المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الصيام صيام يوم الشك بسم الله الرحمن الرحيم سئل الإمام عبد العزيز - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٥

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌ ‌كتاب الصيام صيام يوم الشك بسم الله الرحمن الرحيم سئل الإمام عبد العزيز

‌كتاب الصيام

صيام يوم الشك

بسم الله الرحمن الرحيم

سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن قول عمار: " من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "، هل هذا من قول عمار؟ أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فأجاب: بل هو من قول عمار، بدليل صيغة اللفظ، ولكنه عند العلماء في حكم المرفوع، لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وذلك كقول الصحابي: من السنة كذا، أو أمرنا بكذا.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: وقفت على نسختين لعثمان بن منصور، تتضمن التشنيع والتجهيل والتضليل، لمن نهى عن صيام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر، ويزعم: أن صيامه بنية رمضان واجب جزماً؛ ولا يخفى أن

ص: 267

المحققين من العلماء في مذهب أحمد من الحنابلة وغيرهم، ذهبوا إلى أنه لا يجب صيامه، بل يكره أو يحرم، فمنهم الحافظ محمد بن عبد الهادي الحنبلي.

وقد صنف في الرد على من أوجب صيامه، فإنه، رحمه الله، قال: فصل في الكلام على مسألة الغيم مختصراً: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، إيجاب صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين؛ ومن ادعى ذلك فلينقله لنا بإسناد يحتج به. وكذلك لم يثبت عن الإمام أحمد، أنه أوجب صومه؛ والصحيح أنه لا يجب صومه؛ ومن قال بالوجوب من أصحاب أحمد، كالخرقي والخلال صاحبه، النجاد وابن شاقلا وابن حامد وغيرهم، فليس معهم دليل على ذلك، بل أكثر ما معهم معان مقابلة بأقوى منها، وأحاديث متشابهة لا حجة فيها، يجب ردها إلى المحكم الواضح؛ فإن العمل بالمتشابه من الآيات والأحاديث وغيرها من الأدلة، لا يجوز إذا أفضى إلى رد محكم، بل يجب العمل بالمحكم ورد المتشابه إليه.

ومتى وقع النّزاع في مسألة من المسائل بين أهل العلم، لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر بالاتفاق، بل يجب رد ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

ص: 268

وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] .

ولا ريب أن من قال بوجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان، ليس معه دليل صحيح أصلاً.

بل الأدلة الصحيحة الصريحة التي هي غير قابلة للتأويل تدل على عدم الوجوب.

فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه، من حديث أمير المؤمنين، في الحديث شعبة بن الحجاج، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، كذا رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وكفى به حجة؛ وهو صريح في إكمال شعبان ثلاثين يوماً، وهو غير قابل للتأويل بوجه، بل هو فاصل للنّزاع في المسألة. ولا ينافيه ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة:" فصوموا ثلاثين يوماً " 2، وفي لفظ:" فإن غم عليكم، فأكملوا العدد " 3، وفي لفظ:" ف إن أغمي عليكم الشهر، فعدوا ثلاثين " 4؛ فإن هذه الألفاظ كلها موافقة للفظ البخاري، لا مخالفة له، ومن جعلها معارضة لما رواه البخاري، فقد قصر في النظر.

ومنها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني، من حديث الإمام الحافظ الثبت أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس عن

1 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124)، وأبو داود: الصوم (2327) ، وأحمد (1/221، 1/226، 1/258، 1/306، 1/367)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

2 البخاري: الصوم (1909)، ومسلم: الصيام (1081)، والترمذي: الصوم (684)، والنسائي: الصيام (2117، 2118، 2119، 2123)، وابن ماجة: الصيام (1655) ، وأحمد (2/259، 2/263، 2/281، 2/287، 2/415، 2/422، 2/430، 2/438، 2/454، 2/456، 2/469، 2/497)، والدارمي: الصوم (1685) .

3 البخاري: الصوم (1907)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2120، 2121، 2122، 2139، 2140، 2141، 2142، 2143)، وأبو داود: الصوم 2319، 2320) ، وأحمد (2/5، 2/13، 2/28، 2/31، 2/40، 2/43، 2/44، 2/52، 2/56، 2/63، 2/77، 2/81، 2/122، 2/125، 2/129، 2/145)، ومالك: الصيام (633، 634)، والدارمي: الصوم (1684) .

4 البخاري: الصوم (1909)، ومسلم: الصيام (1081)، والترمذي: الصوم (684)، والنسائي: الصيام (2117، 2118، 2119، 2123)، وابن ماجة: الصيام (1655) ، وأحمد (2/259، 2/263، 2/281، 2/287، 2/415، 2/422، 2/430، 2/438، 2/454، 2/456، 2/469، 2/497)، والدارمي: الصوم (1685) .

ص: 269

عائشة، قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام " 1، هذا حديث صحيح صريح في المسألة، لا يقبل التأويل؛ قال الإمام الحافظ الكبير، أبو الحسن الدارقطني: هذا الإسناد صحيح، كذا قال أبو الحسن، وهو إمام عصره في علم الحديث، وهو مصيب في قوله: فإن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، خرج لهم في الصحيح; فإن عبد الله بن قيس، ومعاوية بن صالح، من رجال مسلم؛ ولم يصب من طعن في هذا الحديث، لأجل معاوية بن صالح، وجعل الدارقطني متعصباً في تصحيحه إسناد هذا الحديث، فإن معاوية بن صالح ثقة احتج به مسلم في صحيحه، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة وغيرهم من الأئمة، ولم يتكلم فيه بحجة، والله أعلم.

ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والترمذي والنسائي وأبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الطبراني، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان " 2، هذا لفظ أبي داود الطيالسي، وهذا الحديث صحيح، رواته كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح؛ قال الترمذي هذا حديث صحيح، وهو

1 أبو داود: الصوم (2325) .

2 النسائي: الصيام (2189) ، وأحمد (1/226، 1/258)، والدارمي: الصوم (1683) .

ص: 270

صريح في المسألة، قاطع للعذر، غير قابل للتأويل بوجه من الوجوه.

وقد رواه الحافظ أبو بكر الخطيب من رواية ابن قتيبة عن حازم بن إبراهيم البجلي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه قال:" تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس، ثم قال: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يوماً "؛ قال الحافظ أبو بكر: وهذا أولى أن يؤخذ به من حديث ابن عمر، لما فيه من البيان الشافي، واللفظ الواضح الذي لا يحتمل التأويل.

ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وأبو حاتم ابن حبان البستي، وأبو الحسن الدارقطني، من رواية الثقة الحجة، جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ربعي عن حذيفة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة قبله " 1، هذا لفظ الدارقطني؛ وهذا الحديث رواته كلهم ثقات، مخرج لهم في الصحيحين، وهو صريح في عدم وجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا غم الهلال.

ومنها: ما رواه الإمام أحمد والنسائي، والدارقطني،

1 النسائي: الصيام (2126، 2127، 2128)، وأبو داود: الصوم (2326) .

ص: 271

من رواية حسين بن الحارث الجدلي، قال:" خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني قد جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم. ألا وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين ".

ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن روح عن زكريا عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا؛ فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً " 1، هذا إسناد صحيح.

ومنها: ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب، من رواية قيس بن طلق عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله، فقال: يا رسول الله، اليوم يصبح الناس يقول القائل: هو من رمضان، ويقول القائل: ليس من رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين "؛ وهذا الحديث وإن كان بعض رواته متكلم فيه، فهو يصح للاعتضاد والاستشهاد بلا ريب.

ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجة والترمذي، من حديث أبي إسحاق عن صلة بن زفر، قال:" كنا عند عمار بن ياسر، فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "، قال الترمذي:

1 البخاري: الصوم (1909)، ومسلم: الصيام (1081)، والترمذي: الصوم (684)، والنسائي: الصيام (2117، 2118، 2119، 2123)، وابن ماجة: الصيام (1655) ، وأحمد (2/259، 2/263، 2/281، 2/287، 2/415، 2/422، 2/430، 2/438، 2/454، 2/456، 2/469، 2/497)، والدارمي: الصوم (1685) .

ص: 272

هذا حديث حسن صحيح.

وقد روي من غير وجه مرفوعاً: النهي عن صوم يوم الشك، وقد روي عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أنهم نهوا عن صوم يوم الشك منهم حذيفة وابن عباس. وقد نص الإمام أحمد بن حنبل، في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم شك، وهذا القول صحيح بلا ريب، فالقول بوجوب صوم هذا اليوم لا دليل عليه أصلاً.

والقائلون بعدم الوجوب، قد ذكروا من جهة المعنى وجوهاً عاضدة ومقوية لما تقدم من الأحاديث: الوجه الأول: قالوا: الواجب صوم رمضان، وهذا اليوم ليس من رمضان فلا يجب صومه; والدليل على أنه ليس من رمضان الحكم والمعنى. الوجه الثاني، قالوا: الشك بالغيم ليس بأكثر من الشك الحاصل بالشهادة من رد الحاكم شهادته، ثم هناك لا يجب به الصوم، فكذلك الغيم؛ يوضح هذا: أن الغيم ليس سبباً في وجوب الصوم، إنما السبب رؤية الهلال، أو شهادة برؤيته، ونحن على الأصل، والغيم لا يصلح ناقلاً. الوجه الثالث: قالوا: عبادة، فلا يجوز الدخول فيها إلا على يقين، كسائر العبادات؛ وذلك: أن الشرع لما أوجب العبادات الموقتة، نصب لها أسباباً وأعلاماً، فدخول وقت الصلاة سبب لوجوبها، فلو شك فيه لم يجز له فعلها.

فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة على عدم الوجوب، معارض لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن

ص: 273

عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا رأيتموه فصوموا، واذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له 1، فإن معنى: " اقدروا له ": ضيقوا له عدداً يطلع في مثله، ومن هذا قوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق آية: 7] أي: ضيق.

قلنا: ليس في هذا الحديث دليل على وجوب الصوم أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب؛ فإن معنى " اقدروا له ": احسبوا له قدره، وذلك ثلاثون يوماً، وهو من قدر الشيء وهو مبلغ كميته، ليس من التضييق في شيء؛ والدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث ابن عمر:" فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 2، كما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر أيضاً:" الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " 3، فإن اللام في قوله:" فأكملوا العدة " للعهد، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم شهراً دون شهر بإكمال إذا غم، فلا فرق بين شعبان وغيره. وقد روى الإمام أحمد عن وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي، قال: سمعت ابن عمر يقول: " لو صمت السنة كلها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ?"، ثم ذكر الروايات عن الإمام أحمد، كما هي مذكورة فيما يأتي، نقلاً عن المغني والإنصاف. انتهى ما أردت نقله من كلام الحافظ محمد بن عبد الهادي، رحمه الله.

فتأمل ما أورده في الفصل من الأحاديث التي قد تواترت

1 البخاري: الصوم (1900)، ومسلم: الصيام (1080) .

2 البخاري: الصوم (1900، 1906، 1907، 1908، 1913) والطلاق (5302)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2120، 2121، 2122، 2139، 2140،2141 2142، 2143)، وأبو داود: الصوم (2319، 2320)، وابن ماجة: الصيام (1654) ، وأحمد (2/5، 2/13، 2/28، 2/31، 2/40، 2/43، 2/44، 2/52، 2/56، 2/63، 2/75، 2/77، 2/81، 2/122، 2/125، 2/129، 2/145)، ومالك: الصيام (633، 634)، والدارمي: الصوم (1684) .

3 البخاري: الصوم (1907)، وأبو داود: الصوم (2320)، ومالك: الصيام (634)، والدارمي: الصوم (1684) .

ص: 274

كثرة وصحة، فاتبعت ما ذكره في هذا الفصل بما ستقف عليه؛ قال أحمد، رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأى سفيان، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك. لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

وذكر صاحب المغني، رحمه الله، عن الإمام أحمد في هذه المسألة، ثلاث روايات: رواية الوجوب، ذكرها بصيغة التمريض، وضعفها شيخ الإسلام، وصاحب الفروع وغيرهما؛ قال في المغني: وروي عنه أن الناس تبع للإمام. وعنه رواية ثالثة: لا يجب صومه، ولا يجزيه عن رمضان إن صامه، قال: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي، ومن تبعهم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً "1. انتهى.

قلت: وحديث أبي هريرة صريح في الأمر بإكمال شعبان، إذا غمي الهلال ليلة الثلاثين، كما تقدم في كلام الحافظ؛ ولو لم يكن في هذه المسألة إلا هذا الحديث، لتعين الأخذ به والعمل، لصراحته وصحته. فهذا حكم من النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إليه وأمرهم به، فقال في الإنصاف: وإن حال دون منظره سحاب أو قتر ليلة الثلاثين، وجب صيامه عند الأصحاب، وهو المذهب، وهو من المفردات، وعنه: لا

1 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124)، وأبو داود: الصوم (2327) ، وأحمد (1/221، 1/226، 1/258، 1/306، 1/367)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

ص: 275

يجب صومه قبل رؤية الهلال، وقبل إكمال شعبان ثلاثين.

قلت: وهذه الرواية التي ذكرها في المغني بقوله: وعنه لا يجب صومه وفاقاً للثلاثة وأكثر العلماء؛ قال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين: هذا مذهب أحمد الصحيح الصريح عنه، وقال: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الصحابة. انتهى. قال: ورد في الفروع جميع ما احتج به الأصحاب للوجوب، وقال: لم أجد عن أحمد صريحاً في الوجوب، ولا أمر به، ولا يتوجه إضافته إليه. قلت: فأنكر صاحب الفروع على كثرة اطلاعه، على جميع ما صنف في مذهب أحمد قبله، أن يضاف إلى الإمام أحمد القول بوجوب صيامه؛ وحسبك بصاحب الفروع.

وللقائلين بالمنع من صيامه أن يحتجوا بما تقدم، وبقول الله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، فلم يتعبد عباده بصيامه إلا عند شهود الشهر، وشهوده إنما هو رؤية هلاله بلا ريب. ومما يحتج به البراءة الأصلية، وهي أن الأصل بقاء شعبان، وأما تأويلهم ما في حديث عبد الله بن عمر " فاقدروا له " بمعنى: ضيقوا له، فهذا تأويل ضعيف جداً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى هذه الكلمة، وأن معناها إكمال الثلاثين، كما تقدم ذلك صريحاً في كلام الحافظ؛ وقد قال في الإنصاف، لما ذكر رواية أنه لا يجب صومه، قال: واختار هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل، ذكره في الفائق، واختارها صاحب التبصرة، واختارها الشيخ تقي الدين وأصحابه، منهم

ص: 276

صاحب التنقيح والفروع والفائق وغيرهم، وصححه ابن رزين في شرحه. قلت: وصاحب التنقيح الذي ذكر الحافظ: محمد بن عبد الهادي.

وقال صاحب الإنصاف: وعنه صومه منهي عنه، قال في الفروع: واختاره أبو القاسم بن منده الأصبهاني، وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم، فعلى هذه الرواية، قيل: يكره صومه، وقيل: النهي للتحريم، ونقله حنبل، وذكره القاضي. قلت: ورواية حنبل بتحريم صيامه، هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن قوله:" فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1 أمر منه صلى الله عليه وسلم بإكمال شعبان؛ والأمر بالشيء نهي عن ضده، وتقدم حديث عمار وغيره.

وكل من ذكره صاحب الإنصاف من أئمة الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وابن رزين، وابن منده، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وجميع أصحابه، كلهم قد تركوا القول بالوجوب، وضعفوه، واختاروا الكراهة لصومه أو تحريمه، فوافقوا الأئمة الثلاثة في المنع من صيامه، وصححوا هذه الروايات عن الإمام أحمد، وبعضهم منع من نسبة القول بوجوبه إلى الإمام أحمد، كشيخ الإسلام وصاحب الفروع؛ فتوجه إنكار ذلك على من نسبه إليه من جهلة المتعصبين.

وقال الحافظ ابن حجر، في شرح البخاري: قال

1 البخاري: الصوم (1909) .

ص: 277

العلماء في معنى الحديث: " لا تستقبلوا رمضان بصيام " على نية الاحتياط لرمضان؛ قال الترمذي لما أخرجه: والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان بمعنى رمضان. انتهى. قال شارح العمدة: والمعتمد كما قال الحافظ ابن حجر، أن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين، فقد حاول الطعن في ذلك الحكم؛ قال الروياني من الشافعية بتحريم تقدم رمضان بيوم أو يومين، لحديث الباب، قال الشارح قلت: ونعم ما قال، لأن النهي يقتضي التحريم. انتهى.

