثم بالمجاهدة ثم بالمعاتبة فكانت لهم في المرابطة ستة مقامات ولا بد من شرحها وبيان حقيقتها وفضيلتها وتفصيل الأعمال فيها وأصلها المحاسبة ولكن كل حساب فبعد مشارطة ومراقبة ويتبعه عند الخسران معاتبة ومعاقبة فلنذكر شروح هذه المقامات اعلم أن مطلب المتعاملين في التجارات عند المحاسبة سلامة رأس المال ثم الربح وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم المال إليه حتى يتجر فيه ثم يحاسبه فكذلك العقل

هو التاجر في طريق الآخرة ورأس ماله العمر وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس إذ به فلاحها، ففلاحها بالأعمال الصالحات، والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها ويستخدمها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله، وكما أن الشريك يصير خصماً منازعاً يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولاً ويراقب ثانياً ويحاسبه ثالثاً ويعاتبه أو يعاقبه رابعاً فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولاً فيوظف عليها الوظائف ويشترط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويجزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال ثم بعد الفرغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيراً من تدقيقه في أرباح الدنيا الحقيرة الفانية فحتم على كل مؤمن أن لا يغفل من محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها فان كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها فاذا أصبح وفرغ من فريضة الصبح فينبغي له أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس ويقول لها مالي بضاعة إلا العمر فان فنى فنى رأس المال ووقع اليأس من التجارة وطلب الربح وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه فإياك إياك أن تضيعيه ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل فإذا وصى نفسه وشرط عليها ما ذكرناه فلا يبقى إلا المراقبة لها عند الخوض في الأعمال فانها ان تركت طغت وفسدت وكما أن العبد يكون له وقت أول النهار يشارط نفسه

ص: 587

فيه على سبيل التوصية بالحق فكذلك ينبغي أن تكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التاجر في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصاً على الدنيا الفانية ومعنى المحاسبة مع الشريك أن ينظر في رأس المال وفي الربح والخسران لتتبين له الزيادة من النقصان فإن كان ثم فضل حاصل استوفاه وشكره وإن ثم خسران طالبه بضمانه وكلفه تداركه في المستقبل فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل والفضائل وخسرانه المعاصي وموسم هذه التجارة جملة النهار ومعاجلة نفسه الأمارة بالسوء فيحاسبها على الفرائض فإذا أدارها على وجوهها شكر الله تعالى عليها ورغبها في مثلها وإن فوتها من أصلها طالبها بالقضاء وإن أداها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها وتعذيبها ومعاتبتها ولا يمهلها لئلا تتأنس بفعل المعاصي ويعسر عليه فطامها فإذا أكل لقمة شبهة لشهوة نفس فينبغي أن يعاقب البطن بالجوع وإذا نظر إلى محرم فينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر وكذلك ينبغي أن يعاقب كل طرف من الأطراف بمنعه عن شهواته هكذا كانت عادة سالكي الآخرة وإن رآها تتوانى بحكم الكسل في شيء من الفضائل أو وِرد من الأوراد فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها ويلزمها فنوناً من الفضائل جبراً لما فات وتداركاً لما فرط ويقبل على نفسه فيقرر عندها جهلها وحماقتها ويقول لها ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار وأنك سائرة إلى أحدهما لا محالة على القرب فما بالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم فأراك ترين الموت بعيداً ويراه الله قريباً أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب ويحك جرأتك على معصية الله إن كان لاعتقادك أن الله تعالى لا يراك فما أعظم كفرك وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد حماقتك وما أقل حياءك ويحك لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله تعالى وغضبه أنظر تمام كلامه نفعنا الله به

وأما وزن الخاطر الذي يخطر على بال الانسان من فعل أو ترك بالقسطاس بضم القاف وكسرها وهو الميزان بلغة الروم وفي المشارق هو أقوم الموازين قال وذكر البخاري عن مجاهد أنه العدل بالرومية اهـ والمراد به هنا حكم الشرع فقد تقدم عن الشيخ الجزولي ما معناه أنه ينبغي للانسان أن يجعل على قلبه الذي هو أمير الجسد حاجباً يشاوره فيما يريد فعله أو تركه وهو الشرع فإذا خطر على بال الانسان فعل أو ترك رجع فيه إلى الشرع فيما أمره بفعله يفعله وما أمره بتركه تركه وحينئذ يوصف بالاستقامة وإنما يزن الخاطر بالشرع لأن الأحكام لا تعرف إلا منه ثم له ثلاثة أحوال:

ص: 588

أحدها أن يعلم أنه مأمور به شرعاً إما على طريق الوجوب أو الاستحباب فليبادر إلى فعله فإنه من الرحمن ثم يحتمل أن يكون إلهاماً من الله تعالى ويحتمل أن يكون من إلقاء الملك في الروع والفرق بينهما أن إلقاء الملك قد تعارضه النفس والشيطان بالوسواس بخلاف الخواطر الإلهية فإنه لا يردها شيء بل تنقاد لها النفس كذلك الشيطان طوعاً وكرهاً وإنما يبادر إلى فعله كما قال الاستاذ أبو القاسم القشيري إنك إن توقفت برد الأمر وهبت ريح التكاسل فإن خشيت مع كونه مأموراً به أن يقع على صفة منهية لعجب أو رياء فلا يكون ذلك مانعاً لك من المبادرة إليه ومن ثم قال السهروردي اعمل إن خفت العجب مستغفراً منه وذلك لأن تطهير القلب من نزعات الشيطان بالكلية متعذر فلو وقفنا العبادة على الكمال لتعذر الاشتغال بشيء من العبادات وذلك يوجب البطالة وهي أقصى غرض الشيطان ومن ثم أيضاً كان احتياج استغفارنا إلى الاستغفار لا يوجب ترك الاستغفار

الحالة الثانية أن تجد ذلك منهياً عنه شرعاً فلا تقربه فإن ذلك الخاطر من الشيطان أو من النفس والفرق بينهما أن خاطر النفس لا ترجع عنه وخاطر الشيطان قد تنقله إلى غيره إن صمم الانسان على عدم فعله لأن القصد الاغراء لا حصر قضية معينة فإن فعلت ذلك ذلك المنهي فاستغفر الله منه ولا تيأس من الرحمة قال الله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} الآية الحالة الثالثة أن يشك هل ذلك الأمر الذي خطر له مأمور به أو منهي عنه فإن كان مقابل النهي الإباحة فترجح الإمساك عنه ولا يجب لأن من باب الشبهة وتركه ورع لا وجوب وإن كان مقابله الوجوب فيجب الفعل قياساً على الشك في عدد ركعات الصلاة وهذه الحالة الثالثة راجعة إلى ترك المشبهات وقد تقدم ذلك من قوله يترك ما شبه باهتمام وحديث النفس ما لم تتكلم أو تعمل فإنهما مغفوران وأما المحافظة على الفرائض وتسمى رأس مال الانسان لانتظاره الربح الاخروي من قبلها وعلى النوافل وتسمى ربحاً لأن ما زاد على رأس المال ربح فبالاتيان بها على أكمل وجوهما لما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال مخبراً عن الله تعالى وما تقرب الي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بهاورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه وليس المراد قرب المسافة لأن الله

ص: 589

تعالى ليس له مكان فيقرب منه العبد وإنما قربه بالاجابة لمن دعاه والعطاء لمن سأله كما صرح به آخر الحديث فقرب العبد بالطاعة والكف على المخالفة وبعده بعصيانه ومتابعة هواه ومن هذا المعنى بالنسبة للفرض وحديث الاعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما افترض الله عليه فذكر له قواعد الاسلام فقال لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فشهد له صلى الله عليه وسلم بالفلاح إن صدق وهو دخول الجنة وما يقرب منه تعالى ويكون سبباً

بفضل الله وجوده لدخول الجنة فجدير بالمحافظة عليه فضلاً عن مطلق الاتيان به وأما الاكثار من الذكر فمطلوب قال في الرسالة وقال معاذ ابن جبل رضي الله عنه ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله قال الشيخ الجزولي لأن الانسان إذا أكثر من ذكر الله تعالى تجدد خشوعه وتقوى إيمانه وازداد يقينه وبعدت الغفلة عن قلبه وكان الى التقوى أقرب وعن المعاصي أبعد، وقد ذكر الله تعالى حكم الذكر وفضله وكيفيته وصفته وفائدته وعقوبة من أعرض عنه فأما حكمه وفضله فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} والذاكرين الله كثيراً والذاكرات وقال فاذكروني أذكركم وقال ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها إلى غير ذلك من الآيات وأما كفيته فقال تعالى الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وأما صفته فقال تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله كذكركم آباءكم وذكرالأب يكون بالتعظيم وكذلك ذكر الله تعالى وأما فائدته فقال الله تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} وقال {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وأما عقوبة من أعرض عنه فقال تعالى {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً} وقال {ومن يعش عن ذكر الرحمن} الآية اهـ ومعنى يَعْشُ يغفل ومعنى الآية ومن غفل عن ذكر الله يسر الله له شيطاناً يكون له قريناً عقوبة له على الغفلة عن الذكر ثم قال الامام الجزولي أيضاً وما قال معاذ رضي الله عنه إنما أراد به الذكر بالقلب هو إحضار الانسان قلبه والخوف والخشوع

ص: 590

وتصور اطلاع ربه عليه في سره وعلانيته وعلم جميع أحواله ومتصرفاته وأنه لا تخفى عليه خافية ولا يستر عنه مستور فلذلك كان الذكر بالقلب أفضل من الذكر باللسان وقيل الذكر باللسان أفضل قاله أبو عبيدة بن عبد الله وقيل إن من كان يقتدي به وكان محفل من الناس فالذكر باللسان أفضل ليقتدى به وإن كان ممن لا يقتدى به وكان بمحضر الناس فذكره بالقلب أفضل وارتضى هذا القول الطبري اهـ، والقول الأول أن الذكر بالقلب أفضل هو الذي يؤخذ من قوله الناظم وبكثرة الذكر يصفو لبه والله أعلم وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف وهذا إن كانت الباء فيه للآلة وأما إن كانت للمصاحبة فلا وقد جلب الامام الجزولي في فضل الذكر أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات الذكر وأفضل الذكر الخفي وقال في الصحيحين من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملاء ذكرته في ملاء خير منه قال ويؤخذ من هذا الحديث أن الملائكة أفضل وقال في شرح البخاري لابن بطال قال أبو موسى قال النبي صلى الله عليه وسلم «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» إلى غير ذلك فإن أردت تتبع ما ورد في ذلك فعليك بشرع الجزولي في المحل المذكور والصفو بالواو الخالص واللب القلب والمعنى أن يطلب من الذاكر أن يصفي قلبه من التعلق بغير الله تعالى ورجاء أحد سواه مع استحضار الخوف والخشوع واطلاع ربه عليه في السر والعلانية كما تقدم عن الجزولي وأما كون الاستعانة على جميع الأشياء بالله تعالى لا بغيره فظاهر إذ غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً

