الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجنائز
التداوي والرقى
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الذين إذا مرض أحدهم يحفون ويحوطون، فيقرؤون شيئاً من الآيات بحساب وأعداد، فإذا انتهى قالوا: يا قاضي الحاجات؟
فأجاب: الذي وردت به السنة: دعاء العائد له وحده، من غير تكلف ولا اجتماع؛ فإن شاء رقاه بما وردت به السنة، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لزوجته لما نخستها عينها:" إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً " 1؛ هذا جنس المشروع، وأما على هذه الكيفية فبدعة.
وسئل ابنه الشيخ عبد اللطيف: عن الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه؟
فأجاب: هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة لا بأس به؛ بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث
1 البخاري: الطب (5750)، ومسلم: السلام (2191)، وابن ماجة: الطب (3520) ، وأحمد (6/44، 6/45، 6/50، 6/108، 6/114، 6/120، 6/124، 6/126، 6/127، 6/131، 6/208، 6/260، 6/278، 6/280) .
الرقية بالفاتحة. وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة، من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجئ فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا. والحاج أفضل منه، ولا يعرف أن أحداً من أهل العلم فعل هذا مع الحاج، وإنما لو أراد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث:" بسم الله. تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا " 1؛ فهذه الرقية من المسلم الموحد على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث.
وسئل: عن الكاهن إذا سئل عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان؟
فأجاب: إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه من طريق الكهانة، فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد، وإن كان من جهة الطب ومعرفة منافع الأدوية، فلا يدخل في مسألة الكاهن.
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن الذبح عند المريض
…
إلخ؟
فأجاب: لا ريب أن التقرب إلى الله بالنسك من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، ومن أشرف الحسنات، وأفضل النفقات للمسلم إذا حسن قصده في ذلك، وتجرد من الشوائب والأسباب التي توجب حبوط العمل وعدم الانتفاع به، أو لحوقه بالمعاصي التي يعاقب عليها، قال الله تعالى:
1 البخاري: الطب (5745)، ومسلم: السلام (2194)، وأبو داود: الطب (3895)، وابن ماجة: الطب (3521) ، وأحمد (6/93) .
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162]، وقال:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] . فما يتقرب به المسلم إلى الله من الهدايا والأضاحي، وغير ذلك من النسك المأمور به شرعاً، كل ذلك من العبادات التي أمر الله بها عباده؛ فمن فعل من ذلك شيئاً لغير الله فهو مشرك.
وقد كان المشركون يتقربون إلى معبوداتهم بأنواع من القرب، كالهدايا والنذور وغير ذلك؛ وهذا من الشرك الذي قال الله فيه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48]، وقال:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . في صحيح مسلم عن علي قال: " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله " 1 الحديث، وساق حديث طارق:" دخل الجنة رجل في ذباب " الحديث.
ومن الشرك: ما يقع في كثير من المدن والبوادي والقرى والأمصار، ممن ينتسب إلى الإسلام، ممن قل نصيبه من الدين، وخالف سبيل المؤمنين، وسلك طريق المغضوب عليهم والضالين، من الذبح للجن، واتخاذهم أولياء من دون الله، مضاهاة لإخوانهم من المشركين الأولين، الذين قال الله فيهم:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 30]، وقال:{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سورة سبأ آية: 41] ؛ وقد كانوا يجعلون الجن شركاء لله في عبادته، فيذبحون
1 مسلم: الأضاحي (1978)، والنسائي: الضحايا (4422) ، وأحمد (1/118، 1/152) .
لهم وينذرون لهم، ويستعيذون بهم، ويفزعون إليهم عند النوائب؛ وكان منهم من يفعل ذلك خوفا من شرهم، وتخلصاً من أذاهم، وساق أدلة الاستعاذة بالله من شرهم. ثم قال: فالاستعاذة بالله من أفضل مقامات العبودية، مثل الدعاء والخوف والرجاء والذبح والتوكل، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك.
قال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، أو يسميه استخداماً، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان. والذبح للجن يفعله كثير من أهل الجهل والضلال، إذا مرض الشخص أو أصابه جنون أو داء مزمن، ذبحوا عنده كبشاً أو غيره؛ وكثير منهم يصرحون بأنهم ذبحوه للجن، ويزعمون أن الجن أصابته بسبب حدث منه، فيذبحون عنده ذبيحة للجن، يقصدون تخليصه مما أصابه من ذلك الداء.
ولا شك أن الجن قد تعرض لبعض الإنس بأنواع من الأذى، كالصرع وغيره، لأسباب يفعلها الإنسي يتأذون بها؛ فإذا ابتلي الإنسان بشيء من ذلك، فالواجب عليه، الفزع إلى الله والاستعاذة به، والالتجاء إليه والتوكل عليه، فبالاعتصام بالله يندفع عدوان المعتدين، من الإنس والجن والشياطين، وأما العدول عن ذلك إلى الالتجاء إلى الجن، والذبح لهم، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله.
ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن ذبائح الجن ". قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها، أو استخرجوا عيناً، ذبحوا ذبيحة، خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك. ثم من الناس من يذبح عند المريض لهذا المقصد الخبيث، ويظهر للناس أنه إنما قصد التقرب إلى الله، والصدقة على الفقراء والمساكين بلحم ما يذبحه، وقد اطلع الله منه على سوء القصد، وأنه إنما قصد بذبيحته التقرب إلى الجن، ولكن منعه من بيان مقصده الخوف من المسلمين؛ وهذا نفاق وزندقة ومحادة لله ورسوله، كإخوانه الموصوفين في قوله:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [سورة البقرة آية: 9] . وإذا عرفت أن الذبح عند المريض على هذا الوصف الذي ذكرنا من الشرك المحرم، فاعلم: أن من الناس من يذبح عند المريض لغير مقصد شركي، وإنما يقصد بالذبح التقرب إلى الله بالذبيحة والصدقة بلحمها، ولا يخفى أن قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك تقتضي المنع من فعل ذلك والنهي عنه، لأن ذلك ذريعة لفعل الشرك، لما قد عرفت أن كثيراً من الناس يذبح عند المريض لقصد التقرب إلى الجن، ولكن يخفي قصده خوفاً من العقوبة، وبعضهم يبين قصده لإخوانه من شياطين الإنس.
وقد حدثني من لا أتهم أن من هذا الجنس من أتى إلى مريض وأشار بأن يذبح عنده ذبيحة، ثم لما تفرق الناس عنه أسر إليه وأشار أن الذبيحة لغير الله.
وبذلك يعلم: أن المتعين: النهي عن الذبح عند المريض، وإن حسن قصد الفاعل، سداً لباب الشرك، وحسماً للذرائع التي تجر إليه؛ فإن العمل وإن كان أصله قربة وفعله طاعة، فقد يقترن به ما يوجب بطلانه، ويقتضي النهي عنه، كأعمال الرياء، وتحري الدعاء والصلاة لله عند القبور، والنحر في أمكنة أعياد المشركين ومواطن أوثانهم، وساق حديث ثابت بن الضحاك - إلى أن قال - ومن مفاسد ذلك: أنه سبب لدخول أهل النفاق، فيذبحون لأوليائهم من الجن، ولا يخافون أحداً من المسلمين، لعلمهم بخفاء سوء قصدهم، وعدم اطلاع المؤمنين على ما أبطنوه من شركهم وضلالهم. انتهى ملخصاً.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: عن التوتين؟
فأجاب: التوتين الذي يفعله بعض العوام، يأخذون قيحاً من المجدور، ويشقون جلد الصحيح، ويجعلونه في ذلك المشقوق، يزعمون أنه إن جدر يخفف عنه، فهذا ليس من التمائم المنهي عن تعليقها فيما يظهر لنا، وإنما هو من التداوي عن الداء قبل نزوله، كما يفعلون بالمجدور إذا أخذته
حمى الجدري لطخوا رجليه بالحناء، لئلا يظهر الجدري في عينيه، وقد جرب ذلك فوجد له تأثير. وهؤلاء يزعمون أن التوتين من الأسباب المخففة للجدري، والذي يظهر لنا فيه الكراهة، لأن فاعله يستعجل به البلاء قبل نزوله، ولأنّه في الغالب إذا وتن ظهر فيه الجدري فربما قتله، فيكون الفاعل لذلك قد أعان على قتل نفسه، كما ذكره العلماء فيمن أكل فوق الشبع فمات بسبب ذلك؛ فهذا وجه الكراهة.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله: ما يفعل بالصبي الذي يسمونه "التعضيب"، ما علمت فيه شيئاً، ولا سمعنا له ذكراً في الزمن الأول، ولا أدري عن أمره؛ ولكني أكرهه.
وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: ورد علينا سؤإلات، فمن إخوانكم من يذكره أمراً هيناً، وهو أنه يغرز إبرة في بدن الإنسان حتى يقرب خروج الدم، ثم يؤخذ على رأس الإبرة من دواء اتصل بكم من النصارى، فإذا مكث يومين أو ثلاثة حدث في البدن حبتان أو ثلاث من جنس الجدري، ولا ذكروا أنه صار سبباً لموت أحد; وآخر يقول: مات بسببه أناس كثير، وبالجملة، ما بلغنا عن الله ولا عن رسوله ولا عن أئمة الدين في ذلك تحليل ولا تحريم، إلا أني وقفت على فتيا لبعض تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله، قال فيها: إنه ما بلغنا فيه شيء إلا أنه يخاف إذا
حدث بسببه الموت، فيكون الفاعل مثل المتسبب في القتل; ونحن نرى هذا الفعل عندنا ولا فعلناه، ولا نهينا ولا رخصنا، لأنه لم يبلغنا فيه أصل.
وأما كون الدواء اتصل بكم من النصارى، فجميع الأعيان الأصل فيها الحل والإباحة، إلا ما ثبت النهي عنه، أو بان فيه مفسدة ظاهرة متحققة، وقد قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] . ومثل هذه الأمور الأمر فيها هين، ويكفي الإنسان فيها السكوت عنها، حتى يتبين دليل شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة، وما قاله جمع من الأئمة، والله سبحانه لم يترك شيئا مما يجب على الخلق العمل به إلا بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كذلك ما حرم أدلته ظاهرة معلومة.
وأجاب الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: إن هذا التجدير الذي يسميه بعض الأطباء "التلقيح"، وبعض العامة يسمون "التوتين" و"التعضيب" لا يجوز استعمال ذلك، ولم نقف على شيء من كلام العلماء فيها. وقد سئل عن ذلك الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأبا بطين وأجابا، ثم ذكروا جوابيهما السابقين، ثم قالوا: ودعوى هؤلاء الجهال أن هذا من الأسباب الجائزة دعوى باطلة لوجهين:
أحدهما: أنهم لا يستعملون هذا بعد انعقاد موجبه وحدوثه، فيكون من باب
التداوي، ولكنهم إنما يفعلون هذا لئلا يحدث; وربما حدث بسببه فيكون قد تسبب لاستعجال البلاء قبل أن ينْزل، وربما قتله فيكون قد أعان على قتل نفسه.
الثاني: أن هذا لو كان من باب التداوي وفعل السبب لكان غير جائز، لأنه تداوى بسبب لم يشرعه الله ورسوله، وذلك أن التوتين إنما يكون بالقيح وهو نجس، أو بشيء معمول منه؛ والتداوي بالحرام النجس غير مباح ولا مأذون فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم:" عباد الله تداووا، ولا تداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها "1. ونحن نمنع من هذا ولا نجيزه، ونعاقب من فعله.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شحم الخنْزير؟
فأجاب: أما التداوي بأكله فلا يجوز، وأما التداوي بالتلطخ به ثم يغسل بعد ذلك، فهذا ينبني على جواز مباشرة النجاسة في غير الصلاة، وفيه نزاع مشهور؛ والصحيح: أنه يجوز للحاجة، كما يجوز استنجاء الرجل بيده وإزالة النجاسة بيده؛ وما أبيح للحاجة جاز التداوي به، كما يجوز التداوي بلبس الحرير على أصح القولين، وما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوي بها، كما لا يجوز التداوي بشرب الخمر.
وسئل عما يحكى من دم البرازي 2 أنه دواء لعضة
1 الترمذي: الطب (2038)، وأبو داود: الطب (3855)، وابن ماجة: الطب (3436) .
2 أي: دم أحد البرازات، وهم القبيلة المشهورة من سبيع.
الكلب؟
فقال: لا أصل له، والتداوي بالنجس حرام.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: هو نجس حرام، ولا يجوز التداوي به عن عضة الكلب، ولا غيرها.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن هذه المسألة؟ فأفتى بالمنع والشيء إذا كان محرماً في الشرع، فلا يبيحه دعوى نفعه بالتجربة.
وسئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن التداوي بكرش الذبيحة وغيرها مما يجعل على محل اللدغة؟
فأجاب: هذا جائز، لأنه من باب التداوي، ولا يقصد فاعله إلا ذلك بقرينة جعله على محل القرص في الحال، فلو ترك وقتاً ما، لم يحصل به نفع كما هو معلوم بالتجربة، وذلك لما فيه من القوة الجاذبة للمادة السمية.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن ضرب مسمار في جدار أو غيره، على حروف مقطعة من حروف الهجاء؟
فأجاب: أما ما يفعله بعض الناس في أمر الضرس، بضرب مسمار كما ذكرت، فهذا من عمل الشيطان.
وسئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل تجوز وتقبل من الإنسان التوبة بالقلب وحده؟ أم تكون باللسان بألفاظ وصيغ مخصوصة؟ وما هي هذه الألفاظ والصيغ؟
فأجاب: التوبة من أعمال القلوب، كما صرح بذلك ابن عبد السلام الشافعي في قواعده وغيره; وقال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية: أصل التوبة عزم القلب; وقال النووي: أصلها الندم، وهو ركنها الأعظم.
وذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: أن لها ثلاثة شروط، وعبر عنها بعضهم بالأركان، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إلى مثلها في المستقبل؛ وليس منها ما هو متوقف على اللفظ، والمذهب: عدم اشتراط لفظ: إني تائب، أو أستغفر الله، ونحوه.
قال ابن مفلح: وقيل: يشترط قوله: اللهم إني تائب إليك من كذا وكذا، وأستغفر الله؛ وهو ظاهر ما في المستوعب; فظاهر هذا: اعتبار التوبة بالتلفظ والاستغفار، ولعل المراد اعتبار أحدهما؛ ولم أجد من صرح باعتبارهما، ولا أعلم له وجهاً. انتهى.
إذا علم هذا، فإن القول المعتمد الذي هو المذهب وعليه الأكثر: عدم اشتراط لفظ: إني تائب، أو أستغفر الله، ونحوه في التوبة؛ وعليه، فلا يكون لها صيغة، لأنها لا تتوقف على اللفظ، والصيغ من خصائص الألفاظ، والله أعلم.
[تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل
…
إلخ؟
فأجاب: هذا لا بأس به، وإذا اجتمع رجال ونساء، وأراد الإمام أن يصلي عليهم صلاة واحدة، قدم الرجال فجعلهم مما يليه، لأنهم يستحقون التقديم في الإمامة، فاستحقوا التقديم في الجنائز؛ وقد نقل الجماعة عن أحمد: أنه يقدم إلى الإمام الحر المكلف، ثم العبد المكلف، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة.
وأما صفة موضعهم بين يدي الإمام للصلاة عليهم، فتجعل رؤوسهم كلهم عن يمين الإمام، وتجعل وسط المرأة حذا صدر الرجل، ليقف الإمام من كل نوع موقفه، لأن السنة أن يقف عند صدر الرجل ووسط المرأة.
وأجاب الشيخ، حمد بن ناصر بن معمر: أما الصلاة على الميت، فإن أوصى الميت بأن يصلي عليه رجل معين، فهو أحق من غيره. ولا يقوم أحد في جنب الإمام، بل يقف الإمام وحده، إلا إن كان المكان ضيقاً، بحيث لا يحصل له الوقوف في الصف، فحينئذ يقف في جنب الإمام للحاجة.
[الصلاة على الغال]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: هل تكره الصلاة على غير الغال؟ وقاتل نفسه؟
فأجاب: الصلاة تكره على غير الغال وقاتل نفسه، مثل
المجاهر بالفسق والكبائر، فقد قال الشيخ تقي الدين: ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه، عقوبة ونكالاً لأمثاله، لتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، والمدين الذي لا وفاء له. وإن كان منافقاً كمن علم نفاقه لم يصل عليه، ومن لم يعلم نفاقه صلي عليه. ومن مات مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان، كأهل الكبائر، فلا بد أن يصلي عليهم بعض الناس، ومن امتنع من الصلاة على أحد منهم زجراً لأمثاله كان حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن، ليجمع بين المصلحتين، كان أولى من تفويت إحداهما. انتهى. والمراد بكراهة الصلاة على أهل الكبائر للإمام خاصة، أو لأهل العلم والدين المقتدى بهم.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري: عن الحائض والنفساء، إذا ماتت إحداهما، هل تجوز الصلاة عليها في المسجد؟
فأجابا: إنه يجوز إذا أمن تلويثه، لأن الأحكام انقطعت بالموت.
فصل
قال الشيخ عبد الله بن محمد: ومن البدع رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت، وعند رش القبر بالماء، وغير ذلك مما لم يرد عن السلف.
سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن كشف الكفن عن وجه الميت؟
فأجاب: لم يبلغني فيه شيء، ولكن الظاهر أن الأمر فيه واسع، إن كشف عنه فلا بأس وإن ترك فكذلك.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن رفع اليدين حال القيام على القبر بعد الدفن؟
فأجاب: ثبت في سنن أبي داود: " أنه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت قال: قفوا على صاحبكم واسألوا له التثبيت واستغفروا له، فإنه الآن يسأل " 1؛ فهذا هو المسنون: أن يستغفر له ويسأل له التثبيت، وأما رفع الأيدي في تلك الحال فلا أراه، لعدم وروده.
[التلقين بعد دفن الميت]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن التلقين بعد دفن الميت؟
1 أبو داود: الجنائز (3221) .
فأجاب: لم يصح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، بل ورد فيه أحاديث ضعيفة، منها حديث أبي أمامة عند الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا مات أحد من إخوانكم وسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس القبر، ثم ليقل: يا فلان، فإنه يسمعه ولا يجيب. ثم يقول: يا فلان بن فلان، ثم يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون. فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً " الحديث.
وقد قواه الضياء في المختارة، ثم قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة؟ قال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم، كانوا يفعلونه; وكان إسماعيل بن عياش يرويه، يشير إلى الحديث الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة، وروي أيضاً عن واثلة بن الأسقع، وكرهه جماعة من العلماء، لاعتقادهم أنه بدعة مكروهة، وأما التحريم فليس بحرام.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: قال ابن القيم في الهدي: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولا يلقن الميت، كما يفعله الناس اليوم; وأما الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة
…
إلخ، فهذا حديث لا يصح رفعه; لكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت
…
إلخ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعله إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك. انتهى ملخصاً.
وقوله: " كان إذا فرغ من دفن الميت
…
إلخ "، حديث رواه أبو داود؛ فهذا التلقين لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر المسلمون ذلك في زماننا، والله أعلم.
[وضع الجريدة على القبر]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن وضع الجريدة على القبر
…
؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف، فإن بعض الفقهاء يرى استحباب وضع الجريدة على القبر، وبعضهم لا يرى ذلك، لأنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل العموم. وأما جعل الرياحين على القبر، فبدعة منهي عنها، لأنه من تخليق القبر المنهي عنه، بخلاف جعل الجريدة عليه، لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " مر بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي
بالنميمة " 1 ثم أخذ جريدة فشقها نصفين، وجعل على كل قبر منهما نصف الجريدة، وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " 2.
[البناء على القبور]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن البناء على القبور؟
فأجاب: أما بناء القباب عليها فيجب هدمها، ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: أما بناء القبب على القبور، فهو من علامات الكفر وشعائره، لأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح، لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً، لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم، حتى يدخلهم الدين، فأبى ذلك عليهم، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، وأمرهما بهدمها.
قال العلماء: وفي هذا أوضح دليل، أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القبب التي بنيت على القبور، واتخذت أوثاناً، ولا يوماً واحداً؛ فإنها شعائر الكفر، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه والكتابة عليه "؛ وقد قال تعالى: {وَمَا
1 البخاري: الوضوء (218)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20) ، وأحمد (1/225)، والدارمي: الطهارة (739) .
2 البخاري: الوضوء (216)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20)، وابن ماجة: الطهارة وسننها (347) ، وأحمد (1/225)، والدارمي: الطهارة (739) .
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .
وأما كونه علامة على كفر بانيها، فهذا يحتاج إلى تفصيل: فإن كان البانى قد بلغه هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في هدم البناء عليها، ونهيه عن ذلك، وعاند وعصى، ومنع من أراد هدمها من ذلك، فذلك علامة الكفر. وأما من فعل ذلك جهلاً منه بما بعث الله به رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فهذا لا يكون علامة على كفره، وإنما يكون علامة على جهله وبدعته، وإعراضه عن البحث عما أمر الله به ورسوله في القبور. وأما حال أهل العصر الثاني، الذين لم يحضروا البناء، وإنما فعله آباؤهم ومتقدموهم، فالراضي بالمعصية كفاعلها؛ وفيهم من التفصيل ما تقدم في الباني الأول، فافهم ذلك. وهذا إذا لم يُذْبَح عندها وتُعْبَد وتُدْعَى، ويُرْجَى منها طلب الفوائد، وكشف الشدائد، فأما إذا فعل ذلك، فهو الشرك الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وأما الإشكال الذي ذكره السائل، في حديث علي في القبور، التي أمره الرسول بتسويتها، هل هي قديمة؟ فليس فيه إشكال بحمد الله، لأنه محمول على القبور القديمة، كقبور الجاهلية، لأن البناء على القبور وتعليتها من سنن الجاهلية، ولم يكن ذلك في عهد الصحابة. وأما حديث قبر عثمان بن مظعون، فليس فيه معارضة لما ذكرنا، لأن المراد
إعلام القبر بعلامة يعرف، كحصاة ونحوها بلا تعلية ولا بناء؛ وهذا لا بأس به عند أهل العلم؛ فحديث قبر عثمان، فيه الدليل على جواز ذلك لكل أحد، وهذا ظاهر، ولله الحمد والمنة.
وأجاب أيضاً: والقبور التي باق عليها البناء تهدم.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: ثبت في الصحيح والسنن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنّه نهى عن البناء على القبور، وأمر بهدمه "، كما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت: عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وساق بسنده عن جابر، قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه " 2، وساق عن ثمامة قال:" كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها "3.
وقال الترمذي: باب ما جاء في تسوية القبور: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل، " أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96) .
2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027) ، وأحمد (3/295، 3/332، 3/399) .
3 مسلم: الجنائز (968)، والنسائي: الجنائز (2030)، وأبو داود: الجنائز (3219) ، وأحمد (6/18، 6/21) .
طمسته " 1؛ قال: وفي الباب عن جابر; وقال ابن ماجة في: باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها: حدثنا زهير بن مروان، حدثنا عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور " 2. حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء " 3. حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن القاسم بن مخيمر عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبنى على القبور ". وقال النووي، رحمه الله، في شرح مسلم: قال الشافعي، رحمه الله، في الأم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله: " ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 4. وقال الأذرعي، رحمه الله، في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم: النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية باطلة. قال الأذرعي: والوجه في تحريم البناء على القبور، المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار؛ والتحريم يثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليه، فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب من يلزم ذلك الورثة
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96، 1/128، 1/145) .
2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2029)، وأبو داود: الجنائز (3225)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/295، 3/332، 3/339) .
3 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1563) .
4 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/89، 1/96، 1/111، 1/128، 1/138، 1/139، 1/145، 1/150) .
من حكام العصر، ويعمل بالوصية بذلك. انتهى كلام الأذرعي، رحمه الله.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في "المعلاة" أكثر من عشرين قبة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب، التابوت ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص؛ وقد روى أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 1، " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها "، كما تقدم في صحيح مسلم.
وقال أبو عيسى الترمذي: باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها: حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، حدثنا محمد بن ربيعة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ " 2، هذا حديث حسن صحيح. وهذه القبور عندكم مكتوب عليها القرآن والأشعار، وقال أبو داود:
1 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/332) .
2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2028، 2029)، وأبو داود: الجنائز (3225)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/295، 3/332، 3/339) .
باب البناء على القبور: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج قال: حدثني أبو الزبير، أنه سمع جابراً يقول:" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، ويبنى عليه "1. انتهى. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها؛ والذي رأيته ليلة دخولنا مكة - شرفها الله - في المقبرة، أكثر من مائة قنديل، هذا مع علمكم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، فقد روى ابن عباس، رضي الله عنهما، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 2، رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله وأشد تحريماً، الشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وهو دعاء المقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات; لكن تقولون لنا: إن هذا لا يفعل عندها، وليس عندنا أحد يدعوها ويسألها، ونقول: اللهم اجعل ما ذكروه حقاً وصدقاً، ونسأل الله أن يطهر حرمه من الشرك.
ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين، وقد قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ
1 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027، 2029)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/332، 3/399) .
2 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229، 1/287، 1/324، 1/337) .
مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14]، وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدعاء مخ العبادة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} " 1، رواه أحمد وأبو داود والترمذي. قال العلقمي في شرح الجامع الصغير: حديث: " الدعاء مخ العبادة " 2 قال شيخنا: قال في النهاية: مخ الشيء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين: أحدهما: أنه امتثال أمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60]، فهو محض العبادة وخالصها. والثاني: إذا رأى نجاح الأمور من الله تعالى قطع عمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده؛ وهذا أصل العبادة، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها، وهذا هو المطلوب من الدعاء.
وقوله: " الدعاء هو العبادة " 3، قال شيخنا قال الطيبي:
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 الترمذي: الدعوات (3371) .
3 الترمذي: تفسير القرآن (2969)، وابن ماجة: الدعاء (3828) .
أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء; وقال شيخنا: قال البيضاوي: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقة، التي تتأهل أن تسمى عبادة، من حيث يدل على أن فاعله مقبل على الله معرض عما سواه، لا يرجو إلا إياه ولا يخاف إلا منه، واستدل عليه بالآية، يعني قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، فإنها تدل على أنه أمر مأمور به، إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والسبب على المسبب؛ وما كان كذلك كان أتم العبادة. انتهى كلام العلقمي، رحمه الله.
وأجاب أيضاً: البناء على القبور بدعة محرمة، وعبادتها شرك، بالدلائل من الكتاب والسنة والإجماع؛ فالقباب إذا كانت تعبد فهي أوثان، كاللات والعزى ومناة، ولا نزاع في ذلك، وإن لم تعبد فبناؤها بدعة محرمة، وهدمها واجب; وذلك بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: عن أبي الهياج، قال:" قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، فأمر صلى الله عليه وسلم بهدمه في هذا الحديث، وجاء بلفظ النكرة وهي تعم كل قبر، سواء كان في مكة، أو في المقبرة المسبلة، وفي حديث جابر:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يكتب عليه "2. ففي هذه الأحاديث كفاية لمن كان واعياً.
