المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صلاة الجمعة - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٥

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌باب صلاة الجمعة

‌المجلد الخامس: (القسم الثاني من كتاب العبادات)

‌باب صلاة الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

باب صلاة الجمعة

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: هل يرخص للرجل يوم الجمعة إذا كان قريباً من بلد في ترك الجمعة؟

فأجاب: لا رخصة له إلا في أكثر من فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع؛ فجميع ذلك ثمانية عشر ألف ذراع.

وسئل: عمن يجب عليه السعي إلى الجمعة

إلخ؟

فأجاب: يجب السعي على البعيد إذا كان يسمع النداء، إذا أذن المؤذن الصيت مع هدوء الأصوات وتساوي الأرض؛ ومنهم من يحده بفرسخ عن طرف المصر. وأجاب بعضهم: أما من تجب عليه الجمعة من جهة القرب والبعد، فقالوا: تجب على من بينه وبينها فرسخ، في حق غير أهل مصر، واليوم عندهم ثمانية فراسخ، وأما بلادكم "تربة" فهي قرية. قال أحمد: أما أهل المصر فلا بد لهم من شهودها، سمعوا النداء أو لم يسمعوا، وهو قول مالك.

ص: 5

وعن عبد الله بن عمر وغيره: الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، وأما من كان في زراعة بعيدة مثلاً فلا يبين لي عليه جمعة؛ وهذا الذي نفهم، والعمل عليه عندنا الآن.

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن وقت صلاة الجمعة

إلخ؟

فأجاب: أما صلاة الجمعة قبل الزوال فهو وقت لها عند الإمام أحمد، وخالفه بعض الأئمة، وقال: وقتها بعد الزوال؛ فتأخيرها إلى الزوال أفضل، خروجاً من خلاف العلماء، لكون هذا القول مجمعاً عليه.

سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن المسافر إذا أدركته الجمعة؟

فأجاب: المسافر إذا قدم ولم ينو إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان، فهذا لا جمعة عليه بحال، فإن صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته، والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع. فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره، فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. وأما إمامته في الجمعة، فالمذهب أنه لا يجوز أن يؤم فيها بحال، ولا يكمل به العدد المعتبر، لأن من شروط

ص: 6

الجمعة الاستيطان، وهذا ليس بمستوطن. وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي، إلى أن له أن يؤم فيها؛ وهذه المسألة من مسائل الخلاف، ولا أعلم فيها دليلاً من الجانبين، فإذا كانت من المسائل إلاجتهادية فلا إنكار في مسائل إلاجتهاد، ولا يجوز الإنكار على الفاعل، خصوصاً إذا كان علم الخلاف بين العلماء في الجواز وعدمه، وعمل على قول المجيزين، ولا يجوز نسبته إلى الجهل والحالة هذه.

وأما قولك: أيما أفضل، إجابة الإنسان لمثل هذه المسألة ونحوها وأيما امتناعه؟ فالأفضل في حقه العمل بالاحوط، ولا يؤم في الجمعة وهو مسافر إلا إن كان قد بان له واتضح عنده الجواز، وأن القول بالمنع لا وجه له، فتلك حالة أخرى. وأما إذا ترجح عنده الجواز وعمل بقول الجمهور، فلا يجوز الإنكار عليه إذا رضي أهل البلد بإمامته، لغيبة الإمام أو قدمه بنفسه.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: والمرأة التي تحضر الخطبة يوم الجمعة، وتصلي مع الإمام، تجزئها صلاتها.

ص: 7

سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن أمر الغزو بإقامة الجمعة

إلخ؟

فأجاب: اعلم أنه لم يكن مع الآمر دليل يجب المصير إليه، لأن الجمعة لا تلزم إلا من أراد الاستيطان بالبلد، بخلاف المسافر الذي تلزمه بغيره إذا أجمع على الإقامة. والغزو حين قدومهم "أبها"، إذا لم يكن فيها أحد من أهلها فلا تلزمهم.

قال شيخ الإسلام: فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفاً، أقاموا فيه الجمعة إذا كان مبنياً بما جرت به عادة الناس، من مدر وخشب، أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك؛ إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا؛ وهذا مذهب جمهور العلماء - إلى أن قال – ولهذا، العلماء إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمود، وبين المقيمين،

ص: 8

بأن أولئك ينتقلون ولا يستوطنون بقعة، بخلاف المستوطنين- إلى أن قال- قال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة لأنهم ينتقلون؛ فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطناً لا ينتقل باختياره، فهذا من أهل القرى. والفرق بين هؤلاء، وبين أهل الخيام، من وجهين:

أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكاناً بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكاناً فهو في مظنة إلانتقال عنه، بخلاف هؤلاء المستوطنين، الذين يحرثون ويزرعون، ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر، إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين.

الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار. انتهى.

فإذا عرفت ذلك، فالغزو إنما هم أهل خيام، لا من أهل البلاد المستوطنين بها الذين لا ينقلون عنها؛ فلا تلزمهم الجمعة، لما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وبه الكفاية. وقال في الإقناع وشرحه: قال ابن تميم: وكذا لو دخل قوم بلداً لا سكن به بنية الإقامة سنة، فلا جمعة عليهم.

ص: 9

سئل الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: هل ثبت في العدد المعتبر للجمعة نص، أم لم يصح في ذلك شيء

إلخ؟

فأجاب: اعلم: أن الجمعة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع:

أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة آية: 9] . ووجه الدلالة من الآية: أنه تعالى أمر بالسعي، ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب؛ قاله الشيخ موفق الدين بن قدامة.

وأما السنة: فالأحاديث طافحة بذلك: منها ما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: " لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم "1. وعن أبي هريرة وابن

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (652) ، وأحمد (1/394، 1/402، 1/422، 1/449، 1/461) .

ص: 10

عمر، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " 1، رواه مسلم وابن ماجة. وعن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها، طبع الله على قلبه " 2، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: " من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق " 3، إلى غير ذلك من الأحاديث.

وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على وجوب الجمعة في الجملة، فثبت بعموم الآية والأحاديث والإجماع، وجوب الجمعة على كل أحد؛ فمن أراد إخراج أحد عن وجوبها عليه من هذه العمومات، فعليه إقامة الدليل، وإلا فلا سمع لقوله ولا طاعة. فمما خرج من العموم: المرأة، حكى ابن المنذر الإجماع أنها لا تجب عليها، والعبد، والصبي، والمريض، ومن في معناه ممن له عذر عن حضور الجمعة.

والأصل في ذلك: ما رواه أبو داود، حيث قال: حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثني إسحاق بن منصور حدثنا هريم عن محمد بن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن

1 مسلم: الجمعة (865)، والنسائي: الجمعة (1370)، وابن ماجة: المساجد والجماعات (794) وإقامة الصلاة والسنة فيها (1127) ، وأحمد (1/239، 1/254، 1/335، 2/84)، والدارمي: الصلاة (1570) .

2 الترمذي: الجمعة (500)، والنسائي: الجمعة (1369)، وأبو داود: الصلاة (1052)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1125) ، وأحمد (3/424)، والدارمي: الصلاة (1571) .

3 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1126) ، وأحمد (3/332) .

ص: 11

النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض " 1، وأخرجه الدارقطني عن علي بن محمد بن عقبة الشيباني عن إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس عن إسحاق بن منصور، وأعله ابن حزم بهريم وقال: إنه مجهول؛ وما أبعده ودعواه عن الصواب! فكيف يكون مجهولاً من روى عن الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وسعيد بن أبي عروبة وطائفة؟ وروى عنه إسحاق بن منصور والسلولي وأحمد بن يونس والأسود بن عامر وأبو نعيم وغيرهم من الثقات، ووثقه يحيى بن معي، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهما.

وقال عثمان ابن أبي شيبة: هو صدوق ثبت، وأخرج له البخاري ومسلم في صحيحيهما، وبقية أهل السنن، فكيف يكون مجهولا؟ ولكن هذه عادة ابن حزم: إذا لم يعرف الرجل زعم أنه مجهول، وقد يكون معروفاً مشهوراً ثقة عند غيره، وله من ذلك أشياء كثيرة. وأخرجه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق عن عبيد بن محمد عن عباس بن عبد العظيم، بإسناد أبي داود: عن طارق عن أبي موسى الأشعري، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، قال: وطارق بن شهاب ممن يعد في الصحابة; قال أبو داود: وطارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، قال الحافظ بن

1 أبو داود: الصلاة (1067) .

ص: 12

حجر: رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل، وقال أيضاً: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه، فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. قلت: لم يثبت فيما علمناه أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، بل إذا ثبت أنه رآه وهو رجل، فالظاهر أنه قد سمع منه، إذ يبعد أن لا يسمع منه ولو كلمة مع رؤيته له؛ وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث، وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته.

ومما خرج من العمومات أيضاً: المسافر في قول أكثر أهل العلم، لما روى البيهقي بإسناده عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الجمعة واجبة إلا على صبي أو مملوك أو مسافر "1. وأخرج الدارقطني من طريق ابن لهيعة وهو ضعيف، عن معاذ بن محمد الأنصاري وهو مجهول، عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على مريض أو امرأة أو مسافر أو صبي أو مملوك " الحديث. وأخرج البيهقي عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الجمعة واجبة، إلا على ما ملكت أيمانكم وذي علة " 2، وفي إسناده نظر. وأخرج الدارقطني من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر مرفوعاً: " لا

1 سنن الترمذي: كتاب الجمعة (501) .

2 صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1456)، وسنن الترمذي: كتاب النكاح (1132) وكتاب تفسير القرآن (3016، 3017)، وسنن النسائي: كتاب النكاح (3333)، وسنن أبي داود: كتاب النكاح (2155) وكتاب الحدود (4473) ، ومسند أحمد (1/95، 1/135، 1/145، 3/72، 3/84) .