إذا كان عون الله للمرء خادماً

تهيأ له من كل صعب مراده

إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأول ما يجني عليه اجتهاده

وأما مجاهدة النفس وهي الجهاد الأكبر فقد تقدم بعض ما فيه عند قول (واعلم بأن أصل ذي الآفات) البيتين وراجع آخر الكلام الذي نقلنا على قوله يحاسب النفس على الأنفاس حيث قال (وإن رآها تتوانى بحكم الكسل) الخ وأما التحلي بمقامات

ص: 591

اليقين التي من جملتها الخوف والرجاء فقال الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء في بيان حقيقة الرجاء والخوف ما نصه بيانه أن كل ما يلاقيه من مكروه ومحبوب ينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى وإلى منتظر في الاستقبال إذا خطر بذلك موجود فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً وإن كان ما خطر بقلبك موجوداً في الحال سمي وجداً وذوقاً وإدراكاً وإنما سمي وجداناً لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً وإن كان محبوباً حصل في انتظاره وتعلق القلب به واحضار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح يسمى ذلك الارتياح رجاء فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد أن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حضور أكثر أسبابه فاسم الرجاء عليه صادق وإن كان ذلك انتظاراً مع انخرام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق أصدق عليه من اسم الرجاء وإن كان لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتفاع فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما تتردد فيه أما ما يقطع به فلا وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والإيمان كالبذر فيه والطاعة جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسقاية الماء إليها والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة يوم الحصاد ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان وقلما ينفع

الإيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضاً طيبة وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سقاية الماء في أوقاته ثم طهره ونقاه من الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده ثم جلس منتظراً من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته سمي انتظاره رجاءً وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها ماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً ثم انتظر حصاد الزرع منه سمي انتظاره حمقاً وغروراً لا رجاء وإن بث البذر في أرض طيبة ولكن لا ماء لها وأخذ ينتطر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضاً سمي انتظاره تمنياً لا رجاءً فإذا اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله سبحانه بصرف القواطع والمفسدات فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته عليه إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة كان انتظاره رجاء حقيقياً محموداً في نفسه باعثاً له على

ص: 592

المواظبة والقيام بمقتضى الإيمان وفي إتمام أسباب المغفرة إلى الموت وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور وقال

«الأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» وقال تعالى {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} وقال تعالى {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} ثم قال وأعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف لأن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له والحب يغلب بالرجاء واعتبر ذلك بملكين تخدم أحدهما خوفاً من عقابه والآخر رجاء لثوابه ولذلك ورد في الرجاء وحسن الظن رغائب لا سيما وقت الموت قال الله تعالى {لا تقنطوا من رحمة الله} فحرم أصل اليأس وفي أخبار يعقوب عليه السلام إن الله تعالى أوحى إليه أتدري لما فرقت بينك وبين يوسف لقولك أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت الذئب عليه ولم ترحني ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظي له وقال صلى الله عليه وسلم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» وقال عليه السلام مخبراً عن الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ودخل صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في النزع فقال كيف نجدك فقال أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة بي فقال فما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاهُ الله تعالى ما رجا وأمنه مما يخاف ثم قال واعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال وقد ظهر هذا في بيان حقيقة الرجاء ومن أنس بالله وملك الحق قلبه صار بن

ص: 593

وقته مشاهداً لجمال الحق على الدوام ولم يبق له التفات إلى المستقبل لم يكن له خوف ولا رجاء بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمامان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعونتها وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال: الخوف حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وقال أيضاً إذا ظهر الحق على السرائر لم يبق فيها فضلة لرجاء ولا خوف، ثم قال اعلم أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الافضاء إلى سعادته لقاء الله سبحانه إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه فكل ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر إعانته وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقلاع حب الدنيا من القلب ولا ينقلع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ولا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإذا فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف فكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي يقرب بها إلى الله تعالى قال تعالى {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وقال تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فوصفهم بالعلم لخشيتهم وقال {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ووصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى فقال {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} وقال {وخافون إن كنتم مؤمنين} فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه بالإيمان فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف مرتبته وإيمانه وقال في فضيلة التقوى إذا جمع الله تعالى بين الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يوم هذا فانصتوا إلي اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني جعلت نسباً وجعلتم نسباً فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم قلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وفلان أغنى من فلان فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أبن المتقون فينصب للقوم لواء

ص: 594

فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلون الجنة بغير حساب وقال عليه الصلاة والسلام «رأس الحكمة مخافة الله عز وجل» اهـ

المقصود منه وقال في الشكر قبله ما نصه: اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين وهو أيضاً ينتظم من علم وحال وعمل فالعلم هو الأصل ويورث الحال والحال يورث العمل فأما العلم فهو معرفة النعمة من النعم والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه ويتعلق ذلك العمل بالقلب وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان مجموع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل بحقيقة الشكر قاصر عن الإحاطة بكمال معانيه فالأصل الأول العلم وهو علم بثلاثة أمور بعين النعمة ووجه كونها نعمة من حقه وبذات المنعم ووجود صفاته التي يتم بها الإنعام وبصدور الإنعام منه عليه فإنه لا بد من نعمة ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة هذا في حق غير الله تعالى، فأما في حق الله تعالى فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله تعالى وهو المنعم والوسائط مسخرون من جهته ثم قال والأصل الثاني الحال المستمدة من أصل المعرفة وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضع وهذا أيضاً في نفسه شكر على تجرده كما أن المعرفة شكر ولكن إنما يكون شكر اً إذا كان جامعاً شروطه وشروطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالأنعام، ثم قال الأصل الثالث: العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة النعم وهذا العمل يتعلق بالقلب وباللسان وبالجوارح أما القلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق وأما باللسان فاظهار الشكر لله فالتحميدات الدالة عليه وأما بالجوارح فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته حتى أن شكر العينين أن يستر كل عيب يراه المسلم وشكر الأذنين أن يستر كل عيب يسمعه فيدخل هذا في جملة شكر نعمة هذه الأعضاء والشكر باللسان إظهار الرضا عن الله تعالى وما هو مأمور به اهـ

وأما الصبر فقال فيه أيضاً إنه عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة

ص: 595

فإن ثبت حتى يقهره ويستمر على مخالفة الشهوة فقد نصر حزب الله تعالى والتحق بالصابرين وإن تخاذل وضعف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها التحق باتباع الشيطان فإذن ترك الأفعال المشتبهات عمل يثمره حال يسمى الصبر وهو ثبات باعث الدين الذي هو في مقابلة باعث الشهوة وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضادتها لأسباب السعادة في الدنيا والآخرة فإذا قوى يقينه يكون الشهوة عدواً قاطعاً لطريق الله تعالى قوى ثبات باعث الدين فإذا قوى ثباته تمت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة فلا يتم ترك الشهوة إلا بقوة باعث الدين المضاد لباعث الشهوة وقوة المعرفة والإيمان بقبح محبة الشهوات وسوء عاقبتها وكونها عدواً قاطعاً لطريق الله تعالى اهـ

وأما التوبة فقد تقدم الكلام عليها أول الكتاب أعني كتاب التصوف حيث تعرض لها الناظم، وأما الزهد فقد قال فيه أيضاً في كتاب الفقر والزهد اعلم أن الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه أما فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى فقراً وإن كان المحتاج إليه موجوداً مقدوراً عليه لم يكن المحتاج فقيراً وإذا فهمت هذا لم تشك في أن كل موجود سوى الله تعالى فهو فقير لأنه محتاج إلى دواء الوجود في ثاني الحال ودوام وجوده مستفاد من فضل الله تعالى وجوده ثم قال هذا معنى الفقر مطلقاً ولكنا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل بيان الفقر من المال على الخصوص وإلا ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجته لا ينحصر لأن حاجاته لا حصر لها ومن حاجاته ما يتوصل إليه بالمال وهو الذي أريد بيانه فقط فنقول: كل قائد للمال فإنما نسميه فقيراً بالإضافة إلى المال الذي فقدناه إذا كان ذلك المفقود محتاجاً إليه في حقه ثم يتصور أن تكون له خمسة أحوال عند الفقر ونحن نميزها ونخصص كل حال باسم ليتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها الحالة الأولى وهي العليا أن يكون بحيث لو أتاه المال لكراهة وتأذى به وهرب من أخذه مبغضاً له ومحترزاً من شره وشغله وهذه الحالة هي الزهد واسم صاحبها زاهد ثم قال في بيان حقيقة الزهد اعلم أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات أما الحال فنعني به ما يسمى زهداً وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه وكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه وعدل إلى غيره لرغبته فيه فحاله بالإضافة إلى العدول عنه يسمى زهداً وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحباً فإذا يستدعي حال الزهد مرغوباً عنه ومرغوباً فيه فهو خير من المرغوب عنه ثم قال وأما العلم الذي هو المثمر لهذه الحالة فهو العلم يكون المتروك حقيراً بالإضافة إلى