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96، 1/128، 1/145) .
2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027، 2029)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/332، 3/399) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: اعلم، رحمك الله: أنه ورد من مصر جواب عن سؤال، وذلك الجواب يتضمن القول بجواز بناء المساجد على القبور، والتعلق بأرواح أربابها، وحصول البركات والمنافع بما يفيض عليه من تلك الأرواح، كما كان يعتقده عباد الأصنام المصورة بصور الملائكة والصالحين، فتعين علي وعلى أمثالي رد ذلك وإبطاله.
فأقول، مستعيناً بالله، طالباً في ذلك رضى الله وجزيل ثوابه: الحمد لله رب العالمين، الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الذي أجاب به هذا المجيب باطل من وجوه: أحدها: أن لفظة الاستظهار بأرواح الأموات، إنما أراد بها التعلق بالأموات والالتجاء والرغب إليهم، لكنه قصد بزخرف العبارة إضلالاً للعوام والجهال؛ فكم تحت هذه اللفظة من شرك، ومحادة لدين الله ولإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وقال تعالى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [سورة البينة آية: 5]، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3]، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [سورة الروم آية: 30] ؛ وإقامة الوجه هو:
إخلاص الدين له، وإفراده بجميع أنواع العبادة، كما ذكره المفسرون; والحنيف: المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه. وهذا الذي ذكره هؤلاء المنحرفون عن التوحيد، لا ريب أن الله تعالى لم يشرعه ولا رسوله، بل نهى عنه أشد النهي، كما سنذكره إن شاء الله. فقد أكمل الله لنا ديننا وأتم علينا نعمته، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ما شرعه الله من دينه أتم بيان، قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . وقد بين تعالى أصل دين الإسلام وأساسه، الذي تبنى عليه الأعمال وتصح به، كما قال تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة آية: 112] ، وما لم يشرعه الله فليس من دين الإسلام، كما في حديث عائشة الذي في الصحيحين:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "2. وقد بين صلى الله عليه وسلم ما شرعه في زيارة القبور، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة " 3. وقد شرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الدعاء للميت في الصلاة عليه وغيرها، لأنه محتاج لدعاء الحي، لانقطاع
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240، 6/270) .
2 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .
3 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571) ، وأحمد (1/452) .
عمله، وأما الاستظهار بروحه، فإنه لا يعرف له معنى غير ما عبر به المجيب عنه، من الرغبة إلى الميت والتعلق به، والالتجاء إليه؛ وذلك هو أصل دين المشركين، ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبداً. وهؤلاء الأموات ونحوهم، لا قدرة لأحد منهم على أن ينفع نفسه أو يدفع عنها، فضلاً عن غيره، كما قال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} الآية [سورة يونس آية: 106-107] ، والله هو المتفرد بالخلق والتدبير، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والميت غافل عاجز، لا يسمع ولا ينفع، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الآية [سورة الأحقاف آية: 5]، وقال تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} الآية [سورة فاطر آية: 13-14] . وقد قصر الله رغبة عباده عليه، بل كل العبادة بأنواعها، كما قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8]، وقال:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [سورة الزمر آية: 66] ؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص.
والشفعاء يوم القيامة لا يشفع أحد منهم إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] ؛ فهي ملكه، ويشفع من شاء فيمن شاء بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28]، وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سورة سبأ آية: 22-23] .
قال أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون: فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن؛ فالشفاعة لأهل الإخلاص بإذنه، ولا تكون لمن أشرك. وحقيقتها: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى ملخصاً.
وهو سبحانه لا يرضى من عبده إلا التوحيد الذي هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [سورةالأنعام آية: 162] . فهذا هو حكم الله الشرعي الذي حكم به على خلقه، بأن يصرفوا أعمالهم له وحده، دون كل من سواه؛ ولهذا قال:{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} ، وقال في سورة يوسف:{أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة يوسف آية: 40] . فالعبد وأعماله الظاهرة والباطنة، كلها ملك لله، لا يصلح أن يصرف منها شيء لغير الله؛ فإن صرف العبد منها شيئاً لغير الله فقد وضعه في غير موضعه، وذلك هو الظلم العظيم، كما قال:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] ؛ وأنفع ما للعبد في معاشه ومعاده: أن يوجه وجهه وقلبه إلى الله، ويجمع همته عليه في جميع مطالبه الدنيوية والأخروية، كما قال العارف بالله، الذي استنار قلبه بآيات الله وحججه وبيناته، شعراً:
وإذا تولاه امرؤ دون الورى
…
طراً تولاه العظيم الشانِ
فالعبد مضطر إلى الله الذي محياه ومماته له، فهو قبلة قلبه ووجهه، كما أخبر عن خليله عليه السلام أنه قال:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 79] . وإنما شرع الله ورسوله زيارة
القبور، لتذكر الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة " 1، أي: لتسعوا لها سعياً؛ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] ، فجعلوها محطاً للرحال، ومطلباً للآمال، ومعاذاً وملاذاً؛ وهذا هو الشرك الذي لم يشرعه الله، بل شدد النهي عنه والوعيد عليه، وأخبر أنه لا يغفره، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117]، وقال:{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37]، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ؛ وهي نكرة في سياق النهي فتعم.
فلو جاز الاستظهار بأرواح الأموات، كما قاله هذا الجاهل بالله وبدينه، لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة، اللذين هما معه لا يفارقانه بيقين، وهم كما وصف الله {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [سورةالأنبياء آية: 26-27] ؛ وهذا لا يقوله مسلم أصلاً، بل لو فعله أحد كان مشركاً بالله، فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة
1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571) ، وأحمد (1/452) .
الحاضرين، فلأن لا يجوز في حق أرواح الأموات التي قد فارقت أجسادها، لا يعلم مستقرها إلا الله أولى; قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22] . وأنت ترى أكثر الناس انصرفت قلوبهم عن فهم الحق ومعرفته بدليله، حتى تمكنت الشبهات منهم فظنوها بينات، فأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل; وهذا هو الواقع، لا يخفى على ذوي البصائر؛ وقد أنزل الله كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] .
الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر، فيما تواتر عنه، من النهي عن وسائل هذا التعلق والالتجاء بالأموات والرغبة إليهم، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد؛ وصرح طوائف من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، كأصحاب مالك والشافعي بالتحريم لذلك. وقد حكى شيخ الإسلام، رحمه الله، الإجماع على التحريم لذلك، وهو الإمام الذي لا يجارى في ميدان معرفة الخلاف والإجماع، لما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو
يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد! فإني أنهاكم عن ذلك " 1.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قاتل الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2. وفي رواية لمسلم: " لعن الله إليهود والنصارى " 3 الحديث. وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس، رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه:" لعن الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً؛ قوله:"خشي": تعليل لمنع إبراز قبره؛ فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله، وذلك لأن الفتنة بالصلاة عند القبور ومشابهة عباد الأوثان، أعظم من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقد نهى عن الصلاة في هذه الأوقات، سداً لذريعة التشبه بالمشركين، التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي تدعو فاعلها إلى الشرك، الذي أصله التعظيم بما لم يشرع والغلو فيها. وقد أخرج الإمام أحمد،
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .
2 البخاري: الصلاة (437)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530)، والنسائي: الجنائز (2047)، وأبو داود: الجنائز (3227) ، وأحمد (2/246، 2/284، 2/366، 2/396، 2/453، 2/518) .
3 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529)، والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) ، وأحمد (1/218، 6/34، 6/80، 6/121، 6/146، 6/228، 6/252، 6/255، 6/274، 6/275)، والدارمي: الصلاة (1403) .
4 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529)، والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) ، وأحمد (1/218، 6/34، 6/80، 6/121، 6/146، 6/228، 6/252، 6/255، 6/274، 6/275)، والدارمي: الصلاة (1403) .
وأهل السنن عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ; " 1؛ ومعلوم أن إيقاد السرج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصباً يوفض إليها المشركون، وكذلك اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين.
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث: أنه إذا لعن من فعل ما هو وسيلة إلى التعظيم والغلو، وإن كان المصلي عندها ومتخذها مساجد إنما وجه وجهه وقلبه إلى الله وحده، فكيف إذا وجه وجهه إلى أرباب القبور، وأرواح الأموات، وأقبل عليها بكليته، وطلب النفع منها من دون الله؟ فإنه قد صرف ما هو من خصائص الربوبية، لمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. فمن جعل لله شريكاً يلتجئ إليه ويعلق به قلبه، ويوجه إليه وجهه، ويرغب إليه دون الله، فقد جعل لله نداً، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه:" قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك " 2 الحديث.
وقد بين تعالى في كتابه دينه الحنيف، فيما ذكر عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78-79] ، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ
1 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229، 1/287، 1/324، 1/337) .
2 البخاري: الأدب (6001)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182، 3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013، 4014)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380، 1/431، 1/434، 1/462، 1/464) .
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] ؛ وبهاتين الآيتين وأمثالهما في القرآن، يميز المؤمن دين المرسلين من دين المشركين: فإقامة الوجه لله بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها هي دين المرسلين، وتوجيه الوجه بشيء من أنواعها لغير الله، هو الشرك الذي لا يغفره الله.
وتدبر قول الله تعالى، في وصف أهل الإخلاص:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] ، فالرغبة والرهبة والخشوع، وغير ذلك من أنواع العبادة، كالمحبة والدعاء والتوكل ونحو ذلك، مختص بالله تعالى، لا يصلح منه شيء لغيره كائناً من كان. وتأمل قوله تعالى:{وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، فإنه ظاهر بأن ذلك الخشوع ونحوه مختص بالله تعالى، كما ذكر اختصاصه بالعبادة عموما، في قوله:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] .
ولا يخفى أن هذا المجيب، قد صرف جل العبادة ومعظمها لغير الله، وقد قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرّعد: 14]، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ
خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] ؛ فالخبير سبحانه وتعالى أبطل الأكاذيب الشيطانية، والتعلقات الشركية في هذه الآية ونظائرها، فتدبر إن كنت للتوحيد طالباً، وفي دين المرسلين راغباً.
وقد أجرى الله سبحانه العادة، بوقوع الأمراض العامة والمصائب العظام، في كل مدينة فيها بعض قبور الأولياء والصالحين، فلا يجد أهلها تأثيراً للتعلق بهم في دفع ما أنزل من تلك المصائب؛ وذلك برهان على أن الميت لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عمن تعلق به شيئاً، كما قال تعالى:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر آية: 38] .
الوجه الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته أن يجعلوا قبره عيداً، أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم "1. وأخرج أبو يعلى في مسنده، والحافظ الضياء في المختارة، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284، 2/337، 2/367، 2/378، 2/388) .
أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم "1.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه: عن سهل بن سهيل قال: "رآني الحسن بن الحسين بن علي، رضي الله عنهم عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلم إذا دخلت المسجد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر "، " لعن الله إليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، " وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 3؛ ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء. فهذا علي بن الحسين أفضل التابعين من أهل البيت، والحسن بن الحسين سيد أهل البيت في زمانه، لم يفهما من نهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" لا تتخذوا قبري عيداً " 4 إلا نهي أمته عن اعتياد المجيء إلى قبره وملازمته، لأن الصلاة عليه تبلغه صلى الله عليه وسلم من المصلي، وإن كان بعيداً عن قبره.
ولما في ذلك النهي من سد الذريعة عن العكوف عند القبر وتعظيمه بما لم يشرع ; والعكوف: عبادة شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم في المساجد، تقرباً بها إلى الله، فلا يجوز أن يفعل ما هو مشروع في المساجد عند القبر، فإن الملازمة والعكوف عندها ذريعة قريبة إلى عبادتها، فتعظيمها بما لم
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780)، والترمذي: فضائل القرآن (2877)، وأبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
2 البخاري: المغازي (4441)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218، 6/34، 6/80، 6/121، 6/146، 6/252، 6/255، 6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284، 2/337، 2/367، 2/378، 2/388) .
4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780)، والترمذي: فضائل القرآن (2877)، وأبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
يشرعه الله ورسوله غلو، والغلو أعظم وسائل الشرك.
والذي فهمه هذان السيدان الجليلان، هو الذي فعله السابقون الأولون، من المهاجرين والأنصار؛ فإن الثابت عنهم المتواتر أنهم كانوا إذا دخلوا المسجد، صلوا على النبي، وسلموا، واكتفوا بذلك عن المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم وذلك لعلمهم بما شرعه الله ورسوله. " وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا قدم من سفر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم على أبي بكر، ثم على أبيه ثم انصرف "؛ فهذا حال الصحابة رضي الله عنهم، وهم أشد الناس تمسكا بالسنة، وأعلم الناس بما يجوز وما لا يجوز.
قال شيح الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، رحمه الله تعالى: ووجه الدلالة من هذا الحديث، أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى. قال: والعيد ما يعتاد قصده ومجيئه، من مكان أو زمان. وقال ابن القيم، رحمه الله: وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبهاً من اليهود بالتحريف، وشبهاً من النصارى بالشرك، مراغمة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلباً للحقائق، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة دون الشرك، أقل إثماً وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:" لا تجعلوا قبري عيداً " 1 الأمر بملازمة قبره واعتياد قصده، لما نهى عن اتخاذ قبور
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284، 2/337، 2/367، 2/378، 2/388) .
الأنبياء مساجد، ولعن من فعل ذلك، ولما قال ذلك أعلم الخلق به: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، انتهى.