ص: 13

جمعة على مسافر "، وعبد الله ضعيف؛ وقد رواه عبيد الله بن عمر عن نافع فوقفه، وهو الصحيح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ولا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة، فصلى الظهر والعصر جمع بينهما ولم يصلّ الجمعة، والخلفاء الراشدون كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ وهذا إجماع لا يجوز مخالفته.

واتفق المسلمون على اشتراط الجماعة لها، إلا شيئاً يحكى عمن لا يعرف، أنها تجب على الواحد؛ حكاه في الفتح عن ابن حزم، أنه حكاه قولاً لبعضهم. قلت: وقد طالعت المحلى فلم أر هذا القول فيه، لكن قد روى ابن أبي شيبة عن سفيان الثوري، في صورة ما إذا دخل في صلاة الجمعة، ثم أحدث ثم ذهب وتوضأ، ثم جاء فوجدهم قد صلوا، أنه يبني على ما مضى ما لم يتكلم، وهذا لا يدل على أنه يرى الجمعة على الواحد، وإنما أثبت له حكمها لدخوله معهم أولاً فيها، بدليل أنه لو تكلم لم يجب عليه جمعة. والدليل على ذلك الكتاب والسنة:

أما الكتاب: فلقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة آية: 9] .

ص: 14

بصيغة الجمع، فيدل على أنها لا تجب إلا على جماعة، كذا قيل. وأما السنة: فطافحة بأنها لا تجب إلا على جماعة من طريقين: طريق الاستقراء، وطريق المفهوم. أما الاستقراء فأظهر من أن يذكر، لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من أصحابه ولا غيرهم صلاها وحده، ولا أمر بها أحد. وأما طريق المفهوم ففي أحاديث، منها حديث طارق الذي تقدم:" الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة " 1 الحديث؛ فمفهوم التقييد بالجماعة يقتضي أنها لا تجب إلا على جماعة.

ثم اختلف العلماء بعد ذلك في العدد المشترط لها على أقوال:

القول الأول: أنها لا تنعقد إلا بحضور أربعين رجلاً من أهل القرية، وذكره في الشرح عن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة، ومالك، والشافعي؛ وهو مذهب أحمد المشهور عنه.

القول الثاني: أنها لا تنعقد إلا بخمسين رجلاً، ذكره ابن حزم عن عمر بن عبد العزيز، وهو رواية عن أحمد، لما روى الدارقطني: حدثنا محمد بن الحسن النقاش، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الشامي والحسين بن إدريس، حدثنا خالد بن الهياج، حدثني أبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " على الخمسين جمعة ليس فيما دون

1 أبو داود: الصلاة (1067) .

ص: 15

ذلك " 1.

قال الدارقطني: جعفر بن الزبير متروك. قلت: وشيخ الدارقطني أيضاً متروك، وخالد بن الهياج متروك. وذكر الشيخ شمس الدين بن أبي عمر في شرح المقنع، أن الحافظ أبا بكر النجاد أخرجه عن عبد الملك الرقاشي عن رجاء بن سلمة عن عباد بن عباد عن جعفر بن الزبير بنحوه. وأخرجه الدارقطني أيضاً من طريق آخر: عن جعفر بن الزبير به، دون قوله:" ليس فيما دون ذلك ". وبالجملة: فمداره على جعفر بن الزبير، وهو ساقط. وذكر ابن أبي عمر أيضاً في الشرح: عن الزهري عن أبي سلمة، قال:" قلت لأبي هريرة: على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "، رواه النجاد; هكذا ذكره ابن أبي عمر، ولم يذكر من دون الزهري لينظر في إسناده؛ وهو باطل من غير جهة الإسناد، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغوا أكثر من الخمسين وهم بمكة، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بهم؛ وهذا يدل على أنه غير صحيح.

القول الثالث: أنهم إذا كانوا ثلاثة والإمام رابعهم صلوا الجمعة; وهو رواية عن أحمد، وبه قال أبو حنيفة، والليث بن سعد، وزفر، ومحمد بن الحسين، واحتجوا في ذلك بما رواه الدارقطني من طريق الوليد بن محمد الموقري، حدثنا الزهري حدثتني أم عبد الله

1 البخاري: الزكاة (1405، 1447، 1459، 1484)، ومسلم: الزكاة (979)، والترمذي: الزكاة (626)، والنسائي: الزكاة (2445، 2446، 2473، 2474، 2475 ،2476، 2483، 2484، 2485، 2486، 2487)، وأبو داود: الزكاة (1558، 1559)، وابن ماجة: الزكاة (1793) ، وأحمد (3/6، 3/30، 3/44، 3/59، 3/60، 3/73، 3/74، 3/79، 3/86، 3/97)، ومالك: الزكاة (575، 576)، والدارمي: الزكاة (1633، 1634) .

ص: 16

الدوسية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام، وإن لم يكونوا إلا أربعة "، قال الدارقطني: الوليد بن محمد متروك، ولا يصح هذا عن الزهري، كل ما رواه عنه متروك; وأخرجه أيضاً من طريقين آخرين عن الزهري. قال ابن حزم - بعد أن بين أنه لا يصح الاحتجاج به من جهة إسناده -: وأيضاً، فإن أبا حنيفة أول من يخالف هذا الخبر، لأنه لا يرى الجمعة في القرى، لكن في الأمصار فقط. وكل هذه آثار لا تصح، ثم لو صحت لما كان في شيء منها حجة، لأنه ليس في شيء منها إسقاط الجمعة عن أقل من العدد المذكور؛ وقد روي حديث ساقط عن روح بن غطيف وهو مجهول، لما بلغوا مائتين جمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أخذوا بالاكثر فهذا الخبر هو الأكثر، وإن أخذوا بالاقل فسنذكر إن شاء الله حديثاً فيه أقل. انتهى.

القول الرابع: أنها تنعقد بثلاثة: اثنان يستمعان وواحد يخطب; وهو قول الأوزاعي، قاله في الشرح. قلت: وهو رواية عن أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية، رحمه الله تعالى، وهذا القول أقوى من كل ما قبله، واحتجوا بقوله تعالى:{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة آية: 9]، قالوا: وهذا صيغة جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم

ص: 17

بالامامة أقرؤهم " 1. فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالامامة؛ وهو عام في إمامة الصلاة كلها، الجمعة والجماعة، ولأن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين، وهؤلاء جماعة تجب عليهم، ولا دليل على إسقاطها عنهم أصلاً.

القول الخامس: أنها تنعقد باثني عشر رجلاً، وهو قول ربيعة ومالك المشهور عنهما، لما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بالمدينة، فأمره أن يصلي عند الزوال ركعتين، وأن يخطب فيهما؛ فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة باثني عشر رجلاً ".

وعن جابر بن عبد الله قال: " بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فانفتلوا إليها، حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، فنَزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} "، متفق عليه، واللفظ للبخاري. وفي لفظ عند أبي نعيم في المستخرج:" بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة "، وهو ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، كما قاله الحافظ ابن حجر؛ لكن الذي في صحيح مسلم وغيره:" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ". وعلى كلتا الروايتين وجه الدلالة منه ظاهر، لأن العدد المعتبر في إلابتداء معتبر في الدوام في الخطبة والصلاة، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر، دل على أنه كاف.

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (672)، والنسائي: الإمامة (840) ، وأحمد (3/24، 3/34، 3/36، 3/48، 3/51، 3/84)، والدارمي: الصلاة (1254) .

ص: 18

وقد ترجم البخاري، رحمه الله في الصحيح على هذا الحديث: باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، فصلاة الإمام ومن بقي جائزة. قلت: ولا يخفى على منصف أن هذا الاستدلال أقوى من الاستدلال أنها لا تنعقد إلا بأربعين، بأن أسعد بن زرارة جمع بالصحابة وهم أربعون رجلاً، لكن تعقب هذا الاستدلال بأنه يحتمل أنه عليه السلام تمادى حتى عادوا، أو عاد من تجزئ بهم، أو أنهم سمعوا أركان الخطبة، أو أنه أتمها ظهراً. قلت: ولا يخفى ضعف هذا التعقب، لأنه دعوى بلا برهان، إذ لم ينقل أنهم عادوا وهو في الخطبة، ولا أنه عاد من تجزئ بهم، ولا أنهم سمعوا أركان الخطبة، والأصل عدم العدد; ومثل هذه الاحتمالات لا تدفع بها الأحاديث الصحيحة، ولو فتح هذا الباب لما بقي لأحد حجة إلا القليل، وسلم لكم أنهم عادوا، لكن العدد المعتبر في الابتداء معتبر في الدوام عندكم، وقد عدم هنا في الدوام. وأما كونه أتمها ظهراً، فمن أبطل الباطل، لأنه لا يخلو إما أن يكون الانفضاض وقع وهو في الخطبة، أو وقع وهو في الصلاة فأتمها ظهراً بعد أن نوى جمعة، وعلى كلا التقديرين، فهذا الاحتمال باطل; أما على الأول فلأنه لو صلاها ظهراً لكان هذا

ص: 19

من أشهر الأمور، ولنقل كما نقل حكمه صلى الله عليه وسلم فيما إذا اجتمع عيدان ونحو ذلك، فلما لم ينقل دل على أنه باطل لا أصل له، ولأنه لا يجوز إذا قلتم باشتراط الأربعين أن يعطل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بلا عذر، بل كان يأمرهم بردهم ويصلي بهم الجمعة، وهذا باطل قطعاً. وأما على الثاني فباطل أيضاً، لأنه لو أتمها ظهراً بعد أن دخلها بنية الجمعة، لكان هذا من أشهر الأمور التي لا يجوز على الأمة ترك نقلها وحفظها؛ فلما لم ينقل دل على أنه باطل لا أصل له. فإن قيل: فقد روى الدارقطني والبيهقي في هذا الحديث، من طريق علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال:" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة، إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلوا بالبقيع، فالتفتوا إليها، وانفضوا إليها، وتركوا رسول الله ليس معه إلا أربعون رجلاً أنا فيهم " 1 الحديث.