ما يثبت به صيام رمضان

وقال العلامة ابن القيم: فصل: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية متحققة، أو بشهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام بشهادة أعرابي، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة؛ فإن كان ذلك إخباراً فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة. فإن لم تكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صام، ولم يكن يصوم يوم الإغماء، ولا أمر به، بل بأن يكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك؛ فهذا فعله، وهذا أمره.

ولا يناقض هذا قوله: " فإن غم عليكم فاقدروا له " 1، فإن القدر هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال، كما قال:" فأكملوا العدة " والمراد بالاكمال: عدة الشهر الذي غم، كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري:" فأكملوا عدة شعبان "

1 البخاري: الصوم (1900)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2120، 2121، 2122) ، وأحمد (2/5، 2/13، 2/63، 2/145)، ومالك: الصيام (633، 634)، والدارمي: الصوم (1684) .

2 البخاري: الصوم (1909) .

ص: 278

وقال: " لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة "1. فالذي أمر بإكمال عدته، هو الشهر الذي يغيم عند صيامه، وعند الفطر منه. وأصرح من هذا قوله: " الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 2، وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه، وإلى آخره بمعناه؛ فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى. وقال:" الشهر ثلاثون، والشهر تسع وعشرون، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين "، وقال:" لا تصوموا قبل رمضان. صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال دونه غياية فأكملوا ثلاثين " 3، وقال:" لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا. ولا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة "4. قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤيته ويفطر لرؤيته، فإن غم عليه أكمل شعبان ثلاثين يوماً ثم صام " 5، صححه الدارقطني وابن حبان. وقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين " 6، وقال:" لا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " 7، وقال:" لا تقدموا رمضان "، وفي لفظ:" لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه "8.

والدليل على أن يوم الإغماء داخل في النهي: حديث ابن عباس رفعه: " لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته

1 البخاري: الصوم (1907) .

2 البخاري: الصوم (1907) .

3 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2130) .

4 النسائي: الصيام (2126، 2127)، وأبو داود: الصوم (2326) .

5 أبو داود: الصوم (2325) .

6 البخاري: الصوم (1909)، ومسلم: الصيام (1081)، والترمذي: الصوم (684)، والنسائي: الصيام (2117، 2118) ، وأحمد (2/422، 2/430، 2/438، 2/454، 2/469، 2/497)، والدارمي: الصوم (1685) .

7 البخاري: الصوم (1906)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2121)، وأبو داود: الصوم (2320) ، وأحمد (2/63)، والدارمي: الصوم (1684) .

8 البخاري: الصوم (1914)، ومسلم: الصيام (1082)، والترمذي: الصوم (685)، والنسائي: الصيام (2172، 2173)، وأبو داود: الصوم (2335)، وابن ماجة: الصيام (1650) ، وأحمد (2/513)، والدارمي: الصوم (1689) .

ص: 279

وأفطروا لرؤيته، فإن حالت غياية فأكملوا ثلاثين " 1، ذكره ابن حبان في صحيحه؛ وهذا صريح في أن صوم يوم الإغماء من غير رؤية ولا إكمال ثلاثين، صوم قبل رمضان، وقال: " لا تقدموا الشهر إلا أن تروا الهلال أو تكملوا العدة " 2، وقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً " 3، قال الترمذي: حديث صحيح. وفي النسائي من حديث يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رفعه: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا. ولا تصوموا قبله يوماً، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا عدة شعبان " 4، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: " تمارى الناس في هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يوماً ".

وكل هذه الأحاديث صحيحة، بعضها في الصحيحين، وبعضها في صحيح ابن حبان والحاكم وغيرهما؛ وإن كان قد أعل بعضها، فلا يقدح في صحة الاستدلال بمجموعها، وتفسير بعضها ببعض، وكلها يصدق بعضها بعضاً، والمراد منها متفق عليه؛ وهذا بحمد الله هو

1 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2130) .

2 النسائي: الصيام (2126)، وأبو داود: الصوم (2326) ، وأحمد (4/314) .

3 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2129) ، وأحمد (1/221)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683) .

4 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2129) ، وأحمد (1/226)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

ص: 280

العلم الذي يعرفه العلماء من أهل السنة والجماعة، الذين يعرفون بالعلم ويعرف بهم، وقد حفظوه بحمد الله على من بعدهم، لكن لا يهتدي له إلا من ألهمه الله رشده ووقاه شر نفسه.

وأما الذي أسف عليهم هذا الرجل المتقدم ذكره 1 من أشباهه، فإنهم من جهلهم وضلالهم ينكرون هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، حسداً وبغياً، وظلماً وجهلاً وعناداً، وهم فلان، وفلان، فالحمد لله على معرفة الخطإ من الصواب، والتمسك بالسنة والكتاب.

وأما ما احتج به بعضهم من أن بعض الصحابة صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان في مطلع الهلال غيم أو قتر، فالجواب عنه من وجوه: أما ما ذكره عن ابن عمر: أنه صامه، فإنه لم يوجبه، ولا قال أحد إنه قال بوجوبه.

الوجه الأول: أنه قد صح عنه الحديث بلفظ: " فاقدروا له ثلاثين يوماً " 2، والحجة فيما روى لا فيما رأى.

الوجه الثاني: أن قول الصحابي حجة عند بعض العلماء كالإمام أحمد، ما لم يخالفه غيره من الصحابة، فإن خالفه غيره فليس بحجة عند الجميع؛ فكيف إذا خالف نصوص الأحاديث، والمرجع فيما اختلفوا فيه إلى الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كان أسعد بالدليل فهو المصيب، وقوله هو الحق; والعمل على ما وافق

1 في صفحة 267.

2 البخاري: الصوم (1907)، ومسلم: الصيام (1080)، وأبو داود: الصوم (2320) .

ص: 281

الدليل، وهذا هو الذي أمرنا الله به وفرضه علينا كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وبهذه الآية العظيمة ختمنا الجواب، لما فيها من فصل النزاع في كل دعوى ادعى بها كل مدع، وبالله التوفيق.

قال ابن رجب في كتاب اللطائف، في المجلس الثالث في صيام آخر شعبان، بعد كلام له على حديث عمران بن حصين: في صيام آخر شعبان، له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصام بنية الرمضانية احتياطياً لرمضان، فهذا منهي عنه. والثاني: أن يصام بنية النذر، أو قضاء، أو كفارة، أو نحو ذلك، فجوزه الجمهور، ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم. والثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر - إلى أن قال - وفرق الشافعي، والأوزاعي، وأحمد وغيرهم، بين أن يوافق عادة أو لا - إلى أن قال - ولكراهة التقدم قبله، لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهى عن صيام يوم العيد لهذا المعنى، حذراً مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم، وكان من السلف من يتقدم للاحتياط، والحديث حجة عليه - إلى أن قال - المعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل، فإن جنس الفصل

ص: 282

بين الفرائض والنوافل، مشروع، إلى آخر كلامه.

وأجاب أيضاً: ولا يخفى أن صيامه من مفردات مذهب الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، نفى أن يكون الإمام أحمد أوجبه، وقال: ليس في كلام أحمد ما يدل على وجوبه، وقال: يحتمل الاستحباب والإباحة. وللإمام الحافظ محمد بن عبد الهادي مصنف ذكر فيه ما ورد فيه من النهي عن صيامه، وذكر في بعض روايات ابن عمر:" فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، وذكره عن ابن عمر أيضاً مرفوعاً، وهذا يدل على المنع من صيامه. والأحاديث صحيحة مقطوع بصحتها.

والمنع من صيامه هو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ومن أخذ عنه. وينهون عن ذلك لوجوه أربعة:

الأول: أن تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل، ولا تكون من رمضان، إلا بيقين.

الوجه الثاني: النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ومن صام فقد تقدم رمضان.

الوجه الثالث: الأحاديث التي فيها التصريح بالنهي عن صيامه، وذلك قوله:" فأكملوا العدة ثلاثين " 2؛ وفي بعضها تخصيص شعبان.

الوجه الرابع: حديث عمار: " من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم ".

وسئل أيضاً عن قوله: إذا حال دون منظره غيم أو قتر، ويستدل بقوله في الحديث:" فإن غم عليكم فاقدروا له "3.

1 البخاري: الصوم (1909) .

2 البخاري: الصوم (1907) .

3 البخاري: الصوم (1900)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2120، 2121، 2122) ، وأحمد (2/5، 2/13، 2/63، 2/145)، ومالك: الصيام (633، 634)، والدارمي: الصوم (1684) .

ص: 283

ويقول: إن القدر: التضييق، مثل قوله:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [سورة الطلاق آية: 7] ، وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صام، وصامه بعض الصحابة.

فأجاب: هذا القول أخذ به بعض الحنابلة وبعضهم مع الأئمة الثلاثة، وأكثر العلماء لا يقولون بوجوبه ولا باستحبابه؛ قال في الإنصاف: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صومه، وعنه: لا يجب، قال الشيخ: هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، ولا أصل للوجوب في كلامه، ولا كلام أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، أنه صامه، إلا عبد الله بن عمر احتياطاً، قاله ابن القيم، وذكر أن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنكر عليه صيامه. قال الحافظ محمد بن عبد الهادي، رحمه الله تعالى: وقد روى من غير وجه مرفوعاً: النهي عن صوم الشك، منهم حذيفة وابن عباس. ونص الإمام أحمد في رواية المروذي: أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم الشك، وهذا القول صحيح بلا ريب.

قال الحافظ: وليس في الحديث الذي استدل به المتأخرون دليل على وجوبه أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب، فإن معنى اقدروا: احسبوا له قدره، وذلك بثلاثين يوماً، فهو من قدر الشيء وهو مبلغ كميته، ليس من الضيق في شيء، والدليل على ذلك، ما في صحيح مسلم عن ابن عمر:" فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 1 أي: فأكملوا العدة ثلاثين، وابن عمر هو الذي روى حديثهم الذي احتجوا به

1 البخاري: الصوم (1900، 1906، 1907، 1908، 1913) والطلاق (5302)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2120، 2121، 2122، 2139، 2140، 2141 ،2142، 2143)، وأبو داود: الصوم (2319، 2320)، وابن ماجة: الصيام (1654) ، وأحمد (2/5، 2/13، 2/28، 2/31، 2/40، 2/43، 2/44، 2/52، 2/56، 2/63، 2/75، 2/77، 2/81، 2/122، 2/125، 2/129، 2/145)، ومالك: الصيام (633، 634)، والدارمي: الصوم (1684) .

ص: 284

وصرح في هذه الأحاديث بمعناه، وهو إكمال شعبان ثلاثين.

واستدل الأئمة على تحريم صيامه بحديث عمار، وهو ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي، عن طلحة بن زفر، قال:" كنا عند عمار بن ياسر، وأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "1. قلت: وهذا عند أهل الحديث في حكم المرفوع، وقد جاء صريحاً في حديث أبي هريرة: الأمر بإكمال عدة شعبان ثلاثين إذا غبى الهلال، وهو عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 2.

قال الحافظ: وهذا الحديث لا يقبل التأويل، وذكر أحاديث كثيرة، منها: ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، عن عائشة قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه أتم ثلاثين يوماً ثم صام " 3، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته صيام الثلاثين إذا غم الهلال ليلته. فهذا وغيره من الأحاديث بين أن الحجة مع من أنكر صيام ذلك اليوم إذا غم الهلال ليلته، وأن السنة إكمال شعبان ثلاثين إذا لم ير الهلال؛ وهو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.

وأجاب أيضاً: وما ذكرت أن مرعي له رسالة في تصحيح

1 الترمذي: الصوم (686)، والنسائي: الصيام (2188)، وأبو داود: الصوم (2334)، وابن ماجة: الصيام (1645)، والدارمي: الصوم (1682) .

2 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124)، وأبو داود: الصوم (2327) ، وأحمد (1/221، 1/226، 1/258، 1/306، 1/367)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

3 أحمد (6/149) .

ص: 285

صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون منظره غيم أو قتر، فلا يجوز أن الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد تترك، لقول مقلد، بلا حجة ولا برهان، وأن هذا يصير هو العلم، وأن ما قرره الحفاظ المحققون بالأدلة، يقدم عليه قول مرعي ومن فوقه، أو دونه.

وأجاب أيضاً: وما ذكرت أن مرعي صحح صيام يوم الشك من رمضان، فعجباً لك! كيف يمكن مرعي أو غيره يصحح ما قد ثبت فيه من رواية عمار بن ياسر:" من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم "، والحديث الذي في الصحيح:" فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، وحديث " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 2؛ فأمر صلى الله عليه وسلم بإكمال شعبان مع الإغماء، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وسياق الحديث الثاني في شعبان، وعمومه يتناول غيره من الشهور، كشهر ذي الحجة والمحرم، والكلام في هذا المحل يطول.

وأيضا، كيف يوزن مرعي بشيخ الإسلام، وابن مفلح صاحب الفروع، والحافظ محمد بن عبد الهادي، وهم المحققون المتبعون، والحجة معهم؛ فلهذا لا يسع أحداً يترك ما حققوه بالدليل، ويميل إلى غيرهم. وفي الشرح الكبير والمغني، ما ينصر قول هؤلاء الأئمة والحفاظ، فسبحان الله ما أكثر من ضل فهمه! والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

1 البخاري: الصوم (1909) .

2 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124) ، وأحمد (1/226)، والدارمي: الصوم (1683) .

ص: 286

وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى، في رده على عثمان بن منصور، قال: وأما قوله في مسألة صوم يوم الثلاثين، إذا حال دون المنظر غيم أو قتر، وزعمه أن هذه المسألة سلكها إمام السنة، إلى آخر ما قال في مدح الإمام أحمد، فيناقش أولاً في اللفظ، ويقال: قوله: هذه المسألة سلكها إمام السنة، عبارة نبطية ليست بعربية؛ فإن المسألة لا تسلك، إنما يسلك الطريق، والمذهب ونحوهما، ثم مدح الإمام أحمد، وقول أبي داود وغيره في تفضيله، والثناء عليه كله حق؛ لكن لا يفيد هنا، ولا يدل على أنه لا يقول إلا صواباً، فإن هذا لا يثبت إلا للمعصوم، وقد أفتى، رحمه الله، في مسائل معروفة، ورجع عنها، كالمنع من القراءة عند القبر، ولا يدعي عصمته من يعقل.

وأيضاً، فأتباع الأئمة يوردون في فضل أئمتهم مثل هذا، والمخالف يورد في فضل من لم يصم هذا اليوم ما هو أبلغ؛ فإن جمهور الصحابة والتابعين لم يصوموا، فإن كان هذا حجة فهم أسعد بها للقوة والكثرة، وإن لم يكن حجة فهذه المقدمة التي قدمها في مدحه لا دليل فيها على محل النّزاع كما هو ظاهر. ثم الخصم لا يسلم لكم أن أحمد قال بالوجوب، وليس معكم من الأدلة على ذلك دليل يجب التسليم له.

وسيأتيك نقض أدلته، ومعارضتها دليلاً دليلاً. وقد ذكر عن أحمد في هذه المسألة سبع روايات، تأتيك إن شاء الله

ص: 287

مفصلة، كل رواية قال بها طائفة واحتجوا لها. وترجيح من قال بالوجوب ليس دليلاً على من قال بالجواز ورجحه، أو الإباحة ورجحها، أو التحريم ورجحه، ولا يحتج بقول على قول؛ والحجة في الدليل. ومع من منع صومه من الأحاديث النبوية، التي تعددت طرقها ما لا يدفعه دافع، ولا يقاومه مقاوم، ولا يعارضه معارض، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

ونبدأ أولاً بذكر الأحاديث النبوية، الواردة في خصوص هذه المسألة، ثم نأخذ في نقض أدلة الخصم مفصلة.

فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين في الحديث، شعبة بن الحجاج، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:" صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، كذا رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وكفى به حجة وهو صريح في إكمال شعبان ثلاثين، وهو غير قابل للتأويل بوجه، بل هو فاصل للنّزاع في المسألة. فأي عذر يبقى في ترك العمل بهذا بعد بلوغه؟

ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، من رواية الإمام الحافظ الثبت أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس،

1 البخاري: الصوم (1909) .

