المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب مبدأ اللغات وطرق معرفتها - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ٢

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

الفصل: ‌باب مبدأ اللغات وطرق معرفتها

‌باب مبدأ اللغات وطرق معرفتها

قوله: "من الألطاف حدوث الموضوعات اللغوية".

أقول: الألطاف جمع لطف (1)، وهو فعل من الله تعالى يُقَرِّب به العبد من الطاعة، ويُبْعِده من المعصية، واللام فيه عوض عن المضاف إليه، والحدوث: حصول الشيء بعد عدمه، وكان المناسب للطف لفظ الإحداث، كما وقع لابن الحاجب (2)، وكأن المصنف توهم -على ما يفهم من بعض الشروح (3) - أن ذلك مختص بمذهب التوقيف، والحدوث يشمل المذاهب كلها. وليس بشئ: لأن حدوثه لا بد له من محدث، وهو الله تعالى: لأنه خالف العباد، وأفعالهم (4)، بل لو قيل: وجه العدول أن الاحداث لما كان من نعم الله تعالى،

(1) يقال: تلطفت بالشئ إذا ترفقت به. راجع: المصباح المنير: 2/ 553، ومختار الصحاح: ص / 598.

(2)

راجع: المختصر وعليه العضد: 1/ 115، والمحلي: 1/ 261.

(3)

يعني به تشنيف المسامع للزركشي: ق (29 / أ).

(4)

رد العلامة العبادي على اعتراض الشارح: بأن المراد بالألطاف الأمور الملطوف بالناس فيها، وعلى هذا، فيكون استقامة التعبير بالحدوث، ومناسبته في غاية الظهور.

راجع: الآيات البينات: 2/ 48.

ص: 5

فالحدوث أولى: لأنه متفرع عليه، وأقرب إلى العباد منه لكان -في الجملة- وجهًا.

ثم نقول: لما كان الإنسان مدنيًا -بالطبع- لا بد له في أمر المعاش، والمعاد من مشاركة، مع بني نوعه تعليمًا، وتعلّمًا في المعاملات، والعبادات -أقدره الله بلطفه على الصوت، وتقطيعه ليدل بني نوعه على ما في ضميره بأسهل ما يكون، وهو خروج النفس الضروري الذي لا يحتاج فيه إلى مؤنة، ومشقة، مع عموم الفائدة لتناوله الموجود، والمعدوم، والمحسوس، والمعقول، ووجوده لدى الحاجة، وانتفائه لدى انقضائها، ولما كان التفكر في هذا من أفضل العبادات -مع أن الحاجة داعية إليه في هذا الفن- صدر البحث بأنه من لطف الله تعالى، وأشار إلى أنه أَفْيد، وأيسر من الكتابة، والإشارة كما قدمناه.

وأخذ في تعريف الموضوعات، فقال: هي الألفاظ الدالة على المعاني، فخرج -بقيد الألفاظ-: الدوال الأربع، وهي: الخطوط، والعقود، والإشارة [والنصب](1) أو بالدلالة على المعنى المهمل، فإنه لفظ: لأن اللفظ صوت يعتمد على المخرج حرفًا، فصاعدًا، مهملًا كان، أو مستعملًا، وكل المفرد، والمركب، وسيأتي تحقيق معنى الوضع في المركب إن شاء الله تعالى.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 6

ثم طريق الثبوت النقل -عن أئمة اللغة: كالأصمعي (1)، والخليل (2)، والأخفش- إما تواترًا: كالسماء، والأرض، والفرس، والإنسان، وإما آحادًا: كأكثر اللغات المسطرة في كتب اللغة.

أو النقل، مع العقل كما (3) إذا نقل: أن الجمع المحلَّى باللام يفيد العموم، ونقل أن الاستثناء: هو الإخراج بعد الدخول.

فإذا قلت: الرجال -في قولنا: جاءني الرجال-: جمع محلَّى باللام، وكل جمع محلى باللام يدخله الاستثناء، فهذا الجمع يدخله الاستثناء

(1) هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن أصمع البصرى، أبو سعيد إمام اللغة والأخبار، له مؤلفات منها: غريب القرآن، وغريب الحديث، والاشتقاق، والأمثال، وغيرها، توفي سنة (216 هـ)، وقيل: غير ذلك.

راجع: طبقات النحويين للزبيدي: ص / 167، والمعارف: ص / 543، ووفيات الأعيان: 2/ 344، وإنباه الرواة: 2/ 197، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 273، وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 354، وبغية الوعاة: 2/ 112، وشذرات الذهب: 2/ 36.