قلت: وفي هذه الأحاديث ما يبطل هذا التحريف الذي أشار إليه العلامة، كتحريف شارح المشارق، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تتخذوا قبري عيداً " 1 مسبوق وملحق بما يبين معناه، كقوله:" وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 2، وكقوله في الحديث الذي رواه الحسن بن الحسين " لعن الله إليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3، وغير ذلك مما هو ظاهر، يبين مراده صلى الله عليه وسلم أنه خشي على أمته تعظيم القبور والغلو فيها، كما في الموطإ عن عطاء بن أبي رباح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4؛ وهذا الحديث صريح في بيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالجملة الأولى من الحديث، والجملة الثانية، حَمَى صلى الله عليه وسلم حِِمَى التوحيد، ومثل هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله "5.
[من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور]
فقد عرفت مما تقدم: أن من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور والعكوف عندها؛ ولا ريب أن ذلك يفضي إلى الالتجاء إليها، والتعلق بها، والرغبة إليها، ونحو ذلك من المحبة، وخطابها بالحوائج، وغير ذلك مما لا يمكن عده،
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780)، والترمذي: فضائل القرآن (2877)، وأبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284، 2/337، 2/367، 2/378، 2/388) .
3 البخاري: المغازي (4441)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218، 6/34، 6/80، 6/121، 6/146، 6/252، 6/255، 6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
4 مالك: النداء للصلاة (416) .
5 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23، 1/24) .
كالخشوع، والبكاء والنحيب، رغبة ورهبة إليها، وهذا هو العبادة التي قصرها الله تعالى عليه، دون كل ما سواه، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة الأنبياء آية: 108]، وقوله:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [سورة البقرة آية: 138]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الآيات [سورة الحج آية: 71] .
فتدبر هذه الآيات، وما فيها من البيان والحجة القاطعة على أن كل من وجه وجهه وقلبه إلى غير الله، فهو مشرك شركاً ينافي الإخلاص، وتأمل ما فيها من اختصاص الرب تعالى بجميع أنواع العبادة، كالالتجاء والتعلق والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ والله المستعان.
ولقد أحسن العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، في كافيته، إذ يقول شعراً:
ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه
…
فعل النصارى عابدي الصلبانِ
ولقد نهانا أن نصيِّر قبره
…
عيداً حذار الشرك بالرحمانِ
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي
…
قد ضمه وثناً من الأوثانِ
فأجاب رب العالمين دعاءه
…
وأحاطه بثلاثة الجدرانِ
حتى غدت أرجاؤه بدعائه
…
في عزة وحماية وصيانِ
ولقد غدا عند الوفاة مصرحا
…
باللعن يصرخ فيهمُ بأذانِ
وعنى الألى جعلوا القبور مساجدا
…
وهم إليهود وعابدو الصلبانِ
والله لولا ذاك أبرز قبره
…
لكنهم حجبوه بالحيطانِ
قلت: والآيات المحكمات أصرح شيء وأوضحه، في بيان حقيقة الشرك في الإلهية، وهو صرف العبد شيئاً من أنواع العبادة التي يصلح التقرب بها إلى الله، فيتقرب بها إلى غيره؛ فإن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى ومختصة به. وكذلك هذه الأحاديث المذكورة ونحوها، أبين شيء وأجلاه في تحريم وسائل هذا الشرك؛ لكن الكثير من متأخري هذه الأمة، وقعوا في هذا الشرك، لما طال عليهم الأمد، وأبعدوا عن عصر سلف هذه الأمة، وزمن أتباعهم من الأئمة الذين أجمع العلماء من أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم؛ فانتشرت البدع بعدهم، والتبس الحق بالباطل، بظهور علم الكلام والفلسفة، فيا لها مصيبة ما أعظمها!
فلما استمكنت أصول تلك البدع في قلوب من ينتسب إلى العلم من المتأخرين، حاولوا صرف المعنى الذي دلت عليه النصوص، وأراده الله ورسوله بالنهي عنه والتغليظ فيه، إلى ضروب من التحريف، فراراً من أن يدخل الواقع منهم تحت ذلك النهي؛ فلما لبسوا لبس عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الوجه الرابع: أن هذا الذي يدعيه المجيب، من الاستظهار بأرواح أصحاب القبور، لا حقيقة له؛ فإنه اعتقاد فاسد من تضليل الشيطان لجهال الأمة، وإلا فمن أين لهذا المدعي أن الأرواح تنْزل كذلك؟! وقد عرفت أن التعلق بها وعبادتها شرك بالله؛ وهذا من التخييلات الشيطانية الشركية بلا ريب، نظير ما ادعاه المشركون في قولهم في معبوداتهم:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ، فأكذبهم الله في دعواهم هذه، وبين أنه لا حقيقة لها، وأن اتخاذهم شفعاء من دون إذنه شرك نزه نفسه عنه.
ونظائر هذه الآية في القرآن كثير، كقوله تعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} الآية [سورة الرعد آية: 33] ، فأخبر تعالى عن أهل الشرك أنهم يدعون في معبوديهم أشياء لا حقيقة لها في الخارج أصلاً، وإنما هي تصورات وخيالات ذهنية شيطانية، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] ، وقوله:{أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة النمل آية: 64] .
ولقد بين تعالى في كتابه دينه وأمره الشرعي في آيات كثيرة، من ذلك ما ذكر عن نبيه يوسف عليه السلام، من قوله:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاَّّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 39-40] .
وقد عرفت مما تقدم: أن الله تعالى قصر أنواع العبادة من خلقه عليه، ولم يأذن لهم أن يصرفوا منها شيئاً لغيره أصلاً، كما في فاتحة الكتاب:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ وتوحيد الإلهية من اسمه تعالى، فهذا الاسم الأعظم دل على أنه سبحانه هو المألوه المعبود، كما ذكر في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس قال:" معنى الله: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ".
فمن تدبر هذه الآيات ونظائرها، علم أن هؤلاء القبوريين المفتونين بالأموات، قد خالفوا ما أمرهم الله تعالى به من إفراده بالألوهية والعبودية الخاصة له، فتألهت قلوبهم غيره، وتعلقت أفئدتهم بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قال الله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ، وتقدمت.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] . فتأمل هذه وما فيها من البيان والبرهان، على ضلال من وجه وجهه وقلبه لغير الله بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ وهذا لا يخفى إلا على من عميت بصيرته، وضل سعيه وفسد فهمه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
الوجه الخامس: أن المجيب ومن يقول بقوله، إنما وجهوا وجوههم وقلوبهم إلى أرواح الأموات، وقد فارقت تلك الأرواح أجسادها لا يعلم أين صارت، ولا إلى ما صارت إلا الله، إلا ما ورد أن أرواح الشهداء والسعداء تسرح في الجنة؛ وقد جعل الله موتهم دليلاً وبرهاناً على بطلان عبادتهم، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22] .
ولا ريب أن من له بصيرة يعلم أن الميت لا شعور له بحاله، فكيف بغيره؟ وقد تقدم دليله؛ فبطل بهذه الآيات المحكمات وما في معناها، كل ما تعلق به المشركون من طلب وأمل ورجاء ورغبة صرفوه لغير الله، وبين تعالى أن ذلك يعود عليهم وبالاً في الدار الآخرة؛ نعوذ بالله من ضلال السعي والخيبة والخسران، ولقد أحسن من قال شعرا:
يقضى على المرء في أيام محنته
…
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ
الوجه السادس: أن المجيب أجاب بما يخالف مطلوب السائل، فإن السائل إنما طلب منه قول الأئمة الذين يرجع إليهم في أصول الدين وفروعه، ممن أجمع أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم، وعلمهم وصدقهم، وتمسكهم بالحق، وهم كثيرون في القرون المفضلة وبعدها، ولم يسأله عن قول من لا يعرف بعلم ولا ثقة، ولا صدق ولا عدالة؛ والكلام الذي نقله عن المجيب من شرحه، كلام محرف للسنة، قد دخل في الكلام المذموم والفلسفة؛ ومثل هذا لا يحتج بقوله من له أدنى فهم ومعرفة بأحوال العلماء.
فسبحان الله يا هذا! كيف تقلد في دينك من لا يعرف بعلم ولا صدق وأمانة وعدالة؟!
فما أكثر من اغتر بأقوال من هو مثله، ممن أخذ عن أرباب البدع! فهلا أجبته بأقوال الصحابة والتابعين، كالفقهاء السبعة، وكالزهري، والحسن، وابن سيرين، والحمادين، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والأئمة الأربعة، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي عبيد، ومحمد ابن نصر المروزي، وابن جرير الطبري، وأبي عمر ابن عبد البر النمري صاحب التمهيد والاستذكار، وأمثال هؤلاء من أئمة الإسلام، أهل العروة الوثقى، فإنهم بحمد الله كثيرون في الأمة، يعرفهم من له إلمام بالعلم والعلماء والفضل والفضلاء؛ ومعاذ الله أن تجد في كلام هؤلاء وأمثالهم، من
يجوز تعلق القلب والهمم والإرادات بغير الله، سبحان الله وتقدس عن الشرك في الإرادات والنيات والأعمال.
ولو قيل لهذا المجيب: عرفنا بشارح المشارق هذا ومن ذكره من المصنفين من أهل الجرح والتعديل، لم يجد إلى ذلك من سبيل؛ وعلى كل حال، فليس في كلامه حجة ولا دليل، فإن كلامه يعرف بحقيقة حاله، والحجة التي لا تعارض ولا تدافع إنما هي فيما قال الله ورسوله، وما كان عليه المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، قبل حدوث البدع وتشعب الأهواء واختلاف الآراء، قال الله تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} [سورة آية: 116-117] .
ولا يخفي على من له دين والمام بالعلم النافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك الأكبر والأصغر؛ فقد ثبت عنه أنه لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال:" أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده "1. وفي المسند عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها! فإنها لا تزيدك إلا وهناً; فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً " 2. فانظر إلى
1 أحمد (1/214) .
2 ابن ماجة: الطب (3531) ، وأحمد (4/445) .
هذه العقوبة العظيمة، لمن علق قلبه بحلقة دون الله. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من تعلق شيئاً، وُكل إليه " 1، أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة. ولأحمد عن عقبة بن عامر:" من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " 2، وفي رواية:" من تعلق تميمة فقد أشرك "3.
[التعلق بأرواح الأموات]
ومن المعلوم أن التعلق بأرواح الأموات، أعظم شركًا من تعليق التمائم؛ وهذا لا يخفى على من له بصيرة في الدين، فإن الفتنة بها أعظم، والتعلق بها أشد. والعبادة عبادة حيثما صرفت، فإن قصرت على المستحق لها وهو الله فهو التوحيد، وإن صرف منها نوع فأكثر لغير الله فهو شرك بالله، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] .
والصحابة، رضي الله عنهم، قد تمسكوا بما علموه من حال نبيهم صلى الله عليه وسلم من تحقيق التوحيد وحمايته عن الشرك؛ فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى، فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] ".
ومن المعلوم: أن الشرك في عصر الصحابة، رضي الله عنهم، كان قليلاً جداً، فإذا رأوا شيئاً منه أعظموه وأنكروه، وحذيفة رضي الله عنه استدل بهذه الآية الكريمة، على أن هذا شرك بالله؛ فأين هذا مما وقع فيه أكثر الناس اليوم، من طلب
1 الترمذي: الطب (2072) .
2 أحمد (4/154) .
3 أحمد (4/156) .
النفع ودفع الضر من الأموات، الذين لا إحساس لهم بما يطلبه الداعي منهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم؟! وأما التابعون للصحابة وأتباعهم، فإنهم سلكوا سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبدوا وأعادوا في إنكار ما حدث من الشرك،؛ فقد ثبت عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال:" من قطع تميمة من إنسان، كان كعدل رقبة ".
فانظر إلى هذا التشديد من هذا الإمام في تعليق التميمة، فأين هذا مما قرر المجيب جوازه، من التعلق بأرواح الأموات، التي لا يعلم مستقرها إلا الله، ولا تنفع ولا تضر. {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 71] .
وقد عرفت: أن الإسلام لرب العالمين، هو إسلام الوجه والقلب بإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى؛ فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله.
قال الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} الآيات [سورةالروم آية: 28-30] .
فيا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للشرك! والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 57-58] .
ولقد أحسن من قال في بيان التوحيد، أي: توحيد الإلهية، شعراً:
فالقصد وجه الله بالأقوال والـ
…
أعمال والطاعات والشكرانِ
فبذاك ينجو العبد من إشراكه
…
ويصير حقاً عابد الرحمنِ
وبهذا يعلم: أن الشرك بالله مسبة لله وتنقص له، ورغبة عنه إلى غيره، وهضم لربوبيته تعالى؛ فعظم هؤلاء الجاحدون لتوحيد الله مخلوقه وعبده، بتنقصهم لله تعالى ومسبتهم له، بزعمهم أن معبوديهم صالحون وأولياء، فأنزلوهم بمنْزلة الله وسلبوا لهم حقه؛ والنبي والصالح حقه متابعته فيما هو فيه من التوحيد والعمل الذي صار به صالحاً، فلم يقتدوا بهم في الدين ولا في العمل، فأخذوا حقهم من الاقتداء بهم في الدين واتباعهم، وصرفوه لجهال المتفلسفة ومن أخذ عنهم، كشارح المشارق، وأمثاله من المحرفين.
الوجه السابع: إنما يبين خطأ المجيب وضلاله، مع ما تقدم من الأوجه، ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي واقد الليثي، قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} لتركبنّ سنن من كان قبلكم ".