ص: 288

عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام "1. قلت: فهذا فعله صلى الله عليه وسلم والأول أمره، فثبت بهذا أنه ترك صيامه، وتركه سنة. قال الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الهادي: هذا حديث صحيح صريح في المسألة لا يقبل التأويل أصلاً. انتهى.

وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا إسناد صحيح، قال ابن عبد الهادي: كذا قال الحافظ أبو الحسن، وهو إمام عصره في علم الحديث، وهو مصيب في قوله؛ فإن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح، ومعاوية بن صالح ثقة احتج به مسلم في صحيحه، ووثقه ابن مهدي والإمام أحمد، وأبو زرعة وغيرهم، قاله الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي.

ومنها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود السجستاني، والترمذي والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الطبراني وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحه وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة، فأكملوا شهر شعبان ثلاثين يوماً، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان "، هذا لفظ أبي داود الطيالسي؛ قال ابن عبد الهادي: وهذا الحديث صحيح، ورواته كلهم ثقات، مخرج لهم في الصحيح، قال الترمذي: هو حديث صحيح

1 أبو داود: الصوم (2325) .

ص: 289

حسن، وهو صريح في المسألة، قاطع للعذر، غير قابل للتأويل بوجه من الوجوه.

وقد رواه الحافظ أبو بكر الخطيب، من رواية أبي قتيبة عن حازم بن إبراهيم البجلي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه قال:" تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال: بعضهم: اليوم، وقال بعضهم غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه قد رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا؛ ولا تصوموا يوماً قبله "، قال الحافط أبو بكر: وهذا أولى أن يؤخذ به من حديث ابن عمر، لما فيه من البيان الشافي، واللفظ الذي لا يحتمل التأويل. قلت: ففي هذا الحديث نهيه عن صومه نهياً صريحاً.

ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وأبو حاتم ابن حبان البستي، وأبو الحسن الدارقطني، من رواية الثقة الحجة جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة قبله " 1، هذا لفظ الدارقطني؛ قال الحافظ ابن عبد الهادي: وهذا الحديث رواته كلهم مخرج لهم في الصحيحين، وهو صريح في عدم وجوب صوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال، وفي لفظ رواه النسائي مرسلا " فإن غم فأتموا شعبان

1 النسائي: الصيام (2126، 2127، 2128)، وأبو داود: الصوم (2326) .

ص: 290

ثلاثين، إلا أن تروا الهلال قبل ذلك " 1.

ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي والدارقطني، من رواية حسين بن الحارث الجدلي، قال خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم، ألا وإنهم حدثوني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين "2.

ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن روح عن زكريا عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً " 3، وهذا إسناد صحيح.

ومنها: ما رواه الحافط أبو بكر الخطيب، من رواية قيس بن طلق عن أبيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله، اليوم يصبح الناس، ويقول القائل: ليس هو من رمضان، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين "، وهذا الحديث وإن كان بعض رواته متكلماً فيه، فإنه يصلح للاعتضاد والاستشهاد بلا ريب، قاله الحافظ ابن عبد الهادي.

1 النسائي: الصيام (2128) .

2 النسائي: الصيام (2116) .

3 البخاري: الصوم (1909)، ومسلم: الصيام (1081)، والترمذي: الصوم (684)، والنسائي: الصيام (2117، 2118، 2119، 2123)، وابن ماجة: الصيام (1655) ، وأحمد (2/259، 2/263، 2/281، 2/287، 2/415، 2/422، 2/430، 2/438، 2/454، 2/456، 2/469، 2/497)، والدارمي: الصوم (1685) .

ص: 291

ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجة والترمذي، من حديث ابن إسحاق عن صلة بن زفر، قال:" كنا عند عمار بن ياسر، فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم "، قال الحافظ ابن عبد الهادي: وقد روي من غير وجه مرفوعاً النهي عن صوم يوم الشك، وقد روي عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أنهم نهوا عن صوم يوم الشك منهم حذيفة وابن عباس. وقد نص الإمام أحمد، رحمه الله في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم شك؛ وهذا القول صحيح بلا ريب، فإن هذا اليوم يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وهو الأصل.

إذا عرفت هذا، فالمخالف ادعى وجوب صومه من رمضان، واحتج بأمور، منها: أنه زعم أنه مذهب الإمام أحمد، رحمه الله، ومنها: أنه زعم أنه قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وكاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت الصديق وابن العاص وأبي هريرة وأنس بن مالك. واحتج على أن عمر قال بوجوبه بما رواه العكبري: عن ثوبان عن أبيه عن مكحول، أن " عمر كان يصوم إذا كانت السماء مستغيمة ليلة الثلاثين من شعبان، ويقول: ليس هذا بالتقدم، ولكنه بالتحري ". واحتج لما نسبه إلى علي بما روى عن فاطمة بنت حسين أن " علياً كان يصومه

ص: 292

ويقول: لأن أصوم يوماً من شعبان، أحب إلى أن أفطر يوماً من رمضان ".

واحتج لما نسبه إلى معاوية بما روي عنه، من قوله:" لأن أصوم يوماً من شعبان أحب الي أن أفطر يوماً من رمضان "، واحتج لما نسبه إلى عمرو بن العاص، بما روي أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان إذا كانت غيماً، واحتج لدعواه على أبي هريرة بقوله:"لأن أتعجل في رمضان بيوم، أحب إلي من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني "، واحتج لما نسبه إلى عائشة أم المؤمنين أنها كانت تصوم، وكذا عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه إذا كانت غيماً، ولما نسبه إلى ابن عمر بأنه كان يصومه، إذا حال دون منظره سحاب أو قتر.

ثم قال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا كان في السماء سحاب أو علة أصبح صائماً، قال: قلت لأبي عبد الله: فيعتد به؟ قال: كان ابن عمر يعتد به، فإذا أصبح عازماً على الصوم اعتد به ويجزيه، ثم ذكر كلاماً يحتج به على فضل بعض الصحابة، ثم ادعى أن يوم الشك إذا كانت السماء مصفية، ليس عليها غيم ولا علة، ثم زعم أن أحمد نص على وجوب صوم يوم القتر أو الغيم، وذكر أن الخلال، وأبا بكر عبد العزيز، نصا عليه، والقاضي أبو يعلى، والخرقي، والزركشي، وابن قدامة، حكى الوجوب رواية.

ص: 293

ثم حكى رواية عن أحمد بعدم الوجوب والإجزاء، وأجاب عنه بأن النفي هنا إثبات في الرواية الأولى، فجعل النفي هو الإثبات، وذكر عبارة الإنصاف وقوله: إن حال دون المنظر غيم أو قتر ليلة الثلاثين، وجب الصيام بنية رمضان، وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه، وصنفوا فيه التصانيف، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه.

ثم ذكر كلام أبي العباس ابن تيمية، في عدم الوجوب، وقد تصرف في العبارة، وستأتيك على وضعها في الجواب، ثم نقل عن ابن مفلح في فروعه روايتين، الوجوب والجواز. ثم زعم أن كلام شيخ الإسلام دائر بين الاستحباب والإباحة، وساق كلاماً له في المسألة فيه تفصيل وحكاية للأقوال، ثم تعقبه بكلام يوسف بن عبد الهادي، صاحب جمع الجوامع، وليس هو الحافظ شمس الدين، واعترض فيه على الشيخ في قوله: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، وزعم أنه من تجاهل العارف، واستدل بأن أحمد كان يصوم بنية رمضان، قال: ولا شك أنا إذا حكمنا بالصوم بنية رمضان، فالصوم حكمه حكم الصوم برؤية الهلال، قال: وكلام أحمد إن لم يكن فيه نص على الوجوب، فإن معناه الوجوب، قال: والنظر في المعاني لا إلى الألفاظ. ثم زعم المفتي أن ابن مفلح لم يرض كلام الإمام ابن تيمية، وأنه قال بعده: كذا قال، ثم جعل صاحب جمع الجوامع من أصحاب الشيخ، وأين هو من زمن الشيخ ووقته؟ فاشتبه عليه

ص: 294

الأمر، ولم يميز بين هذا، وبين صاحب الشيخ الذي هو محمد بن أحمد.

ثم ذكر عن أحمد، رحمه الله، كلاماً في آدم بن أبي إياس، وأنه انفرد بهذه اللفظة، يعني: أكملوا عدة شعبان ثلاثين، عن أصحاب شعبة، غندر وعبد الرحمن بن مهدي وابن عيسى، وابن يونس وشبابة وعاصم بن علي، والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وابن داود. وذكر عن ابن الجوزي: أنه يجوز أن يكون هذا زيادة من آدم تفسيراً للحديث، وإلا فليس للزيادة وجه، ثم قال ابن الجوزي: فيحتمل رواية الجماعة في قوله: " فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين " 1 على آخر الشهر أقرب المذكور، وطعن في رواية محمد بن زياد، بأن سعيد بن المسيب خالفه، فرواه عن أبي هريرة بلفظ:" فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين " 2، وزعم أن هذه الرواية تبين المراد من الأحاديث، وأنه قد قيل: إن ذكر شعبان من تفسير ابن أبي إياس.

ثم ذكر حديث ابن عمر: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له " 3، وأن معنى اقدروا: ضيقوا، ويجوز أن يكون معناه: اعلموا، قال: وابن عمر راوي الحديث هو أعلم بمعناه، واحتج بقوله:" الشهر تسع وعشرون " 4 وأنه كالتوطئة لما بعده، قال: ولأن الصوم ثابت في ذمته بيقين، ولا يبرأ إلا بصوم ذلك. ثم ذكر كلاماً معناه ذم خصمه، وأنه يفتري على شيخ الإسلام، وأن ما قاله

1 الترمذي: الصوم (684) ، وأحمد (2/438، 2/497) .

2 مسلم: الصيام (1081)، والترمذي: الصوم (684)، والنسائي: الصيام (2119)، وابن ماجة: الصيام (1655) ، وأحمد (2/259، 2/263، 2/281) .

3 البخاري: الصوم (1900) ، وأحمد (2/145)، والدارمي: الصوم (1684) .

4 البخاري: الصوم (1907)، وأبو داود: الصوم (2320)، ومالك: الصيام (634)، والدارمي: الصوم (1684) .

ص: 295

هو طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر شعراً له في مدح الإمام أحمد،، يستحي من ذكره عند أهل الفن، وأنه راج على أخدانه وأصحابه؛ ومناقشته فيه تطول، وليس تحتها كبير فائدة كقوله:

أرى زماني يقتادني لبطاني

يعفر مني بالجولاني

فانظر ما في هذا البيت، وما تركنا أعجب منه، وهو فاسد المعنى، فإن التدبير والتقدير أخذ بالناصية، لا قود بالبطان، وفيه النسبة إلى الزمان، وفي الحديث:" لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " 1، والجولان يطلق ويراد به جولان الذهن والفهم، وعدم ثباته واستقراره، ويراد به الحركة الحسية والتردد فيها. ثم لفظة "الجولان" فيها بحث يتعلق بالصحة والفساد، يعرف من كلامهم في أسماء المصادر. وقوله: أرى زماني يقتادني لبطاني، إن البطنة هي التي أوردته الموارد، وإنه يؤتى من جهتها، لأن اللام في قوله: لبطاني، للتعليل، وما أحسن ما قيل شعراً:

وإنك مهما تؤت بطنك سؤله

وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

ثم أكثر بعد هذا من النظم والنثر، والتشكي من الجهل، لقلة العلم وتدريس الجهال، وأكثر من هذا الضرب بكلام ركيك، وأنهم دخلوا تحت قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] .

1 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) ، وأحمد (2/395، 2/491، 2/499) .

ص: 296

والجواب من طريقين: مجمل ومفصل؛ أما المجمل: فالصحابة والتابعون وأئمة الإسلام، مجمعون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالواجب الأخذ بها، وترك ما سواها من أقوال أهل العلم، من الصحابة أو غيرهم؛ قال ابن عبد البر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم، أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان؛ قال هذا أو نحوه.

وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وتقدم قول عمر بن عبد العزيز: " لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وعن الشافعي أيضاً مثله. وقد نهى الأئمة، رضي الله عنهم، عن تقليدهم، وأمروا بالنظر والاحتياط للدين؛ قال المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي، مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال أحمد لأبي داود، لما سأله أن يقلد الأوزاعي أو مالك، قال: لا تقلد دينك أحداً، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، ثم التابعين بعد، الرجل فيه مخير. وقال: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا، حتى يعلم من أين قلنا. وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب، لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب؛

ص: 297

فكيف من ترك قول الله ورسوله، لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟

وقد أراد هارون الرشيد حمل الناس على الموطإ، فنهاه مالك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلدان، فخاف أن يكون معهم من العلم ما لم يبلغه. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وسأله رجل عن حديث، فأخبره أنه قد ثبت، فقال: أتأخذ به يا أبا عبد الله؟ قال: أرأيت في وسطي زناراً؟ وهذا أدلته كثيرة، وأظن الخصم يسلمه، ومن لم يسلمه فكلام الأئمة فيه وفي تكفيره لا يخفى.

وأما استدلاله بأن الصحابة، عمر، وعلي، ومن ذكر بعدهم، قد صاموه، فالجواب عنه: أن الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي، قال: لم يثبت وجوب ذلك عن أحد من الصحابة، وأشهر ما في الباب ما نقل عن ابن عمر، وهو غير دال على الوجوب. وما نقل عن غيره، فهو إما غير ثابت عنه، وإما غير دال على الوجوب.

فأما ما نقل عن عمر، فهو يروى عن مكحول، وبين مكحول وبينه مفازة طويلة؛ فهو منقطع، ولو ثبت فهو فعل ليس فيه أمر بالصوم.

وما روي عن علي، فهو منقطع، وهو غير صريح في الوجوب، وفاطمة بنت حسين لم تدرك علياً. والمنقول عن

ص: 298

معاوية منقطع أيضاً، فإنه من رواية مكحول، وابن حليس وأينهما من معاوية؟ وكذا ما يروى عن عمرو بن العاص منقطع، فإن ابن هبيرة لم يدرك عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة، وليس في ذلك دلالة على الوجوب، ولأنه مجرد فعل، والمروي عن أبي هريرة ليس فيه إلا الاحتياط وترجيحه.

وما روي عن عائشة، قال أحمد في إسناده: أخطأ فيه شعبة، وعبد الله بن قيس، وليس فيه إلا استحباب الاحتياط، وكذا ما نقل عن أسماء. فقد عرف أن ما نقل عن الصحابة، بعضه لم يثبت، وما ثبت فليس فيه دلالة على الوجوب، ولو فرضنا ثبوت الوجوب، لم يكن فيه حجة مع مخالفة غيره، ومع مخالفة الأحاديث الصحيحة.

وأما احتجاجه بأنه مذهب الإمام أحمد، فعن الإمام أحمد في هذه المسألة سبع روايات:

إحداها: أنه يجب الصوم جزماً أنه من رمضان، وهذا لم يثبت عن الإمام أحمد، وهو من أضعف الأقوال في المسألة، أو أضعفها، قاله شمس الدين بن عبد الهادي. وقال شيخ الإسلام: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ومن تأمل نصوصه وكلامه عرف أنه لم يوجبه.

والثانية: أنه يجب الصوم ظناً أنه من رمضان، وهذا لا دليل عليه.

والثالثة: أنه يستحب الصوم احتياطاً، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ وعلى هذا حمل فعل ابن عمر، وفعل الإمام أحمد، وقد قيل: إن هذا القول هو المشهور عن

ص: 299

أحمد، وهو مذهبه.

الرابعة: أنه يجوز الصوم.

والخامسة: يكره.

والسادسة: يحرم ولا يجوز، كقول الجمهور; قال الشافعي: لا يجوز صيامه من رمضان ولا نفلاً، بل يجوز صيامه نذراً وكفارة، ونفلاً يوافق عادة. وقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجوز صيامه من رمضان، ويجوز صيامه مما سوى ذلك.

والرواية السابعة: أنه يرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر، كما هو قول الحسن وابن سيرين؛ قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: لا أرى صيام يوم الشك إلا مع الإمام والناس، قال حنبل: سألوا ابن عمر، فقالوا: نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء، فقال:" أف، أف، صوموا مع الجماعة ".