ص: 596

المأخوذ كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه وما لم يتحقق هذا العلم لا يتصور أن تزول الرغبة عن البيع وكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى أي لذاتها خير في أنفسها وأقوى كما يقال الجوهر خير من الثلج مثلاً وهي أبقى كما يكون الجوهر أبقى من الثلج ولا يعسر على مالك الثلج بيعه بالجواهر واللآليء فهذا مثال الدنيا والآخرة فالدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان حتى ينقرض والآخرة كالجواهر التي لا فناء لها فبقدر قوة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع والمعاملة حتى أن من قوى يقينه باع نفسه وماله قال الله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} ثم قال وأما الصادر عن حال الزهد فهو ترك وأخذ لأنه بيع ومعاملة واستبدال الذي هو خير بالذي هو أدنى فكما أن العمل الصادر عن عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه من اليد وأخذ العوض فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها فيخرج من القلب حبها ويدخل حب الطاعات ويخرج من اليد والعين ما أخرجه من القلب ويوظف على اليدين والعين وسائر الجوارح وظائف الطاعات وإلا كان كمن سلم المبيع ولم يأخذ الثمن، فإذا وفى بشرط الجانبين في الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذي بايع به وأما التوكل فقال فيه إنه مشتق من الوكالة يقال وكّل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه ويسمى الموكل إليه وكيلا ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصورا فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده ثم قال فإذا عرفت التوكل فقس التوكل على الله تعالى عليه فإن ثبت في نفسك بكشف أو باعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله تعالى كما سبق واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجملة العباد والآحاد وإنه ليس وراء منتهى قدرته ولا وراء منتهى علمه علم ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولا يلتفت إلى غيره بوجه ولا إلى نفسك وحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين إما ضعف اليقين بإحدى هذه الخصال وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه وأما الرضى فقال فيه: اعلم أن الرضى ثمرة من ثمار المحبة وهو هنا أعلى مقامات المقربين وحقيقته غامضة على الأكثرين فقد أنكر المنكرون تصور الرضا بما يخالف الهوى ثم قالوا إن أمكن الرضا بكل شيء لأنه فعل الله تعالى فينبغي أن يرضى بالكفر والمعاصي وانخدع به قوم فرأوا الرضا بالفجور والفسق وترك الاعتراض والانكار من باب التسليم لقضاء الله تعالى ولو انكشفت هذه الأسرار

ص: 597

لمن اقتصر على سماع ظواهر الشرع لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ثم قال اعلم أن من قال ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضى فلا يتصور فإنما أتى من ناحية إنكارالمحبة فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب ويكون ذلك من وجهين الوجه الأول أن يبطل الاحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس به وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها ومثاله الرجل المحارب فإنه حال غضبه أو خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها حتى إذا رأى الدم استدل به على الجراحة بل الذي يكون في شغل قريب قد تصيبه شوكة في قدمه ولا يحس بألمها لشغل قلبه، والوجه الثاني هو أن يحس بالألم يدركه ولكن يكون راضياً به بل راغباً فيه مريداً له أعني بقلبه وإن كان كارهاً له بطبعه كالذق يتلمس من الفصاد الفصد والحجامة فإنه يدرك ألمه إلا أنه راضٍ به وراغب فيه ومتقلد من الفصاد المنة بفعله فهذا حاله حال الراضي بما يجري عليه من الألم وكذلك كل من يسافر في طلب الربح يدرك مشقة السفر ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر وجعله راضياً به ومهما أصابته بلية من الله تعالى وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما نابه رضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله تعالى عليه هذا إن كان يلاحظ الثواب والاحسان الذي يجاري به عليه ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد حبيبه ورضاه لا لمعنى آخر وراءه فيكون مراده حبيبه ورضاه محبوباً عنده ومطلوباً وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق وأما الحب فقال فيه أول ما ينبغي أن يتحقق أنه لا تتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك إذ لايحب الانسان ما لا يعرفه ولذلك لم يتصور أن يتصف بالحب جماد بل هو من خاصة الحي المدرك فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك وكل ما في إدراكه ألم، فهو مبغض عند المدرك وما يخلو من استعقاب ألم ولذة فلا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً فإذا كل لذيذ محبوب عند الملذ به ومعنى كونه محبوباً أن في الطبع ميلاً إليه ومعنى كونه مبغضاً أن في الطبع نفرة عنه فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً والبغض عبارة عن نفرة الطبع من المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتاً ثم قال فكل لذيذ محبوب وكل حسن وجمال فلا يخلو إدراكه عن لذة ولا أحد ينكر كون الجمال محبوباً بالطبع فإن ثبت أن الله تعالى جميل كان لا محالة محبوباً عند من انكشف له جماله وجلاله كما قال صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب

ص: 598

الجمال» ثم قال والمستحق للمحبة هو الله وحده وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله تعالى فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه عين حب الله تعالى وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ومحب المحبوب محبوب وكل ذلك راجع إلى حب الأصل فلا يجاوزه إلى غيره فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه اهـ، باختصار ومن أراد بسط ذلك وبيانه وحججه وضرب مثله في الشاهد فعليه بالاحياء/ قوله يصدق شاهده في المعاملة البيت يصدق عطف بحذف العاطف على (يتحلى) وشاهد العبد أي حاضره والمطلع على سره وجهره هو الله تعالى والمعاملة معاملة العبد ربه تعالى والمعنى أنه يطلب من العبد أن يقصد بطاعته وجه الله تعالى إذ هو المطلع عليه والرقيب عليه لا الرياء والسمعة ولهذا المعنى عبر بالشاهد والله أعلم وقد تقدم بعض الكلام على ذلك في شرح قوله يطهر القلب من الرياء، وتقدم الكلام قريباً على الرضا بالمقدور من محبوب أو مكروه وأن من استولى على قلبه محبة الله تعالى رضى بكل ما يصدر منه له إذ الحب يورث الرضا بأفعال المحبوب قوله يصير عند ذاك عارفاً به البيتين معناه أن من اتصف بالأوصاف المذكورة يصير عارفاً بالله تعالى حراً لخلو قلبه عن محبة غيره إذ لو تعلق قلبه بمحبة غيره لكان عارفاً لذلك الغير وكأنه يشير لقول الإمام ابن عطاء الله رضي الله تعالى عنه ما أحببت شيئاً إلا كنت له عبداً وهو لا يحب أن تكون لغيره عبد اهـ، وقال قبل هذا: أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت له طامع اهـ، وإذا اتصف العبد بما ذكر وصار عارفاً بربه حراً من رق غيره لاعراضه عنه عبداً له تعالى لإقباله عليه بكليته أحبه الإله تعالى واصطفاه واجتباه لحضرته ومعنى اصطفى اجتبى واختار وجب لغة في أحب

ذَا الْقَدْرُ نَظْماً لا يَفي بِالْغَايَهْ

وَفي الّذي ذَكَرُتُهُ كِفَايهْ

أَبْيَاتُهُ أَرْبَعَةَ عَشْرَة تَصِلْ

مَعَ ثَلثَمائَةٍ عَدَّ الرَّسُلْ

سَمَّيْتُهُ بِالْمُرْشِدِ الْمُعِينِ

عَلَى الضَّرورِيِّ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ

فاَسْأَلُ النَّفْعَ بِهِ على الدَّوَامْ

مِنْ رَبِّنَا بِجَاهِ سَيِّدِ الأَنامِ

قَدِ انْتَهى وَالْحَمْدُ لله الْعَظِيمِ

صَلَّى وَسَلّم عَلى الْهادِي الْكريم

أخبر أن هذا القدر الذي ذكر من النظم بمعنى أن ما اشتمل عليه النظم من المسائل

ص: 599

الدينية لا يفي ذلك بغاية ما يطلب من المكلف بل هو أكثر من ذلك لكن تتبعه يؤدي إلى التطويل المورث للملل والترك رأساً ففي ما ذكرنا كفاية لمن اعتنى به وفهمه ثم أخبر أن عدة أبيات النظم أربعة عشرة مع ثلثمائة وذلك عدد الرسل عليهم الصلاة والسلام وتسكين العين من أربعة عشر لغة وبها قرأ حفص والحسين قوله تعالى أحد عشر كوكباً ثم أخبر أنه سماه بالمرشد الخ والمرشد والمعين اسما فاعل من أرشده إذا هداه لطريق الخير ومن أعان والضروري من علوم الدين هو الواجب على الأعيان سماه ضرورياً لأن التكليف به ضرورة تدعو إلى تعلمه وإما لكونه لما كان واجباً على كل أحد ولا مندوحة عن تعلمه استحق أن يكون كالعلم المدرك ضرورة بلا تأمل والله تعالى أعلم والدين ما يدان به الله تعالى أي ما يعامل به من قولهم (كما تدين تدان) أي كما تعامل والأولى والغالب من صنيع المؤلفين ذكر تسمية الكتاب في أوله ثم طلب من الله تعالى النفع بهذا النظم على الدوام والاستمرار متوسلا في نيل ذلك بجاه أي بقدر سيد الأنام أي الخلق

(فائدة) عدة الانبياء على ما في صحيح ابن حيان مرفوعاً مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر وفي رواية خمسة عشر وقيل أربعة عشر وقال سعد الدين في شرح العقائد روي أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والأولى أن لا يقتصر على عدد في التسمية فقد قال تعالى منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ولا يوقن في ذلك العدد أن يدخل فيهم من ليس منهم أو يخرج منهم من هو منهم ان ذكر عدد أقل من عددهم قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى في الاشراف ما معناه أنه يستخرج عدة المرسلين من اسم نبينا ومولانا محمد وبيانه أن حروفه خمسة عشر ثلاث ميمات وحاء بألف وهمزة ودال وكل ميم تسعون أربعون لكل ميم وعشرة للياء فاضرب تسعين عدد نطق لفظ كل ميم في ثلاث عدد الميمات باثنين وسبعين وفي لفظ دال خمسة وثلاثون وفي لفظ حاء بالهمزة عشر المجتمع خمسة عشر ومن قال وأربعة عشر أسقط الهمزة من الحاء ومن قال وثلاثة عشر قال الواحد الزائد على الرسل زيادته بالمقام المحمود الذي تظهر فيه مرتبته على سائر الرسل ويكون سائر الخلق آدم فمن سواه من ذريته تحت لوائه وهذا العدد أيضاً هو عدد أصحاب بدر، اللهم إنا نتوسل إليك بجاه أحب الخلق إليك وأعظمهم قدراً عندك سيدنا ونبينا محمد وبجاه جميع الانبياء والرسل وأهل بدر وبجميع الأولياء والصديقين والشهداء والصالحين أن لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا عيباً

ص: 600

إلا سترته ولا ديناً إلا أديته ولا عدواً إلا كفيته ولا مريضاً إلا شفيته ولا حاجة لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضينا يا أرحم الراحمين يارب العالمين واغفر اللهم لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وأولادنا وأشياخنا وأحبابنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات بمنتك وجودك يا أرحم الراحمين يارب العالمين وكان الفراغ من هذا الشرح المسمى (بالدر الثمين في شرح المرشد المعين) مع فترات عنه كانت تعرض أثناء تأليفه

خامس ربيع الثاني من عام أربعة وأربعين وألف (قال مؤلفه عفا الله عنه) لما فرغت من هذا الشرح المبارك وأكملته أوقفت عليه السيد الأجل العالم العلامة الدراكة الفهامة عالم عصره وسيد أهل وقته الورع الزاهد العارف العابد سيدي أبا العباس أحمد بن علي السوسي البورسعيدي أبقى الله بركته وعظم حرمته ونفعنا به وبأمثاله وطلبت منه حفظ الله النظر فيه والتأمل وأن يشير على ما عسى أن يظهر له فيه فبقي عنده أياماً ثم جئته فوجدته قد كتب لي بخط يده المباركة ورقة هذا نصها.