قيل: قال الدارقطني: لم يقل في هذا الإسناد إلا أربعون رجلاً، غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين، فقالوا: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. وقال يعقوب بن شيبة: كان، رحمة الله علينا وعليه، من أهل الدين والصلاح والخير البارع شديد التوقي، وللحديث آفات مفسدة. وقال صالح بن محمد:

1 البخاري: البيوع (2064)، ومسلم: الجمعة (863)، والترمذي: تفسير القرآن (3311) ، وأحمد (3/370) .

ص: 20

ليس هو عندي ممن يكذب، ولكن يهم، وهو سيئ الحفظ كثير الوهم، يغلط في أحاديث يرفعها ويقلبها، وسائر حديثه صحيح مستقيم. وقال زكريا الساجي: كان من أهل الصدق، وليس بالقوي في الحديث. وكان علي بن المديني إذا سئل عن علي بن عاصم، يقول: هو معروف في الحديث، وروى أحاديث منكرة. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء ولا يحتج به، روى أحاديث منكرة. وقال أحمد بن زهير: قيل ليحيى بن معين: إن أحمد بن حنبل يقول: إن علي بن عاصم ليس بكذاب، قال: لا والله، ما كان علي عنده ثقة قط، ولا حدث عنه بحرف قط، فكيف صار عنده اليوم ثقة؟ وقال محمود بن غيلان: أسقطه أحمد وابن معين وأبو خيثمة. وقال الذهبي في مختصر السنن: علي بن عاصم واه. قلت: وبالجملة، فهو رجل صالح، ولكن كما قيل:

وللحديث رجال يعرفون به

وللدواوين كتّاب وحسّابُ

فإن قيل: حديث جابر قد قيل إنه كان لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل، حيث قال: حدثنا محمود بن خالد عن الوليد، أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف، أنه سمع مقاتل بن حيان قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قد

ص: 21

قدم بتجارة، يعني: فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير "، قيل: الجواب من وجوه: الأول: أنه لم يرد في الأحاديث الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، إلا في هذا الحديث المعضل؛ فلا يثبت به شيء. الثاني: أن بكير بن معروف فيه مقال؛ قال فيه ابن المبارك: ارم به. وقال أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله: ذاهب الحديث. وقال في رواية البخاري: لا أرى به بأساً؛ ونحوه قول أبي حاتم والنسائي. وقال الذهبي في المغني: وهاه ابن المبارك. وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به. الثالث: أن هذا معضل، لأن مقاتل بن حيان من أتباع التابعين، وبينه وبين العصر النبوي مفاوز.

والقول السادس: أنه إذا كان واحد مع الإمام، صليا الجمعة؛ وبه قال إبراهيم النخعي، والحسن بن صالح بن حي، وداود، وأهل الظاهر؛ وحجة أهل هذا القول، أن الله تعالى قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [سورة الجمعة آية: 9] ، فأمر الله المؤمنين عموماً بالسعي إلى الجمعة بلفظ صالح للعموم، كما أمرهم بطاعته وطاعة رسوله بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [سورة النساء آية: 59] ؛ فالأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي إليها عام، كما أن الأمر بطاعة الله ورسوله عام، إذ هما في اللفظ واحد، فلا يجوز أن يخرج

ص: 22

عن هذا الأمر وعن هذا الحكم أحد، إلا من جاء بنص جلي، أو إجماع متيقن على خروجه عنه، وليس ذلك إلا للفذ وحده. قالوا: ولأنه قد ثبت بالاجماع أنه لا بد للجمعة من عدد، فكان اثنين، لحديث مالك بن الحويرث الذي في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما " 1، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للاثنين حكم الجماعة في الصلاة، فكذلك الجمعة. قالوا: ولحديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة " 2 الحديث; فأوجبها صلى الله عليه وسلم في الجماعة مطلقاً من غير قيد بعدد من الأعداد؛ والمطلق في كلام الشارع محمول على المقيد; فنظرنا إلى لفظ الجماعة في لسان الشارع، فوجدناه اثنين فأكثر، لحديث مالك بن الحويرث الذي تقدم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:" اثنان فما فوقهما جماعة " 3، رواه ابن ماجة وابن عدي والدارقطني، والبيهقي وضعفه عن أبي موسى، ورواه أحمد في مسنده، والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة، ورواه ابن سعد والبغوي وأبو منصور الماوردي عن الحكم بن عمير; ورواه الدارقطني من رواية عثمان بن عبد الرحمن المدني عن أبيه عن جده عمرو بن العاص، وعثمان بن عبد الرحمن هذا، قيل: لعله القاضي، تركوه. وبالجملة: فهو بالنظر إلى كثرة طرقه

1 البخاري: الأذان (628)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674)، والترمذي: الصلاة (205)، والنسائي: الأذان (634، 635، 669) والإمامة (781)، وأبو داود: الصلاة (589)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (979) ، وأحمد (3/436، 5/53)، والدارمي: الصلاة (1253) .

2 أبو داود: الصلاة (1067) .

3 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (972) .

ص: 23

ورواته، تفيد الحديث قوة، على أنه ليس الاعتماد عليه وحده، بل على حديث مالك بن الحويرث السابق، وهذا القول كما ترى في القوة. فإن قيل: لو كانت واجبة على الاثنين، لفعل هذا وقت السلف، قيل: ما أبعد هذا الاعتراض، فإن العادة أن القرى لا تبنى لاثنين ولا لثلاثة ونحوهم؛ فكون هذا لم يفعل في وقت السلف، لا يدل على عدم الوجوب، لأنه إنما لم يفعل لتخلف سببه، وهو سكنى اثنين في قرية، لأن هذا لا يعهد، وإنما نتكلم فيه على تقدير أن لو وجد هذا، لكان هذا هو الحكم لما ذكرنا. ولضعف هذا الاعتراض، لم يلتفت إليه أحمد في رواية عنه، ولا شيخ الإسلام ابن تيمية في القول بوجوبها على ثلاثة، ولا كل من قال بوجوبها على ثلاثة، لعلمهم أن هذا اعتراض غير صحيح. فإن قيل: الأصل براءة الذمة، فلا نشغلها إلا بدليل على شغلها، قيل: صدقتم كان الأصل براءة الذمة من صلاة الجماعة أصلاً، فلما ورد الأمر بها كان الأصل الشغل، فلا ننتقل عنه إلا بدليل يدل على إسقاط شغلها، ولا دليل على ذلك أصلاً إلا في الواحد. فإن قيل: هذا الدليل غير كاف في شغل الذمة، قيل: كون الوجوب هو الأصل كاف في شغلها، إذ لا ينتقل عنه إلا بدليل يدل على إسقاطها عمن دون الأربعين، ولا دليل على ذلك، فكيف إذا انضم إلى هذا

ص: 24

الأصل ما ذكرنا من الأدلة؟ وكم بدون هذا الدليل تشغلون الذمم، وتؤذون الأمم، كما أشغلتموها بإيجاب الجمعة على من كان بينه وبين موضع الجمعة فرسخ، إذا كان خارج المصر! ولا دليل على ذلك.

وكما أشغلتموها بقراءة آية من القرآن، في خطبتي الجمعة بغير دليل، وكما أشغلتموها بأنه يحضر أربعون رجلاً من أهل الجمعة الخطبة بغير دليل، وكما أشغلتموها بأنها لا تصح الخطبة قبل وقت الجمعة، وليس على ذلك دليل، وكما أشغلتموها بإيجاب الزكاة في الباقلا، والكراويا والكمون والكسفر، وبزر الكتان والقثاء والخيار، وحب الرشاد والفجل والقرطم والترمس والسمسم، وأسقطتموها عن بزر الباذنجان والقت والجزر، والسدر والأشنان والخطمي، والصعتر والآس ونحو ذلك، فتارة تشغلونها بغير دليل، وتارة تبرئونها بغير دليل. وكما أشغلتموها فيما إذا كان عليه صوم رمضان فأخر قضاءه من غير عذر إلى رمضان آخر، أن عليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم بغير دليل صحيح، مع مخالفته لقول الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]، ثم قلتم: إن مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين، فأسقطتم عنه القضاء بغير دليل، وأشغلتم ذمته بالاطعام بغير دليل صحيح، مع

ص: 25

مخالفته صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " من مات وعليه صوم، صام عنه وليه " 1 إلى غير ذلك، وكما أشغلتموها بإيجاب الدم على من حلق ثلاث شعرات من رأسه أو نتفها من أنفه، أو قلم ثلاثة أظفار في الإحرام بغير دليل على ذلك، مما تشغلون به الذمم بغير دليل صحيح، مما لو تتبعناه لطال الكلام.

القول السابع: أنها تنعقد بستة، وهو قول ربيعة في رواية عنه، ولا أدري ما وجهه؛ والمشهور عن ربيعة: أنها تنعقد باثني عشر، كما حكيناه عنه.

القول الثامن: أنها تنعقد بسبعة، وهو قول عكرمة، ورواية عن أحمد ذكرها ابن حامد، وأبو الحسين في رؤوس المسائل.

القول التاسع: أنها تنعقد بعشرين، رواه ابن حبيب عن مالك.

القول العاشر: أنها تنعقد بثلاثين، حكاه ابن حزم عن بعضهم.

الحادي عشر: أنها تنعقد بثمانين حكاه الماوردي عن الشافعية.

القول الثاني عشر: أنها تنعقد بثلاثة من أهل القرى، وبأربعين من أهل الأمصار، وهذا رواية عن أحمد ذكرها ابن عقيل. قال صاحب الحاوي من الحنابلة: وهو الأصح عندي، وقيل فيها غير ذلك. واحتج من قال إنها لا تنعقد إلا بحضور أربعين من أهل وجوبها، بما رواه الدارقطني والبيهقي من طريق إسحاق بن خالد بن يزيد: حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن، حدثنا خصيف عن عطاء بن أبي رباح عن

1 البخاري: الصوم (1952)، ومسلم: الصيام (1147)، وأبو داود: الصوم (2400) ، وأحمد (6/69) .