إذا عرفت هذا، وأن كل رواية عليها طائفة من أكابر الحنابلة، فحينئذ يعرف بطلان قوله: قال الخلال، قال أبو بكر عبد العزيز، قال القاضي، قال الخرقي، قال الزركشي؛ وهؤلاء تقابل أقوالهم بأقوال أمثالهم، وإذا احتج من خالفهم بجمهور الأمة والأئمة، صار له الحظ من القوة والصولة، وإذا قابلت بين أقوال جمهور الصحابة، وبين أقوال الموجبين للصيام، تبين لك الفرق، وإن جئتهم من أعلى واحتججت بما سبق من الأحاديث، بطل قولهم من أصله، وتهدمت أركانه، وإن كثر عددهم.

وقد اعترض صاحب الفروع ابن مفلح، رحمه الله، القول

ص: 300

بالوجوب، ونسبته إلى أحمد، ونص كلامه: وإن حال دون مطلعه غيم أو قتر أو غيرهما، وجب صومه بنية رمضان؛ اختاره الأصحاب، وذكروه ظاهر المذهب، وأن نصوص أحمد تدل عليه. ثم قال بعد هذا: كذا قالوا، ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب، ولا أمر به، فلا يتوجه إضافته إليه; ولهذا قال شيخنا: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الأصحاب، واحتج الأصحاب بحديث ابن عمر وفعله، وليس بظاهر في الوجوب، وإنما هو احتياط قد عورض بنهي.

واحتجوا بأقيسة تدل على أن العبادة يحتاط لها، واستشهدوا بمسائل، وإنما هي تدل على الاحتياط فيما ثبت وجوبه، أو كان الأصل، كثلاثين من رمضان; وفي مسألتنا لم يثبت الوجوب، والأصل بقاء الشهر، وما ذكروه من أن الشك في مدة المسح يمنع المسح، إنما كان لأن الأصل الغسل، فمع الشك يعمل به، ويأتي هل يتسحر مع الشك في طلوع الفجر؟ إلى آخر العبارة.

وما ذكره عن شيخ الإسلام من أنه يرى الجواز والإباحة، فنعم، قال هذا، ولكن رد على من قال بالوجوب، ونسبه إلى الإمام أحمد; وقال ابن اللحام في الاختيارات: كان الشيخ يميل آخراً إلى القول بالكراهة، للأحاديث الواردة في ذلك. انتهى; فهذا كلام شيخ الإسلام، وكلام ابن مفلح، الذي شهد له العدل الزكي الإمام الورع شمس الدين ابن قيم

ص: 301

الجوزية، أنه ما تحت أديم السماء من هو أعلم منه بمذهب أحمد.

وقال العلامة ابن القيم، في أثناء كلام له في هذه المسألة: وكان إذا حال دون منظره ليلة الثلاثين غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ولم يصم يوم الإغماء، ولا أمر به، بل أمر أن يكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك؛ فهذا فعله وأمره، ولا يناقض هذا قوله:" فإن غم عليكم، فاقدروا له " 1، فإن القدر هو الحساب المقدور، والمراد به إكمال عدة الشهر الذي غم، كما في البخاري:" فأكملوا عدة شعبان "2. انتهى.

وأمثل ما احتج به من قال بالوجوب، قوله في حديث ابن عمر:"فاقدروا له " فاستدلوا على الوجوب، بأن حملوا هذه اللفظة في الحديث على التضييق، وقالوا: معناها: ضيقوا له عدداً يطلع في مثله، وذلك يكون لتسع وعشرين، ومن هذا قوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق آية: 7] أي: ضيق عليه.

والجواب عنه على ما ذكره العلامة ابن القيم، والحافظ ابن عبد الهادي، وغيرهم من الحنابلة القائلين بعدم الوجوب، والجمهور، أن يقال: ليس في الحديث دليل على وجوب الصوم أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب، فإن معنى " اقدروا له ": احسبوا له قدره، وذلك ثلاثون يوماً، فهو من قدر الشيء، وهو مبلغ كميته، وليس من التضييق في شيء،

1 البخاري: الصوم (1900)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2120، 2121، 2122) ، وأحمد (2/5، 2/13، 2/63، 2/145)، ومالك: الصيام (633، 634)، والدارمي: الصوم (1684) .

2 البخاري: الصوم (1909) .

ص: 302

قال بعضهم في الآية: ليس المعنى بقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق آية: 7] التضييق، بل معناه: أن يكون رزقه بقدر كفايته، لا يفضل منه شيء، والله تعالى يرزق العبد ما يسعه، ويرزقه ما يفضل عنه؛ فالأول هو الذي قدر عليه رزقه، أي بقدر كفايته، والثاني هو الغني الموسع عليه.

وإن قيل: بأن معناه التضييق، فلا يتعين النقص، فإن التضييق لازم لمعنى التقدير، بمعنى أنه لا يزاد ولا ينقص عما قدر له، فيكون التضييق عدم دخول غير ما قدر، فإذا جعل الشهر ثلاثين، فقد قدر له لا يدخل فيه غيره; وهذا هو التضييق. انتهى. وهذا يتعين القول به، لما روى مسلم من حديث ابن عمر:" فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 1، وما رواه البخاري من حديث ابن عمر أيضاً:" الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين "2.

فتعين ما قاله الجمهور، لأن المجمل يحمل على المفصل، والمشتبه على المحكم؛ وإذا تبين مراده صلى الله عليه وسلم تعين ووجب، وهو موافق لحديث أبي هريرة المتقدم، لا يقال إن شعبان غير مراد، ولأنه قد نص عليه فيما تقدم من الأحاديث، ولأن اللام في قوله:" فأكملوا العدة " في رواية البخاري للعهد، أي عدة الشهر، ولم يتقدم رمضان ذكر يوجب أن تتعين إرادته، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم شهراً دون شهر للإكمال إذا غم، فلا فرق بين شعبان أو غيره، إذ لو كان شعبان غير مراد

1 البخاري: الصوم (1900، 1906، 1907، 1908، 1913) والطلاق (5302)، ومسلم: الصيام (1080)، والنسائي: الصيام (2120، 2121، 2122، 2139، 2140، 2141، 2142، 2143)، وأبو داود: الصوم (2319، 2320)، وابن ماجة: الصيام (1654) ، وأحمد (2/5، 2/13، 2/28، 2/31، 2/40، 2/43، 2/44، 2/52، 2/56، 2/63، 2/75، 2/77، 2/81، 2/122، 2/125، 2/129، 2/145)، ومالك: الصيام (633، 634)، والدارمي: الصوم (1684) .

2 البخاري: الصوم (1907)، وأبو داود: الصوم (2320)، ومالك: الصيام (634)، والدارمي: الصوم (1684) .

ص: 303

بينه، وذكر الإكمال عقب قوله: صوموا وأفطروا، فشعبان وغيره مراد من هذا، فرواية من روى:" فأكملوا عدة شعبان " 1 موافقة لرواية من قال: " فأكملوا العدة " 2، بل هي مبينة لها.

ويشهد لهذا بعض ألفاظ حديث ابن عباس: " فإن حال بينكم وبينه سحاب، فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً " 3، وهذا صريح أن التكميل لشعبان، كما هو لرمضان. وقد روى الإمام أحمد، رحمه الله، عن وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي، قال:" سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه "؛ وقد تقدم: أن الإمام أحمد نص في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان، إذا غم الهلال، يوم شك.

وأجاب أيضاً: وأما مسألة السنة لمن صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال ليلة الثلاثين دون الهلال غيم أو قتر، فالقائلون بصومه وجوباً، أو استحباباً، يجزيه عندهم إذا نواه من رمضان. والصحيح الذي عليه المحققون: أنه لا يجب صومه ولا يؤمر به، ومن صامه من السلف لم يوجبه، والحجة لمن منع صومه مطلقا، ما في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم:" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ". انتهى. وليس لأحد بلغته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده الحديث، أن يعدل إلى غيره لرأي أحد من الناس كائناً من كان. انتهى.

1 البخاري: الصوم (1909) .

2 البخاري: الصوم (1907) .

3 النسائي: الصيام (2129) ، وأحمد (1/226)، والدارمي: الصوم (1683) .

ص: 304

قال الشيخ سليمان بن سحمان: وقرر - يعني الشيخ عبد اللطيف - في مسألة صيام يوم الشك: ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وأن من صامه من السلف لم يوجبه، ولم يأمر الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس؛ فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه، ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه، فيا ليت شعري، أين وجدوا ذلك؟! وأي الكتب اعتمده أولئك؟! نعم قد وجدوا في بعض الروايات، الوجوب عن الأصحاب، فأين وجدوا الضرب والجلاء والسباب؟!

وإذا قيل لأحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: المذهب كذا، وبه قال الإمام المعظم، فليت شعري، كيف ساغ لهم تقليده، رحمه الله، في هذه وغيرها من المسائل؟! ولم يسغ لهم تقليده في قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. إذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " 1؛ والمقصود من هذا الكلام: إنكار إيقاع بعضهم

1 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124)، وأبو داود: الصوم (2327) ، وأحمد (1/221، 1/226، 1/258، 1/306، 1/367)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

ص: 305

بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض هذه الروايات. انتهى.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن اختلاف الأهلة بالكبر

إلخ؟

فأجاب: وأما اختلاف الأهلة بالكبر والصغر، وارتفاع المنازل وانخفاضها، فلا حكم له، لأن ذلك يختلف اختلافاً كثيراً.

وكتب الشيخ حمد بن عبد العزيز للشيخ عبد الله بن فيصل: أشكل على بعض الإخوان كبر الهلال، قال: فكاتبنا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وهذا جوابه تشرف عليه، لما فيه من الكفاية.

قال: وتذكر أنه حصل إشكال في الهلال لارتفاع منْزلته، وأنت فاهم حفظك الله غربة الإسلام، وما حصل من غالب الخلق، وما وقع في أنفسهم من الحرج عند الوقوف على الأمر والنهي، والعبادات مبناها على الاتباع، والمشرع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن أراد الاحتياط لنفسه في أمر العبادات، بأمر لم يحتط به الرسول، ولم يحكم به، فلازم اعتقاده وفعله ومقاله: نقص البلاغ من المشرع، وهذه مصيبة عظمى، وداهية كبرى. علق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوم والفطر بالرؤية أمراً

ص: 306

ونهياً، لا على المنازل وكبر الأهلة، قال صلى الله عليه وسلم في الأمر:" صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته " 1، وقال في النهي:" لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه "2. فالله المستعان.

وقد ابتلينا بمن بنى أمره على التلبيس والتشويش، والمخالفة أصلاً وفرعاً، حتى حكموا بالصوم بارتفاع المنْزلة، وأوجبوا ذلك على الناس، وهم قد دخلوا في العبادة بصيام شك؛ فالزم السنة واصبر نفسك، {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [سورة الروم آية: 60] .

[رؤية الهلال]

سئل بعضهم: ما قولكم، رحمكم الله، إذا رأى الهلال أهل بادية وأهل بلدة أخرى، هل يلزم من لم يره الصيام؟ وما الدليل على ذلك؟ والمحتج بحديث كريب بأن الصيام على من لم يره، مصيب أم لا؟ أفتونا، أثابكم الله.

الجواب: الحمد لله الموفق للهدى الملهم للصواب، فقولنا، معشر المسلمين: أن الهلال إذا رآه أهل بادية، ولو رجلاً واحداً، أو أهل بلدة، ولم يره أهل البلدة الأخرى، لزم الجميع الصيام؛ ومن أفطر لزمه القضاء.

والدليل على ذلك: هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفعله: روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال: " تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رأى الهلال،

1 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124)، وأبو داود: الصوم (2327) ، وأحمد (1/221، 1/226، 1/258، 1/306، 1/367)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

2 البخاري: الصوم (1907) .

ص: 307

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال أذن في الناس، فليصوموا غداً " 1، رواه الخمسة. وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته 2. وعن الحارث بن حاطب، قال: " عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤيته ".

والأحاديث في هذا الباب صريحة: أنه إذا لم ير الهلال إلا رجل واحد، لزم الناس الصوم، وقوله صلى الله عليه وسلم:" صوموا لرؤيته " 3 هذا أمر صريح لجميع الناس بالصوم، لأن الواو في قوله:" صوموا " ضمير الجميع، وقد رئي؛ ولا يعارض قوله وفعله صلى الله عليه وسلم إلا مكابر معاند، مجترئ على هتك حرمات الله، أسأل الله العافية.

والمحتج بحديث كريب، ليته استتر بسكوته، فحديث كريب ليس فيه حجة على أن أهل الناحية الواحدة، والقطر الواحد، إذا رآه بعضهم فلا يلزم الآخرين الصوم، ما أدري من أين له الدلالة على ذلك؟ ولكن مَن ادعى ما ليس فيه كذبته شهود الامتحان. وهذا القول ما يخرج من إنسان اطلع على أحكام الشريعة، وفهم معانيها؛ فودي أنه يتوب إلى الله تعالى، من مكاذبة النفس والهوى، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والهوى يضل عن سبيل الله، ويهوي بصاحبه إلى النار.

فنقول: أما حديث كريب: " لما قدم من الشام إلى

1 الترمذي: الصوم (691)، والنسائي: الصيام (2113)، وأبو داود: الصوم (2340)، وابن ماجة: الصيام (1652)، والدارمي: الصوم (1692) .

2 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124)، وأبو داود: الصوم (2327) ، وأحمد (1/221، 1/226، 1/258، 1/306، 1/367)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

3 الترمذي: الصوم (688)، والنسائي: الصيام (2124)، وأبو داود: الصوم (2327) ، وأحمد (1/221، 1/226، 1/258، 1/306، 1/367)، ومالك: الصيام (635)، والدارمي: الصوم (1683، 1686) .

ص: 308

المدينة، سأله ابن عباس، وأخبره: أنا رأينا الهلال ليلة الجمعة، وصام الناس. وقال ابن عباس: نحن رأيناه ليلة السبت، فما نزال نصوم حتى نراه، أو نكمل العدة ".

هذا المعترض، من أين فهم الدلالة على عدم وجوب الصوم على قوم رأى الهلال بعضهم؟! وإنما الخلاف بين العلماء في الأقطار المتباينة، كالشام، والحجاز، والعراق، واليمن، إذا تباينت مطالعها: فبعض العلماء يقولون: لأهل كل قطر حكم، فإن المطالع تختلف باتفاق أهل المعرفة، وأرباب الهيئة.

لكن الاختلاف ينبني على قولين: الهلال هو: اسم لما يظهر في السماء وإن لم يره الناس، أو لا يسمى هلالاً حتى يستهل ويظهر بين الناس، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره؛ ذكر ذلك تقي الدين ابن تيمية، قدس الله روحه.

فأما من قال: هو اسم لما يظهر في السماء، يحكم بوجوب الصوم على أهل الدنيا، الذين يبلغهم ذلك بشهادة رجل واحد.

وأما من قال: هو اسم لما يستهل ويعلمه الناس، يقول بوجوب الصوم على أهل تلك الناحية، والفطر كلهم، وعلى من اتحد مطلعهم، كمكة ونجد وعمان؛ والكلام على هذا يطول ونحن أعجل من ذلك.

وأما قول القائل: لأهل كل بلد رؤيتهم، فهذا كلام غير

ص: 309

صحيح، ولا عليه عمل، ولا رأيناه في كتب الحديث؛ أفلا يتقي الله هذا المعارض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله بقول كريب، فأي دلالة في حديث كريب؟! لكن نقول: من لم ينفعه علمه ضره جهله.

سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن قراءة آيات الصيام، أول ليلة من رمضان في العشاء؟

فأجاب: لا أعلم لهذا أصلاً، وإنما استحب أحمد في رواية عنه: قراءة سورة القلم في العشاء الآخرة أول ليلة من رمضان، واستحبه الشيخ تقي الدين; وأما قراءة آخر سورة المائدة، فلا علمنا أحداً استحبه.

وسئل: عن إخبار مخبر، أن أهل بلد رأوا هلال شوال، وعيدوا؟

فأجاب: أما إخبار مخبر أن أهل البلاد الفلانية أفطروا يوم كذا، فلا بد من شهادة اثنين; وهذا فيه تفصيل: إن كان البلد فيه قاض، فأخبر رجلان أن أهل البلد أفطروا كلهم وعيدوا، فالذي نرى الاعتماد على مثل هذا. وان كان البلد ليس فيه قاض، ولا يدرى عن سبب فطرهم، فلا أرى الاعتماد على فعلهم.