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يقول كاتبه غفر الله له: نظرت هذا المجلد المسمى بالدر الثمين الموافق اسمه لما وضع له من المعنى الأتم المكين لما فيه من المحاسن وجمع النظائر ونظم قلائد الفرائض والنقول المنسوبة المسرودة الفوائد الكثيرة المسائل المشحونة الوسائل جعل الله نية مؤلفه خالصة لوجهه الكريم وجعل فيه خدمته لمقام ألوهيته العظيم فماذا عسى أن أقول فيه غير أني محتاج إلى كثير مما فيه لأجل ما دون فيه من المسائل الدينية والفروع الكثيرة الفقهية ولأني لا أصل إلى تلك الدواوين ولا رأيت الكثير منها فلله دره فلو أدركه شيخنا صاحب الأصل لسر به لأنه رحمه الله كان مهتماً به وأني لأظن أنه أشار إلي بذلك في بعض أيام حياته واني لأرجو أن يضاعف الله عليه برضوانه ويهيج بأنواره مقام ضريحه وأكوانه تتناوبه وشارحه امداد من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ولم أر فيه من آراء الشارح حفظه الله شيئاً حتى يتكلم معه وإنما هي تقول الأئمة وهو في ذلك موكل لأمانته كما قال الشيخ زروق العلماء موكلون إلى أماناتهم في نقلهم مبحوث معهم في فهمهم اهـ، نعم ولم يبق لذي رأي في الدين ولا اجتهاد المستنبط من أصول سوى التبيين والصناعة في تدوين ما رسموا والتقريب على البليد فيما سطروا والعمل بما قالوا والاهتداء بهم فيما أولوا رحمة الله عليهم ورضوانه وأشير على المؤلف حفظه الله أن ظهر له الفضل بخاتمة يأتي فيها بطرف من أحوال المعاد الذي تبرز فيه فائدة هذه الفرائض وتنشر فيه على القائمين بمحافظتها وسنها ألوية الأمن من زلازل أهواله والعوارض لأن الشيء إذا تقررت فائدته وتبن حصول الضرورة إليه داع لتزاحم الطلب عليه كما شوهد في هذه الدار وإني لأرى ذلك بقى على كثير من المؤلفين لأن الرسل لم تبعث إلا للانذار بأهواله وامتداد المقام به ومقدار خمسين ألف سنة وأن الناس يعمرونه على

ص: 601

قدر استقامة كل أحد

بما جاء به الرسول الذي أرسل إليه وعلى طبعه البشري في الدنيا من الاحتياج إلى المأكول والمشروب وأن الله تعالى جعل في هذه الدار ما يرون من الأسباب والحرف وسائل إلى الطعام والشراب على ما ألفوه وجعل في الدار الآخرة قبل دخول الجنة محافظة عهود الرسل أسباب مطعومهم ومشروبهم وليس هناك سبب سوى ما قدموا فتجد أكثر الناس مما يظن بهه المعرفة لا يظن أن الناس يأكلون بعد البعث ولا يحتاجونه في معتقده وإنما ذلك البعث والحساب قدر ركعتين ودخول الجنة وأن الشفاعة تنالهم لا محالة فهذا هو الغرور ويكون ذلك من مختصر كلام في صفح ورقة لأن خير الكلام ما قل ودل فقد ورد أن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرضين بمقدار خمسين ألف سنة وسيعمر بالخلائق أجمعين عرصات القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما صرح به القرآن ويقال عمارة العالم دور الفلك الأعظم خمسين ألف سنة وهذا الأخير لم أره والله أعلم بصحته أو فساده فإذا تقرر هذا فيلزم العالم أن يبلغ عن نبيه أعظم مهماته الذي أرسل به وموضع ذلك كل من قيد شيئاً أو ألفه أن يدمج هذا الأمر في سمائه أو يجعل له فصلا مستقلاً أو خاتمة وهو مناسب للخاتم ثم يكون هذا المقيد أو المؤلف هو أول قائم بهذا العلم وحمل نفسه على مقتضى ما علمه من الأوامر والنواهي ليكون ذلك داعية إلى الانتفاع به ظاهراً أو باطناً وما أفسد أحوال الشريعة إلا تساهل العلماء بأديانهم وطباع العامة على مراقبة الأفعال فلو رأوا من العلماء الخوف لخافوا وزاد الأمر بإظهار المناكر وسكت العلماء وزاد الصلحاء بجمع الدنيا وصدق القائل في قوله

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

وزاد كل واحد ممن ذكر بالطمأنينة على ما عليه يخشى النكير عليه في الدنيا واستهون أمر آخرته وسبى العقول هم المأكول والمشروب فلوا أنصفوا استدلوا بالشاهد على الغائب وأخذوا الحزم للآتي كما أخذوه في هذه لأن الأبدان واحدة والبشرية طبيعتها في الاحتياج لا ينتفي بالموت بل يزداد شدة الاحتياج للطعام والشراب في عرصات القيامة حتى يأكل أهل الجنة من زيادة الكبد ويشربوا من الحوض فحينئذ يأكلون ويشربون تلذذاً وتنعماً بل وردت النصوص هي أن الله تكفل بالرزق في الدنيا ولم يرد في شيء تكفله في تلك العرصات وقد خطب الحجاج في ذلك فقال الحسن كلمة حكمة صدرت من فاسق وليس معهم ما بلغته الرسل من التوسع في الجنة فإن كل من دخلها يرى نفسه ملكاً من الملوك مما أفاض الله عليه من النعيم المقيم بل المهم الأعظم أمد العمار بالعرصات الكبار ولذلك لا تجد سورة من سور القرآن وإن كانت أخصر السور كالكوثر والعصر إلا والحق تعالى أنذر العباد بالموت أو حالة مآل الموت من أحوال القيامة إما تصريحاً أو ما يدل لذلك ثم الخوف من هذه العاقبة أهم المهمات أيضاً وإن

ص: 602

كان على أكمل حاله في الدين بل يخشى ولعله من زمرة أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ولا يخرج من عدتها إلا من زكاه الرسل وقد قال صلى الله عليه وسلم «والمخلصون على خطر عظيم» نعم وكذا يظهر لي أن لا يبالغ المؤرخ في الثناء بما يختص الله بعلمه من أفعال القلوب كالزهد والولاية إلا أن يكون من أهل الإذن فإن الزهد هو خلو القلب من الميل إلى الدنيا فقد يكون الانسان تاركاً الدنيا ولم يتعلق بيده شيء منها لعدم القسمة الأزلية ولكن قلبه مفتون بها فليس هذا بزاهد وقد تكون يده عامرة وقلبه فارغاً من حبها يرى أنه أمين في التصرف فهذا زهد فمتى تعرف واتصل إلى ما فيه قلبه فتشهد عليه وربما تضرر بذلك في قبره إذا عرض عليه ما قيل فيه ولم يكن من أهله ويتأسف عليه دليله حديث أخت ابن رواحة حين تبكيه في مرض

أشرف منه عليه ويقال أنت كذلك فلما مات لم تبكه وكذلك لفظ الولاية وهو أشد من الأول لأنه يؤذن بحسن الخاتمة لقوله تعالى {ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ثم وصفهم فقال {الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا} وهو حسن الخاتمة تبشرهم الملائكة بذلك وكيف يصل المؤرخ إلى معرفة ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم في ابن مظعون لا أدري ما يفعل به وأنا رسول الله وإني لأرجو له الخير وقد أتاه اليقين أو كيفما قال صلى الله عليه وسلم وقال الغزالي إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا حسن الخاتمة قيل هي دعوى الولاية والكرامة اهـ وأنا لا أدري هل هذا مختص بالمدعي نفسه أو يشمل من ادعاها لغيره محبة وليس هو ممن يشهد بها من أهل الإذن فتأمله فالله أعلم قال الشيخ زروق وأما ادعاء المراتب والتجاسر عليها كقولهم فلان في مرتبة كذا وفلان بلغ إلى كذا أو ترجمة مشايخهم وسعة تقديمهم بالقطبانية ودعاؤها لمن لم يصلح أن يكون خديماً في المراحيض اهـ، ويقتصر المؤرخ على الأوصاف الظاهرة الصادقة كإتقان العلوم والفهم الثاقب والادراك والذكاء والحفظ وقوة العقل والنباهة والاصابة وعدم الخطأ والفصاحة والنجابة في التدريس والفراسة واستحضار الجواب والنقل الصائب والانصاف وعدم الميل للهوى وإفادة الطالب والحرص على ذلك ويعتبر هذا كله وما أشبهه مما يوصف به إما بالممارسة أو بالنقل الصحيح وقد علمت أنهم نصوا على أن التزكية بعد ما يسافر معه والسلام اهـ نص الورقة المذكورة وقد تضمن كلامه هذا الاشارة إلى مسألتين:

ص: 603

الأولى الحض على ذكر شيء من أحوال المعاد وأهوال يوم القيامة الذي هو أهم الأشياء عند كل عاقل موفق وأنه ينبغي لكل من ألف كتاباً أن يختمه بشيء من ذلك ولا يغفله قلت ولا أظن أنهم أغفلوه إلا أنهم رأوا فناء مستقلاً يطول الكلام فيه فأفردوا له تآليف بالخصوص الثانية الاشارة إلى ما وقع لنا عند التعريف بشيخنا ناظم القصيدة