ص: 26

جابر قال: " مضت السنة أن في كل ثلاثة إماماً، وفي كل أربعين فصاعدا جمعة، وأضحى، وفطر "، قالوا: فهذا صريح في أنها تجب على الأربعين، فمفهومه أنها لا تجب على من دونهم; قلنا: هذا حديث ساقط، لأنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن، وهو ضعيف. قال البيهقي: هذا حديث لا يحتج به، ثم لو صح فليس فيه حجة علينا، لأنا نقول بموجبه.

وأيضاً، فإن كان حجة في اشتراط الأربعين للجمعة، فليكن حجة في إلاشتراط للجماعة، ولا تقولون به، قالوا: قد قال أبو داود في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره، عن أبيه كعب بن مالك " أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون "، وأخرجه ابن ماجة، وابن حبان، وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي وقال: هذا حديث حسن الإسناد; وصحح إسناده ابن المنذر، وابن حزم وغيرهم.

قالوا: فوجه الدلالة منه، أن يقال: أجمعت الأمة على

ص: 27

اشتراط العدد، ولا تصح الجمعة إلا بعدد يثبت فيه التوقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، فلا يجوز أقل منه إلا بدليل صحيح، ولم يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم لها بأقل من أربعين؛ قال البدر الزركشي: ووجهه بعضهم بأن قال: هذه أول جمعة كانت في الإسلام، وكان فرضها نزل بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعون أو أكثر ممن هاجر إليها، وأكثر ممن أسلم بها، ثم لم يصلوا سنتين كذلك، حتى كان العدد أربعين؛ فدل على أنها لا تجب على أقل منهم. والجواب من وجوه:

الأول: ما قاله ابن المنذر وابن حزم، وهذا لفظه: أنه لا حجة في هذا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل أنه لا تجوز الجمعة بأقل من هذا العدد؛ نعم والجمعة واجبة بأربعين، وبأكثر من أربعين، وأقل من أربعين.

الثاني: قوله: وقد ثبت جوازها بأربعين، فيقال: لم يثبت جوازها بأربعين من دليلكم هذا، كما تعرف إن شاء الله تعالى.

الثالث: قوله: ولا تصح الجمعة إلا بعدد يثبت فيه التوقيف، دعوى مجردة، بل إذا ثبت اشتراط العدد لها، ولم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم عدداً لها محصوراً، دل على جوازها بأقل ما يكون من الأعداد، إلا الواحد، للسنة والإجماع أنها لا تجب عليه.

ص: 28

الرابع: قوله: ولم يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم لها بأقل من أربعين، إن أراد أنه لم يثبت صريحاً أنه صلاها كاملة بدون الأربعين، فهو كذلك، وإن أراد أنه لم يثبت أنه صلاها بدون الأربعين، سواء كان نصاً أو ظاهراً، أو بعضها أو كلها، فهذا يرده ما تقدم في حديث جابر، أخرجه البخاري:" بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً " 1 الحديث، وفي لفظ أبي نعيم، في المستخرج:" بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة "، قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، ومن وجه آخر: أن الذين اشترطوا الأربعين يقولون: إن العدد المشترط في الابتداء مشترط في الدوام، فإذا كان كذلك، وهم قد انفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، سواء صلاها بمن بقي كما فهم البخاري، أو عادوا فأتم بهم الصلاة، أو كان انفضاضهم وقع في الخطبة، أيما كان فإنه يلزم على أصلهم هذا جوازها بدون الأربعين، وإلا انتقض أصلهم; والاحتمإلات التي ذكروها في الجواب عن هذا الحديث كلها باطلة، وإنما هي رجم بالغيب.

الخامس: قول هذا الموجه: إن هذه أول جمعة كانت في الإسلام ظن وتخمين، فقد ورد أن مصعب بن عمير صلاها باثني عشر، كما سيأتي إن شاء الله في المعارضة، ولا منافاة

1 البخاري: الجمعة (936) .

ص: 29

بين قول كعب: إن أسعد بن زرارة أول من جمع بهم، وبين قصة تجميع مصعب باثني عشر، فقد يحتمل أن يكون قول كعب: أنه أول من جمع بهم، بمعنى أنه لم يعلم أنه جمع بهم قبله، أو أنه أول من جمع بهم ظاهراً، أو أنه أول من أشار بالجمعة، وكان ذلك باجتهاد منه رضي الله عنه، فوفق لإصابة الحق في اختيار هذا اليوم؛ وأما اشتراط هذا العدد فليس في الحديث.

السادس: أن في كلام هذا الموجه ما يرد دعواه، وهو قوله: وكان بالمدينة أربعون أو أكثر ممن هاجر إليها، مع قوله: وكان فرضها نزل بمكة; ووجه الرد أن يقال: إذا كان في المدينة أكثر من الأربعين من المسلمين، وأنت تزعم أنها فرضت بمكة، فلم أقاموا سنتين لم يصلوها على زعمك، مع وجود العدد المشترط لها؟

السابع: قوله: ثم لم يصلوا كذلك حتى كان العدد أربعين، فيقال: هذا الكلام يفهم أنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين، وهذا كذب على الصحابة؛ فمن قال إنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى كان العدد أربعين، إنما كان فيه بعض دلالة لو ثبت أنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين، فهذا يدل على أن هذا العدد وقع اتفاقاً لا مشروطاً، وهو واضح.

الثامن: لو ثبت أن هذه الجمعة التي صلاها الصحابة،

ص: 30

رضي الله عنهم، فرض عليهم وأن الأربعين شرط لما ذكرتموه من هذا الحديث، لوجب على أصلكم أنه يشترط في الابتداء أن يكون هذا الحديث منسوخاً بحديث جابر الذي في قصة إلانفضاض، لأن هذا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وحديث جابر بعد ما قدمها، سواء كان الانفضاض واقعاً في الصلاة أو في الخطبة، إذ لا بد عندكم أن يحضر العدد المشترط أركان الخطبة والصلاة، ولم يصح أنهم حضروا شيئاً من ذلك.

التاسع: أنه لو ثبت أنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين، لم يكن في ذلك حجة أيضاً على أصلكم أنه يشترط في الدوام ما يشترط في الابتداء، لأن غاية حديث كعب أن يكون من فعل الصحابة، وحديث جابر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن فعله أحق وأولى بالاتباع من فعل غيره؛ وهو ينقض عليكم دعواكم أنه يعتبر في الدوام ما يعتبر في الابتداء، لأنه لو كان كما قلتم لبطلت جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشا لله من ذلك.

العاشر: المعارضة بما رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري، أن مصعب بن عمير حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جمع بهم وهم اثنا عشر رجلاً، وقد وصله الطبراني في كتاب الأوائل، من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر أبي مسعود الأنصاري، قال: " أول من جمع بالمدينة قبل أن يقدم

ص: 31

النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وهم اثنا عشر "، وصالح بن أبي الأخضر وإن ضعفه الأكثر، فقد قال الإمام أحمد: يستدل به، يعتبر به; وقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث، فقد علمت أنه ليس في حديثه ما يترك بل يعتبر به، وإنما يترك حديثه إذا عارضه ما هو أصح منه، ولم يعارضه هنا معارض أصلاً، وحديث كعب لا يعارضه، لأن كعب بن مالك حكى ما شاهده وحفظه في الجمعة التي حضرها، وغيره حكى ما شاهده وحفظه في الجمعة التي حضرها، فلا منافاة بينهما؛ وقد جمع بينهما البيهقي بأن المراد بالاثني عشر النقباء الذين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحبتهم، أو على أثرهم إلى المدينة ليقرئ المسلمين ويصلي بهم; ولا يخفى تكلف هذا الجمع، على أن كلام البيهقي هذا قد يدل على ثبوت هذا الحديث عنده، أو حسنه وصلاحيته للحجة، إذ لو لم يكن كذلك لما احتاج إلى الجمع بينهما، بل كان يكتفي بضعفه عن الجمع بينهما، وإن كان حديث كعب أصح إسناداً.

الحادي عشر: ما قاله الإمام الحافظ السيوطي: إن تجميع الصحابة كان قبل فرضها وتسميتهم إياها بهذا الاسم، كان عن هداية من الله تعالى لهم قبل أن يؤمروا بها، ثم نزلت سورة الجمعة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقر فرضها؛ وهذا قول الأكثر من العلماء، أنه لم ينْزل فرض الجمعة إلا بعد الهجرة إلى المدينة، كما حكاه في الفتح عن الأكثر. وحكى عن الشيخ أبي حامد - يعني الإسفراييني - أنها فرضت

ص: 32

بمكة، قال الحافظ: وهو غريب، كذا قال تلميذه الكوراني في شرحه للبخاري، بعد أن حكى قول أبي حامد، وهو غير ظاهر.

ثم ذكر السهيلي عن الحافظ عبد بن حميد، شيخ مسلم وأبي داود وصاحب المسند والتفسير: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: " جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنْزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله تعالى ونشكره، أو كما قال; فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم العروبة; وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين، وسموا: "الجمعة" حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا من شاته ليلتهم، فأنزل الله في ذلك بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ".

قلت: وقد أخرجه عبد الرزاق أيضاً؛ وفي هذا دليل على أنهم كانوا عدداً قليلاً دون الأربعين، إذ لا يمكن في العادة أن يتغدى الأربعون ويتعشوا من شاة. ويدل أنهم صلوا هذه الجمعة باجتهاد، فأصابوا الحديث الذي في الصحيح: " نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم. ثم هذا يومهم الذي أمروا به

ص: 33

فاختلفوا فيه، فهدانا الله له " 1 الحديث.

فمرسل ابن سيرين مع هذا الحديث، يدل على أن أولئك الصحابة فعلوه بالاجتهاد، واختاروا يوم الجمعة، ولا يمنع ذلك كون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، ولم يتمكن من إقامتها إن سلم أنها فرضت بمكة؛ فعلى هذا فقد حصلت الهداية بجهتي التوفيق والبيان، على أحد ما قيل في معنى قوله:" فهدانا الله له ".