(2)

هو الخليل بن أحمد الأزدى الفراهيدي البصري، أبو عبد الرحمن إمام العربية، ومستنبط علم العروض له كتاب العين، والعروض، والشواهد، وتوفي سنة (170 هـ)، وقيل: غير ذلك.

راجع: طبقات النحويين للزبيدي: ص / 47، والمعارف: ص / 41، ومعجم الأدباء: 11/ 72، ووفيات الأعيان: 2/ 15، ونور القبس: ص / 56، وإنباه الرواة: 1/ 341، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 177.

(3)

آخر الورقة (32 / ب من أ).

ص: 7

[فالمادة](1) نقلية، والصورة عقلية (2)، وأما العقل المجرد، فلا دخل له في وضع اللغات (3).

قوله: "ومدلول اللفظ".

أقول: مدلول اللفظ إما معنى أو غيره، والمراد بالمعنى -هنا- ما يقابل اللفظ لا ما يرادف العَرَض.

والمعنى: إما كلي، أو جزئي: لأنه إما أن يمنع نفس تصوره عن وقوع الشركة، أو لا، فالأول: جزئي كزيد، والثاني: كلي كإنسان، والمثلث (4).

وغير المعنى أعني اللفظ: إما مفرد مستعمل: كمدلول الكلمة، فإن الكلمة لفظ وضع للاسم، والفعل، والحرف، وكل من الثلاثة لفظ مفرد، مستعمل.

أو مهمل: كأسماء حروف الهجاء، أي: كمدلولاتها، فإن مدلول الألف -أ-، ومدلول الباء -ب-، وهذه الدلولات لم توضع بإزاء شيء.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع؛ المحصول: 1/ ق/ 1/ 276، والإحكام للآمدي: 1/ 60، والمسودة: ص/ 564، ونهاية السول: 2/ 28، والمزهر: 1/ 57، 113، 120.

(3)

وذكر السيوطي طريقًا ثالثًا، وهو القرائن. ونقل عن ابن جني قوله: "من قال: إن اللغة لا تعرف إلا نقلًا، فقد أخطأ، فإنها تعرف بالقرائن أيضًا، فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

علم أن زرافات بمعنى جماعات" المزهر: 1/ 59، وانظر نسبة البيت، وشرحه ديوان الحماسة: 1/ 5، 9.

(4)

جاء في هامش (ب): "المثلث عند أهل الهيئة شكل أحاط به ثلاثة أضلع متساوية، وإنما التزم بالمثالين ليكون أحدهما من الجواهر، والآخر من الأعراض".

ص: 8

أو لفظ مركب مستعمل: كمدلول لفظ الخبر نحو زيد قائم، وأمثاله، أو مهمل: كمدلول لفظ الهذيان، وهذا بعيد: لأن وجود مركب إسنادي لا يكون له معنى في غاية البعد.

قوله: "والوضع جَعلُ اللفظ دليلًا على المعنى".

أقول: إطلاق المصنف الوضع يشمل الوضع الشخصي: كما في أكثر الألفاظ، والنوعي: كما في المجاز على ما سنحققه عن قريب إن شاء الله تعالى.

وإذا كان الوضع: عبارة عن جعل اللفظ بإزاء المعنى (1)، فإرادة الجاعل كافية في تخصيص الألفاظ بالمعاني.

ولا يشترط مناسبة بين المدلول، واللفظ الدال، خلافًا لعباد بن سليمان (2) الصيمري، وبعض المعتزلة، وأهل التكسير (3)، وهم الذين

(1) وعرف الحكماء الوضع: بأنه هيئة عارضة للشيء بسبب نسبتين: نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، ونسبة أجزائه إلى الأمور الخارجية عنه.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 264، والتعريفات: ص/252، وشرح تنقيح الفصول: ص / 20، والمزهر: 1/ 38 - 39، 46.

(2)

هو عباد بن سليمان بن علي أبو سهل معتزلي من أهل البصرة من أصحاب هشام بن عمرو، خالف المعتزلة في أمور انفرد بها، عاش في القرن الثالث الهجري، ولم تعرف وفاته بالتحديد.

راجع: الفهرست: ص/265، وطبقات المعتزلة: ص/83، والتبصير في الدين: ص/76، وانظر آراءه الكلامية: مقالات الإسلاميين: ص/245، 246، 253، 255، والبرهان للسكسكي: ص/34، والتنبيه والرد للملطي: ص / 44، وحاشية البناني على المحلي: 1/ 265.