وسئل: عن كتاب الحكم برؤية الهلال؟

فأجاب: الذي يظهر لي العمل به، والاعتماد عليه في

ص: 310

ذلك، لأن الفقهاء ذكروا أنه إذا رئي هلال رمضان بمكان، لزم جميع الناس الصوم؛ وإنما يثبت ذلك غالباً في حق غير أهل موضع الرؤية، بإخبار الثقات فرعاً عن الأصل، وخطوط القضاة؛ بل أهل موضع الرؤية ليسوا كلهم يأتون إلى الشاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على إخبار بعضهم بعضاً عن الشاهد، كشهادة الفرع على الأصل؛ فإذا تقرر قبول خبر الفرع أو شهادته في ذلك، فكذلك كتاب القاضي، لأن الفقهاء ذكروا أنه لا تقبل الشهادة على الشهادة، إلا فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأن كتاب القاضي حكمه كالشهادة على الشهادة.

وكلامه في الكافي صريح في قبول الشهادة على الشهادة في ذلك، لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان، قال في تعليل الوجه الثاني: ولهذا يقبل فيه شهادة الفرع، مع إمكان شاهد الأصل؛ فدل كلامه على قبول شهادة الفرع مع الإمكان، ونظّره صاحب الفروع، بقوله: كذا قال. والذي يظهر لي: أن تنظيره إنما هو لاعتباره لقبول شهادة الفرع، مع عدم إمكان شاهد الأصل، وكما قدمنا: أن المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه، ولعلك وقفت على قول شارح الإقناع: عند قول الماتن في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حد لله تعالى، كزنى ونحوه، قال الشارح: وكالعبادات، ووجه ذلك: أنه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه.

ص: 311

قال الشيخ تقي الدين: أمور الدين والعبادات المشتركة، لا يحكم فيها إلا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم إجماعاً، قال في الفروع عقيبه: فدل على أن إثبات سبب الحكم، كرؤية الهلال، والزوال، ليس بحكم

إلخ، فدل ذلك: أن كتاب القاضي بإثبات رؤية الهلال، ليس حكماً في عبادة، ولا إثباتاً لها، وإنما هو لإثبات سببها، فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادة، وكونه لا يحكم فيها؛ وقد صرحوا بأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فدل كلامهم على أن إثباته لرؤية الهلال مثلاً فتوى، والفتوى يعمل فيها بالخط، وإن كان كتابه: شهد عندي فلان وفلان مثلاً، برؤية الهلال، ففرع على الأصل، لا فتوى.

وأفتى أيضاً، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره، إن شاء الله تعالى.

وقال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف: وما جرى من البحث في مسألة الهلال، راجعت كلام بعض العلماء، وأحببت نقله لك، والمذاكرة معك. فقال في المغني: فصل: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً ولم يروا هلال شوال، أفطروا وجهاً واحداً. انتهى. وذكر مثله في الشرح الكبير، وزاد: لأن الشهر لا يزيد على ثلاثين، ولحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.، انتهى.

ص: 312

فأطلقا ولم يقيداه بالغيم، فظهر عدم الفرق; وحديث عبد الرحمن بن زيد الذي أشار إليه الشارح، هو قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا شهد شاهدان ذوا عدل، فصوموا وأفطروا "1.

[الصيام بشهادة الشهود]

وقال في الفروع: فصل: ومن صام بشاهدين ثلاثين يوماً، ولم يره إذاً أحد، أفطر، وقيل: لا، مع صحوه; واختاره في المستوعب، وأبو محمد الجوزي، لأن عدم الهلال يقين، فيقدم على الظن، وهي الشهادة. انتهى. وبعد حكاية صاحب التصحيح ما تقدم في الفروع، وذكر الخلاف فيما إذا صاموا بشهادة واحد، وأن عدم الإفطار حينئذ هو أحد الوجهين، قال: وظاهر كلامه في الحاويين، أن على هذا الأصحاب، فإنه قال فيهما: ومن صام بشهادة اثنين ثلاثين يوماً، ولم يره مع الغيم، أفطر، ومع الصحو يصوم الحادي والثلاثين؛ هذا هو الصحيح. وقال أصحابنا: له الفطر بعد إكمال الثلاثين، صحواً كان أو غيماً. انتهى.

فقد ظهر: أن قول الأصحاب هو: الفطر فيها، إذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، سواء كان صحواً أو غيماً، خلافاً لأبي محمد الجوزي، وخلافاً لتصحيح صاحب الحاويين; وقدمه في الفروع أيضاً، كما تقدم، وذكر بعده الصيام مع الصحو، بصيغة التمريض.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في مختصر الشرح: وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين فلم يروه،

1 النسائي: الصيام (2116) ، وأحمد (4/321) .

ص: 313

أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد; وإن صاموا بشهادة واحد، فعلى وجهين: أحدهما: لا يفطرون، لحديث عبد الرحمن. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم; وقال في المحرر للمجد: وإذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال، لم يفطروا، كالصوم بالغيم، وقيل: يفطرون كالصوم بقول عدلين. انتهى. فذكر الخلاف في الفطر برؤية الواحد، ولم يذكر خلافاً في الفطر برؤية اثنين، ولم يفرق بين الصحو والغيم.

وقال في شرح العمدة: مسألة: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم. واستقصاء عبارات الأصحاب في ذلك يصعب، ولا أعلم لأئمة هذه الدعوة شيئاً يخالف ذلك؛ بل الذي يظهر موافقتهم في ذلك; قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره إن شاء الله. انتهى. وإن وجدت ما يخالف ذلك عمن ذكرنا أو غيرهم فاذكره، لأن القصد من المذاكرة معرفة الحكم للجميع. وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة مثل كلام الأصحاب، إلا أنه أوضح وأجلى وأشمل، فلأجل وضوحه وشموله إكمال شعبان، وإكمال رمضان، أسوقه.

قال، رحمه الله، في شرح العمدة: أما إذا صاموا بشهادة

ص: 314

اثنين، ثم أكملوا العدة ولم يروا الهلال، أفطروا، لأن أكثر ما فيه الفطر بمضمون شهادة اثنين، وذلك جائز، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا " 1 يقتضي ذلك؛ ولا يقال قد تبين غلطهما، لأن هلال التمام لا يخفى على الجميع، لأنه لو شهد اثنان أنهما رأياه وهو هلال تمام قبل، فكذلك إذا تضمنت شهادتهما طلوعه. وأما إذا صاموا لإغمام الهلال، لم يفطروا، إذا صاموا ثلاثين يوماً حتى يروا الهلال بأن يشهد به شاهدان، أو يكملوا عدة شعبان ورمضان ثلاثين ثلاثين، قولاً واحداً، لما تقدم من الحديث والأثر. انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شهادة الأعراب؟

فأجاب: وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال، فحكمهم حكم الحضر، لا يحكم بشهادة مجهول الحال. والأعرابي الذي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته، يحتمل أنه يعرف حاله. والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين الحاضرة والبادية.

وسئل: عن هلال شوال، إذا شهد به شاهدان

إلخ؟

فأجاب: أما مسألة الرؤية لهلال شوال، إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده فلم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر، أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية، فنص أحمد: أنه لا يفطر; وهو قول

1 النسائي: الصيام (2116) ، وأحمد (4/321) .

ص: 315

مالك، وأبي حنيفة، وهو مروي عن عمر وعائشة، لحديث:" صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون "1. وقيل: يفطر سراً، وهو قول الشافعي؛ قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع.

وكذلك الحكم إذا رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ورُدت شهادتهما، لجهله بحالهما، فالمذهب: أنه لا يجوز لهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من تشتيت الكلمة، وجعل مرتبة الحكم لكل أحد؛ وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين. واختار الموفق: أنه يجوز له الفطر، لحديث:" وإن شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا " 2، رواه أحمد وغيره.

وأجاب أيضاً: ومن رأى هلال شوال وحده بيقين، فالمشهور في مذهب أحمد أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: يفطر، وهو قول الشافعي، وقاله بعض أصحاب أحمد، واستحسنه في الإقناع. وأما إظهار الفطر والحالة هذه، فلا يجوز، حكاه بعضهم إجماعاً.

وأجاب أيضاً: ولو انفرد رجل برؤية هلال شوال، لم يجز لغيره الفطر بشهادته، لا أهله ولا غيرهم، عند من لا يجوز له الفطر.

وسئل: عن حديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 3

1 الترمذي: الصوم (697)، وأبو داود: الصوم (2324)، وابن ماجة: الصيام (1660) .

2 النسائي: الصيام (2116) ، وأحمد (4/321) .

3 الترمذي: الصوم (697)، وأبو داود: الصوم (2324)، وابن ماجة: الصيام (1660) .

ص: 316

فأجاب: استدل به من يقول: إنه لو رأى هلال شوال وحده، لم يفطر إلا مع الناس، وهو قول الأكثر. وقيل: يفطر سراً، وهو قول طائفة من العلماء. وأما إذا رأى هلال رمضان، ورُدت شهادته، لزمه الصوم عند الأربعة. وعن أحمد رواية: لا يلزمه الصوم، اختاره الشيخ تقي الدين للحديث.

سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا رئي الهلال في بلد

إلخ؟

فأجاب: وأما الهلال إذا ثبت أنه رئي في بعض بلاد المسلمين، عند مفت يعمل بما أثبت، لزم صيام الغرة 1. وأما بعض النواحي التي ظاهر فيها الكفر، فلا يعمل بها.

[متى يؤمر الصبي بالصيام]

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المميز، متى يؤمر بالصيام؟

فأجاب: أما الصبي الذي لم يبلغ، فهو إذا أطاق الصيام أمر به، وأدب عليه، أي على تركه.

وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يجب على الصبي الصوم؟

فأجاب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ، وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره، وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها، ليعتادها، ويألف الخير.

1 الغرة: أول يوم من الشهر.

ص: 317

[نزول دم الحيض قبل الغروب]

سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم قبل غروب الشمس، هل تعتد بصومها؟

فأجاب: صومها ذلك اليوم غير تام.

[صيام رمضان في السفر]

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهما الأجر والثواب: عن صيام رمضان في السفر، مع إقامة المسافر في الجهاد بإزاء العدو؟ فإنه ربما حصلت المشقة بالصيام، مع الإقامة في شدة الحر، والمشي في الشمس، فهل ترى جواز الصيام؟ وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على إقامة مدة غير معلومة؟ وعلى القول بعدم الوجوب، فهل ترى استحبابه، أم الجواز فقط؟ فإن كان في المسألة آثار عن السلف، وما يستدل به من حديث، فأفيدونا به، شكر الله سعيكم.

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما المسألة الأولى، وهي: هل يجوز الصيام في سفر الجهاد، مع الإقامة في بلد أو مكان، مدة غير معلومة المقدار، مع وجود مشقة الصيام، لا سيما في شدة الحر والمشي في الشمس؟ فيجوز الفطر والحالة هذه، والدليل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 183-184] . فهذا نص صريح لا يحتمل التأويل: أن المريض والمسافر يفطران في رمضان، ويقضيان عدة ما أفطرا من أيام أخر.

ص: 318

وقد ذكر المفسرون: أن هذه الآية الكريمة، أول ما نزل في فرض الصيام، ففرض الله فيه على المؤمنين الصيام، كما فرضه على من قبلهم، وبين أن ذلك أياماً معدودات، تسهيلاً على المؤمنين، بأن هذه الأيام يحصرها العد، ليست بالكثير التي تفوت العد؛ ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود، كناية عن القلائل، كقوله في أيام معدودة:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [سورة البقرة آية: 80]، {شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [سورة يوسف آية: 20] ؛ هذا إن كان ما فرض صومه هنا رمضان، فيكون قوله هنا:{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184] عنى به رمضان؛ قال أبو حيان: وهو قول ابن أبي ليلى، وجمهور المفسرين.

وإن كان ما فرض صومه، هو: ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة، ويوم عاشوراء، كما كان ذلك فرضاً على الذين من قبلنا، فيكون قوله: عنى بها هذه الأيام؛ قال: وإلى هذا ذهب ابن عباس وعطاء، قال ابن عباس وعطاء وقتادة، هي: أيام البيض. قال أبو حيان: قال أبو عبد الله، محمد بن أبي الفضل المريسي: في رأيي: الظلمات، احتج من قال: إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: " صوم رمضان نسخ كل صوم " فدل على أن صوماً آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما في الآية الآتية بعد، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان هذا تكريراً، ولأن قوله تعالى:{فِدْيَةٌ} يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، وكان غيره.

ص: 319

وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة آية: 183] يحتمل يوماً ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله {شَهْرُ رَمَضَانَ} ، وإذا أمكن حمله على رمضان، فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ. وأما الخبر، فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الأمة. وما ذكر من التكرار، فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض، في رمضان، في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليه القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل إلى التخيير عن التضييق يعم الكل، حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنْزلة المقيم، من حيث تغير الحكم في الصوم؛ فبين أن حالة المريض والمسافر في الرخصة والإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم، لأن قوله تعالى:{فِدْيَةٌ} يدل على التخيير

إلخ، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً، ثم صار معيناً.

وعلى كلا القولين: لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني، فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً، والآية التي بعد تدل على التضييق، وكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النّزول. انتهى كلامه.

ص: 320

وقال في الفتح، أول كتاب الصيام، لما ذكر احتجاج البخاري بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية [سورة البقرة آية: 183]، قال: أشار بذلك إلى مبدإ فرض الصيام، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه فيه شيء، فأورد ما يشير إلى المراد؛ فإنه ذكر فيه ثلاثة أحاديث: حديث طلحة الدال على أنه لا فرض إلا رمضان، وحديث ابن عمر وعائشة المتضمن الأمر بصيام عاشوراء، وكأن المصنف أشار إلى أن الأمر في روايتهم محمول على الندب، بدليل حصر الفرض في رمضان، وهو ظاهر الآية لأنه تعالى قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة آية: 183]، ثم بينه فقال:{شَهْرُ رَمَضَانَ}

وقد اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهور، وهو المشهور عند الشافعية: أنه لم يجب قط صوم قبل رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية، أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. فمن أدلة الشافعية: حديث معاوية مرفوعاً: " لم يكتب الله عليكم صياماً " 1، وسيأتي في آخر الصيام. ومن أدلة الحنفية: ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة، المذكورين في هذا الباب بلفظ الأمر، وحديث الربيع بنت معوذ عند مسلم:" من أصبح صائماً، فليتم صومه "2. قلت فلم نزل نصوم ونصوّم صبياننا وهم صغار، حتى فرض رمضان

الحديث، وحديث أم سلمة مرفوعاً:" من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم " 3 الحديث، وبنوا على هذا الخلاف: هل يشترط في صحة الصوم الواجب،

1 البخاري: الصوم (2003)، ومسلم: الصيام (1129)، ومالك: الصيام (666) .

2 البخاري: الصوم (1960)، ومسلم: الصيام (1136) ، وأحمد (6/359) .

3 البخاري: الصوم (2007)، ومسلم: الصيام (1135)، والنسائي: الصيام (2321) ، وأحمد (4/50)، والدارمي: الصوم (1761) .

ص: 321

بنية من الليل أم لا؟ انتهى. هذا ما يتعلق بقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184] .

ثم قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184] ؛ فأباح سبحانه للمريض والمسافر، الفطر في رمضان، لوجود المشقة فيه غالباً، رحمة منه وتفضلاً على عباده المؤمنين، وأوجب عليهما قضاء ذلك إذا زال المرض والسفر اللذان علق بهما جواز الفطر عند الجمهور، أو وجوبه عند بعض السلف والخلف، وأخبر أنه عدة من أيام أخر؛ فدل على عدم وجوب التتابع. ثم قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة آية: 184] ، فأباح سبحانه وتعالى للذين يطيقون الفطر، وإن كانوا صحيحين مقيمين، وأوجب عليهم فدية طعام مسكين لكل يوم؛ وهذا على القراءة المشهورة، وهي الموجودة في المصاحف اليوم، وهذا قول معاذ بن جبل، وغير واحد من السلف والخلف. وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع: أنها نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة آية: 184] ، كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت التي بعدها فنسختها. وروى أيضاً من حديث نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة. وروى البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قرأ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فقال ابن عباس: " ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ".

ص: 322

فحاصل الأمر: أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصوم عليه، بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، وأما الشيخ الفاني الهرم، الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة أم لا؟ فيه قولان للعلماء; والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نص على جواز الفطر في رمضان للمريض والمسافر؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء فيما علمناه، مع وجوب القضاء عليهما.