قالوا: قد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: " إذا اجتمع الأربعون رجلاً فعليهم الجمعة " 2، قلنا: هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولو صح لما كان فيه حجة أصلاً، لأنا نقول بموجبه. قالوا: قال أبو أمامة رضي الله عنه: " لا جمعة إلا بأربعين "، قلنا: دعوى التشبث بالواهيات والأباطيل، فلا يعرف ذلك عن أبي أمامة أصلاً، بل قد جاء عنه خلافه، كما تقدم من رواية الدارقطني؛ فإن كان هذا الحديث المنكر الذي لا يعرف أصلاً حجة، فلتكن الحجة بحديثه المنكر الساقط:" على الخمسين جمعة، ليس فيما دون ذلك " 3، كما تقدم من رواية الدارقطني.

قالوا: التقدير بالثلاثة والأربعة والاثنين تحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه، لأن التقدير بابه التوقيف، قال لهم كل من قال بذلك: اشتراطكم الأربعين العقلاء الحاضرين الذكور الأحرار، هو التحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه، وهو إسقاطكم الجمعة عما دون الأربعين، بعد أن أوجبها الله

1 البخاري: الجمعة (876)، ومسلم: الجمعة (855)، والنسائي: الجمعة (1367) ، وأحمد (2/249، 2/274، 2/312، 2/341، 2/502) .

2 سنن النسائي: كتاب صلاة العيدين (1590)، وسنن أبي داود: كتاب الأطعمة (3756) ، ومسند أحمد (2/121، 3/34، 3/36، 3/51، 3/84، 5/408)، وسنن الدارمي: كتاب الصلاة (1184، 1254) وكتاب الفرائض (3087) .

3 البخاري: الزكاة (1405، 1447، 1459، 1484)، ومسلم: الزكاة (979)، والترمذي: الزكاة (626)، والنسائي: الزكاة (2445، 2446، 2473، 2474، 2475 ، 2476، 2483، 2484، 2485، 2486، 2487)، وأبو داود: الزكاة (1558، 1559)، وابن ماجة: الزكاة (1793) ، وأحمد (3/6، 3/30، 3/44، 3/59، 3/60، 3/73، 3/74، 3/79، 3/86، 3/97)، ومالك: الزكاة (575، 576)، والدارمي: الزكاة (1633، 1634) .

ص: 34

على عموم المؤمنين؛ فإن هذا هو التحكم بالرأي الذي لا دليل عليه، من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا قول صاحب ولا قياس صحيح. ثم اشتراطكم كون الأربعين من أهل وجوبها، تحكم ثان لا دليل عليه أصلاً من كتاب ولا سنة ولا إجماع، لأن غاية ما معكم في اشتراط الأربعين حديث كعب، وقد تبين أنه ليس فيه دليل على اشتراط الأربعين؛ ثم لو كان فيه دليل على الاشتراط، لما كان فيه دليل على كونهم من أهل وجوبها، إذ ليس فيه إلا أنهم كانوا أربعين فقط، لا أنهم كانوا من أهل وجوبها، ولا أنّهم كانوا أحراراً كلهم، بل يحتمل أن يكون فيهم عبيد وصبيان؛ فهذا هو التحكم المحض في دين الله تعالى بغير دليل. وبما ذكرناه وقررناه: يتبين للذكي المنصف طريق الصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله أعلم، وصلى الله على محمد.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما العدد المشترط لوجوب الجمعة وصحتها، فالمشهور في مذهب أحمد والشافعي: اشتراط الأربعين; وأبو حنيفة ومالك لا يرون اشتراط الأربعين، بل أبو حنيفة، يقول: تصح من ثلاثة، وكان فعلها ظهراً إذا نقصوا عن الأربعين أحوط.

وأجاب أيضاً: وأما عدد الجمعة واعتباره وعدم اعتبار ذلك، فالخلاف فيه مشهور، وأظن عادة جماعتك في

ص: 35

السابق، أنهم يصلون جمعة مع نقصهم عن الأربعين، وأنهم فعلوا ذلك بفتوى مفت، فإن استمررتم على عادتهم، فأرجو أن لا بأس، فإن أحبوا أنهم يصلون ظهراً ولا يجمعون، فهو فيما أرى أحوط.

وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: اعلم أنهم اتفقوا على أن من شرط وجوبها وصحتها: الجماعة؛ واختلفوا في مقدار الجماعة: فمنهم من قال: واحد والإمام، هذا مذكور عن ابن جرير الطبري. ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام، لأن أقل الجمع عنده اثنان. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام; وقائل هذا يرى أن أقل الجمع ثلاثة، لا اثنان؛ والكلام مبسوط في أقل الجمع في شرح التحرير وغيره؛ والقول الأخير، هو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال قوم: ثلاثون. ومنهم من قال: يجوز بما دون الأربعين إلى الثلاثة والأربعة، ولم يشترط عدداً، وإنما ذكر جواباً أورده، وهو: أنه لا تجب إلا على عدد تتقرى بهم قرية; وأصحاب القولين الأولين أخرجوا الأخير، يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم، غير ما يطلق عليه اسم الجمع في جميعها، بل هم الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس؛ وهذا يروى عن مالك، وروي عنه: اشتراط اثني عشر من أهل الوجوب، وكلا القولين معروف.

ص: 36

ومن اشترط الأربعين، كالشافعي وأحمد وجماعة من السلف، فإنما صاروا إلى ما صح، من أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس.

فهذا هو أحد شروطها، أعني شروط الوجوب لا شروط الصحة، فإن من الشروط ما هو شرط للوجوب فقط لا الصحة، وهذا من أحسن الأقوال; وبه يتفق غالب كلام المختلفين. إذا عرفت هذا، فإنهم اختلفوا أيضاً في الأحوال الراتبة، التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم هل هي شرط للصحة والوجوب، أم ليست بشرط؟ وتلك: الجماعة، والمصر والاستيطان، فمن رآه دليلاً اشترطها، ومنهم من رجح بعضها دون بعض، واشترط المرجح لا غير، وبعضهم لم يرها دليلاً، ورجع في الاشتراط والوجوب إلى أدلة أخر، لعموم الجماعة في سائر الصلوات. ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شروطاً في صحة الصلاة، لما جاز أن يسكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يترك بيانها، لقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل آية: 44] .

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول بعض الناس: لا تصح الجمعة خلف إمام لم يتزوج؟ فأجاب: وأما صلاة الجمعة خلف إمام لم يتزوج، فليس الزواج بشرط، وإنما الشرط البلوغ، والاستيطان.

ص: 37

سئل الشيخ عبد اللطيف: عمن فاتته صلاة الجمعة

إلخ؟

فأجاب: من فاتته صلاة الجمعة، وقد صلاها الإمام قبل الزوال، فيصليها ظهراً بعد الزوال. انتهى.

سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: خطبت، ووقفت على: يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور، ثم قلت: جعلنا الله وإياكم من الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بارك الله لي ولكم

إلخ، ولا فطنت إلا بعد انقضاء الصلاة، ثم تأملت: يوم يبعثر ما في القبور

إلخ، فإذا كأنها آية تقوم بالمعنى

إلخ؟

فأجاب: ما علمت فيها خلافاً، وأرجو أنها تامة.

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع المذمومة التي ننهى عنها: قراءة الحديث عن أبي هريرة، بين يدي الخطبة، وقد صرح شارح الجامع الصغير، بأنه بدعة.

سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن اتحاد الخطيب والإمام

إلخ؟

فأجاب: ما ذكرتم من الدليل ومذاهب الأئمة الأربعة، فهو ما نحن عليه، وهو: أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن الخطيب هو الإمام، لمداومته عليه، وأن الاستخلاف لعذر جائز عند الأئمة الأربعة، وأما من استخلف لغير عذر فهل ينكر عليه، أم لا؟ فهذا مبني على معرفة المنكر، الذي يجب إنكاره.

ص: 38

وذكر كلام الشيخ ابن رجب في المنكر الذي يجب إنكاره، وكلام غيره. ثم قال: فقد علمت، رحمك الله: أنه لا ينكر إلا ما خالف كتاباً، أو سنة أو إجماعا، ً أو قياساً جلياً على القول به، أو ما ضعف فيه الخلاف، وأنه لا ينكر على خطيب استخلف من يصلي يوم الجمعة، بعد ما خطب هو لغير عذر؛ هذا هو المذهب عند متأخري الحنابلة، كما قاله صاحب الإقناع وغيره، قال: ولا يشترط لها، أي: الخطبتين أن يتولاهما من يتولى الصلاة، ولا حضور النائب الخطبة، وهو الذي صلى الصلاة ولم يخطب، ولا أن يتولى الخطبتين واحد، بل يستحب ذلك.

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويترضى عن الصحابة، رضي الله عنهم، جهراً، والإمام يخطب يوم الجمعة؟

فأجاب: الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي حال الخطبة من غير الخطيب بدعة مخالفة للشريعة، منع منها طوائف العلماء سلفاً وخلفاً، ولهم فيه مأخذان:

الأول: أنه من محدثات الأمور، التي لم تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه، ولا التابعين، ولو كان خيراً سبقونا إليه.

الثاني: أن الأحاديث ثبتت بالامر بالانصات للخطبة؛ فقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 39

أنه قال: " إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت " 1، قال في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي دعاء، وجميع الأدعية المأمور بها، السنة فيها الإسرار دون الجهر غالباً. قلت: وهذا مأخذ ثالث للمنع; قال شيخ الإسلام: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي عن الصحابة، رضي الله عنهم، دعاء من الأدعية، والمشروع في الدعاء كله المخافتة، إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر، قال: وأما رفع الصوت بالصلاة والترضي الذي يفعله بعض المؤذنين قدام الخطباء في الجمع، فمكروه أو محرم. انتهى.

وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضاً: وأما الناس الذين يجتمعون، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس مشروعاً; وإنما المشروع: الصلاة وقراءة القرآن قبل دخول الإمام، فإذا دخل الإمام وأخذ في الخطبة، وجب الإنصات للخطبة، كما في الحديث:" إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت "2.