المشروحة من تحليته وتحلية اشياخه مما جرت به عادة المؤرخين من الوصف بالعلم والزهد والصلاح ونحو ذلك وأنه ينبغي للانسان عند ذلك التحلية بالأوصاف الظاهرة كاتقان العلوم والفهم الثاقب ونحو ذلك دون ما ختص الله بعلمه من أفعال القلوب كالزهد والولاية وقد تبعنا نحن في ذلك غيرنا ممن لا يحصى بكثرة ولكن الصواب ما قاله رضي الله عنه ونفعنا به وبأمثاله ولم أزل منذ حضني على ما ذكر حول بفكري في ذلك وأريد مطالعة بعض كتب القوم عليه وجمع طرف منه باختصار فبينما أنا كذلك وقفت للسيد المذكور على تأليف له من جملة تآليفه العديدة المحررة المفيدة قد ختمه بخاتمة تشتمل على المهم من ذلك فأراحني مما أريد تكلف جمعه وترتيبه وأردت أن أختم بها هذا الشرح المبارك امتثالاً لأمره وتبركاً بألفاظه وصالح نيته قال نفعنا الله به

فصل في الخاتمة ختم الله لنا وإياكم بالحسنى

اعلم أن كل من قيد شيئاً ولم يذكر من أحوال المعاد طرفاً فقد أخل وأضاع ما يحقه في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن المشحون بذكر أحواله ولا تكاد تجد فيه سورة إلا وقد أفصحت عن ذلك أو أومأت إلى بعض ما يخصه وأصغر السور الكوثر والإخلاص والعصر، فالكوثر الخير الذي أعطاه الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والاخلاص بمحض التوحيد الذي لم يأت به حرم عليه الحضور وملزوماته بحافات الكوثر وما بعث الله الرسل إلا للانذار بمواقفه واعلام الخلق بزلازله وعواصفه يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه يوم يقوم الحساب يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم يعض الظالم على يديه يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً مختلطين ملتفين وملتحمين لا يملك أحد إلا تحت قدميه ويوم

ص: 604

نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً وعرضوا على ربك صفاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون ان لبثتم إلا قليلاً.

وما شرعت التكاليف إلا للتزود إليه ولما لم ينتفع به فيه حتى تفصل عرصاته وأما من دخل الجنة وخلص إليها فلا يرى فيها إلا الملك الكبير ويخلق الله فيها الكلم الرضا وفوق الرضا ولم يذكر المؤمن بأفضل من كتابه الذي أنزل له لا ريب فيه ولا مراء وإني لأرى هذا الأمر بقي على كثير من المصنفين لأن كل ما صنفوا إنما هو لأجله وأجل ما أعد له واستعد للزاد إليه التقلل من الدنيا والزهد في متاعها لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم «المكثرون هم المقلون يوم القيامة» والزهد خلو القلب عن التعلق بها وليس بالزاهد العديم المفتتن بها واختلافهم في الفقير الصابر والغني الشاكر قيل المراد بالغني هنا هو الغنى بالله ولا علينا في تعمير يده أم لا وكذلك هو الفقير ليس هو العديم أيضاً وإنما ذلك في مقام القلب ونظره لسيده وبيانه أن الغني في هذا الباب قلبه فارغ من همومها في الوجود والعدم ففي الوجدان أن لا يضعف عن التصرف بالاذن وفي العدم لا يتمنى التصرف في ملك الغير والفقير يخشى الافتتان بوجدانها ويضيق صدره بما تعلق بها من التكاليف في التصريف ويود السلامة منها وإلى هذا أشار الشيخ زروق لا تجد فقيراً صابراً إلا غنياً شاكراً ولا غنياً شاكراً إلا فقيراً صابراً والله أعلم وأما من تعلق قلبه بالدنيا في الوجود والعدم أو يبكي على فقدان ما ضاع له منها ولا يريد إلا الازدياد منها على أي وجه كان من حلال أو حرام أو متشابه فأولئك الذين تنصب عليهم الأهوال صباً يوم يجيء ربك والملك صفا صفا والأولون في وارفات ظل العرش نفعنا الله بذكرهم أمين ومن أجل ما استعد به أيضاً الصلاة وإقامتها والمحافظة عليها بشروطها وما زال صلى الله عليه وسلم عند احتضاره يوصي بالصلاة وعن إياس بن زياد قال قال

ص: 605

رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا بد من قيام الليل ولو حلب ناقة» وقد رؤي الجنيد في المنام قيل له كيف تجدك عند الله قال وجدت بركة ركيعات كنا نقوم بها في الليل فسئل

عن الاشارات والالهامات التي كانت تتلقى منه في مقدمات التصوف فقال هيهات ذهب كل ذلك ووقع مثل هذا لعبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك سئل أيضاً اذ رؤى في المنام عن الاجتهادات في المسائل فقال لم يبق لنا إلا صلوات الليل فإذا كان هؤلاء هكذا مع أن ما هم فيه مطلوب فأين ما فيه غيرهم من الفضول ممن يرى لنفسه مزية أو ترى له ويروى أن إنساناً عامل نبينا صلى الله عليه وسلم بشيء فأراد صلى الله عليه وسلم مكافأته فقال له سل حاجتك قال الجنة يا رسول الله فقال له ولعلك تطلب بعض ما جرت به العادة أو كيفما قال صلى الله عليه وسلم قال لا، لا أطلب إلا الجنة فقال صلى الله عليه وسلم أعني على نفسك بقيام الليل أو كيفما كانت ألفاظ هذا الحديث ومن ذلك بعض أهل الفساد ومباينتهم قال الله تعالى

{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} فتأمل في ألفاظ هذه الآية الكريمة وما احتوت عليه من الفضائل والثناء الجميل على من اتصف بما ذكر وظاهرها غير شريطه كبير صلاة ولا صوم سوى وظائف التكاليف التي لا ينجح عمل دونها والله أعلم بما ينزل، ووجدت في طرة من تفسير الواحدي قال لما نزلت قال صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي اهـ لكن الحب والبغض في هذا الباب يحتاجان إلى تصرف علمي خال عن

ص: 606

الهوى وجنونه حتى يبغض محقاً أو يحب مفسداً وإلا هلك وهذا الباب كثير الاشتباه عسير التخلص إلا من سلمه الله وهذا فيما لابسه أهل الديانات وأما غيرهم فلا ذمة ولا ذمام وفي شرح الرسالة للزناتي عنه عليه الصلاة والسلام اللهم لا تجعل لفاجر علينا منة فترزقه بها مني محبة

وقال عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا الى الله بالتباعد عنهم والتمسوا رضا الله بسخطهم اهـ نعم وإن كل من تعلم العلم لله أو حفظ القرآن لوجه الله ولم يصيره آلة لما يأكل به فأولئك جلساء الرحمن فعن معمر الانصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من تعلم علماً مما ينفع الله به الآخرة لا يتعلمه إلا للدنيا أو قال يتعلمه للدنيا حرم الله عليه أن يجد عرف الجنة وعن الغافقي في فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون به الناس وعن الحسين قراءة القرآن ثلاثة: صنف اتخذوه بضاعة يأكلون به وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده واستطالوا به على بلادهم واشتروا به الولاة وأكثر هذا الضرب من حملة القرآن لا كثرهم الله وصنف عمدوا على دواء القرآن فوضعوه على داء قلوبهم فذكروا به في محاريبهم وجثوا به في برانيسهم واستشعروا الخوف وارتدوا الحزن فأولئك الذين يستقى بهم الغيث وينصرونهم على الأعداء، والله لهذا الضرب في حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر، وعن زاذان قال: من قرأ القرآن ليأكل به الناس لقي الله عز وجل ليس في وجهه مضغة لحم وعن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم إليه مهاجر دفعه إلى أحد منا يعلمه القرآن فدفع إلي رجلاً فكنت أقرئه القرآن فأهدى إلي قوساً فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال جمرة بين كتفيك تقلدتها

وعن أبي أنه كان يقرىء رجلاً من

ص: 607

أهل اليمن سورة فرأى قوساً عنده فقال بعنيها فقال له بل هي لك هدية فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أردت أن تقلد قوساً من نار فخذها وفي رواية لو تقوستها لتقوست قوساً من نار وعن أبي أيضاً قال كنت أختلف إلى رجل مكفوف اقرئه القرآن فكان يدعو لي بطعام فآكله فوجدت منه في نفسي فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله الذي يأكلون فكل وإن كان طعاماً يتحفك به فلا تأكل فأتيته نحو ما أتيته فلما فرغ قال يا جارية سلمي طعام أخي فقلت له هذا طعام أهلك الذي تأكلون قال لا ولكن أتحفك به فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاني عنه اهـ

وهكذا ها هنا وفي الصحيح أن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله في قضية الرقي وفيها فاضربوا لي معكم بسهم وهذا والله أعلم يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والنسخ على تسليم صحة ما في الغافقي وفيه أيضاً عن أبي أيوب الأنصاري أنه أمر رجلاً يمسك عليه المصحف وقال لا تردن علي باء ولا تاء ولا حرفاً ولا حرفين إلا أن يكون آية كاملة فإنه سيكون قوم يقرءون القرآن ولا يسقطون منه حرفاً اللهم لا تجعلني منهم، وعن فضالة بن عبيد الانصاري مثله قال لرجل خذ هذا المصحف وأمسك علي ولا تردن علي ألفاً ولا واواً فإنه سيكون قوم يقرءون القرآن ولا يسقطون منه ألفاً ولا واو ثم رفع فضالة يديه فقال اللهم لا تجعلني منهم، وفي رواية لا تأخذن علي حرفاً إلا آية كاملة اهـ

الغافقي فانظر ما معنى هذين الحديثين الأخيرين فان الكمال عند الناس اليوم خلاف مقتضاهما نعم أما قوله لا تردن علي حرفاً ولا حرفين فإن القرآن في عصر الصحابة يقرأ على حروف كثيرة والكل قرآن كلها في الصحيح في سورة الفرقان من قوله صلى الله عليه وسلم اقرأ يا هشام اقرأ يا عمر وقال في كل من ذلك كذلك أنزل وكل ما حواه الصحابي لا يكون حجة على صحابي آخر لأن كل واحد منهم ثبت عنده ما لم يثبت عند الآخر وذلك سبب جمع عثمان للقرآن

ص: 608

على حرف واحد وحمل الناس عليه وأما الآية الكاملة فلا تتفق المصاحف على إسقاطها لذلك قال له لا ترد علي إلا آية كاملة وبقي قولهما (اللهم لا تجعلني منهم) على إشكال فيه والله أعلم