وفي هذا الحديث من الفوائد: أن التبرك بالاشجار ونحوها شرك وتأله بغير الله، ولهذا شبه قولهم: اجعل لنا ذات أنواط، بقول بني إسرائيل:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} ومنها: أن حقيقة الشيء لا تتغير بتغير الاسم. ومنها: خطر الشرك والجهل، فكادوا أن يقعوا في الشرك لما جهلوه؛ فإذا كان هذا في عهد النبوة وإقبال الدين، فكيف لا يقع بعد تقادم العهد وتغير الأحوال، واشتداد غربة الدين؟ ومنها: مشابهة هذه الأمة بأهل الكتاب فيما وقع منهم، كما في الحديث الآخر:" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال فمن؟ "1.
1 البخاري: إلاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84، 3/89) .
فإذا تبين أن التعلق بالاشجار ونحوها عبادة لها من دون الله، ووضع للعبادة في غير موضعها، فلا فرق بين أن يصرف لشجرة أو قبر أو غير ذلك. ومعلوم أن الشجر له حياة بحسبه، مطيع لربه يسبح بحمده، وما عبدت اللات والعزى ومناة إلا بمثل ذلك التعلق والاعتقاد، قال مجاهد:" اللات كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره "، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء "1. فقد والله اشتدت غربة الإسلام، حتى عاد الشرك بالله ديناً وقربة يتقرب به إلى الله؛ وهو أعظم ذنب عصى الله به، كما قال تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31] .
الوجه الثامن: أن هذا الذي أجازه هذا المجيب، هو بعينه قول الفلاسفة المشركين؛ فإنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله، لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه، فاض من روح المزور على روح
1 الترمذي: الإيمان (2629)، وابن ماجة: الفتن (3988) ، وأحمد (1/398)، والدارمي: الرقاق (2755) .
الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له; قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بوجهه وقلبه وروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، وبوجهه وقصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره؛ وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له.
قال ابن القيم، رحمه الله: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه، ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عُبَّاد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة، بالأرواح العلوية، فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها؛ وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شِقّ، وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور، هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة بقرب من السلطان،
فهو شديد التعلق به فيما يحصل لذلك من السلطان، من الإنعام والإفضال، وينال ذلك المتعلق منه بحسب تعلقه؛ وهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وأوجب لهم النار؛ والقرآن من أوله إلى آخره، مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. انتهى.
قلت: وتأمل ما ذكره الله في سورة {يس} ، من قوله:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآية [سورة يس آية: 20-24] ؛ ففي هذه الآية العظيمة وما في معناها، ما يكفي ويشفي في إبطال هذا المذهب الخبيث، من تعلق أهل الإشراك بغير الله، وافترائهم على الله، وإضلالهم العباد عن توحيد الله والتوجه إليه وحده بالاخلاص الذي هو دينه الذي لا يرضى لعباده ديناً سواه، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 2-3] .
ففرق تعالى في هذه الآية، بين دينه الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ودين هؤلاء المشركين، الذي أنكره عليهم وأكذبهم فيما زعموه، وكفرهم بما انتحلوه واعتمدوه، من الشرك العظيم الذي لا يحبه ولا يرضاه، وينكره ويأباه، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [سورة البقرة آية: 165-166]، والأسباب هي: الوصل والمودة التي كانت بين العابد والمعبود، أخبر سبحانه أنها تنقطع يوم القيامة، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] ؛ فهذا ما يؤول إليه أمر هؤلاء المشركين يوم القيامة. ونظائر هذه الآية كثير في القرآن، كقوله تعالى:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [سورة العنكبوت آية: 25] .
فتأمل ما يؤول إليه أمر أهل هذه التوجهات، والتعلقات بغير الله، من كفرهم بمن تعلقوا عليهم، ولعنهم لهم، وجزاءهم عند الله بعذاب النار وغير ذلك مما أخبر به تعالى عن أحوالهم. فلا شافع يشفع لهم ولا ناصر ينصرهم؛ فعادت
تلك التعلقات الشركية والهمم الشيطانية، والأماني الكاذبة عليهم حسرة ووبالاً. هذا ما تيسر تعليقه بحمد الله، في هدم أصول هؤلاء المشركين، وفيه الكفاية لمن نور الله قلبه. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه: وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر التي بني عليها القباب، وأوقدت فيها المصابيح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن إليهود والنصارى، وقال:" ألا لعنة الله على إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وقال:" لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج "1. وبناء القباب على القبور وإسراجها، وسيلة إلى عبادتها والخضوع لها، والتذلل والتعظيم، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله.
وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطإ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2.
1 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229، 1/287، 1/324، 1/337) .
2 مالك: النداء للصلاة (416) .
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، فهذا شيء يسير من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة، في وجوب هدم القباب والبنايات التي على القبور، وبيان أنها من أعظم الوسائل والذرائع المفضية إلى الشرك، ونحن ولله الحمد في ذلك متبعون لا مبتدعون، وقد أكمل الله لنا الدين، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3]، وقال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً "، وقال صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وفي لفظ لمسلم:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد "2.
إذا تبين ذلك: فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة، التي لا مطعن فيها ولا مغمز، شاهدة بأن وضع القباب والبنايات على القبور والكتابة عليها، وتجصيصها، واتخاذها مساجد، وإسراجها، أمر تقرر في الشرع منعه، وسبق الحكم الجازم بالنهي عنه، والكف عن ارتكابه، ومضت كلمة الحق بسد ذريعته، ظناً بنا أن نسلك سنن من قبلنا؛ وإذا تأمل الناظر أعيان ما صح فيه النهي من الشارع في هذا الباب، ثم نظر إحصاء هذه الأمم وارتكابها وتلوثها
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240، 6/270) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73، 6/146، 6/180، 6/240، 6/256، 6/270) .
بأدرانها، وتهالكها على مناقضة كل نهي من تلك المناهي، بفعل عين المنهي عنه، طال تعجبه كون هذه الخلوف ضلت عن ذلك الرشد الأسعد، فعمدوا إلى كل ما نهوا عنه فواقعوه، كأنهم كشفوا واستقصوا بالاستقراء والتتبع، حتى أتوا على مشخصات ما نهى عنه الشارع، فلا شك صدق التأمل أن القوم سلكوا في العمل مسلك المضادة الوافية، ثم زادوا زيادة في درك النكال كافية.
وهذا نص الأحاديث الواردة في ذلك: قال الإمام الحجة الحافظ، إمام الدنيا في الحديث، أبو عبد الله البخاري، في جامعه الصحيح: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عتبة، أن عائشة وعبد الله بن عباس، قالا:" لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، يحذر ما صنعوا. حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قاتل الله إليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2. انتهى بلفظه من كتاب الصلاة.
فتأمل هذه القباب، وما أعد فيها من المحاريب والفرش، ومصاحف التلاوة، واعتياد الصلاة فيها، والتردد إليها في الأوقات للذكر والدعاء والاعتكاف، وما يطول
1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218، 6/34)، والدارمي: الصلاة (1403) .
2 البخاري: الصلاة (437)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530)، والنسائي: الجنائز (2047)، وأبو داود: الجنائز (3227) ، وأحمد (2/246، 2/284، 2/366، 2/396، 2/453، 2/518) .
تعداده، هل لاتخاذ القبور مساجد معنى سوى هذا الذي تقضي الضرورة بأنه عينه؟ بل كثيراً ما وجدنا القباب والمشاهد، أحيا كثيراً من المساجد، فالله المستعان.
وقد ثبت في الصحيحين والسنن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور، وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه، حيث قال وساق بسنده إلى أبي الهياج الأسدي، قال:" قال علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وساق بسنده إلى جابر، قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه "2. قال هارون بن سعيد الأيلي: قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن ثمامة حدثه قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها " 3.
وقال الترمذي: في جامعه باب ما جاء في تسوية القبور، وساق بسنده إلى وائل بن حجر، أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي:" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته " 4، قال: وفي الباب عن جابر، باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها، وساق بسنده إلى
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96، 1/128، 1/145) .
2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027) ، وأحمد (3/295، 3/332، 3/399) .
3 مسلم: الجنائز (968)، والنسائي: الجنائز (2030)، وأبو داود: الجنائز (3219) ، وأحمد (6/18، 6/21) .
4 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96، 1/111، 1/128، 1/150) .
جابر، قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور " 1، وساق بسنده إلى جابر قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء " 2، وساق بسنده إلى أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبنى على القبور "3. وقد روى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 4، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها كما تقدم في صحيح مسلم; وقال أبو عيسى الترمذي: باب ما جاء في تجصيص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ، وقال أبو داود: باب البناء على القبور، وساق بسنده إلى جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص ويبنى عليه " 5. انتهى. ولو ذهبنا نستقرئ ما ذكر أئمة السنة، وحفاظ الحديث في هذه المسألة، وما رووه في المساند والمجامع والمعاجم، والجوامع والسنن والأجزاء، والتفاسير الأثرية، لاتسع النطاق، وضاق عن الاستيعاب الخناق، وتصدى المرء في ذلك لما يتعسر أن يطاق. وفيما ذكرنا وفاء بالمقصود ووفاق، وأقل منه يكفي عند الفطناء الحذاق. فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ترى فيما تقدم آنفاً، وقد قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3]، وقال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} الآية [سورة المائدة آية: 49]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
1 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2029)، وأبو داود: الجنائز (3225)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/295، 3/332، 3/339) .
2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1563) .
3 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1564) .
4 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/332) .
5 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2029)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562، 1563) ، وأحمد (3/332) .
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59]، وقال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50]، وقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] ، إلى غير ذلك من الآيات التي أمر الله فيها باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه؛ وقد قال الإمام الشافعي، رحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس كائناً من كان.
وأما أقوال أئمة المذاهب، ومن على منهاجهم من أتباعهم، فقال النووي في شرح مسلم: قال الشافعي، رحمه الله، في الأم: رأيت الأئمة كلهم بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور، ويؤيد الهدم قوله:" ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وقال الأذرعي في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم: النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية باطلة. قال الأذرعي: والوجه في تحريم البناء على القبور، المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار، والتحريم ثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليه، فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب ممن يلزم
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/89، 1/96، 1/111، 1/128، 1/138، 1/139، 1/145، 1/150) .
الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك. انتهى كلام الأذرعي.
وقال ابن القيم، رحمه الله، في زاد المعاد في هدي خير العباد: لما أسلم أهل الطائف، وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان ابن حرب، والمغيرة بن شعبة يهدمانها - إلى أن قال - فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان ابن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فهدماها.
ثم قال في فقه هذه القصة: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر
والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها؛ والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة؛ نشأ على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. انتهى.
ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم، أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأعياداً، وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها، واستلامها وتقبيلها ونحو ذلك، غض من قدر أصحابها وتنقيص لها، كما يحسبه الضلال، بل ذلك من إكرامهم، ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه،
فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم، وهؤلاء المشركون، من أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم، كالنصارى مع المسيح، والروافض مع علي؛ فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أهل مكة وغيرهم، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وهم يبنون عليها القباب العظيمة، والذي شوهد عند دخول المسلمين مكة أكثر من ثلاثمائة قبة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وهم يزيدون عليها غير التراب، التابوت ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها، والذي رأى المسلمون ليلة دخولهم مكة المشرفة في المقبرة أكثر من مائة قنديل، هذا مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله؛ فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1، رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله، وأشد تحريما: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وهو دعاء المقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. نسأل الله أن يطهر حرمه من
1 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229، 1/287، 1/324، 1/337) .
الشرك; ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد وكشف الشدائد، من الشرك الأكبر الذي كفّر الله به المشركين، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة شهيرة.
إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر، وإنما شرع لنا عند زيارة القبور تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، كما في صحيح مسلم عن بريدة، قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية "1. وعن عائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 2، رواه مسلم؛ وإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعوه، ونشفع له، لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى؛ فبدل أهل الشرك قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها الرسول الله صلى الله عليه وسلم
1 مسلم: الجنائز (975)، والنسائي: الجنائز (2040)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547) ، وأحمد (5/353، 5/359) .
2 مسلم: الجنائز (947)، والترمذي: الجنائز (1029)، والنسائي: الجنائز (1991) ، وأحمد (3/266، 6/32، 6/40، 6/97، 6/231) .
إحساناً إلى الميت سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة "1.
وإذا ثبت أن الدعاء هو العبادة، فصرفه لغير الله شرك؛ فمن دعا مع الله أحداً من الخلق فقد أشرك به شاء أم أبى، كأن يقول: يا رسول الله، يا كعبة الله، يا مقام إبراهيم، أو يدعو أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين، فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48]، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72]، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6]، وَقَالَ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
إذا تحققت ذلك، فقد قال شيخ الإسلام في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مرق من الإسلام مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب، منها: الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح؛ فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فبعث الله رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عباده، ولا دعاء مسألة.
وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم، كفر إجماعاً. انتهى. و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [سورة الأعراف آية: 43] .
[كتب اسم الميت على القبر]
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كتب اسم الميت على القبر؟
فقال: داخل في عموم النهي
عن الكتابة على القبر، وأما جعل العلامة على القبر فلا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم " علم على قبر عثمان بن مظعون بحجر، جعله علماً عند رأسه "1.