وسئل: عن تقدم الخطيب في المسجد

إلخ؟

فأجاب: وأما تقدم الخطيب في المسجد، يصلي ويقرأ قبل الخطبة والصلاة، فلا بأس به؛ لكن ينبغي أن يكون في ناحية، يراه المأمومون إذا خرج إليهم للخطبة.

1 البخاري: الجمعة (934)، ومسلم: الجمعة (851)، والترمذي: الجمعة (512)، والنسائي: صلاة العيدين (1577)، وأبو داود: الصلاة (1112)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) ، وأحمد (2/244، 2/272، 2/280، 2/393، 2/396، 2/485، 2/518، 2/532)، ومالك: النداء للصلاة (232)، والدارمي: الصلاة (1548، 1549) .

2 البخاري: الجمعة (934)، ومسلم: الجمعة (851)، والترمذي: الجمعة (512)، والنسائي: صلاة العيدين (1577)، وأبو داود: الصلاة (1112)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) ، وأحمد (2/244، 2/272، 2/280، 2/393، 2/396، 2/485، 2/518، 2/532)، ومالك: النداء للصلاة (232)، والدارمي: الصلاة (1548، 1549) .

ص: 40

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الدعاء في الخطبة لمعين

إلخ؟

فأجاب: احتجاج بعض الناس بقول بعض العلماء: يباح الدعاء في الخطبة لمعين، ولم يقولوا: يسن; وأيضاً، فالدعاء حسن، يدعى له بأن الله يصلحه ويسدده، ويصلح به وينصره على الكفار وأهل الفساد، بخلاف ما في بعض الخطب، من الثناء والمدح بالكذب. وولي الأمر إنما يدعى له، لا يمدح لا سيما بما ليس فيه؛ وهؤلاء الذين يمدحون في الخطب، هم الذين أماتوا الدين، فمادحهم مخطئ، فليس في الولاة اليوم من يستحق المدح، ولا أن يثنى عليه، وإنما يدعى لهم بالتوفيق والهداية.

والواجب على ولي الأمر أولاً، البداءة برعيته بإلزامهم شرائع الإسلام، وإزالة المنكرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، فهذا أهم وأوجب من جهاد العدو الكافر، وهذا مما يستعان به على جهاد الكفار، كما روي:" إنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم ".

وأما الجلسة بين الخطبتين، فلا علمت فيها ذكراً، لكن إن دعا في تلك الحال بما أحب فحسن. وأما الدعاء عند دخول الإمام يوم الجمعة، وبين الخطبتين، فلا علمت فيه شيئاً، ولا ينكر على فاعله الذي يتحرى ساعة الإجابة المذكورة في يوم الجمعة.

ص: 41

[فصل في تعدد الجمعة]

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: اعلموا أن الذي عليه جمهور أهل العلم، تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفاً أو سمع النداء؛ فلا يجوز تعدد الجمعة وتفريق جماعة المسلمين إلا لحاجة، كضيق المسجد وبعدهم عن القرية. وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي وما حاذاها، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم.

وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية، بغير إذن الإمام وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهراً; وقواعد الشريعة تدل على هذا، فالجماعة إنما شرعت للائتلاف والمودة والإعانة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشرع أيضاً على تحريم ما أوجب الفرقة، واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] . وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة 1 أخرى، لا

1 هي: المحلة المحاطة بسور يفصلها عن غيرها.

ص: 42

يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى؛ ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله.

سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: عن صلاة أمير الوادي 1 في قصره لأجل التحفظ؟

فأجابا: العلماء، رحمهم الله، قد ذكروا في ذلك ما يشفي ويكفي، وهو غير خاف إذا كان ذلك للحاجة؛ قال في الإقناع وشرحه: ويجوز إقامتها، أي: الجمعة في أكثر من موضع في البلد لحاجة إليه، كضيق مسجد البلد عن أهله، وخوف فتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة يخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجد واحد، وبعد جامع عن طائفة من البلد ونحوه، كسعة البلد وتباعد أقطارها، فتصح الجمعة السابقة واللاحقة، لأنها تفعل في الأمصار العظيمة وفي مواضع من غير نكير، فكان إجماعاً. قال الطحاوي: وهو الصحيح من مذهبنا. وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يقمها هو ولا أحد من الصحابة في أكثر من موضع، فلعدم الحاجة إليه. انتهى.

وقال في الفروع: وعن الإمام أحمد عكسه، خلافاً لهم،

1 يعني: وادي الدواسر.

ص: 43

لأنهم أطلقوا القول في رواية المروذي وغيره. وسئل عن الجمعة في مسجدين؟ فقال: صلي; قيل له إلى أي شيء تذهب؟ قال إلى قول علي في العيد، أنه أمر أن يصلى بضعفة الناس; ذكره القاضي وغيره وحمله على الحاجة، وفيه نظر، لأنه احتج بعلي في العيد. وعلى هذا، فكلام العلماء صريح في جواز إقامة الجمعة في موضع آخر للحاجة، ومن الحاجة خوف العدو الخارج، والتحفظ على ثغور المسلمين عن الأمور التي يخشى ضررها.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، لما سئل عن صلاة الجمعة في جامع القلعة: هل هي جائزة، مع أن في البلد خطبة أخرى، مع وجود سورها وغلق أبوابها، أم لا؟

الجواب: نعم يجوز أن يصلى فيها الجمعة، لأنها مدينة أخرى، كمصر والقاهرة؛ ولو لم تكن كمدينة أخرى، فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة جائزة عند أكثر العلماء، ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان، أقاموا فيها الجمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء - إلى أن قال - فلما تولى علي بن أبي طالب وصار بالكوفة، وكان الخلق بها كثيراً، قالوا: يا أمير المؤمنين، إن بالمدينة شيوخاً يشق عليهم الخروج إلى الصحراء، فاستخلف علي رضي الله عنه رجلاً يصلي بالناس

ص: 44

العيد في المسجد، وهو يصلي بالناس خارج الصحراء، ولم يكن هذا يفعل قبل ذلك. وعلي رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " 1؛ فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين، فقد أطاع الله ورسوله؛ والحاجة في هذه البلاد، وفي هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة

إلى آخر ما ذكر. ثم لا يخفى: أن الحاجة داعية إلى ذلك، وأن ثغور أهل الإسلام مما ينبغي حفظها وإلاعتناء بالمحافظة عليها، عما يخشى وقوعه من العدو الخارج الذي يتربص بالمسلمين الدوائر، وكان القصر المسمى بـ "قصر إبراهيم" يصلى فيه جمعة ثانية، وهو قريب من مسجد "الكوت" في الأحساء، وكان ذلك بعلم من مشائخ المسلمين: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، وكان إمامه الشيخ أحمد بن مشرف؛ فلو كان ذلك غير جائز لمنع منه المشائخ، ولم يقروهم على ذلك.

سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد اللطيف: عن بناء مسجد يجمع فيه في باطن بلد الرياض، لضيق جامع البلد مع ما يحصل لأهل الباطن من مشقة التفرق، والخوف على حروثهم، وضيعاتهم، وعيلاتهم؟

فأجابا: بأنه يسوغ التجميع في ذلك المسجد، لا حرج

1 الترمذي: العلم (2676)، وأبو داود: السنة (4607)، وابن ماجة: المقدمة (42، 44) ، وأحمد (4/126)، والدارمي: المقدمة (95) .

ص: 45

في ذلك، لوجود المسوغ لبنائه والتجميع فيه؛ وهذا ظاهر لا يخفى، والله أعلم.

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن محمد بن حميد إلى جناب الأخ المكرم الأحشم: محمد بن سليمان الجراح، رزقه الله الفهم والتوفيق، وأدر عليه سحائب التحقيق، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابكم المكرم وصل؛ وصلك الله إلى ما يرضيه، وسرنا إذ أنبأ بصحتكم، واستقامة أحوالكم، الحمد لله رب العالمين. رزقنا الله وإياكم شكر نعمه، وصرف عنا وعنكم أسباب سخطه ونقمه.

وما ذكرته عن الأصحاب، رحمهم الله، من أنهم نصوا على جواز إقامة الجمعة في أكثر من موضع في البلد لحاجة كضيق المسجد عن أهله

إلخ.

الجواب: الحمد لله، نص العلماء، رحمهم الله في كل مذهب على جواز ذلك مع الحاجة، كما لو ضاق مسجد الجامع عن أهله؛ والمراد بأهله هاهنا: هم الذين يغلب فعلهم

ص: 46

لها ممن تصح منه، كما ذكره غير واحد من محققي الحنابلة، والشافعية وغيرهم. أما تعدد إقامتها في البلد من غير حاجة، فهذا لا يعرف القول به، لا عن صحابي، ولا تابعي، إلا ما يروى عن عطاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة وبها تسعة مساجد سوى مسجده، ولم يكونوا يجمعون في شيء منها، وأهل ذي الحليفة وقباء، وأهل العوالي وكانت على ثلاثة أميال من المدينة، لم يكونوا يجمعون في عهده، وفي عهد الخلفاء بعده، إلا في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ بل روى الترمذي في جامعه: عن رجل من أهل قباء، قال:" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء " 1، قال البيهقي، رحمه الله: ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة، ولا في القرى التي بقربها.

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى، وإلى عمرو بن العاص، وإلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم: باتخاذ مسجد جامع، ومسجد آخر للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة، انضموا وشهدوا الجمعة في مسجدها. وقال ابن عمر رضي الله عنهما:" لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر ". واستمر عمل المسلمين على هذا إلى آخر القرن الثالث.

أيظن حينئذ أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وهذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وعمل به

1 الترمذي: الجمعة (501) .

ص: 47

المسلمون في تلك القرون المفضلة؟! نعوذ بالله أن نقول ذلك.

فإن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد، مع قيام الجمعة القديمة، على ما ذكره الخطيب في تأريخ بغداد، في أيام المعتضد، سنة مائتين وثمانين، وسبب ذلك: خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام؛ فأقاموا جمعة بدار الخلافة، من غير بناء مسجد لها.