وفي الصحاح لالجوهري وفي حديث حذيفة أن من أقرأ الناس القرآن منافقاً لا يدع منه واو ولا ألفا يلفه بلسانه كما تلف البقرة الخلا بلسانها وأظن إلى هذا الفريق أشار الشيخ سيدي عبد الله الهبطي في الفتية السنية حيث قال

أما الذين يقرءون القرآن

فإنهم على سبيل الشيطان

ترك الصلاة عندهم مشهور

وإن تكن بفوتها الحضور

ما عندهم بالاحتفال معروف

إلا الذي أتى بعلم المحذوف

قد ضيعوا عليهم أصول الدين

كضيعة المفروض والمسنون

فكل متصد لطلب مرتبة أياً كانت مما تبنى عليه أساسات الدين ليأكل بها ويرتزق فقد خيف عليه التلطف ولكن يبقى حتى يسأل ويستخير الله ويشاء ويشاور بشرط أهليته لها وكل طالب علم أو قراءة لا يهتم بإقامة الفرائض فذلك دليل على عدم القصد به وجه الله تعالى فإن خدمة العلم هي خدمة الله تعالى فإذا لم يحافظ على أوامره فإنما يخدم هواه وذلك إذا رأيته يتأخر عن أول الصلاة اكتفاء بآخرها فإن من ترك أول صلاة الجماعة اختياراً لا يحصل له أجر صلاة الجماعة وما روي من قول مالك لابن وهب مالذي قمت عنه بأولى مما قمت إليه مشكل إذا كان قيامه لصلاة الجماعة وأما إن كان الوقت والحالة أن الاتساع حاصل أو كانت جماعة أخرى فلا إشكال ولا بد من ملاحظة صورة القضية كيف كانت وكذلك الذي يبادر اللوح أو الكتاب بأثر السلام ولا مراد له في فضل المعقبات وفي تنبيه الغافل

وروى عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجل بادر التنفل بعد السلام فقام إليه وضرب به الأرض ما أهلك من كان قبلكم إلا أنهم لا يفصلون بين فرضهم ونفلهم فرآهم صلى الله عليه وسلم وقال له إن الله أصاب بك الصواب يا ابن الخطاب تأمل هذه القضية فهي في النافلة المجانسة للصلاة فأين غيرها من نحو اللوح والكتاب بل قل لي أين منها من سلم وابتدر شقاشق الكلام الذي نحن فيه سائر الدهر ونصوا أن أقل ما يكفي من ذلك قراءة آية للكرسي والتسبيح والتحميد والتكبير عشراً عشراً ثم كل طالب مصيب بحق أن يكون له ورد في الذكر كل يوم ولو مائة صلاة على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم ليستعين بذلك على تصحيح نيته وطلب العلم أفضل الأعمال لكن بنية صالحة وكذلك رغائب المفروضات لا سيما ركعتي المغرب فإنه مروي أنها ترفع من عمل النهار ومما يجب التنبيه عليه ما سببت به الأهواء من

ص: 609

قراءة القرآن بالألحان العجمية وتحسين قراءته بنغماتهم ويحسبون أنهم على شيء وإنما تزين قراءته بألحان العرب الذي أنزل بلسانهم وذلك أن طبع الموسيقى العجمي لا يتم إلا بمد ما لا يمد وقصر ما لا يقصر وعلى خلافه اللحن العربي ولذلك ورد الاذن به فقيل فيما روي (اقرأوا القرآن بألحان العرب) وهذا المبذول قد يمتنع لعارض، قال الشيخ أبو العباس في القباب في شرح قواعد عياضرحمهما الله عند قول القاضي حسن الصوت ما نصه: سئل مالك في العتبية في النفر يكونون في المسجد فيقولون لرجل حسن الصوت اقرأ علينا يريدون حسن صوته فكره ذلك وقال إنما هذا شبه الغناء قيل له أفرأيت قول عمر لأبي موسى الاشعري رضي الله عنهما ذكرنا ربنا، فقال إن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقيها ووالله ما سمعت هذا قط قبل هذا المجلس وكره القراءة بالالحان وقال هذا شبه الغناء ولا أحب أن يعمل بذلك وقال إنما اتخذوها يأكلون بها ويكسبون عليها

(شرح) قال القاضي أبو الوليد بن رشد إنما كره مالك للنفر يقولون للحن الصوت إقرأ علينا إذا أرادوا بذلك حسن صوته كما قال لا إذا قالوا ذلك استدعاء لرقة قلوبهم لسماعهم قراءته الحسنة فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن أي ما استمع لشيء ما استمع لنبي يحسن الصوت بالقرآن طلباً لرقة قلبه بذلك وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى أبا موسى الأشعري قال له ذكرنا ربنا فيقرأ عنده وكان حسن الصوت فلم يكن عمر ليقصده لا لالتذاذ حسن صوته وإنما استدعى رقة قلبه بسماع قراءة القرآن وهذا لا بأس به إذا صح من فاعله على هذا الوجه وقوله إن من الأحاديث أحاديث سمعتها وأنا أتقيها وإنما أتقي أن يكون التحدث بما روي عن عمر ذريعة لاستجازه القرآن بالالحان ابتغاء استماع الأصوات الحسان والالتذاذ بذلك حتى يقصد أن يقدم الرجل للامامة لحسن صوته لا لما سوى ذلك مما يرغب في امامته من أجله فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (بادروا بالموت أشياء) ذكر أحذها نشواً يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقهاً فالتحذير إنما وقع لإيثارهم تقديم حسن الصوت على

ص: 610

الكثير الفقه فلو كانا رجلين متساويين في الفضل والفقه أحدهما أحسن صوتاً بالقراءة لما كان مكروهاً أن يؤم الأحسن صوتاً بالقراءة لأنها مرتبة زائدة محمودة خصه الله تعالى بها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري تغبيطاً لما وهبه الله تعالى لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود

فحاصل ما جلبت إليه هذه الرواية وما قال القاضي إنما يستحب تقديم الحسن الصوت مع استوائه مع غيره في جميع موجبات الامامة فتكون له فضيلة زائدة ومن قدم الحسن الصوت لصوته فهو من باب الغناء الذي ينزه كتاب الله عز وجل أن يتخذ لذلك وإنما يجوز ذلك إذا طلب به رقة القلب والخشوع وأما من قصد الالتذاذ بصوته الحسن فلا يجوز ذلك وهذا الذي يفعل في بلادنا في تراويح رمضان يقدمون ذوي الاصوات الحسان لحسن أصواتهم على من هو أولى بالإمامة منهم لا شيء غير الصوت الحسن وهذا الذي جاء في الحديث التحذير منه وربما قدموا لذلك من لا يحسن وضوء أو لا غيره بل ربما قدموا لذلك صبياً قبل بلوغه وعقدوا له جموعاً لسماع صوته فإذا فرغ خرجوا من المسجد لا أرب لهم في الصلاة وإنما غرضهم سماع صوته وأكثرهم جلوس لا يصلون ولا ترى ناهياً عن ذلك ولا منكراً له بل تزخرف المساجد ويكثرون بها النيران وربما جلب بعضهم للمسجد المأكل يأكلها في المسجد لتتم لذاته بسماع الصوت الحسن وأكل الطيبات وقد ينتهي الحال لبعضهم أن يواعد لمجلس هذا القاريء من له غرض فاسد في مجالسته على وجه لا يجوز شرعاً وشرح جميع ما يقع في ذلك من أهل المجون مما ينزه كتابنا عنه فيأتي شهر رمضان الذي عظم الله سبحانه وتعالى شأنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناد يا طالب الخير هلم ويا طالب الشر أمسك فينصب لأهل الشر في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولد يغنيهم بالقرآن فيجتمع عليه الرعاع لسماع صوته خاصة لا لرقة ولا لغيرها ثم يكون ذلك داعية لقبائح يعرفها من عرفها وذلك كله استخفاف بحرمة الشهر وحرمة المسجد وحرمة الصلاة وبعظم حرمة القرآن كلام الرب سبحانه فكل من أعان على شيء من ذلك بفعل أو قول فهو شريك بل من قدر على تغييره ولم يفعل فهو آثم عاص اهـ كلام الإمام القباب رحمه الله تعالى

أشار إلى ما يقع في القرويين وغيره في ليالي رمضان وخصوصاً ليلة سبع وعشرين واستفدنا بكلامه قدم هذه الداهية ولا نكير لها على مرور الاعصار والدهور

ص: 611

لأن وفاته سنة سبع وسبعين وسبعمائة ولم يكبر عليه إذ ذاك سوى توالي إمامة التراويح من لا يصلح للإمامة واجتماع الشباب ومن يصبو ويميل للهوى والأغاني لاستماع القراءة فيميل بهم الطبع إلى ما فطروا عليه من الفساد لعدم الرياضة لطريق الرشاد وقد تفاقم الخطب بعده في وقتنا هذا لو رآه أو سمع به لضاق عليه التعبير وذلك أنه لا تبقى كهلة ولا شابة إلا وأخذت أهبتها مما في وسعها من حللها وحليها وحضرت المسجد بعد العصر من ليلة سبع وعشرين وأهل العلم يرون ذلك وربما استعذر بعضهم وقال لا قدرة له ولا يبقى في البلد فتى ولا شاب إلا وحضر ذلك المجمع ويبيتون ليلتهم كذلك وفريق من الناس يصلون وفريق فيما شاء من الصياح وفريق من التمتع بالنظر ويون ذلك تبركاً بالليلة المباركة وما هي إلا كما قال الحريري عام هياط ومياط فهي ليلة هياط ومياط فسبحان ربنا ما أوسع حلمه وكنت أظن أن هذا قريب العهد لعدم الحكم وانقضاء العلماء حتى رأيت هذا السيد تبرأ مما وقع له من ذلك في وقته وأما المستضعفون من المؤمنين متبرئون مما تبرأ منه وزيادة ما يزيد من ذلك في وقتنا وحسبنا الله ونعم الوكيل ممن يستحل شيئاً مما نهى الكتاب والسنة عنه فلم يرد بقراءته وجه الله وهو ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم أشد الناس عذاباً عالم لم ينفعه الله بعلمه

فإن قيل الاستماع لطلب الرقة ممدوح وكل واحد من المستمعين وجد رقة وحالة انتقل بها في باطنه لحالة أخرى بها وجد