[نبش قبر المسلم]
سئل ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر: عن قبر رجل صالح اتخذ وثناً، هل يوجب ذلك نبشه؟
فأجابوا: نبش قبر المسلم لغرض غير صحيح لا يجوز، فإن كان لغرض صحيح جاز؛ والغرض مثل: أن يدفن ولم يوجه إلى القبلة، أو لم يغسل، أو لم يكفن، فهذا يجوز نبشه لذلك، لما روي عن معاذ:" أنه نبش امرأته فكفنها "، وطلحة بن عبيد الله " نبشته ابنته لما خافت عليه من النداوة "، وحولت عائشة من قبرها، روي ذلك عن أحمد. ومن الأغراض المبيحة للنبش: إذا وقع في القبر مَالٌ، نُبِشَ وأخرج المال، هذا إذا كان صاحب القبر مسلماً.
وأما الكافر فلا حرمة له، ولا دليل مع من منع من نبش قبره، بل الدليل مع من لم يمنع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبش قبور بعض المشركين، وجعل مسجده موضعها. وإن كان المنبوش قبره كأحد هؤلاء الشياطين الطواغيت، الذين نصبوا العدوان لرب العالمين، ودعوا إلى عبادة أنفسهم كأبي عائشة وأمثاله من جند إبليس، امتنع الإنكار على من نبش قبره وإن لم يؤمر بنبشه؛ فإن الذين نبشوه من عوام
1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1561) .
المسلمين الذين لا علم لهم بمسائل الفروع، ولم يفت لهم به أحد من علماء المسلمين فيما علمنا. وقول القائل: إن حرمة قبر المسلم من الثرى إلى الثريا، فلا نعلم لهذا أصلاً.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لو دفن قبل الغسل من أمكن غسله، لزم نبشه إن لم يخف تفسخه أو تغيره، ومثله من دفن غير موجه إلى القبلة، أو قبل الصلاة عليه، أو قبل تكفينه. وذكر في المبدع ثماني صور في نبشه - إلى أن قال - قال في الشرح: فإن تغير الميت لم ينبش بحال.
[الدفن ليلاً]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الدفن ليلاً؟
فأجاب: أما الميت إذا مات في الليل، فيجوز تأخير دفنه إلى النهار إذا لم يخش عليه، وعلي " دفن فاطمة ليلاً "، وعن ابن عباس:" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً فأسرج له سراج، فأخذ من قبل القبلة، وقال: رحمك الله أن كنت تلاء للقرآن " 1، رواه الترمذي. قالوا: ولكن الدفن بالنهار أولى، لأنه أسهل على متبعي الجنازة، وأكثر للمصلين عليها، وأمكن لاتباع السنة في دفنه وإلحاده. وأما قولك: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله، فهذا إذا لم يكن عذر.
لمس القبر أو قصده للدعاء عنده
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: لمس القبر أو قصده للدعاء عنده، ليس من دين المرسلين؟
1 الترمذي: الجنائز (1057) .
فأجاب: هذا هو الصواب بلا ريب، وكون الشارح ذكر كلام الحربي أن قبر "مَعْرُوفٍ" الترياق المجرب، فهذا لا ينكر، لأن العلماء يذكرون في المسألة القولين أو أكثر، ويرجحون الراجح، أو يتوقف بعضهم، ولكن كلام الشيخ عند كلام الحربي مخالف له منكر له; لكن ليكن منك على بال ما أخرجاه في الصحيحين:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله، وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله. فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة "1.
فتدبر هذا، وأرعه سمعك وأحضر قلبك، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يدعوهم إلى الصلوات الخمس إلا إن استجابوا للتوحيد، فكيف بمن لا يهمه في دينه إلا بعض مسائل إلاجتهاد؟ مع ما يراه من سب الناس للتوحيد، واستحلالهم دم من دان به ومالهم، ودعوتهم إلى الشرك الأكبر، ودعواهم أن أهله السواد الأعظم، ثم مع هذا إذا أخذهم السيف كرهاً، قالوا: ما خالفنا، والناس يكذبون علينا وعرفنا الكذب، وإلا جميع ما جرى لهم لم يقروا به ولم يتوبوا منه، والرسول صلى الله عليه وسلم هذه وصيته لمعاذ، فالله الله! فالله الله! في تدبر هذا الحديث، وتدبر ما عليه أعداء الله من العداوة للتوحيد.
1 البخاري: التوحيد (7372)، ومسلم: الإيمان (19) .
وأما المسائل التي ذكر في الجنائز، من لمس القبر، والصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء، وكذا وكذا، فهذا أنواع; ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لعن الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1. وذكر العلماء التغليظ في هذه الأمور، لأنه يفتح باب الشرك، كما أن أول ما حدث في الأرض بسبب ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، لما عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم يتذكرون بها الآخرة، ثم بعد تلك القرون عبدوها، فكذلك في هذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 2.
فأول ما حدث: الصلاة عند القبور، والبناء عليها من غير شرك، ثم بعد ذلك بقرون وقع الشرك، وأول ما جرى من هذا: أن بني أمية لما بنوا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم واشتروا بيوتاً حوله، ولم يكن إدخال بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه قبره وقبر صاحبيه مرادهم، ولكن أدخلوا البيت في المسجد لأجل توسيع المسجد، لم يقصدوا تعظيم الحجرة بذلك، ولكن قصدوا توسعة المسجد، ومع هذا أنكره علماء المدينة، حتى قتل خبيب بن عبد الله بن الزبير بسبب إنكاره ذلك؛ فانظر إلى سد العلماء الذرائع.
وأما النذر له، ودعاؤه، والخضوع له، فهو من الشرك
1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529)، والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) ، وأحمد (1/218، 6/34، 6/80، 6/121، 6/146، 6/228، 6/252، 6/255، 6/274، 6/275)، والدارمي: الصلاة (1403) .
2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84، 3/89) .
الأكبر; وتأمل ما ذكره البغوي في تفسير سورة نوح، في قوله:{لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً} الآية [سورة نوح آية: 23] ، وما ذكر أيضاً في سورة النجم، في قوله:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] أن اللات قبر رجل صالح، فتأمل الأصنام التي بعث الرسول بتغييرها، كيف تجد فيها قبور الصالحين.
[القراءة عند القبور وحمل المصاحف إليها]
وأجاب ابناه: حسين وعبد الله، رحمهم الله، أن القراءة عند القبور وحمل المصاحف إلى القبور، كما يفعله بعض الناس، يجلسون سبعة أيام، ويسمونها الشدة، وكذلك اجتماع الناس عند أهل الميت سبعة أيام، ويقرؤون فاتحة الكتاب، ويرفعون أيديهم بالدعاء للميت، فكل هذا من البدع والمنكرات المحدثة، التي يجب إزالتها، ولم يكن يفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه الراشدين من ذلك شيء؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21]، وقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] .
ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به دين الإسلام; وثبت في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي حديث العرباض بن سارية، الذي أخرجه أبو داود
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240، 6/270) .
في سننه، وأحمد في مسنده:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة "1.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قراءة سورة يس في المقبرة؟
فأجاب: الحديث المروي في قراءة سورة يس في المقبرة، لم يعز إلى شيء من كتب الحديث المعروفة، والظاهر عدم صحته؛ والقراءة في المقبرة اختلف فيها العلماء، وفيها عن أحمد روايتان: إحداهما: الجواز، وعليه أكثر المتأخرين من أصحاب أحمد. والثانية: الكراهة؛ قال الشيخ تقي الدين: وهو قول قدماء أصحاب أحمد، وهو قول السلف.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الأذان والقراءة عند القبر بعد دفن الميت؟
فأجاب: الأذان عند القبر بدعة منكرة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا فعله أحد ممن يقتدى به؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك، من الصلاة في المقبرة، وإليها، وإن كان المصلي يصلي لله، لئلا يكون ذريعة إلى تعظيم القبور وعبادتها. وأما القراءة حال الدفن، فقال شيخ الإسلام: نقل الجماعة عن أحمد كراهة القراءة على القبور؛ وهو قول
1 الترمذي: العلم (2676)، وأبو داود: السنة (4607)، وابن ماجة: المقدمة (42، 44) ، وأحمد (4/126)، والدارمي: المقدمة (95) .
جمهور السلف، وعليها قدماء أصحابه، ولا رخص في اعتياده عيداً، كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم. واتخاذ المصاحف عند القبر بدعة، ولو للقراءة، ولو نفع لفعلها السلف.
وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: وأما إن بعض الناس يجوز القراءة على القبر، زاعماً أن ابن القيم ذكر في كتاب الروح أخباراً تدل على ذلك، فالجواب أن يقال: ما أطلقه هذا القائل يحتاج إلى تفصيل: فإن كان مقصوده جواز اعتياد القراءة على القبر، فلم يقل به أحد ممن يعتد بقوله، وهو قول ساقط مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وفيه مضاهاة لما كان يعتاده عباد القبور، من العكوف عندها بأنواع القرب، خصوصاً في هذا الزمان الذي عميت فيه القلوب، وتنوعت فيه الخطوب، واشتدت فيه غربة الإسلام، وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان والأصنام.
وإن كان المقصود القراءة حال الدفن، ففيها خلاف مشهور، وقد أنكرها عامة السلف، منهم الإمام أبو حنيفة، ومالك بن أنس وشدد فيها؛ وأما الشافعي فلم ينقل عنه فيها شيء، وأما الإمام أحمد فقد نهى عنها في رواية عنه، حتى إنه نهى عن القراءة بفاتحة الكتاب على الجنازة في المقبرة. ولا أعلم في كتاب الروح ولا غيره لابن القيم، ولا في شيء من دواوين أهل الإسلام، ما يدل على ما زعمه، لا من كتاب
ولا سنة، إلا آثاراً ساقها، رحمه الله عن السلف، فقال:" وأوصى بعض السلف أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن "، روي عن ابن عمر أنه " أوصى أن يقرأ عنده سورة البقرة "، وكان أحمد ينكر ذلك، وذكر ما رواه الخلال عن أبي العلاء، وقول محمد بن قدامة الجوهري لأحمد، لما رآه ينكر القراءة على القبر، ويقول: هو بدعة، وذكر قول الخلال عن الشعبي: أن الأنصار إذا مات لهم ميت، اختلفوا إلى قبره للقراءة عنده، وذكر قصة الذي يقرأ سورة يس عند قبر أمه، ويجعل ثوابها لأهل المقابر، وذكر حديث معقل بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اقرؤوا يس على موتاكم "1.
وصرح أن احتمالها للقراءة على المحتضر، أولى من احتمالها للقراءة على القبور، من وجوه عدها: منها: أنه نظير قوله " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله "2. ومنها: انتفاع المحتضر بهذه السورة، لما فيها من التوحيد والمعاد، والبشرى بالجنة لأهل التوحيد، وغبطة من مات عليها بقوله: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} الآية. الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً، يقرؤونها عند المحتضر. الرابع: أن الصحابة، رضي الله عنهم، لو فهموا أنها عند القبر لما أخلوا به، وكان ذلك أمراً مشهوراً معتاداً بينهم. الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا بالاستماع، هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره فإنه
1 أبو داود: الجنائز (3121)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1448) ، وأحمد (5/26، 5/27) .
2 مسلم: الجنائز (916)، والترمذي: الجنائز (976)، والنسائي: الجنائز (1826)، وأبو داود: الجنائز (3117)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1445) ، وأحمد (3/3) .
لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع، وهو عمل، وقد انقطع بالموت. انتهى.
قلت: وهذا على تقدير صحة الحديث، وإلا فقد ذكر ابن حجر وغيره، أن الإمام أحمد وابن ماجة وغيرهما، رووه من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان، وليس بالنهدي عن أبيه، وأعله ابن القطان بالاضطراب والوقف، وبجهالة أبي عثمان وأبيه، وقال الدارقطني: هذا حديث معقل بن يسار، قوله:" اقرؤوا "، أراد به من حضرته المنية، لأن الميت يقرأ عليه. انتهى. لكن ابن القيم بنى على ما يعضده من الآثار الثابتة عن السلف.
قال شيخ الإسلام: وإنما رخص فيها أحمد، يعني القراءة عند الدفن، لأنه بلغه أن " ابن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه، بسورة البقرة وخواتيمها "، وروى عن بعض الصحابة أنه قرأ سورة البقرة؛ فالقرآن عند الدفن هو مأثور في الجملة، وما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر. وقال في موضع آخر: فإنه لو كان مشروعاً لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وذلك لأن هذا وإن كان فيه نوع مصلحة، ففيه مفسدة راجحة، كما في الصلاة عنده؛ وتنعم الميت بالدعاء له والاستغفار له والصدقة عنه، وغير ذلك من العبادات، أعظم من ذلك، وهو مشروع ولا مفسدة فيه، ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يستحب قصد القبر للقراءة دائماً عنده، إذ قد علم بالاضطرار
من دين الإسلام أن هذا ليس مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته. انتهى. فتبين لك: أن نسبة جواز القراءة على القبر مطلقاً إلى أحد من أهل العلم، أو دعوى أن في ذلك حديثاً مرفوعاً أو أثراً، دعوى مجردة لا دليل عليها؛ وهذا هو سر المسألة، ومقصود السؤال.
وقد صرح شيح الإسلام في مسائله، بأن القراءة على القبر عكوف، يضاهي العكوف في المساجد بالقرب; فقال: ومعلوم أن المسجد بيت الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك كان داخلاً في النهي. وقال في الاقتضاء - لما ذكر الرواية عن أحمد بالجواز -: الثانية: أن ذلك مكروه، حتى اختلف هؤلاء هل تقرأ الفاتحة في الصلاة على الجنازة، إذا صلى عليها في المقبرة أو لا؟ قال: وفيه عن أحمد روايتان، وهذه الرواية هي التي ذكرها أكثر أصحابه عنه، وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه، كعبد الوهاب الوراق، وأبي بكر المروذي ونحوهما، وهو مذهب جمهور السلف، كأبي حنيفة ومالك، وهشيم بن بشر بن حازم وغيرهم، ولم يبلغنا عن الشافعي في هذه المسألة كلام; وذكر أن ذلك عنده بدعة، وقال مالك: ما علمت أن أحداً يفعل ذلك، فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه.