فصل

وأما إن كان المسافر مقيماً مدة غير معلومة، بل لا يدري متى تنقضي حاجته، فمتى انقضت سار من مكانه إلى مقصوده الذي يريده، فهو في حكم السفر؛ على الصحيح من أقوال العلماء، بل قد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، ولو أتى عليه سنون. انتهى.

وقد اختلف العلماء في عدد المدة التي إذا أجمع المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام والصيام اختلافاً كثيراً: فالمشهور في مذهب أحمد: أنه إذا نوى الإقامة أكثر من

ص: 323

إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر؛ قال في الشرح الكبير: المشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام، إذا نوى الإقامة فيها أكثر من إحدى وعشرين صلاة، رواه الأثرم وغيره، وهو الذي ذكره الخرقي; وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام، ثم حكى هذا أبو الخطاب، وابن عقيل. وعنه: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وروي عن عثمان وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعاً فصل أربعاً، لأن الثلاثة حد القلة، لقوله عليه السلام:" يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً " 1، فدل أن الثلاثة في حكم السفر، وما زاد في حكم الإقامة.

وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دونه قصر؛ ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد، لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا:" إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمسة عشر ليلة، فأكمل الصلاة "، ولا يعرف لهما مخالف. وروي عن علي قال:" يتم الصلاة الذي يقيم عشراً، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غداً ". وعن ابن عباس أنه قال: " يقصر إذا أقام تسعة عشر يوماً، ويتم إذا زاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين؛ قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا "، رواه البخاري.

1 مسلم: الحج (1352)، والترمذي: الحج (949)، والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1455) ، وأحمد (4/339)، والدارمي: الصلاة (1511) .

ص: 324

وقال? الحسن: " صل ركعتين ركعتين، إلا أن تقدم مصراً فأتم الصلاة وصم "، وقالت عائشة:" إذا وضعت الزاد والمزاد، فأتم الصلاة ". وكان طاووس إذا قدم مكة صلى أربعاً.

ولنا ما روى أنس، قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة نصلي ركعتين حتى رجع، وأقام بمكة عشراً يقصر الصلاة " 1، متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يؤم الناس؛ وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام "، وقد أجمع على إقامتها؛ فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع أكثر من ذلك أتم.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام لا يفقهه كل أحد، فقوله: أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، وقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة، وخامسة وسادسة وسابعة، ثم قال: وثامنة يوم التروية، وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس: أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام، وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة؛ فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام، وهو صريح في خلاف قول من حد بأربعة أيام.

وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف من الصحابة،

1 البخاري: الجمعة (1081)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (693)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، وأحمد (3/282)، والدارمي: الصلاة (1510) .

ص: 325

لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم. وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة، قال أحمد: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة، لأنه أراد حنيناً ولم يكن ثَمَّ أجمع المقام؛ وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على قول الحسن. انتهى كلامه.

وقد حمل الحافظ ابن حجر حديث ابن عباس على غير ما حمله أحمد، وأن مراد ابن عباس بذلك تحديد مدة الإقامة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، فقال، رحمه الله: باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر; قوله:" ونحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا "، ظاهِرُه: أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد; وقد صرح أبو يعلى في روايته عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه:" وإذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر "، ويؤيده صدر الحديث، وهو قوله:" أقام "; وللترمذي من وجه آخر عن عاصم: " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً ".

قوله في حديث أنس: " أقمنا بها عشراً " لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، ثم قال: وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة

" الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابعة عشر، فيكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما

ص: 326

قال أنس، ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر بمنى؛ ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا قام ببلد أربعة أيام قصر، وقال أحمد إحدى وعشرين صلاة.

وأما قول ابن رشد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس، في أن إقامته عشرة داخل في إقامته تسعة عشر، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان؛ فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لا ينوي الإقامة، بل كان متردداً حتى تهيأ له فراغ حاجته ويرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازماً بالإقامة تلك المدة.

ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: أنه لما كان أن الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر; وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلدة على ما جاورها وقرب منها، لأن منى وعرفة ليسا من مكة، ثم ذكر كلام أحمد في حديث أنس المتقدم.

وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة لأن هذه مواضع النسك، وهي في حكم التابع بمكة، لأنها المقصودة بالأصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد، والله أعلم.

ص: 327

وقال أيضاً قبل ذلك في حديث ابن عباس: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً بلياليها " 1، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده بمكة، فكذا رواه ابن المنذر من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ:" سبعة عشر "، بلفظ تقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم، وقال عباد عن عكرمة:" تسعة عشر "، كذا ذكرها معلقة، وقد وصلها البيهقي.

ولأبي داود أيضاً من حديث عمران بن حصين: " غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين " 2، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري: عن عبد الله بن عباس: " أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة "3.

وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف: بأن من قال تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة، حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة، عد أحدهما. وأما رواية: خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق؛ وقد أخرجها النسائي في رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك; وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة؛ واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات،

1 البخاري: المغازي (4298)، والترمذي: الجمعة (549)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .

2 أبو داود: الصلاة (1229) .

3 النسائي: تقصير الصلاة في السفر (1453)، وأبو داود: الصلاة (1231) .

ص: 328

وبها أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضاً أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة.

وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة بكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن يزمع 1 الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم على خلاف بين أصحابه في دخول يوم الدخول والخروج فيها أو لا، وحجته حديث أنس الذي يليه. انتهى. وفيه نوع تلخيص وتقديم وتأخير.

وأنت، رحمك الله، إذا تأملت هديه صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وأنه يقيم في بعضها المدة الطويلة والقصيرة، بحسب الحاجة والمصلحة، ولم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقام أحدكم أربعة أيام في مكان أو بلد أو أكثر أو أقل من ذلك، فليتم صلاته وليصم، ولا يترخص برخص السفر التي جاءت بها الشريعة السمحة، مع أن الله سبحانه وتعالى فرض عليه البلاغ المبين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، تبين لك: أن الصواب في هذه المسألة، ما اختاره غير واحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن المسافر يجوز له القصر والفطر ما لم يجمع

1 أزمع، أي: أجمع.

ص: 329

على إقامة أو يستوطن، فحينئذ يزول عنه حكم السفر، ويكون حكمه حكم المقيم.

هذا هو الذي دل عليه هديه صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكلام على فوائد غزوة تبوك، قال: ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر رجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة؛ وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرجه عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة في ذلك الموضع. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال:" أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين " 1 الحديث.

وظاهر كلام أحمد: أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح، فإنه قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنيناً، ولم يكن ثم أجمع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس; وقال غيره: بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك، كما قال جابر:" أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة " 2، رواه الإمام أحمد.

وقال المسور بن مخرمة: " أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة، يقصرها سعد ونتمها ". وقال نافع: " أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر فصلى ركعتين، وقد حال الثلج

1 البخاري: المغازي (4300)، والترمذي: الجمعة (549)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .

2 أبو داود: الصلاة (1235) ، وأحمد (3/295) .

ص: 330

بينه وبين القفول ". وقال حفص بن عبد الله: " أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة مسافر ". وقال أنس: " أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برام هرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة ". وقال الحسن: " أقمنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل، يقصر الصلاة ولا يجمع ". وقال إبراهيم:" كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك، وبسجستان السنتين وأكثر من ذلك، لا يجمعون ولا يشرقون "؛ فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصواب.

ثم ذكر مذاهب الناس التي تقدمت، وأن أحمد حمل الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجْمِعُوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون: اليوم نخرج، غداً نخرج; وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي؟ وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام، ويهدم قواعد الشرك، ويمهد ما حولها من العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام، ولا يتأتى في يوم واحد ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك، فإنه أقام ينتظر العدو; ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل تحتاج إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر، يقصر الصلاة من أجل الثلج، ومعلوم أن مثل هذا الثلج لا يذوب ويتحلل في أربعة أيام، بحيث تنفتح الدروب، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر الصلاة، وإقامة الصحابة برامهرمز

ص: 331

سبعة أشهر يقصرون؛ ومعلوم أن مثل هذا الجهاد والحصار يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام.

وقد قال أصحاب أحمد: لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة؛ وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة، فقالوا: شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر، وهي: ما دون الأربعة الأيام. فيقال: من أين لكم هذا الشرط؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام زيادة على الأربعة الأيام يقصر بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته، ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا من أهم المهمات، وكذلك اقتداء الصحابة بعده، ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك.

ثم ذكر أقوال الناس، ثم قال: والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا قول الشافعي في أحد قوليه: فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر، أو ثماني عشر، ولا يقصر بعدها. وقد قال ابن المنذر في إشرافه: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون. انتهى. وهذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فيه نظر

ص: 332

لا يخفى، وأظن أن مراده بذلك إجماع الجمهور، والله أعلم.

فصل

الذين يجوز لهم الفطر في رمضان

والذين يجوز لهم الفطر في رمضان أنواع: النوع الأول: المجمع عليه، وهو ما نص الله عليه في كتابه، في قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [سورة البقرة آية: 184] ، وهو المريض، والمسافر؛ فهذان نوعان، مجمع على جواز الفطر لهما في الجملة. النوع الثالث: ما فهمه الصحابة، رضوان الله عليهم، من قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة آية: 184]، وما فهموا من القراءة الأخرى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يكلفونه ويشق عليهم؛ وهم أنواع كثيرة:

الأول: الحامل التي تخاف على نفسها وولدها.

الثاني: المرضع التي تخاف على ولدها، سواء كانت بأجرة أو بغير أجرة، والولد لها أو لغيرها.

الثالث: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، اللذين يشق عليهما الصيام.

الرابع: صاحب العطش الذي يشق عليه الصيام.

فكل هؤلاء الأنواع الأربعة، ثبت عن الصحابة جواز الفطر لهم؛ فمنهم من أوجب القضاء على هؤلاء مع الفدية، ومنهم من أوجب الفدية دون القضاء. قال أحمد في رواية صالح: المرضع والحامل تخاف على نفسها، تفطر وتقضي وتطعم، أذهب إلى حديث أبي هريرة.

وأما ابن عباس وابن عمر يقولان: تطعم ولا تقضي،

ص: 333

وكان ابن عباس يقرؤها: {يطوّقونه} قال: يكلفونه، ومن قرأ:{يطيقونه} فإنها منسوخة، نسخها قوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، فقد ثبت عن ثلاثة من الصحابة وجوب الفدية، ولا يعرف لهم مخالف، واختلفوا في القضاء; وعن عطاء عن ابن عباس، كان يرخص في الفطر في رمضان للشيخ الكبير والحامل، والمرضع، ولصاحب العطش، أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً، رواه سعيد.

وأما الظئر التي ترضع ولدها بأجرة أو بدونها، فذكر ابن عقيل أنها تستبيح الفطر، كاستباحته لولدها، لأن أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق، فهي كالمسافر في المضاربة يستبيح بسفره ما يستبيح بالسفر لنفسه، وطرده العمل في الصنائع الشاقة، إذا بلغت منه الجهد؛ وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإفطار لم يبح في حقه، ولا في حق غيره. ومن لم يمكنه إنجاء شخص من المهلكة إلا بالفطر، مثل أن يكون غريقاً، أو يريد أحد أن يقاتله أفطر. وكذلك إذا أحاط العدو ببلد، وكان الصوم المفروض يضعفهم، فهل يجوز لهم الفطر؟ على روايتين، ذكرهما الخلال في كتاب السير.

وقال في الإنصاف: ونقل حنبل إذا كانوا بأرض العدو، وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. واختار الشيخ تقي الدين: الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب; قال: ولو خاف بالصوم ذهاب ماله، يعني أفطر; وقال في الشرح الكبير:

ص: 334

والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام، كالمريض الذي يخاف زيادة المرض في إباحة الفطر، لأنه في معناه; قال الإمام أحمد فيمن به شهوة غالبة، يخاف أن تنشق أنثياه، فله الفطر.

وقال في الجارية: تصوم، فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض، يعني إذا حاضت وهي صغيرة؛ قال القاضي: هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام، فيباح لها الفطر، وإلا فلا. وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة حديثاً يشهد لهذه الرواية، وهو عن أبي العلاء ابن الشخير عن عائشة:" أنه أجهدها العطش وهي صائمة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفطر وتقضي مكانه يوماً "، قال: رواه حرب بإسناد جيد. انتهى. والله سبحانه أعلم.

فصل

فظهر بما ذكرناه الجواب عن قول السائل ألهمه الله الصواب: وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على الإقامة مدة غير معلومة؟ أن ذلك لا يجب على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وإنما الإشكال في الاستحباب أو الجواز، فإذا تقرر أن إقامة المسافر في مدة غير معلومة، أو معلومة لكنه لم ينو الاستقرار والاستيطان، أن ذلك لا يقطع حكم السفر؛ بقي الكلام في استحباب الصيام في السفر أو جوازه.

ص: 335

فاعلم أن هذه مسألة اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً: فذهب عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، أن ذلك لا يجوز، فإن صام أمر بالإعادة؛ قال أحمد، رحمه الله: عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة. وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، أنه قال:" الصيام في السفر كالفطر في الحضر "، وهو قول أبي محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:" ليس من البر الصوم في السفر " 1، متفق عليه. ولأنه صلى الله عليه وسلم " أفطر في السفر، فلما بلغه أن قوماً صاموا، قال: أولئك العصاة "2. وروى ابن ماجة بإسناده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " 3.

قال في الشرح: وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول، قال ابن عبد البر: هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف، هجره الفقهاء كلهم، والسنة ترده، وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فصم " 4، متفق عليه. وحديث أنس:" كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 5، متفق عليه. قال: وأخبارهم محمولة على تفضيل الفطر. انتهى.

ففي هذا دليل على أن الشارح وغيره من الأصحاب، وافقوا على نفي الاستحباب; ومن تأمل أدلة الفريقين حق

1 البخاري: الصوم (1946)، ومسلم: الصيام (1115)، والنسائي: الصيام (2257، 2258 ،2260، 2261، 2262)، وأبو داود: الصوم (2407) ، وأحمد (3/299، 3/317، 3/352، 3/398)، والدارمي: الصوم (1709) .

2 مسلم: الصيام (1114)، والترمذي: الصوم (710)، والنسائي: الصيام (2263) .

3 النسائي: الصيام (2285)، وابن ماجة: الصيام (1666) .

4 البخاري: الصوم (1943)، ومسلم: الصيام (1121)، والترمذي: الصوم (711)، والنسائي: الصيام (2306، 2307، 2308، 2384)، وأبو داود: الصوم (2402)، وابن ماجة: الصيام (1662) ، وأحمد (6/46، 6/193، 6/202، 6/207)، والدارمي: الصوم (1707) .

5 البخاري: الصوم (1947)، ومسلم: الصيام (1118)، وأبو داود: الصوم (2405)، ومالك: الصيام (655) .

ص: 336

التأمل، وترك التعصب والتقليد، تبين له أن غاية الأمر هو الجواز، مع ما يعارضه من الأدلة، التي هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، كما قاله الزهري وغيره في هذه المسألة; وأما الاستحباب: فالأدلة الصحيحة الصريحة تدل على نفي ذلك لمن تأمل، مع أنه قد قال بذلك طائفة من السلف.

وقد قال أبو محمد ابن حزم في المحلى: فأما قولنا إنه لا يجوز الصوم في السفر، فإن الناس اختلفوا: فقالت طائفة: من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله، وقالت طائفة بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقالت طائفة لا بد له من الفطر، لا يجزيه صوم. ثم افترق القائلون بتخييره: فقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: هما سواء، وقالت طائفة: لا يجزئه الصوم، ولا بد له من الفطر. فروينا القول الأول عن علي، من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال:" من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر، فقد لزمه الصوم، لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "، وعن عبيدة مثله، ومن طريق ابن عباس مثله، وروي عن عائشة أم المؤمنين:" أنها نهت عن السفر في رمضان "، وعن أبي مجلز، وإبراهيم النخعي مثله.

وأما الطائفة المجيزة للصوم والفطر، المختارة للصوم،

ص: 337

فهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، فشغبوا بقول الله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 184] ، واحتجوا بأخبار، منها حديث سلمة ابن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه " 1، ومن طريق ابن سعيد وأبي الدرداء وجابر:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالفطر وهو صائم، فترددوا، فأفطر هو عليه السلام "، وذكروا عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها " أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة ". وعن أبي موسى " أنه كان يصوم في رمضان في السفر "، وعن عثمان بن أبي العاص وابن عباس: الصوم أفضل، وعن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، مثله، وعن طاووس: الصوم أفضل، وعن الأسود بن يزيد مثله.