(فالجواب) أن الوجد إلهي وشيطاني فالإلهي يورث الأحوال الحسنة الشرعية فيسرع الى التوبة ويندم على ما سلف له من سوء الفعل ويتبدل من حال المعصية للتوبة ويظهر عليه في حبه للآخرة ولإقبال على أسبابها من حينه لأنه تلي عليه كتاب سيده فلا يسعه إلا العمل بمقتضاه هذا في العاصي المقارب للخير وأما من سبق له الصلاح فإنه تنخرق له الأستار لسماعه وتتلقى سره هبات أسرار التوحيد على فسيح الامتياز ومعالم العرفان وأما الوجد الشيطاني فحرقة الهوى تتقد في أحشائه ينصرف بها إلى محبة الصور المحرمة ومعانقتها والانضمام إليها والتحدث معها وهكذا الباب والمرء فقيه نفسه فمن وجد من نفسه الحالة الأولى يندب في حقه الاستماع بشروطه ومن وجد الحالة الثانية حرم عليه الاستماع وإن كان بشروطه ومن كان بينهما بحيث لا يتضرر ولا يسأل وقتا مطلوباً به يجوز له الاستماع بشروطه وهي أن لا يكون هذا السماع بمحل يحضره الأحداث وسماع النساء والمساجد وأوقات الصلاة لأنه لهو مباح في حق من لا يتضرر

ص: 612

به، والمساجد تنزه عن اللهو وأن لا يدوم عليه فمطلق سماع الصوت الحسن لا نكير عليه إلا أن يعرض لذلك مانع على ما تقدم وبالله التوفيق.

ذكر هذا ليتجنب الموفق منه ما حقه أن يجتنب فإن اللهو إسراف في العمر وكان الشيخ يحيى ابن عمر العالم العامل ينكر جميعه وكان الفقهاء في زماننا بأفريقية يحضرون السماع وكان يعيب عليهم ذلك وكان يسميهم القوالين المغيرين فكان يقول سبحان الله ما للقرآن إذا تلاه المغير يخشع وإذا تلاه غيره لا يخشع فقال لهم زعيمهم أنا أسببه لكم أو كيفما قال فجاء إلى محل يستمع الشيخ فقرأ فدعا عليه الشيخ فبح وفسد صوته وكان يرى ذلك من كراماته

واعلم أن أضر الأسباب الخارقة للمروءة الانهماك في طلب الرزق والافراط فيه حتى لا يشعر بنفسه في أي باب هو وما يأتيك من ذلك قد فرغ منه قبل بروزك إلى هذا الوجود وإن أبشع وأفظع ما يؤتى في طلبه من تلك الأبواب اكتسابه بالدين وأكله بذات التقى وليس من المتقين وسيبتلي يوم تبلى السرائر ولا ناصر له من المنتصرين ونسأل الله ستره يوم اسبال ستره على المذنبين آمين

قال الغزالي واحذر أن تعطي بالدين وذلك أن يعطيك لظنه بأنك ورع تقي فتأكل بالدين لكن شرط حله أن لا يكون في باطنك ما لو اطلع عليه المعطي لامتنع عليك من العطاء فلا فرق بين ما يأخذه بالتصوف والتقوى وهو ليس متصفاً به باطناً وبين من يزعم علوي ليعطي وهو كاذب وكل ذلك حرام عند أولي البصائر وإن أفتى الفقيه الحل بناء على الظاهر اهـ، وكذلك على من تصدر في الامامة والشهادة وهو يعلم الجرحة في نفسه أو تصدر للفتيا أو للقضاء وهو لم يتقنهما بشرائطهما وهذا على القياس والله أعلم، ولم يكتب الكاتب هذا على تبرئة بل لتقوم حجة الله وما منا إلا له مقام معلوم عنده في التستر به عن الناس اللهم يسر علينا أحسن المخارج

(واعلم) أن يجوعون يوم القيامة جوعاً شديداً فمنهم آكل وغير آكل وربما استغرب ذلك من سمعه فنورد من ذلك أدلة صريحة على وقوعه لمن كان أهلاً من ذلك فمن العلوم الفاخرة لسيدي عبد الرحمن الثعالبي رحمه الله تعالى أخرج أبو بكر بن الخطيب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط وأعرى ما كانوا قط وأنصب ما كانوا قط فمن أطعم لله أطعمه ومن سقى لله سقاه ومن كسى لله كساه ومن عمل لله كفاه

وذكر القرطبي أنه يحشر الناس عراة غرلاً أعطش ما كانوا وأجوع ما كانوا قط فلا يسقى ذلك اليوم إلا من سقى لله ولا يطعم إلا من أطعم لله

ص: 613

ولا يكسى إلا من كسى لله ولا يكفي إلا من اتكل على الله ومصداق هذا من كتاب الله يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ويطعمون الطعام على حبه إلى قوله فوقاهم الله شر ذلك اليوم أي من إزالة الجوع والعطش والعري إلى غير ذلك من أهوال يوم القيامة وإفزاعها ثم قال سيدي عبد الرحمن في قوله {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} فعن ابن مسعود تبدل الأرض ناراً والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها وعن علي تبدل الأرض فضة والسماء ذهبا وعن جعفر بن محمد تبدل الأرض خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة ثم قرأ وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وعن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه وما ذكرناه من هذا المعنى مروي في الصحيح، قال ابن عطية روي في تبديل الأرض أخبار منها في الصحيح يبدل الله هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي وفي الصحيح أن الله يبدلها خبزاً يأكل المؤمن منها من تحت قدميه ثم روى ابن عطية عن أبيه أن التبديل في الأرض لكل فريق ما يقتضيه حاله فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته وفريق يكون على فضة إن صح السند بها وفريق الكفرة يكونون على نار ونحو هذا مما كله واقع تحت قدرة الله عز وجل

قال الغزالي في الدرة الفاخرة والناس على أنواع في المحشر فالملوك كالذر كما جاء عن المتكبرين وليس المراد كهيئة الذر في الحلقة وإنما المعنى أنهم تحت الأقدام حتى صاروا كالذر في مذلتهم وانحطاطهم وقوم يشربون ماء بارداً عذباً زلزالاً لأن الصبيان يطوفون على آبائهم بكؤوس من أنهار الجنة وقوم مد على رءوسهم ظل يمنعهم من الحر وهي الصدقة الطيبة وذكر القرطبي عن أبي بكر برجان في إرشاده ولا يبعد عنك رحمك الله أن يكون الناس كلهم في صعيد واحد وموقف واحد سواء وأحدهم يشرب وآخر لا يشرب وأحدهم يسعى نوره بين يديه والآخر في الظلمة وأحدهم في حر الشمس وآخر مستظل بظل العرش مع قرب المكان والمجاورة لأنهم كانوا كذلك في الدنيا يمشي المؤمن بنور إيمانه بين الناس والكافر في ظلام كفره والمؤمن في وقاية الله

ص: 614

وكفايته والكافر والقاصي في خذلانه وغوايته والمؤمن السني يكرع في سنة الرسول ويروى ببرد اليقين ويمشي في سبل الهداية بحسن الاقتداء والمبتدع عطشان سالك في مسالك الضلالة والبدع وهو لا يدري، كذلك في الوجود الأعمى لا يجد نور بصر البصير ولا ينفعه قال الشيخ الثعالبي رحمه الله فاعمل في أيام قصار لأيام طوال تربح ربحاً لا منتهى لسروره واستحضر عمرك بل عمر الدنيا وهو سبعة آلاف سنة مثلاً لتتخلص من يوم مقداره خمسون ألف سنة فلو لم تعمل إلا للخلاص من ذلك اليوم دون رجاء الجنة وخوف النار لكان ربحك كثيراً وتنعيمك كبيراً ثم قال: قال صاحب العاقبة واعلم أنه كلما طال قيامك في طاعة الله عز وجل وتعبك قصر قيامك في ذلك اليوم وقل تعبك فيه وكلما طال تصرفت في طاعة الله عز وجل وإقبالك وإدبارك في حاجة مسلم يقل مشيك في ذلك اليوم ويقل نصبك وبقدر ما تبذل تعطى وكما تدين تدان وقال الغزالي من طال انتظاره في الدنيا للموت لشدة مقاساته الصبر عن الشهوات فإنه يقصر انتظاره في ذلك اليوم وقال في الاحياء قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة يوم القيامة على كثيب من مسك لا يهمهم حساب ولا ينالهم فزع حتى يفزع مما بين الناس رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وأمَّ الناس وهم به راضون ورجل أذن في مسجد ودعا إلى الله عز وجل ابتغاء وجهه ورجل ابتلي بالرزق في الدنيا فلم يشغله ذلك عن عمل الآخرة قال القشيري في التجيير لو أن رجلاً له ثواب سبعين نبياً وله خصم بنصف دانق لا يدخل الجنة حتى يرضى خصمه وقيل يؤخذ بدانق فضة سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم ولا يكون شيء أشد على أهل القيامة من أن يرى الانسان من يعرفه مخافة أن يدعي عليه شيئاً والدانق سدس الدرهم وروى رزين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا نسمع أن الرجل يلتقي بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه فيقول مالك إلى وما بيني وبينك معرفة فيقول كنت تراني على الخطايا وعلى المنكر ولا تنهاني وقال في الحديث الواحد الذي رحل جابر بن عبد الله من أجله إلى عبد الله بن أنيس مسيرة شهر هو قول عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول يحشر الله العباد أو قال الناس شك همام وأومأ بيده إلى الشام عراة غرلا بهما قال ما بهما قال ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد ومن قرب أنا الملك الديان