والثالثة: أن القراءة وقت الدفن لا بأس بها، كما نقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين. وأما القراءة بعد ذلك، مثل الذين ينتابون القبور للقراءة
عندها، فهذا ممنوع؛ فإنه لم ينقل عن السلف مثل ذلك أصلاً، وهذه الراوية لعلها أقوى من غيرها، لما فيها من التوفيق بين الأدلة. والذين كرهوا القراءة عند القبر كرهها بعضهم، وأن يقصد القراءة هناك كما تكره الصلاة، فأحمد نهى عن القراءة في الصلاة هناك، ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر، فالفرق بين ما يفعل ضمناً وتبعاً، وبين ما يفعل لأجل القبر، بيِّن. انتهى. ومعناه: أنه إذا امتنع عندهم ما كان مقصوداً لغيره مما يفعل ضمناً وتبعاً، فامتناع ما كان مقصوداً لذاته أولى وأحرى؛ وهذا من أقوى الدلالات، مع ما قدمناه عنه أنه لم ينقل عن أحد من السلف، وأنه من البدع المنكرة؛ فالذي يفتح هذه الأبواب للناس، ويوقعهم في الشك والالتباس، وينسب ذلك لأئمة الإسلام والأئمة الأعلام، لا يخلو من أمرين: إما من سوء الاعتقاد، أو لعدم فهم المراد. وقد علم بالضرورة أن هذين الشيخين من أعظم الناس سداً لهذا الباب، وأشدهم حماية لهذا الجناب، فرحم الله أئمة الإسلام، وجزاهم أتم الجزاء عن الأنام، فلقد حموا حمى السنة، وسدوا كل طريق يوصل إلى الشرك والفتنة.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الأجرة على القراءة عند القبر
…
إلخ؟
فأجاب: أما الأجرة على القراءة إذا مات الميت، على
ختمة أو ختمات عند القبر وغيره، فقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين: ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهداؤها إلى الميت، لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة؛ وقد قال العلماء: إن القارئ لأجل المال لا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت؟ وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. انتهى. وقال في الشرح: ولا يجوز على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، كالحج والأذان ونحوهما. وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، وعن أحمد: تصح. وأجازه مالك والشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن، متفق عليه، وقال:" أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله " 1، رواه البخاري. انتهى.
[الدعاء للميت والتصدق له]
وأما الدعاء للميت والتصدق له، فجائز؛ قال في الكافي: فإن دعا إنسان لميت أو تصدق عنه، أو قضى ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك بلا خلاف، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ] الحشر:10 [
الآية، وقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم:" أينفع أمي أن أتصدق عنها؟ قال: نعم "، وإن فعل عبادة بدنية، كالقراءة والصلاة والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه ذلك أيضاً، لأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم، ولم ينكره منكر فكان إجماعاً. انتهى.
وأما إذا خرجوا مع الميت بطعام يقسمونه عند القبر، أو إذا جمع أهل الميت قراء وصنعوا لهم طعاماً، فقال في المبدع:
1 البخاري: الطب (5737) .
يستحب أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:" اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم " 1، رواه أحمد والترمذي وحسنه، ولا يصلحون هم طعاماً للناس، فإنه مكروه، لما روى أحمد عن جرير قال:" كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة "، وقيل يحرم. قال أحمد: ما يعجبني. ونقل المروذي: هو من أفعال الجاهلية، وأنكره إنكاراً شديداً.
فرع
[الذبح عند القبر والأكل منه]
يكره الذبح عند القبر والأكل منه، لخبر أنس:" لا عقر في الإسلام " 2 رواه أحمد، وفي معناه الصدقة عند القبر، فإنه محدث؛ فقد علمت أن الصدقة عند القبر، وجمع أهل الميت قراء وصنع الطعام لهم، محدث مكروه، والله أعلم.
حكم الوقوف والوصايا على قراءة القرآن
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن حكم الوقوف والوصايا على قراءة القرآن أو بعضه كل يوم وإهداء ثوابه للميت؟ وهل يرفض نص الواقف بذلك؟
فأجاب: الوقوف والوصايا على هذا الوجه المذكور، لا تصح، لأن من شرط الوقف على جهة: أن يكون على بر، وقربة؛ وليست قراءة القرآن وإهداء ثوابها إلى الأموات قربة، ولهذا لم يعرف مثل ذلك عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وغاية ذلك أن يكون جائزاً.
وفي مثل هذه الأوقاف مفسدة، وهي حصول القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع،
1 الترمذي: الجنائز (998)، وأبو داود: الجنائز (3132)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1610) .
2 أبو داود: الجنائز (3222) ، وأحمد (3/197) .
قال في الاختيارات: وأما هذه الأوقاف التي على الترب، ففيها من المصلحة: بقاء حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونة على ذلك، وحاضة عليه، إذ قد يدرس حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر، من حصول القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة؛ فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز، وإلا توجه النهي عن ذلك والمنع وإبطاله.
[إهداء ثواب البدن للميت]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن إهداء ثواب البدن للميت، من قرءاة وصلاة وحج وغير ذلك؟
فأجاب: هذا فيه خلاف بين العلماء، هل يصل إلى الميت أو لا؟ ولا ينكر على من فعله أو تركه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما كون الإنسان يطوف ما أحب، ويهدي ثوابه لحي أو ميت، فهذا جائز، وكذا لو صلى ركعتين أو صام وجعل ثوابه لغيره، جائز عند كثير من العلماء، وكذلك إهداء ثواب القراءة لميت أو حي؛ وأفضل من ذلك كله، الدعاء لهم والصدقة.
وأجاب أيضاً: وأما ما ذكر من إيراد عثمان بعض عبارات الأصحاب، على جواز التشريك في نفس العمل، فهو إيراد
غير صحيح. وأما ما رواه الكحال عن أحمد، قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء من الخير، من صلاة وصدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو، فهذا يحتمل أن المراد جعل نصف نفس العمل، ويحتمل نصف ثوابه؛ ويتعين حمله على إلاحتمال الثاني لوجهين: أحدهما: أن الأصحاب لما ذكروا جواز إهداء ثواب العمل، احتجوا لقولهم برواية الكحال عن الإمام، فدل على أن هذا معنى الرواية عندهم. الوجه الثاني: أنهم لما نصوا على أنه إذا أحرم عن اثنين وقع عن نفسه، قاسوا ذلك على الصلاة، فدل على أن كون الصلاة لا تقع عن اثنين، لا خلاف فيه عندهم، لأنهم جعلوه أصلاً، وقاسوا عليه الحج؛ فدل على أنهم لم يفهموا من رواية الكحال التشريك في نفس العمل، وإنما معناها التشريك في الثواب.
ولما ذكر ابن القيم وصول ثواب القربات إلى الأموات، وذكر ما في المسألة من الخلاف، وصحح القول بوصولها، وذكر حجج المخالفين، وذكر من حججهم قولهم: لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب، وربعه إلى الميت، فأجاب بوجهين: أحدهما: منع الملازمة، الثاني: التزام ذلك، والقول به نص عليه الإمام أحمد، من رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: ووجه هذا، أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعه، وله أن يهدي بعضه، يوضحه أنه لو أهداه إلى
أربعة مثلاً تحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع وأبقى لنفسه الباقي جاز، كما لو أهداه إلى غيره.
إهداء ولد الزنى لوالديه شيئاً من القرب
وسئل: عن إهداء ولد الزنى لوالديه شيئاً من القرب، مثل الحج والتضحية، وكذا الرقيق الذي لا يدري عن والديه
…
إلخ؟
فأجاب: إهداء ولد الزنى لوالديه المسلمين جائز حسن، إن شاء الله تعالى، أعني: إهداء جميع القرب والتضحية عنه والحج وغير ذلك. والرقيق الذي لا يعلم حال والديه، لا بأس بدعائه لهما، وكذا إهداء القرب.
[الذبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الذبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته، أو وقت الأضحية؟
فأجاب: هذا حسن لا بأس به، إذا قصد به صدقة لوجه الله، يفرق على المساكين والأقارب.
وأجاب في موضع آخر: العيد الذي يفعلونه عند موت الإنسان، إن كان أهل الميت يجعلونه وليمة يدعون إليها، كوليمة العرس، فهذا من أنكر المنكرات؛ من فعله بعد ما عرف أنه لا يجوز، أدب أدباً يزجره وأمثاله. فإن كان أنهم يذبحون لقصد إعطاء الذبيحة المساكين تقرباً إلى الله، وقصدهم أن الله يجعل ثواب الصدقة للميت، فهذا لا بأس به، وهو مثل كونهم يتصدقون عنه بطعام أو دراهم.
وسئل: عن صنع الطعام من أهل الميت؟
فأجاب: صنع الطعام من أهل الميت خلاف السنة.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما ما ذكره السائل، من أنه إذا مات أحدهم يتصدق أقاربه وعشائره، ويذبحون الذبائح، ويطبخون الطعام، ويفرشون الحرير، ويدعون الناس كلهم الغني والفقير، فليس هذا من دين الإسلام، بل هو بدعة وضلالة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى، من التغيير والتبديل في شريعتهم، خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم؛ فيجب اجتناب ذلك المأتم وما في معناه. انتهى.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الصدقة للميت؟
فأجاب: الصدقة من الطعام وغيره، جائزة يصل ثوابها للميت.
وأجاب أيضاً: وأما صدقة المال، فهي يصل ثوابها إلى الميت باتفاق العلماء.
وأجاب أيضاً: الصدقة عن الميت من ماله الذي خلف حسن، والصدقة المالية تصل إلى الميت باتفاق أهل العلم، بخلاف صدقة المنة بإهداء الأعمال البدنية، فإن ذلك مختلف فيه، بخلاف الأول فهو بالاتفاق. وأما إذا كان في الورثة صغار، لم يجز لأوليائهم أن يتصدقوا لأبيهم من الميراث،
فإذا أراد الكبار أن يتصدقوا لميتهم، فليجعلوا ذلك من نصيبهم خاصة.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: ظاهر كلام الشيخ في المختصر، أن إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة; وأما الصدقة عن الميت المسلم، فهي تصل إليه بالنص والإجماع.
وأجاب في موضع آخر: والصدقة عن الميت من مال الأيتام لا تجوز.
[من مات قبل هذه الدعوة ولم يدرك الإسلام]
سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن مات قبل هذه الدعوة ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم، يفعلها ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يسب ويلعن أو يكف عنه؟ وهل يجوز لولده الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، ومن أدركها ومات معادياً لهذا الدين وأهله؟
فأجابا: من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى عنه، ولا يتصدق عنه، وأما حقيقة أمره فإلى الله: فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة،
فأمره إلى الله. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقاً، كما في صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا إن كان أحد من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية.
وأجاب الشيخ عبد الله أيضاً: الذي مات قبل ظهور الإسلام في هذه الأوطان، فإن كان قد مات على التوحيد وإخلاص العبادة لله، والتزام طاعة الله ورسوله، فإنه يدعى له، ويتصدق عنه; وإن كان قد تلطخ بالشرك، ويفعل ما يفعل غالب الناس، فلا ينبغي الدعاء له، ويترك ويوكل أمره إلى الله.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: ومن أحسن ما تفعل إذا أردت الصدقة للميت أن تعطي - صدقتك له - قريبه الحي؛ فالحي ينتفع بها، والثواب يحصل للميت إن شاء الله، وإحسانك أيضاً إلى قريب الميت صلة للميت؛ فهذا أحسن ما أرى لك. فإن أعطيت الحي شيئاً وقلت: تصدق بهذا عن ميتك، فحسن لك. وقد يكون الحي محتاجاً، فإعطاؤك إياه الشيء له ينتفع به بنفسه، وتنوي ثوابه للميت أحب عندي، هذا إذا أردت الإحسان إلى أموات قرابتك، وصلتهم بالصدقة عنهم، وأنت على الثواب والأجر إن شاء الله بإحسانك إلى الميت والحي؛ ولكن كون غالب صدقتك تبقي
1 البخاري: الجنائز (1393)، والنسائي: الجنائز (1936)، وأبو داود: الأدب (4899) ، وأحمد (6/180)، والدارمي: السير (2511) .
ثوابها لك وحدك، وتعطي قريباً محتاجاً ينتفع بها فهو أحسن، ومع هذا فلا تنسى الأموات ببعض الشيء صلة لهم، وتخص نفسك بالكثير، فهو الأولى، والأفضل.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: ولا نعلم أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية، إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم، بأن مات يدعو لله نداً؛ وهذا نص القرآن: قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [سورة التوبة آية: 113] ؛ هذا مذهب الشيخ وأهل العلم من أتباعه.
وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله: وأما قول السائل: ويقولون لا تبروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا، واسكتوا وكفوا عنهم، فإن كان مراد هؤلاء الذين يطعنون على مشائخ المسلمين، تارة بالظلم، وتارة بالعدوان والزور والبهتان، وتارة بالجهل وعدم العلم بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها وعلماء المسلمي، الذين ساروا على منهاج أهل السنة والجماعة، أن المشائخ يقولون: لا تبروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا وظاهرهم الإسلام، ولم ندر ما ماتوا عليه، فهذا القول من هؤلاء الجهلة، قد قاله قبلهم من بهت شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، بأنه ينهي أتباعه عن الاستغفار والتضحية لمن ماتوا من آبائهم
وأقاربهم، ولم يدركوا دعوته، كما ذكر ذلك عثمان بن منصور في المطاعن التي طعن بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث قال: والويل كل الويل لمن استغفر من أتباعه لوالديه أو ضحى لهم. فأجابه شيخنا: الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله، بقوله: فهذه القولة الضالة كأخواتها السابقة، فيها من نقض عهده الذي جعله على نفسه، وفيها من البهت والكذب وطلب العنت للبرآء، ما يقضي بفسوق القائل؛ فنعوذ بالله من استحكام الهوى والضلال بعد الهدى. فمن قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية، إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم، بأن مات يدعو لله نداً، وهذا نص القرآن: قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة آية: 113] ؛ هذا مذهب الشيخ، وأهل العلم من أتباعه.
وأما التخليط والتحكم، والظن والهذيان، فذلك من طوائف الشيطان، يصدهم به عن سبيل العلم والإيمان. وفي قول المعترض: الذين لم يدركوا دعوته، أن من تقادم عهده وتطاول عصره داخل في عموم كلامه، وأن الشيخ ينهى عن
الاستغفار له، وإطلاق هذا يتناول القرون المفضلة ومن بعدهم، وليس هذا ببدع من كذبه وبهته، وحسابه على الله وأمره إليه، قال تعالى {ِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية: 105] . شعراً:
لي حيلة فيمن ينـ
…
ـمّ وليس في الكذّاب حيلةْ
من كان يخلق ما يقو
…
ل فحيلتي فيه قليلة
أين ميثاقه وعهده؟! قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102] .
حلفتْ لنا أن لا تخون عهودها
…
فكأنها حلفت لنا أن لا تفي
انتهى.
والعهد الذي ذكر شيخنا: الشيخ عبد اللطيف عن ابن منصور: أنه أخذ على نفسه أن لا ينقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا ما صح عنده بنقل العدول الأثبات؛ إذا عرفت هذا، فالبهت الذي بهتوا به الشيخ، رحمه الله، إنما هو بمجرد الاستغفار والتضحية لوالديهم الذين لم يدركوا دعوته، وأما هؤلاء فأطلقوا لفظ البر، وهو أعم من الاستغفار والتضحية، فيدخل فيه جميع أنواع البر.
وأما قولهم: واسكتوا وكفوا عنهم، فالجواب عن ذلك أن نقول: قد تقدم في جواب أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه المسائل ما فيه الكفاية، وفيه: وإن
كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقاً، كما في صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا أن يكون أحداً من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية.
فصل زيارة القبور
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الذي شرعه الله عند زيارة القبور، إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم والاستغفار له، وسؤال العافية، كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقولوا:" السلام على أهل الديار "، وفي لفظ:" عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية "2. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " 3. وعن عائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 4، رواه مسلم.
فإذا كنا نصلي على جنازة ندعو له، لا ندعوه، ونشفع له، لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى; فبدل أهل
1 البخاري: الجنائز (1393)، والنسائي: الجنائز (1936)، وأبو داود: الأدب (4899) ، وأحمد (6/180)، والدارمي: السير (2511) .
2 مسلم: الجنائز (975)، والنسائي: الجنائز (2040)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547) ، وأحمد (5/353، 5/359) .
3 أبو داود: الجنائز (3199)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1497) .
4 مسلم: الجنائز (947)، والترمذي: الجنائز (1029)، والنسائي: الجنائز (1991) ، وأحمد (3/266، 6/32، 6/40، 6/97، 6/231) .
الشرك قولاً غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت، سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو مخ العبادة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سئل الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: عن أهل بلد، إذا كان يوم العيد نهضوا من مصلاهم إلى المقابر، الصغير والكبير، يقولون: نزور أهلنا، ترد عليهم أرواحهم يوم العيد؟
فأجاب: هذا الاجتماع في هذا اليوم لزيارة القبور بعد صلاة العيد، من دسائس الشيطان، ومن البدع المحدثة في الإسلام، بل هو من وسائل الشرك وذرائعه، لأن هذا الصنيع لم يكن يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أسبق الناس إلى كل خير؛ ولا يجوز لأحد أن يعتقد أن الله خصه بمعرفة هذه الفضيلة، وحرمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1، أي: مردود عليه.
وقال شيخ الإسلام، رحمه الله، على قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تتخذوا قبري عيداً " 2 قال: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام، على وجه معتاد، عائداً إما لعود السنة، أو لعود الأسبوع، أو الشهر ونحو ذلك. وقال ابن القيم، رحمه الله: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73، 6/146، 6/180، 6/240، 6/256، 6/270) .
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780)، والترمذي: فضائل القرآن (2877)، وأبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
إلى آخر كلامه. فإذا فهمت هذا، علمت أن هذا الفعل الذي يعتاده أهل بلدكم في يوم العيد من كل سنة بعد صلاة العيد لزيارة القبور، أمر مبتدع محدث، لم يكن يفعله أحد من الصحابة؛ ولو كان أمراً مستحباً أو مندوباً إليه، لكان أسبق إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " مَن كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم ". وإذا كان هذا الفعل لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقل عن السلف الصالح ومن بعدهم من علماء الأمة وأئمتها، فهو بدعة وضلالة؛ ولو كان خيراً لكان الصحابة أولى بفعله منا وأرغب فيه.
وأما قولهم: إنها ترد عليهم أرواحهم يوم العيد، فهذا تعليل فاسد؛ ولو قدر أنها ترد عليهم في هذا اليوم بخصوصه، لكان هذا الاعتياد بدعة محرمة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما من مسلم يمر على قبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فتخصيص رد أرواحهم عليهم في هذا اليوم، دسيسة من الشيطان، لكي
يعتادوا زيارة القبور في هذا اليوم المخصوص. والله أعلم. فإن تركوا ذلك فهو المطلوب، وإلا فاذكر لنا، ويجيئهم ما يردعهم ويزجرهم من المشائخ ومن الإمام، لأن هذا لا يجوز فعله.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها " 1، هل عمت الرخصة النساء؟ أم الخطاب خاص للرجال؟
فأجاب: هذا من العام المخصوص بقوله: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "2. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وابن ماجة والترمذي. واحتج شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على تحريمه بلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، وصحح الحديث؛ فعلى هذا، يكون الإذن مخصوصاً بالرجال دون النساء، والمعارض لا تقوم به حجة ولا يفيد النسخ.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا كان طريق على حد المقبرة، هل يكره للنساء المرور معه؟
فأجاب: إذا كان للناس طريق على حد المقبرة، ومرت معه امرأة وسلمت فلا بأس، لأنها لا تسمى زائرة.
[التوسل بذوات الأموات]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن دعاء الزائر بقوله: يا ربنا، بحرمة نبيك ووليك، اقض حاجتي
…
إلخ؟
1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571) ، وأحمد (1/452) .
2 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229، 1/287، 1/324، 1/337) .
فأجاب: هذا من التوسل بذوات الأموات، وهو من البدع المنكرة، والذرائع الموصلة إلى الشرك؛ ولذلك لم يفعله أحد من الخلفاء الراشدين، ولا من الصحابة؛ فلو كان حقاً لسبقونا إليه، فإنهم أعظم الناس سبقاً إلى كل خير، فتركهم ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم مع قربهم من قبره، يدل على أنه من البدع التي يجب تركها؛ يحقق ذلك أنهم لما أجدبوا في خلافة عمر، لم يأتوا إلى قبره صلى الله عليه وسلم يستسقون به، كما كانوا يستسقون به في حياته، واستسقوا بعمه العباس، وقال عمر:" اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا اليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل اليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون ".
ففرقوا بين حال الحياة والوفاة، خوفاً من الوقوع فيما نهوا عنه، من الغلو في الأموات؛ ولكن الاستسقاء بالشخص إنما هو بدعائه، بخلاف حال الميت، فإن الدعاء متعذر في حقه، وهذا من غزارة علم الصحابة، رضي الله عنهم، وقوة إيمانهم، وتمسكهم بما شرع لهم، وتركهم ما لم يشرع؛ وهذا هو سبيل المؤمنين، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
قال الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، يعزي بعض إخوانه: المأمول فيكم الصبر والاحتساب، والتعزي بعزاء الله تعالى، فقد قال بعض العلماء: إنك لن تجد أهل
العلم والإيمان إلا وهم أقل الناس انزعاجاً عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلهم قلقاً عند النوازل، وما ذاك إلا لما أوتوا مما حرمه الجاهلون، قال الله تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 155-156] ؛ فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في العاجلة والآجلة؛ فإنها تضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته: أولا: أن العبد وأهله وماله ملك لله تعالى يتصرف فيه، حيث جعله تبارك وتعالى عند عبده عارية، والمعير مالك قاهر قادر. وهو محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد متعة معارة. الثاني: أن مصير العبد ومرجعه ومرده إلى مولاه الحق، الذي له الحكم والأمر، ولا بد أن يخلف ما خوله في هذه الدار وراء ظهره، ويأتي فرداً بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات؛ ومن هذه حاله، لا يفرح بموجود ولا يأسف على مفقود. وإذا علم المؤمن علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هانت عليه المصيبة، وقد قيل:
ما قد قضي يا نفس فاصطبري له
…
ولك الأمان من الذي لم يقدرِ
وتعلمي أن المقدّر كائن
…
يجري عليك عذرتِ أم لم تعذرِ
ومن صفات المؤمن: أنه عند الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور; ومما يخفف المصائب برد التأسي، فانظروا يميناً وشمالاً وأمام ووراء، فإنكم لا تجدون إلا من قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها، ولم يبق إلا التفاوت في عوض الفائت. أعوذ بالله من الخسران. ولو أمعن البصير في هذا العالم جميعه، لم ير إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام ليل، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، جمعها إلى انصداع، ووصلها إلى انقطاع، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، حالها انتقال، وسكونها زوال، غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، ويكفي في هوانها على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها.
مع أن المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته، كما قال بعض السلف:" لولا مصائب الدنيا، لوردنا الآخرة مفاليس ". والرب سبحانه لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه، ولا ليعذبه، ولكن امتحاناً لصبره ورضاه عنه، واختباراً لإيمانه، وليراه طريحاً ببابه لائذاً بجنابه، منكسر القلب بين يديه; فهذا من حيث المصائب الدنيوية; وأما ما جرى عليكم، فأنتم به بالتهنئة أجدر من التعزية، ولعمر الله أن من سلم له دينه، فالمحن في حقه منح، والبلايا عطايا، والمكروهات له محبوبات. وأما المصيبة والخطب الأكبر،
والكسر الذي لا يجبر، والعثار التي لا تقال، فهي المصيبة في الدين، كما قيل:
من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ
…
وما من الله إن ضيعته عوضُ
وقد مضت عادة أحكم الحاكمين لمن أراد به خيراً، أن يقدم الابتلاء بين يديه.
وقال الشيخ حمد بن عتيق، في تعزيته لبعض إخوانه: قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 34]، وقال:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل عمران آية: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ". والصبر هو مفزع المؤمنين، والرضى بالقضاء هو محط رحال العارفين، طمعاً فيما وعد به رب العالمين، قال الله تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة آية: 155-157] .
وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن يعزي أخاً له في ابنه: فموجبه: التعزية في الابن عبد الله. اللهم أحسن عزاهم فيه، وأعظم لهم الأجور، وألهمهم التسليم للمقدور، نقول جميعاً كما قال الصابرون:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 156] .
فالله الله! أوصيك أخي أن تتدرع بالرضى، وتسلم للقضاء؛ فالمصاب من حرم الثواب. واذكر آية في كتاب الله تشرح للمؤمن صدره، وتجلب له صبره، وتهون خطبه، وتذكره ربه، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 155-157]، وقال:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر آية: 10] .
وفي الصحيح عن صهيب مرفوعاً: " عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "1. وكان أيوب، عليه السلام، كلما أصابته مصيبة، يقول: اللهم أنت أخذت، وأنت أبقيت، مهما تبقى نفسي أحمدك على بلائك. وفي الحديث: " إن كل مصيبة آخرها الصبر، ولكنه إنما يحمد عند حدوثها، لأن مصير ذي الجزع إلى السلوان ".
وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: " من يرد الله به خيراً يصب منه " 2، وعنه مرفوعاً:" ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة "3. وأخرج النسائي عن أبي سلمى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بخ بخ لخمس، ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمؤمن فيحتسبه " 4، إلى غير ذلك
1 مسلم: الزهد والرقائق (2999) ، وأحمد (4/332، 4/333، 6/15)، والدارمي: الرقاق (2777) .
2 البخاري: المرضى (5645) ، وأحمد (2/237)، ومالك: الجامع (1752) .
3 الترمذي: الزهد (2399) ، وأحمد (2/287، 2/450) .
4 أحمد (4/237) .
مما فيه تسلية للمؤمن. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما يقولون إنه صلى الله عليه وسلم قال: " من مات بالحرمين بعث يوم القيامة آمناً "؟ فأجاب: هذا كذب لا أصل له.
توفي رجل وضرب النساء الدف
سئل بعضهم: إذا توفي رجل وضرب النساء الدف
…
إلخ؟
فأجاب: إذا توفي رجل وضرب النساء الدف، فإن كان لأجل الميت فهذا بدعة ويحرم فعلها، فإن كان لأجل عرس فلا بأس إن شاء الله به، لتشييع النكاح، ولا أعلم يحرم عليهن عند موت الميت إلا النياحة وتوابعها، إلا زوجة الميت فيحرم عليها الأمر الذي ما يخفاكم، لأجل إحدادها.