واحتج مَن رأى الأمرين سواء، بحديث حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال:" يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة " 2، وبحديث مرسل عن الغطريف أبي هارون " أن رجلين سافرا، فصام أحدهما وأفطر الآخر، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما أصاب "، وبحديث أبي سعيد وجابر:" كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 3، وعن عطاء:"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "4.

وأما من رأى الفطر أفضل، فاحتجوا بحديث حمزة بن عمرو: " هي رخصة من الله تعالى؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن

1 أبو داود: الصوم (2410) ، وأحمد (3/476، 5/7) .

2 البخاري: الصوم (1943)، ومسلم: الصيام (1121)، والترمذي: الصوم (711)، والنسائي: الصيام (2304، 2307)، وأبو داود: الصوم (2402)، وابن ماجة: الصيام (1662) ، وأحمد (6/207)، ومالك: الصيام (656) .

3 مسلم: الصيام (1116)، والترمذي: الصوم (712، 713)، والنسائي: الصيام (2312) ، وأحمد (3/45، 3/50، 3/74) .

4 البخاري: الصوم (1943)، ومسلم: الصيام (1121)، والترمذي: الصوم (711)، والنسائي: الصيام (2306، 2307، 2308)، وابن ماجة: الصيام (1662) ، وأحمد (6/193، 6/202، 6/207)، والدارمي: الصوم (1707) .

ص: 338

أحب أن يصوم فلا جناح عليه " 1.

وممن روينا عنه اختيار الفطر على الصوم: سعد بن أبي وقاص؛ وصح عن ابن عمر: " أنه كان لا يصوم في السفر، وكان معه رفيق، وكان يقول: يا نافع، اصنع له سحوره. قال نافع: كان ابن عمر يقول: رخصة ربي أحب إلي، وإن آجر لك أن تفطر في السفر ".

قال أبو محمد: ولسنا نقول بشيء من هذه الأقوال، فنحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض، لأن كلها متفقة على جواز الصوم في رمضان في السفر، وهو خلاف قولنا؛ وإنما يلزمنا دفعها كلها من أجل ذلك؛ فنقول وبالله نتأيد ونستعين:

أما قول الله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 184] ؛ فقد أتى كبيرة من الكبائر، وكذب كذباً فاحشاً، من احتج بها في إباحة الصوم في السفر، لأنه حرف كلام الله عن مواضعه؛ نعوذ بالله من مثل هذا، وهذا عار لا يرضاه محقق، لأن نص الآية:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 183-184] . وإنما نزلت هذه الآية في حال الصوم المنسوخة، وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان: من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم مسكيناً، وكان الصوم أفضل، هذا نص الآية؛ وليس للسفر فيها مدخل أصلاً، ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلاً، وبهذا جاءت السنن. ثم ذكر الأحاديث، والآثار في ذلك.

ثم قال: وأما حديث ابن المحبق: " من كانت له

1 مسلم: الصيام (1121) .

ص: 339

حمولة

إلخ "، فحديث ساقط، لأنه من رواية عبد الصمد بن حبيب، وهو بصري لين الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق، وهو مجهول. وأما حديث الغطريف وأبي عياض، فمرسلان، ولا حجة في مرسل. وأما حديث حمزة بن عمرو، فإنه من رواية ابن ابنه: حمزة بن محمد بن حمزة، وهو ضعيف، وأبوه كذلك؛ وإنما الثابت من حديث حمزة، هو كما نذكره إن شاء الله تعالى.

وأما حديث أبي سعيد، وأبي الدرداء، وجابر، فلا حجة لهم في شيء منها، لوجهين: أحدهما: أنه ليس في شيء منها أنه عليه الصلاة والسلام كان صائماً رمضان؛ وإذ ليس ذلك فيها فلا يجوز القطع بذلك، ولا الاحتجاج باختراع ما ليس في الخبر على القرآن، وقد يمكن أن يكون صائماً متطوعاً. والثاني: أنه لو كان ذلك فيها نصاً لما كان لهم فيه حجة، لأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إيجاب الفطر في رمضان في السفر؛ فلو كان صوم رمضان في السفر قبل ذلك مباحاً لكان منسوخاً بآخر أمره عليه الصلاة والسلام، كما نذكره إن شاء الله.

وأما احتجاج من أوجب الصوم في السفر، لمن أهل عليه الشهر في الحضر، بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، فلا حجة لهم في هذه الآية، لأن الله تعالى لم يقل: فمن شهد منكم بعض الشهر فليصمه، وإنما أوجب تعالى صيامه على من شهد الشهر، لا على من شهد بعضه.

ص: 340

ثم يبطل قولهم أيضاً: قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184] ؛ فجعل السفر والمرض ناقلين عن الصوم فيه إلى الفطر، وأيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه سافر في رمضان عام الفتح فأفطر، وهو أعلم بمراد ربه تعالى.

قال أبو محمد: فإذا لم يبق لهم حجة لا من قرآن، ولا من سنة، فلنذكر البراهين على حجة قولنا بحمد الله تعالى وقوته. ثم ذكر حجته بالآية:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]، قال: وهذه الآية محكمة بإجماع أهل الإسلام، لا منسوخة ولا مخصوصة، ثم ذكر حديث جابر: ?" أولئك العصاة "، وقوله:" ليس من البر الصيام في السفر " 1، وحديث عبد الله بن الشخير:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وقد دعاه إلى الغداء: أتدري ما وضع الله عن المسافر؟ قلت: ما وضع الله عن المسافر؟ قال: الصوم وشطر الصلاة ". قال: وهذه آثار متواترة متظاهرة، لم يأت شيء يعارضها؛ فلا يجوز الخروج عنها.

فإن قيل: فإن هذه الأخبار مانعة كلها بعمومها من كل صوم في السفر، وأنتم تبيحون فيه كل صوم إلا رمضان وحده، قلنا: نعم، لأن النصوص قد جاءت بمثل ما قلنا، لأن الله تعالى قال:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [سورة البقرة آية: 196] ؛ فافترض تعالى صوم الثلاثة الأيام في

1 النسائي: الصيام (2255)، وابن ماجة: الصيام (1664) ، وأحمد (5/434)، والدارمي: الصوم (1710، 1711) .

ص: 341

السفر ولا بد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحض على الصوم يوم عرفة، ما سنذكره إن شاء الله، وهو في السفر لمن كان حاجاً، وقال عليه الصلاة والسلام:" إن أفضل الصيام صيام داود: يصوم يوماً ويفطر يوماً " 1؛ فعم ولم يخص. وقال عليه الصلاة والسلام: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه " 2؛ فحض على الصوم في السفر، فوجب الأخذ بجميع النصوص.

فخرج رمضان في السفر بالمنع وحده، وبقي سائر الصوم واجبه وتطوعه على جوازه في السفر؛ ولا يجوز ترك نص لآخر. ثم ذكر الآثار عن عمر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والزهري وعلي بن الحسين ومحمد ابنه والقاسم بن محمد ويونس بن عبيد، أنهم أنكروا الصيام في السفر؛ فمنهم من يأمره بالقضاء، ومنهم من ينكره ولم يذكر عنه الأمر بالقضاء. انتهى ملخصاً.

وقال الحافظ ابن حجر في شرح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد عليه الحر: " ليس من البر الصيام في السفر " 3، لما ذكر أقوال الناس في المسألة، قال: والذي يترجح: قول الجمهور؛ لكن يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة؛ وقد روى أحمد بن حنبل من طريق أبي طعمة، قال: " قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3420)، ومسلم: الصيام (1159)، والترمذي: الصوم (770)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1630) والصيام (2344، 2388)، وأبو داود: الصوم (2448)، وابن ماجة: الصيام (1712) ، وأحمد (2/160، 2/190)، والدارمي: الصوم (1752) .

2 البخاري: الجهاد والسير (2840)، ومسلم: الصيام (1153)، والنسائي: الصيام (2245، 2249، 2250)، وابن ماجة: الصيام (1717) ، وأحمد (3/26، 3/59، 3/83)، والدارمي: الجهاد (2399) .

3 النسائي: الصيام (2255)، وابن ماجة: الصيام (1664) ، وأحمد (5/434)، والدارمي: الصوم (1710، 1711) .

ص: 342

ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة "؛ وهذا محمول على من رغب عن الرخصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني " 1.

وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له; وقد أزال ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد، قال:" إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ادفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم؛ فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك "، ومن طريق مجاهد أيضاً عن جنادة بن أبي أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وستأتي في الجهاد، ومن طريق مورق عن أنس نحو هذا مرفوعاً، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في المفطرين لما خدموا الصيام:" ذهب المفطرون اليوم بالأجر "2.

واحتج من منع الصوم أيضاً بما وقع في الحديث الماضي، أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ.

وتعقب أولاً: بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام، ونسب من صام إلى العصيان؛ ولا حجة في شيء من ذلك، لأن مسلماً أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم

1 البخاري: النكاح (5063)، ومسلم: النكاح (1401)، والنسائي: النكاح (3217) ، وأحمد (3/241، 3/259، 3/285) .

2 البخاري: الجهاد والسير (2890)، ومسلم: الصيام (1119)، والنسائي: الصيام (2283) .

ص: 343

صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه:" سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنَزَلنا منزلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا؛ وكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر "، وهذا الحديث نص في المسألة؛ ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه، وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو.

وروى الطبراني في تهذيبه، من طريق خيثمة:" سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر؟ فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، فقلت له: أين هذه الآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعاً، وننْزل على غير شبع; وأما اليوم، نرتحل شباعاً، وننْزل على شبع "، وأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.

وأما الحديث المشهور: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " 1 فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعاً، من حديث ابن عمر، بسند ضعيف، وأخرجه الطبراني من طريق أبي سلمة عن عائشة أيضاً، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعاً، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً، كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع، لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وعلى

1 النسائي: الصيام (2285)، وابن ماجة: الصيام (1666) .

ص: 344

تقدير صحته، فهو محمول على ما تقدم أولاً، حيث يكون الفطر أولى من الصوم، والله أعلم.

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، فسلك المجيزون فيه طرقاً: فقال بعضهم: قد خرج على سبب فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل حاله؛ وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، وكذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب، من رواية كعب بن عاصم الأشعري، ولفظه:" سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجع كهيئة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم؟ أيّ وجع به؟ قالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم ". قال: فكان قوله صلى الله عليه وسلم لمن كان في مثل تلك الحال.

وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة: أن كراهية الصوم في السفر مختصة لمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينْزل قوله:" ليس من البر الصوم في السفر " 2 على مثل هذه الحال، قال: والمانعون من الصيام في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين الأدلة، السبب والسياق والقرائن، على تخصيص العام، وعلى مراد

1 النسائي: الصيام (2255)، وابن ماجة: الصيام (1664) ، وأحمد (5/434)، والدارمي: الصوم (1710، 1711) .

2 البخاري: الصوم (1946)، ومسلم: الصيام (1115)، والنسائي: الصيام (2257، 2258، 2260، 2261، 2262)، وأبو داود: الصوم (2407) ، وأحمد (3/299، 3/317، 3/352، 3/398)، والدارمي: الصوم (1709) .

ص: 345

المتكلم، وبين مجرد حمل ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنُزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان؛ وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم، فهو المرشد لبيان المجملات وتعيين المحملات، كما في حديث الباب. وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث، على من أبى قبول الرخصة، قال: ويحتمل أن يكون معناه: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم؛ وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول.

وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا الكامل، الذي هو أعلى مراتب البر؛ وليس المراد به إخراج الصوم عن أن يكون براً، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم، إذا كان للتقوي على لقاء العدو مثلاً، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم:" ليس المسكين بالطواف " 1، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غناء يغنيه، ويستحي أن يسأل، ولا يفطن له. انتهى، وفيه بعض تلخيص.

ولا يخفى ضعف هذا المسلك، الذي سلكه الطحاوي في هذا الموضع، وقد شنع ابن حزم في شرح المحلى على قائل ذلك، وقال: هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار، بنص قوله عليه السلام؛ وليس إذا وجد نص قد جاء نص آخر أو إجماع بإخراجه عن ظاهره، وجب أن يبطل جميع النصوص،

1 البخاري: الزكاة (1479)، ومسلم: الزكاة (1039)، والنسائي: الزكاة (2572) ، وأحمد (2/316، 2/445، 2/469، 2/505)، ومالك: الجامع (1713) .

ص: 346

وتخرج عن ظاهرها. ويقال له: إذا قلت هذا، فقله أيضاً في قول الله تبارك وتعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [سورة البقرة آية: 177] ، ولا فرق. انتهى.

وقول الحافظ، رحمه الله، في حديث أبي سعيد: أنه نص في المسألة، من العجب، لأن أبا سعيد لم يذكر أن ذلك الصيام الذي فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النهي كان في رمضان؛ فهو محتمل لأن يكون صيام تطوع.

وقوله: ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه؛ وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه؛ فأي شاهد في قوله:" أولئك العصاة " في أن الفطر أفضل من الصيام، والصيام جائز لكن الفطر أفضل، وهو صريح في أنهم عصاة لله ورسوله حين صاموا، وقد نهاهم عن ذلك وأمرهم بالفطر.

والمقصود: أن القائلين باستحباب الصيام ليس معهم حجة صحيحة أصلًا، بل الأدلة الدالة على النهي عنه أظهر؛ وغاية الأدلة أن تدل على الجواز، وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره، وأما الاستحباب فبعيد جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأجاب أيضاً: أما جواز الإفطار في رمضان، فيجوز الصيام والإفطار، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم وأفطر في السفر.

وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: أما

ص: 347

مسألة الفطر للمسافر في رمضان والصيام، فالذي دلت عليه الأحاديث: أن المسافر إذا كان سفره مباحاً، أنه يخير بين الفطر والصيام؛ فلا ينكر على من صام ولا على من أفطر. روى الترمذي عن عائشة، رضي الله عنها:" أن حمزة بن عمرو الأسلمي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 1، قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح. وأخرج أبو داود عن أبي سعيد، قال:" كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فما يعاب على الصائم صومه، ولا على المفطر فطره " 2؛ وفيه أحاديث غير هذين الحديثين.

وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة، في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن فطر من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر؟

فأجاب: أما إذا أخذ غنم أو غيرها لأهل بلد، ولا يقدر أهل البلد على لحوق المأخوذ إلا بالفطر، فإنه جائز فيما نرى.

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن لا يعتاش إلا من الحشيش وأشباهه، ولا يقدر إلا مفطراً؟

فأجاب: إذا صار رجلاً ضعيفاً، ويعتاش من الكلإ

1 البخاري: الصوم (1943)، ومسلم: الصيام (1121)، والترمذي: الصوم (711)، والنسائي: الصيام (2306، 2307، 2308، 2384)، وأبو داود: الصوم (2402)، وابن ماجة: الصيام (1662) ، وأحمد (6/46، 6/193، 6/202، 6/207)، والدارمي: الصوم (1707) .

2 مسلم: الصيام (1116)، والنسائي: الصيام (2309، 2310) ، وأحمد (3/45، 3/50، 3/74) .

ص: 348

حشيشاً وأشباهه، ولا يقدر يحترف إلا مفطراً، فإن كان يقدر أن يعتاش بلا حرفته هذه فلا يفطر; فإن كان ليس له ما يقوم به إلا حرفته هذه، ولو يتركها لحقه الضرر، فأرجو أنه يجوز له؛ فإذا وقعت الضرورات حلت المحظورات. وأما الذي يفطر في النهار ويعتذر بالجوع، فلا له عذر، والذي يعتاش به في النهار يضمه إلى وقت الإفطار، إلا إن كان مثل هذا عندكم لو ما يفطر تلفت نفسه، أو لحقه ضرر بين، فلا تنكروا عليه.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: أما الراعي إذا لم يتعمد الفطر، ووجد مشقة تفضي إلى الخطر على نفسه جاز له الفطر.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: رعاة الغنم إذا صاموا رمضان وخافوا من شدة العطش، فلا بأس أن يفطروا؛ ولكن لا يفطروا حتى يشتد بهم العطش، وأما ظن وجود ذلك فلا يكفي.