وقد أفتى علماء مرو، وأئمتها لما أقيم بها جمعتان، بإعادة الجمعة ظهراً حتماً، احتياطاً، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، ولقوله:" فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " 2؛ والجمعة سميت بهذا لجمعها الجماعات الكثيرة، بأن يكونوا جماعة واحدة، وهي من أعظم اجتماعات فروض الإسلام، فإنه ليس في الإسلام مجمع أكبر ولا أفرض منه، سوى إلاجتماع بعرفات.

وفي تعطيل المسلمين مساجدهم يوم الجمعة، واجتماعهم في مسجد واحد، واستمرارهم على هذا جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، أبين بيان وأدل دليل، على أن الجمعة خلاف سائر الصلوات، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد; ومن قال بجواز تعدد إقامة الجمعة في كل مسجد بدون حاجة، كسائر الصلوات، تنفيذاً لهمة الشارع صلى الله عليه وسلم في التسهيل على هذه الأمة، فقوله مردود عليه، لم يؤيده كتاب ولا سنة

1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240، 6/270) .

2 البخاري: الإيمان (52)، ومسلم: المساقاة (1599)، والترمذي: البيوع (1205)، والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710)، وأبو داود: البيوع (3329)، وابن ماجة: الفتن (3984) ، وأحمد (4/267، 4/269، 4/270، 4/271، 4/275)، والدارمي: البيوع (2531) .

ص: 48

ولا إجماع، ولا قول صاحب، وليس عندهم في ذلك أثارة من علم. فهلا قالوا بإقامتها لكل أحد في بيته، تسهيلاً وتيسيراً؟! بل التسهيل والتيسير هو اتباع سنته والتمسك بهديه، وإلاقتداء بأفعاله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21] . وقولهم: إن عدم تعدد إقامتها في زمنه وزمن الخلفاء بعده، لما يتولد من إقامتها في موضع آخر من الاختلاف، وخشية الخروج على الأئمة، غير مسلم؛ ولو سلم لهم ذلك، بأنها علة مؤثرة في عدم تعدد إقامة الجمعة، لتعددت بانتفاء العلة، ولا قائل به من سلف الأمة؛ فالأحكام لا يجوز إثباتها بالتحكم بغير دليل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد

إلخ؟

فأجاب: الذي نص عليه علماؤنا أنه إن اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام فإنها لا تسقط عنه، إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمع؛ وهذا يفهم أن المراد بالامام هو الذي يتولى الصلاة بهم. وهذا الحكم يتعلق بأهل كل بلد، وليس كل بلد فيها إمام أعظم، وهذا يفيده قولهم: إلا أن لا يجتمع به

ص: 49

من يصلي به الجمعة، نعم إن وقع ذلك في بلد الإمام الأعظم وجبت عليه، وإن لم يتول الصلاة، لأن المتولي للصلاة كالنائب عنه، وبدليل ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" عيدان إذا اجتمعا في يومكم هذا، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون " 1، رواه ابن ماجة، فيصير التجميع في قوله:" وإنا مجمعون " يقتضي ما قلناه، لأنه صلوات الله وسلامه عليه، هو الإمام الأعظم، وإمامهم في الصلاة، والله أعلم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها وهو الصحيح: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة؛ لكن على الإمام أن يقيم الجمعة، ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد؛ وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف. ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها؛ وكلام الشيخ يوضح ما قررته قبل.

وأجاب الشيخ أبا بطين: إذا وافق العيد يوم الجمعة، سقطت عمن حضره مع الإمام، كمريض، دون الإمام؛ فإذا اجتمع معه العدد المعتبر أقامها، وإلا صلى ظهراً، وكذا العيد بها، إذا عزموا على فعلها سقطت.

1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1311) .

ص: 50

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن عدم التدريس يوم الجمعة؟

فأجاب: وأما عدم التدريس يوم الجمعة، ففي السنن عنه صلى الله عليه وسلم:" أنه نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة " 1، وصار عادة للناس، وبعضهم يترك التدريس في الجمعة والاثنين عادة.

وأما قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فهو عام لجميع اليوم، لأن في الحديث الوارد في ذلك إطلاقه اليوم، ولم يقيده بأوله.

سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن قوله: " من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عشراً، صلى الله عليه مائة، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً "2.

فأجاب: هو ثابت في الحديث.

وسئل الشيخ أبا بطين: عن " الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أجعل لك كذا من صلاتي؟ "3.

فأجاب: المراد - والله أعلم-: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كقوله: " اللهم صل على محمد " 4 ونحو ذلك، ففيه الإشارة إلى الإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. ويراد بالصلاة عليه: الدعاء، لأن الدعاء يسمى صلاة، فكأنه قال: كم أجعل لك من دعائي؟

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يترك للأمير مكان في المسجد

إلخ؟

1 الترمذي: الصلاة (322)، والنسائي: المساجد (714)، وأبو داود: الصلاة (1079)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1133) ، وأحمد (2/179) .

2 أحمد (2/187) .

3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2457) .

4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3369)، ومسلم: الصلاة (407)، والنسائي: السهو (1294)، وأبو داود: الصلاة (979)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (905) ، وأحمد (5/424)، ومالك: النداء للصلاة (397) .

ص: 51

فأجاب: أما إذا كان أهل المسجد يتركون مكاناً للأمير إكراماً له، فالمسجد لمن سبق إليه، وأحق الناس بالمكان الذي وراء الإمام، الذين يعرفون الدين والفقه؛ ولو ترك لهم مكان فلا بأس، وإن تركوا للأمير مكاناً فلا ينكر عليهم. وأما جلوس الإمام ينتظر الأمير، فلا أعلم في ذلك بأساً إذا لم يشق على المأمومين.

وأجاب الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان، رحمهم الله تعالى: قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَن سبق إلى مكان فهو أحق به " 1، وقال صلى الله عليه وسلم:" ليلني منكم أولو الأحلام والنهى " 2، فالأفضل: أن الذي يلي الإمام هو الأفضل في الدين، وأما التاجر وغيره من الناس، فليسوا بأحق من غيرهم بهذا المكان. وأما الأمير إذا ترك له مكان مراعاة له، وخوفاً من مفسدة أرجح من ذلك، فلا بأس به، لأجل دفع المفسدة ومراعاة المصلحة. وكذلك لا بأس به إذا كان القادم رجلاً صالحاً أو فاضلاً، فتفسحوا له بطيب نفس منهم من غير استمرار منهم. وأما الفاجر والفاسق، فلا حرمة لهم، وليسوا من أولي الأحلام والنهى; وكذلك لا يجوز أن يجعل الرجل له إيطاناً كإيطان البعير لا يصلي إلا فيه.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله تعالى: عمن يضع عصاه في مكان فاضل من المسجد

إلخ؟

1 مسلم: السلام (2179)، وأبو داود: الأدب (4853)، وابن ماجة: الأدب (3717) ، وأحمد (2/263، 2/283، 2/342، 2/389، 2/483، 2/527، 2/537)، والدارمي: الاستئذان (2654) .

2 مسلم: الصلاة (432)، والنسائي: الإمامة (807 ،812)، وأبو داود: الصلاة (674)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (976) ، وأحمد (4/122)، والدارمي: الصلاة (1266) .

ص: 52

فأجاب: إذا كان إنسان يجلس في المسجد، فلا بأس بكونه يجعل عصاه في مكان فاضل، بحيث أنه ما يخرج من المسجد إلا لما لا بد منه، من نحو وضوء، وكذلك لفطور وسحور ونحوه; وإن كان يجعل عصاه في مكان ويخرج لأشغاله، لنحو بيع وشراء وفلاحة ونحوه، فلا ينبغي لمثل هذا يجعل عصاه في مكان يحميه عن غيره. وأما الذي يخرج لنحو أكل وشرب أو وضوء، فلا بأس بجعل عصاه في مكان فاضل، ليحوز فضيلة الصف الأول، أو وسط الصف، وكذلك الجمعة وغيرها. وأما من دخل المسجد ووجد فيه عصا يضعها أهلها ويخرجون لأغراضهم، فلا بأس بتأخيرها والمجيء في موضعها؛ فإذا حاذرت من شيء يصير في نفس أخ لك، إذا أخرت عصاه وجلست في مكانه، فالذي أحبه تركها والجلوس في مكان آخر.

وأجاب أيضاً: وأما وضع العصي في المسجد يوم الجمعة أو غيره، فالذي نهينا عنه من فعل بعض الناس يدخل المسجد وهو محدث، فيضع عصاه ويخرج للاشتغال بأمر دنياه، وكذلك بعض الأولاد يجيء بأربع عصي أو أكثر أو أقل، ويضعها بمواضع من المسجد، وربما أن صاحب العصا ما يجيء إلا عند دخول الإمام، ويتخطى رقاب الناس. وأما من دخل المسجد وصلى فيه ما تيسر، ثم خرج لأكل أو شرب أو وضوء أو غلبة نوم، أو قام في ناحية من نواحي المسجد لشمس أو ظل، فهذا ما يقال فيه شيء.

ص: 53

ومن احتج بقول بعض الفقهاء، في وضع المصلى، فهذا ذكره كثير، وأنكره الشيخ تقي الدين، لأنه تحجر للمسجد؛ وقد أنكر الإمام على من فعل ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقياس العصا على المصلى المفروش فيه لا يصح، ومن المعلوم أنه لو كان يفعل في زمن من سلف لذكروه، لأنهم ينقلون العصي ولم ينقل أنهم فعلوا بها ذلك، والظن أنهم لو رأوا ثلاثة صفوف أو أربعة أو خمسة، مبسوط فيها سجادات، لأنكروا ذلك، وواضع السجادة ربما يعتذر ببخار الأرض، أو بردها أو حرها؛ وبكل حال فهذا لم ينقل عن الصحابة والتابعين وتابعيهم.