ص: 615

لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة قال قلنا وكيف إنما نأتي الله حفاة عراة قال بالحسنات والسيئات اهـ بعض ما يحصل به التذكير لمن يتذكر من كلام الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي رحمه الله والمقصود به أن بعض الناس ربما استغرب احتياج الناس إلى الأكل والشرب في عرصات القيامة أو أنه لا وجود هنالك لما يؤكل أو يشرب أما من استغربه لأجل ما يرى من رمة العظام وكون الحياة الثانية لا على طبعها البشري إلى هذا الاحتياج فإنه يخشى على نفسه ما هو أشد من ذلك الشك في تمام الاعادة وما ذكره الغزالي في ذخيرته أنه لا أكل هنالك ولا شرب ولا نوم فالنوم مسلم وأما عدم الأكل والشرب عنده فيجب حمله على أن ذلك غير مبذول للخلائق بأسرها كما هو المعتاد في الدنيا وإلا فمثل الغزالي لا يخفى عليه ما تقدم من النصوص وما يأتي أيضاً لابن حجر في شرح حديث الصحيح بل تقدم عنه خلاف ذلك كما نقل عن سيدي عبد الرحمن إذ قال آنفاً وقوم يشربون ماء بارداً الخ وينبغي أن ينبه العوام لذلك ليتخذوا أهبة زادهم الآن من المأكول والمشروب وهم لم يشكوا فيه وعليه صاروا أسارى في هذه الحياة فلعل ذلك أن يكون داعية لهم إلى الاستعداد للحياة الأخروية مع أن الله تعالى تكفل به في الدنيا ولم يتكفل به في الآخرة يروى أن الحجاج خطب يوماً فقال إن الله تكفل لنا بالدنيا ووكلنا إلى طلب الآخرة وليتنا تكفل لنا بالآخرة ووكلنا إلى طلب الدنيا فقال الحسن سبحان الله كلمة حكمة صدرت من فاسق أو قال كلمة حق ومصداقه قوله صلى الله عليه وسلم الحكمة ضالة المؤمن فأينما وجدها فهو أحق بها

ابن حجر تكون الأرض يوم القيامة يعني أرض الدنيا خبزة يتكفؤها الجبار أي يميلها من كفأت الإناء إذا قلبته قوله كما يكفىء أحدهم خبزته في السفر، قال الخطابي يعني خبزة الملة التي يضعها المسافر فإنها تدحى كما تدحى الرقاقة وإنما تقلب على الأيدي حتى تستوي نزلا لأهل الجنة بضم الزاي وقد تسكن ما يقدم للضيف ويطلق على الرزق وعلى الفضل وما يعجل للضيف قبل الطعام وهو اللائق هنا، قال الداودي المراد أنه يأكل منها من سيصير إلى الجنة من أهل المحشر لا أنهم لا يأكلونها حتى يدخلوا الجنة وظاهر الخبر يخالفه وكأنه بناه على ما أخرج الطبري عن سعيد بن جبير قال تكون الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه وعن محمد بن كعب أو محمد بن

ص: 616

سيرين نحوه أو البيهقي عن عكرمة بسند ضعيف: تبدل الأرض مثل الخبزة يأكل منها أهل الاسلام حتى يفرغوا من الحساب وعن أبي جعفر الباقر نحوه ثم ذكر ابن حجر استشكال بعضهم انقلاب جرم الأرض إلى طبع المأكول والمشروب وأجاب عن ذلك فانظره ومرادنا من هذا اثبات افتقار الخلق إلى المأكول والمشروب وإثبات وجود ما يؤكل ويشرب لمن كان أهلاً لذلك وإن ذلك لا من باب المجاز بل عن الحقيقة وإلى ذلك أشار ابن حجر بقوله والأولى الحمل عن الحقيقة ما أمكن وقدرة الله تعالى صالحة لذلك بل اعتقاد كونه حقيقة أبلغ، قال: ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول زمن الموقف بل يقلب الله لهم بقدرته طبع الأرض حتى يأكلون منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير علاج ولا كلفة ويكون معنى قول (نزلا لأهل الجنة) اللذين يصيرون إلى الجنة أعم من كون ذلك يقع قبل الدخول أو بعده والله أعلم

وقال في أحاديث باب الحشر أخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث أبي ذر حدثني الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم إن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم الحديث اهـ ما قصد نقله ملتقطاً من فتح الباري لابن حجر رحمه الله تعالى ولفظ الحديث المشروح من صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون الأرض يوم القيامة خبزة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفىء أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة الحديث واعلم أن ألفاظ التبديل في الروايات تكررت باختلاف فيها ففي بعضها (خبزة) وفي بعضها (كالخبزة) وفي بعضها (فضة) وفي بعضها (كالفضة) وفي بعضها (أرضاً عفراء) وفي بعضها (ناراً) واختلافها مع صحتها تقتضي أن كل واحد من المكلفين يرى منها ما ناسب دينه واستقامته بما جاءت به الرسل أيام حياته عليها في دار الدنيا من الكمال في دينه والتقصير فيه وعوائد الله في الآخرة هي خرق عوائده في الدنيا فلا يطمع أحد أن يحشر هنالك إلا على ما ناسب حاله في الطاعة والعصيان

قال ابن حجر فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها ويؤيده ما وقع في الحديث قبله أن أرض الدنيا تصير خبزة والحكمة في ذلك مما تقدم أنها تعد لأكل المؤمنين

ص: 617

[منها في زمن الموقف ثم تصير نزلاً لأهل الجنة. اهـ.

وقال سيدي عبد الرحمن في «تفسيره» : تبدل للمؤمنين خبزاً وللكافرين ناراً. اهـ.

ثم التبديل المذكور لا يلزم كونه نفس جرم الأرض، بل يحتمل جرم الخبزة المتبدلة منها على شكلها وهيئتها في القدر والاتساع، فإذا شوهد من اقتدار الله تعالى عظم هذه الأرض واستدارتها فلا يستبعد أيضاً في قدرته خلق قدرها وعلى صورتها شكلاً من طعام أو فضة أو نار؛ لأن الكل بالنسبة إلى اختراعه تعالى شيء واحد، فالقادر على ما يشاء لا يستحيل في حقه فعل ما يشاء، والذي ظهر أن أرض المحشر غير هذه الأرض التي نحن الآن عليها، بل هي أرض الساهرة. قال الغزالي: هي التي يسهر الخلائق عليها وينساقون من هذه إلى تلك، وهنا ذكر في «ذخيرته» أن الطعام والشراب في الموقف لا يمكن، ولكن تقدم من الجواب عنه ما رأيت، وذكر أن تلك الأرض خارجة عن فلك القمر وهي الأرض البيضاء التي هي من وراء جبل قاف، ونقل عنه في العلوم الفاخرة قوله: يبقى الناس على قبورهم بعد انبعاثهم منها مطرقين ألف سنة حتى تقوم نار من المغرب أو المحشر لها دوي فيدهش منها الخلق، ويأتي كل واحد عمله بقدر إيمانه، من لا إيمان له لا نور له وسرعة وصولهم على قدر أعمالهم في كلام أكثر من هذا، ويؤيده أيضًا أن أرض المحشر غير هذه ولا متبدلة بنفس جوهريتها ما ورد في الصحيح من شهود الأمكنة كما في الأذان لا يبلغ مدى صوت المؤذن، وكذلك شهودها أيضاً بما صنع فيها، ولا يأتي المكان إلا على هيئته لقيام الحجة فالله أعلم. فلا بقعة من بقاع الأرض التي نحن عليها إلا وذكر الله عليه أو عصي، ولذلك ينتقل الأمر عنها إلى الأرض التي لم يعص الله عليها قط. وفي الصحيح:«من غصب شبراً من الأرض طوقه إلى سبع أرضين» يحمله حتى يقضي بين الناس «بي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» [المعارج: 4] في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد عمت الغصوبات وتكرزت على البقاع، فلا يكتفي في حمل الأول على الأخير. بل كل واحد له ما عرف ذاته مما اغتصبه، فعلى هذا فهذه الأرض من جملة من]

ص: 618

يحشر الموقف، فإن الله تعالى أعلم. وفي التنزيل:«وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة» [الحاقة: 14] ابن حجر: غباراً في وجوه الكفار ولم يذكروا مناسبتها لمن يحشر على الفضة إذا بدلت الأرض فضة والسماء ذهباً، ولعل هذا للمشغوف بهما الذي قطع على تعظيمهما وجمعهما عمره، فيحشر على حالته تلك على الفضة، ويومئذ لا يمكن الانتفاع بهما ولا أخذ شيء منهما إذا لو كانت الجنة كلها فضة لما كان لها فضل بل فيها غيرها ترابها المسك وحصباؤها الدر والياقوت وحشيشها الزعفران وفواكه مما يشتهون، وأبنيتها من الذهب والفضة إلى غير ذلك مما يتنعم به في دار الخلود، لا أحرمنا الله والوالدين والأجنة من الوصول إلى دار القرار، رب استجب إنك أنت العزيز الغفار، نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم من محن الدنيا والآخرة، وسبب هذه الخاتمة ما رأيت من بعض الناس من قلة اكتراثهم بجوع يوم الموقف، وما ترى منهم إلا من يشتكي بهم الرزق في هذه الحياة العاجلة فإذا قيل وهل فرغت مما تحتاج إليه من هذا في مواقف القيامة؟ يقول وهل الناس يأكلون هنالك إنا لا نحتاج إلى الأكل إذ ذاك ومنهم من يجعل اتكاله على الله هنالك أقوى منه مما في هذه وإني لأرى أن يذكر كل مؤلف فصلاً من هذا الباب يجعله ذخيرة فيما ألف ينبىء عن حاله أنه لم يكن غافلاً عن أمره بل وعلى أهل كل مجلس اجتمعوا أن يتذكروا به ويجعله كل واحد من مهمات أحواله فلعل الله يرحمهم بذلك ويقبل عثراتهم إذ بذلك يتأكد الإيمان بالغيب الذي جاءت أنباء الرسل عليهم الصلاة والسلام به فإن موقع القيامة من الوجود كما قال تعالى يوم عظيم وهو المهم الأكبر الذي بلغته الرسل إلى الخلق عليهم الصلاة والسلام فقد ورد أن الله تعالى قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ونزل القرآن وأخبرت السنة أن يقدر مقامهم بعد إخراجهم من قبورهم إلى أن يصير كل واحد منهم إلى دائرة بقائه من الجنة أو النار ذلك المقدار خمسون ألف سنة وكان أول ابتداء دائرة خلقهم النور المحمدي فدار بهم شكله الكريم المقدس في دوائر التكليف دهوراً وقروناً متنقلين أحوالاً فأحوالاً فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه إلى أن كان آخر منزلة انتقالاتهم من حكم إلى حكم ومن مستقر إلى آخر وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى

ص: 619

الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون حين ينادون ليلزم كل واحد مكانه لا انتقال ولا حالة تنبيك أيها العلوي ولا نفحة تسر بها أيها السفلي لمثل هذا فليعمل العاملون

والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً انتهى.

ص: 620