وأجاب أيضاً: الذي يرعى الإبل أو غيرها، أو يكون في عمل شاق فيعطش في نهار رمضان، فالظاهر من أصول الشرع: أن الضرورة تبيح مثل هذا، وهو: ما إذا كان صائماً فعطش فخاف إن بقي على صيامه من التلف أو حدوث علة، فحينئذ يباح له الفطر ويقضي; والفطر الذي يباح له هو الذي يسد رمقه، بمنْزلة الأكل من الميتة. وأما ترك التكسب

ص: 349

من أجل خوف المشقة فلا يترك، بل يسعى في طلب المعيشة ويصبر، فإن عرض له أمر ضروري فيعمل بما ذكرنا.

[وقت النية للصوم]

سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن أوجب النية للصوم الواجب من الليل، هل محلها الليل كله؟ أم تختص بوقت منه؟

فأجاب: قال في الشرح الكبير: ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وفي الكافي: عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يبيِّت الصيام، فلا صيام له " 1، رواه أبو داود. وفي المبدع: لا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل، لما روى ابن عمر عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " 2، رواه الخمسة. وعن عائشة مرفوعاً:" من لم يبيِّت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له " 3، رواه الدارقطني. وظاهره: أنه في أي وقت من الليل نوى أجزأه، لإطلاق الخبر؛ وسواء وجد بعدها ما يبطل الصوم، كالجماع والأكل، أو لا، نص عليه. انتهى. فقد عرفت: أنه متى نوى من الليل قبل الفجر في الصوم الواجب صحت منه.

[حكم السحور]

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن السحور

إلخ؟

فأجاب: وأما السحور، فهو مسنون وإن قل، كما في الحديث:" ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء "4.

1 النسائي: الصيام (2334)، والدارمي: الصوم (1698) .

2 الترمذي: الصوم (730)، والنسائي: الصيام (2333)، وأبو داود: الصوم (2454) ، وأحمد (6/287) .

3 النسائي: الصيام (2331)، والدارمي: الصوم (1698) .

4 أحمد (3/12) .

ص: 350

[من يجهر بالإفطار]

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أكل في رمضان؟

فأجاب: والذي يأكل في رمضان أو يشرب، يؤدب.

[مسائل متعلقة بصحة الصيام وبطلانه]

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً فوجد طعمه في حلقه نهاراً

إلخ؟

فأجاب: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً، فوجد طعمه نهاراً في حلقه، أرجو أنه لا يضره.

وسئل: عن وجود روائح الأشياء

إلخ؟

فأجاب: روائح الأشياء إذا شمها الصائم فلا بأس بذلك إلا الدخان، إذا شمه الصائم متعمداً لشمه، فإنه يفطر بقصد شم الدخان، أيّ دخان كان؛ وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمه لم يفطر، لمشقة التحرز منه.

وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الفصد والكحل في نهار رمضان؟

فأجاب: قال في الإقناع وغيره: ولا يفطر بفصد ولا شرط ولا رعاف; وقال في الكافي: وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر، لأن العين منفذ، فإن شك في وصوله لكونه يسيراً كالميل ونحوه، ولم يجد طعمه، لم يفطر؛ نص عليه. وقال الشافعي: لا يفطر الكحل؛ واختاره الشيخ تقي الدين. فقد عرفت: أن الأحوط تركهما في نهار رمضان.

ص: 351

وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الوارد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتحل إذا أراد أن ينام، ثلاثاً في هذه، وثلاثاً في هذه؛ واتباعه هو السنة. وأما الاكتحال في نهار رمضان، فالزاعم أنه سنة يطالب بالحجة، فهل يجد أنه اكتحل في نهار رمضان؟ كما ورد في السواك للصائم، وقلنا به لورود الأثر به، وتركنا كلام الفقهاء أنه يترك بعد الزوال; وقال شيخ الإسلام وابن القيم: لا يكره، فأخذنا بذلك. وأما الكحل: فلا حاجة إليه، ولم يزل أهل التحقيق يتقون مسائل الخلاف، ما لم يكن معهم نص يتركون قول المخالف له، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 1؛ فالأولى بل الواجب: اجتنابه في حق الصائم، لأن وصوله إلى الحلق متحقق بالتجربة.

سئل الشيخ أبا بطين: عمن قبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى

إلخ؟

فأجاب: المشهور في مذهب أحمد، أنه يفطر بذلك، وفاقاً لمالك؛ واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يفطر بذلك، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، والله أعلم.

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الترعة؟

فأجاب: إذا كان صائماً فلا يدخلها؛ إذا وصلت الفم يتركها تخرج.

1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518)، والنسائي: الأشربة (5711) ، وأحمد (1/200)، والدارمي: البيوع (2532) .

ص: 352

سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن جماعة أفطروا في يوم غيم قبل غروب الشمس؟

فأجاب: الأحوط القضاء، وهو الذي نحب.

وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: من أكل أو شرب ظاناً بقاء الليل، فبان بالعكس، ففي وجوب القضاء عليه اختلاف في مذهب أحمد وغيره؛ واختار الشيخ تقي الدين أن لا قضاء عليه، فنأمره بالقضاء احتياطاً، لا وجوباً.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تقليد المؤذن

إلخ؟

فأجاب: وأما تقليد المؤذن، إذا كان في السماء غيم ونحوه، فلا ينبغي تقليده، لأنه يؤذن عن اجتهاد فلا يقلد؛ بل يجتهد الإنسان لنفسه، فلا يفطر حتى يتيقن أو يغلب على ظنه الغروب، فيجوز له الفطر مع غلبة الظن. وأما في الصحو، فيجوز الاعتماد على أذان المؤذن إذا كان ثقة.

سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن قول من قال: إنه لا يجوز لأحد أن يفطر بعد مغيب الشمس، حتى يذهب شعاع الشمس من الأفق، يعني الحمرة الشديدة، التي تبقى بعد غيوب القرص؟

فأجاب: هذا القائل جاهل مركب، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ وهذا المذهب الذي يحض عليه من

ص: 353

تأخير الأذان والفطر إلى ذهاب شعاع الشمس من الأفق، هو مذهب الرافضة، فإنهم يؤخرون الفطور إلى هذا الوقت; وقد قال صلى الله عليه وسلم:" لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور "1.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: عن غروب الشمس، أيجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟

فأجاب بقوله: الحمد لله، إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق، وإذا غاب جميع القرص، ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم "2. فتأمل ما ذكره، رحمه الله، من أنه إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، وأنه لا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.

فإذا عرفت هذا، عرفت أن من نهى الناس عن الأذان، وعن الإفطار، إلا بعد ذهاب هذا الشعاع والحمرة الشديدة، فقد نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بسلوك طريقة الأرفاض، في تأخير الأذان والفطر إلى ظهور النجم وذهاب الحمرة؛ وقد أفصح، رحمه الله، بما يزيل الإشكال، بقوله: إذا غاب جميع القرص، فالحكم منوط بغيبوبة القرص جميعه، لا بذهاب الحمرة الشديدة، فإنه لا عبرة بوجودها.

1 أحمد (5/147) .

2 البخاري: الصوم (1954) .

ص: 354

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن جامع في نهار رمضان؟

فأجاب: الذي يجامع فيه يقضي، وتلزمه الكفارة بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر فإطعام ستين مسكيناً.

وأجاب أيضاً: الذي وقع على امرأته بعدما تبين الفجر وهو ناس لصومه، فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن أحمد: أحدها: أن الناسي كالعامد يقضي ويكفّر؛ وهو قول مالك والظاهرية. الثاني: لا يكفّر وليس عليه إلا القضاء؛ اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك. الثالث: لا يقضي ولا يكفّر؛ اختاره الآجري وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا.

وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا جامع جاهلاً أو ناسياً في نهار رمضان، هل حكم الجاهل حكم الناسي؟ أم بينهما فرق؟ فالمشهور أن حكمهما واحد عند من يوجب الكفارة. وبعض الفقهاء فرق بين من يكون جاهلاً بالحكم، أو جاهلاً بالوقت، فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان، أو جامع معتقداً أن الفجر لم يطلع فبان أنه قد طلع.

ص: 355

ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالناسي مثله وأولى; قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت أو ناسياً، ولا كفارة أيضاً.

وأجاب الشيخ سعيد بن حجي، بعد ذكر صوم يوم الشك الذي تقدم قوله: ولا تثبت بقية توابعه، يعني وجوب الكفارة بوطء فيه، وحلول الآجال والمعلقات ونحوه، إذا ثبت هذا، فاعلم أن المجامع يوم الشك لا كفارة عليه، وإنما عليه الصوم، لأنه إذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم، أي قضاء ذلك اليوم، لقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية.

وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما الجماع يوم الشك، وهو آخر يوم من شعبان، إذا غم على الهلال، أو حال دون منظره غيم أو قتر، فهي مسألة نزاع؛ وجمهور الفقهاء على وجوب الكفارة، وكلام شيخ الإسلام مشهور في عدم الوجوب، بناء على أصل، وهو أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، واحتج على ذلك بحجج من أشهرها: قصة تحويل القبلة، والرجل الذي أتى إلى أهل قباء وهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول إلى الكعبة، أو كما قال، فاستداروا إلى الكعبة كما هم، وصلوا إليها بقيه صلاتهم، فقال: هذه حجة أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، لأنهم صلوا أول الصلاة يقيناً بعد نسخ القبلة، لكن لم يبلغهم، فاجتزوا بها ولم يعيدوها.

ص: 356

لكن يقال: مثل وجوب الكفارة في هذه المسألة، يسوغ لمن أحسن الاجتهاد أن يفتي فيها بما بلغ اجتهاده; والرخصة في ذلك للناس في هذه المسألة، والمجاهرة بذلك، جهل قبيح عند أهل التحقيق؛ والذي يتبع الرخص زنديق، لأنه متلاعب بالشريعة، ولم نزل نرى مشائخنا يحذرونا عن ذلك، شيخنا عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين، وغيرهم.

وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: من جامع يوم الشك، فالصحيح من أقوال العلماء: أن لا قضاء عليه ولا كفارة.

سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقاً وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟

فأجاب: في هذه المسألة خلاف كثير، والمشهور في المذهب: وجوب القضاء والكفارة على الرجل مع النسيان كالعمد؛ وهو مذهب مالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا كفارة عليه؛ اختاره ابن بطة. وعنه: لا قضاء، اختاره الآجري والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. والمكره كالمختار في المشهور من المذهب، وفاقاً لأبي حنيفة ومالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا قضاء ولا كفارة عليه.

والمرأة المطاوعة يفسد صومها، وتكفّر في إحدى

ص: 357

الروايتين؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك. والرواية الأخرى: لا كفارة عليها، وهو مذهب الشافعي. وفي فساد صوم المكرهة على الوطء روايتان: إحداهما: يفسد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: لا يفسد، وهو أحد قولي الشافعي. وعلى القول بفساده، فنص أحمد: لا كفارة عليها؛ وهو قول الأكثرين. وفي وجوب الكفارة على الناسية قولان: أحدهما: أنها كالرجل؛ وهو الذي ذكره القاضي والمشهور في المذهب، وهو قول الجمهور: لا كفارة عليها.

وفي عبارة الكافي التي ذكرتموها توجيه الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك، وقوله: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء، يعني أن الكفارة حق، يجب في المال بسبب الوطء; وقوله: من بين جنسه، معناها: أن الكفارة حق يوجبه الوطء خاصة من دون جنسه، أي جنس الوطء من أنواع الاستمتاع، كالقبلة واللمس ونحوهما، فلا كفارة في ذلك، أو مراده بجنسه جنس مفسدات الصيام، من الأكل والشرب ونحوهما.

وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لا كفارة على من جامع وهو صائم في قضاء رمضان، لعدم حرمة الزمان؛ قال في الكافي: ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان، لعدم حرمة الزمان. وقال في الزبد وشرحه، لما ذكر الكفارة على من أفسد صوم رمضان بالجماع: فلا كفارة على من أفسده

ص: 358

بغير جماع، أو بجماع في غير رمضان، كنذر وقضاء، لأن النص إنما ورد في إفساد صوم رمضان بجماع.

سئل الشيخ حسين بن علي بن حسين: عن رجل مرض في رمضان ثم عوفي مدة يسيرة، ثم أتاه مرض ثان ومات فيه

إلخ؟

فأجاب: إذا مات رجل في رمضان، فلا يقضى عنه، إلا إذا عوفي بعد رمضان، ومضى وقت يمكنه فيه الأداء ولا فعل، فهو يقضى عنه، أو يكفّر عنه، على ما فيه من الخلاف.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لا يقضى، يعني صيام الفرض إذا مات في مرضه، وأما النذر إذا كان عليه صيام نذر، لزم وليه صيامه عنه.

وأجاب أيضاً: إذا ترك المريض الصلاة مدة، فإن كان لا يشعر بذلك لأجل المرض، فهو مرفوع عنه الوجوب، وإن كان يصلي ولا يعلم بينه وبين نفسه فيحمل ذلك على أنه مصل، ولا تقضى عنه الصلاة؛ هذا الظاهر وهو الأصح. وكذلك الصوم لا يقضى، وأما النذر فهو يقضى على الأصح.

وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: من أفطر أياماً من رمضان لعذر، ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات، فيطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه، لأن قضاء الصوم عن الميت يخص المنذور فقط. وأما من استمر عذره حتى مات فلا شيء عليه.

ص: 359

وأجاب بعضهم: وأما من دخل عليه رمضان آخر، وفي ذمته قبله قضاء من رمضان الأول، وتأخيره من غير عذر، فيطعم مع صيام ما عليه كل يوم مسكيناً، ربع صاع براً أو نصفه من غير البر. والظاهر من مذهب الشافعية: أن الإطعام يتكرر كل عام بالتأخير.

[التتابع في قضاء رمضان]

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب التتابع في قضاء رمضان؟

فأجاب: وأما قضاء رمضان فلا يجب فيه التتابع.

[هلال المحرم إذا حصل فيه شك]

سئل أيضاً، رحمه الله: إذا حصل شك في هلال المحرم

إلخ؟

فأجاب: روي عن أحمد قال: إذا اشتبه علينا أول الشهر صمنا ثلاثة أيام، وأما البيض فالأمر فيها واسع، إذا حصل صيام ثلاثة أيام، حصل المطلوب من صوم ثلاثة أيام.

[ما يفعل من الصيام والنحر في السابع والعشرين من رجب وليلة النصف من شعبان]

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما يخص به يوم المولد من النحر، وما يفعل في السابع والعشرين من رجب من تخصيصه بالصوم والنحر، وما يفعل في ليلة النصف من شعبان من النحر وصيام اليوم، وما يخص به يوم عاشوراء من النحر؟

فأجاب: هذه الأمور المذكورة من البدع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وقوله في الحديث: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل

1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240، 6/270) .

ص: 360

محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1؛ والعبادات مبناها على الأمر والنهي والاتباع، وهذه الأمور لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة والتابعون; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2؛ وهذه الأمور ليس عليها أمره صلى الله عليه وسلم، فتكون به مردودة يجب إنكارها، لدخولها فيما أنكر الله ورسوله، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] ؛ وهذه الأمور مما أحدثها الجهال بغير هدى من الله. وأما حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء، فضعفه شيخ الإسلام، لكن يحصل التوسعة بدون اتخاذه عيداً.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الحديث المروي عن آدم، في فضل يوم النصف من رجب كذب لا أصل له. وأما صيام يوم النصف من شعبان فغير مشروع، وإن كانت تلك الليلة فيها فضل. وأما نهار الليلة التي يدعون أنها ليلة المعراج فلم يرد فيه شيء، وتخصيصه بالصيام بدعة.

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وما يجري في رمضان من تعظيم يوم الخميس، لا سيما الأخير، فهذا مما ينبغي إنكاره؛ وظاهر كلام الشيخ بل صريحه: أن هذا من المنكرات المحدثة، فتأمل كلامه يظهر لك الحكم إن شاء الله تعالى.

1 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .

2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73، 6/146، 6/180، 6/240، 6/256، 6/270) .

ص: 361

[ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر]

سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر؟ فأجاب: ذكر العلماء، رحمهم الله تعالى: أن ليلة القدر تنقل في الوتر من العشر الأواخر.

[خروج المعتكف لغسل الجمعة]

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن خروج المعتكف لغسل الجمعة؟

فأجاب: وأما خروج المعتكف لغسل الجمعة فلا يخرج له، ولا لغيره من السنن، إلا أن يشترط ذلك في أول اعتكافه، فيجوز له الخروج، ويصح شرطه.

ص: 362