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن حديث: " من مس الحصى "

إلخ؟

فأجاب: أما حديث: " من مس الحصى فقد لغا " 1 فرواه مسلم في صحيحه، وليس فيه:" ومن لغا فلا جمعة له "، ولفظه صلى الله عليه وسلم: ?" من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا " 2، لكن روى الإمام أحمد في مسنده، من حديث علي:" ومن قال لصاحبه: صه، فقد تكلم، ومن تكلم فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له " 3، قال النووي في شرح حديث مسلم: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. انتهى. وهو واف بالمقصود.

1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1025) ، وأحمد (2/424) .

2 مسلم: الجمعة (857)، والترمذي: الجمعة (498)، وأبو داود: الصلاة (1050)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1090) ، وأحمد (2/424) .

3 أبو داود: الصلاة (1051) ، وأحمد (1/93) .

ص: 54

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما مس الحصى في حال الخطبة، فقد صرح العلماء بكراهة العبث في تلك الحال؛ ولا فرق بين العبث بيد، أو رجل، أو لحية، أو ثوب، أو غير ذلك.

[خصائص الجمعة]

وسئل: عما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال بعد صلاة الجمعة: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، فله من الأجر كذا وكذا "1.

فأجاب: لا أعلم له أصلاً.

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع ما اعتيد في بعض البلاد، من صلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعاً؛ فيزجرون عن ذلك أشد الزجر.

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما ورد في يوم الجمعة من الخصائص، وهل يختص بما قبل الزوال أم لا؟ مثل قراءة سورة الكهف وغيرها.

فأجاب: خصائص الجمعة على ثلاثة أضرب:

الأول: محله قبل الصلاة، كالاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وتأكد السواك، ومنع من تلزمه الجمعة إذا دخل وقتها من السفر ونحو ذلك.

الثاني: ما لا يختص بما قبل الصلاة، كاستحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومزية الذكر، والصدقة، ونحو ذلك.

الثالث. متردد بينهما بحسب ما ورد، كقراءة

1 ابن ماجة: الأدب (3812) .

ص: 55

سورة الكهف، وساعة الإجابة. فأما قراءة سورة الكهف، فورد في قراءتها ما يقتضي أن ليلة الجمعة كيومها، محل لحصول الفضل الوارد لما اقتضاه مجموع هذه الآثار: فروى الدارمي عن أبي سعيد موقوفاً: " من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق "1. ومنها ما يقتضي تخصيصه باليوم، كما روى أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين "، قال الحافظ المنذري: إسناده لا بأس به، وقال ابن كثير: في رفعه نظر. وذكر في المغني عن خالد بن معدان: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، قبل أن يخرج الإمام، كانت له كفارة ما بينه وبين الجمعة، وبلغ نوره البيت العتيق؛ وظاهر كلام الفقهاء أنه كالذي قبله لا يختص بما قبل الصلاة.

وأما ساعة الإجابة: ففيها أقوال تزيد على أربعين، ذكرها ابن حجر في الفتح، والجلال السيوطي في شرح الموطإ. وذكر العلامة ابن القيم كثيراً منها، ثم قال: وأرجح الأقوال فيها قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، أحدهما أرجح من الآخر: الأول: أنها ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة; قلت: رجحه البيهقي، وابن العربي،

1 الدارمي: فضائل القرآن (3407) .

ص: 56

والقرطبي، وقال النووي: إنه الصحيح والصواب; قال ابن القيم: الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق، وساق ما يدل على ذلك، كحديث عبد الله بن سلام، ثم قال: وهذا القول هو قول أكثر السلف، ويليه القول بأنها ساعة الصلاة؛ وبقية الأقوال لا دليل عليها، انتهى ملخصاً.

وقال المحب الطبري: إن أصح حديث فيها: حديث أبي موسى في مسلم، وأشهر الأقوال فيها: قول عبد الله بن سلام؛ قال ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف، واستند صاحبه إلى اجتهاد دون توقيف. انتهى.

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله: أما سورة الكهف، فظاهر الخبر الآتي، وصريح كلام الفقهاء الحنابلة والشافعية، أنها في مطلق اليوم؛ والأصل فيها ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً:" من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين " 1، وفي رواية للبيهقي:" ما بينه وبين البيت العتيق "، قال في شرح الجامع الصغير: وفي رواية: " ليلة الجمعة " بدل " يوم الجمعة "، وجمع بأن المراد اليوم بليلته، والليلة بيومها.

وقال في شرح المنهاج: وفي الفتاوى المصرية هي المطلقة يوم الجمعة، ما سمعت أنها مختصة بعد العصر. انتهى.

وقال في شرح المنهاج: ويستحب الإكثار من قراءتها، كما نقل عن

1 الدارمي: فضائل القرآن (3407) .

ص: 57

الشافعي، وقراءتها نهاراً آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير. انتهى. فلم يقيدها بغير الأولوية؛ وعليها يحمل ما حكاه في المغني وغيره، عن خالد بن معدان، من أنها قبل الصلاة؛ لكن هل الليلة ما قبل اليوم، أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه، فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله. ومنهم من فصل بين الليلة المضافة إلى اليوم، كليلة الجمعة وغيره: فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده; والذي فهمه الناس قديماً وحديثاً، من قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي " 1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة. انتهى ملخصاً.

وقد جاء الحديث أيضاً بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، رواه الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعاً:" اقرؤوا سورة هود " 2، ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب، وهو في مراسيل أبي داود، قال الحافظ: مرسل صحيح الإسناد. وروى الطبراني في الأوسط، عن ابن عباس مرفوعاً:" من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران، صلى الله عليه حتى تحتجب الشمس "3. ومما ورد من الخصائص مطلقاً أيضاً، الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، رواه أبو داود والترمذي، من حديث موسى بن أوس؛ قال الحاكم: صحيح على شرط

1 مسلم: الصيام (1144) .

2 الدارمي: فضائل القرآن (3403) .

3 أحمد (1/458) .

ص: 58

الشيخين. ومن ذلك آكدية الدعاء، والتفرغ للعبادة، ومزيد الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم، وتوافيها فيه.

وأما الاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق، والتحلق والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد، لأنه قال في يومها الحاضر، إن صلاها، إلا لامرأة، وقد قيل: ولها. انتهى. ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً: " من أتى الجمعة فليغتسل " 1، وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعاً:" من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح " 2، فذكره إلى أن قال: قال: " فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذكر "3. وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد مرفوعاً: " من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه، ومس من الطيب إذا كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت إذا خرج الإمام " 4 الحديث. وفي البخاري عن سلمان مرفوعاً: " ثم راح ولم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت " 5 الحديث. وفي الطبراني عن أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره، ويقص شاربه، يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة ". وفي مسند أحمد وسنن أبي داود، عن ابن عمر:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب "6.

1 البخاري: الجمعة (877، 894، 919)، ومسلم: الجمعة (844)، والترمذي: الجمعة (492)، والنسائي: الجمعة (1376، 1405، 1407)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1088) ، وأحمد (2/3، 2/9، 2/35، 2/37، 2/41، 2/42، 2/47، 2/48، 2/51، 2/53، 2/55، 2/57، 2/64، 2/75، 2/77، 2/78، 2/101، 2/105، 2/115، 2/120، 2/141، 2/145، 2/149)، ومالك: النداء للصلاة (231)، والدارمي: الصلاة (1536) .

2 البخاري: الجمعة (881)، ومسلم: الجمعة (850) والأضاحي (1960)، والترمذي: الجمعة (499)، والنسائي: الإمامة (864) والجمعة (1385، 1386، 1387، 1388)، وأبو داود: الطهارة (351)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1092) ، وأحمد (2/272، 2/457، 2/460، 2/499، 2/505، 2/512)، ومالك: النداء للصلاة (227)، والدارمي: الصلاة (1543) .

3 البخاري: الجمعة (881)، ومسلم: الجمعة (850)، والترمذي: الجمعة (499)، والنسائي: الإمامة (864) والجمعة (1385، 1386، 1387، 1388)، وأبو داود: الطهارة (351)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1092) ، وأحمد (2/239، 2/259، 2/263، 2/272، 2/280، 2/457، 2/460، 2/499، 2/505، 2/512)، ومالك: النداء للصلاة (227)، والدارمي: الصلاة (1543) .

4 أبو داود: الطهارة (343) .

5 البخاري: الجمعة (910)، والنسائي: الجمعة (1403) ، وأحمد (5/438، 5/439، 5/440)، والدارمي: الصلاة (1541) . 6 الترمذي: الجمعة (514)، وأبو داود: الصلاة (1110) ، وأحمد (3/439) .

ص: 59

وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها، فمنعه الأصحاب بعد الزوال، إن لم يخف فوت رفقته، إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه; قال ابن المنذر: لا أعلم خبراً ثابتاً بمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء، لوجوب السعي حينئذ. وقال المجد في شرح الهداية: روى ابن أبي ذئب قال: " رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له: تسافر يوم الجمعة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر يوم الجمعة "، رواه البخاري، وهو أقوى وجوه المرسل، لاحتجاج من أرسله به. انتهى.

وفي مسند الشافعي، عن عمر أنه رأى رجلاً عليه هيئة السفر، فسمعه يقول:" لولا أن اليوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج، فإن الجمعة لا تحبس عن سفر "، وفيه عن علي نحوه. وفي سنن سعيد بن منصور: عن ابن كيسان: " أن أبا عبيدة ابن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة ". وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه: " من سافر يوم الجمعة، دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره "، ففيه ابن لهيعة، ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ.

وأما ساعة الإجابة، فاختلف العلماء فيها وفي موضعها من اليوم على أكثر من أربعين قولاً، ذكرها في الفتح، ولوامع الأنوار وغيرها، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتاً; وأقرب الأقوال فيها قولان، وأحدهما أرجح من الآخر، كما ذكره في

ص: 60

الهدي وغيره: الأول: ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. الثاني: أنها بعد العصر؛ وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس؛ قال الترمذي: هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم.

خاتمة: ذكر في التوشيح وغيره، أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين.

ص: 61