(3)

راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 244، والإحكام للآمدي: 1/ 56، والنفائس للقرافي:(1/ ق / 97/ ب) والمسودة: ص/563، والعضد على المختصر: 1/ 192، وتشنيف المسامع: ق (29 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 265، وهمع الهوامع: ص / 83، والمزهر: 1/ 47.

ص: 9

يزعمون أن الحروف المبسوطة إذا اجتمعت على صيغ مخصوصة كان لها خواص، وتأثيرات، ونقل المصنف: أن المنقول -عنهم- مختلف فيه، فإن كان الذي قالوا به: هو المعنى الأول، وهو أن بين المعنى، واللفظ مناسبة مرعية -عند الواضع في وضع الألفاظ- باعثة له على اختصاص بعض الألفاظ ببعض المعاني دون بعض، فله وجه في الجملة، أشار إليه بعض أئمة العربية (1).

مثل: القصم بالقاف للكسر، مع الإبانة، والفصم بالفاء للكسر بدون الإبانة: لأن القاف من الحروف الشديدة دون الفاء، فروعي في معناه الزيادة، وكما ذكره الصرفيون (2) في عدم إعلال (3) حَيَدَى (4) بفتح الياء، وهو الحمار البطر الذي يفر من ظل نفسه.

(1) جاء في هامش (أ، ب): صاحب "المفتاح". قلت: هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي الحنفي، أبو يعقوب سراج الدين كان علامة، بارعًا في فنون عديدة خصوصًا منها علم المعاني، والبيان، وله كتاب "مفتاح العلوم" جمع فيه اثني عشر عِلمًا من علوم العربية، وتوفي سنة (626 هـ).

راجع: الجواهر المضيئة: 2/ 225، والفوائد البهية: ص/ 231، بغية الوعاة: 2/ 463، وشذرات الذهب: 5/ 122، ومفتاح السعادة: 1/ 163.

(2)

الصرفيون: نسبة إلى الصرف، أو التصريف، وهو لغة التغيير، ومنه تصريف الرياح. واصطلاحًا: علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلمة التي ليست بإعراب ولا بناء. ولا يتعلق إلا بالأسماء المتمكنة، والأفعال المتصرفة.

راجع: شرح ابن عقيل: 2/ 529، وشذا العرف في فن الصرف: ص / 3.

(3)

جاء في هامش (ب): (فائدة ينتفع في كتابتها) مشيرًا بها إلى قوله: وكما ذكره الصرفيون إلخ

(4)

لأن عين الكلمة إذا كانت واوًا متحركة، مفتوحًا ما قبلها، أو ياء متحركة مفتوحًا ما قبلها -كالمثال المذكور في الشرح- وكان في آخرها زيادة تخص الاسم لم يجز =

ص: 10

قالوا: إنما لم يعل لتدل حركة الحرف على حركة المعنى، وكذلك الحيوان، وهذا وإن لم يجر في جميع الكلمات إلا أنه يصلح شبهة.

وإن كان هو المعنى الثاني، فلا حجة له قطعًا: لأن اللفظ الموضوع (1) لأحد الضدين كالجون، الموضوع للأسود مثلًا، لو كان له مناسبة ذاتية -على ما زعموا- لم يجز وضعه لضده الذي لم يناسبه اللفظ، وإلا يلزم تخلف ما بالذات إذ في هذا الاصطلاح لا دلالة على ذلك الضد.

هكذا ينبغي أن يفهم، ولا يلتفت إلى ما مثلوا به من أنه لو كان كما ذكروه لما صح وضع اللفظ للضدين، أو النقيضين إذ عليه منع (2) ظاهر لا يخفى.

قوله: "واللفظ موضوع للمعنى الخارجي".

أقول: اللفظ لا يستلزم المعنى لذاته، كما تقدم، بل معناه إنما يتعين بتعيين الواضع، فذلك المعنى الموضوع له -لغة- هل هو أمر ذهني، أو موجود خارجى؟ فيه خلاف.

= قلبها ألفًا، بل يجب تصحيحها، وذلك نحو: جولان، وهيمان، وشذَّ ماهان، وداران، والأصل فيهما: موهان، ودوران، قال العلامة ابن مالك:

وعين ما آخره قد زيد ما

يخص الاسم واجب أن يسلما

راجع: ألفية ابن مالك: ص / 64، وشرح ابن عقيل: 2/ 570، وشذا العرف في فن الصرف: ص/ 125.

(1)

آخر الورقة (33 / ب من ب).

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "وذلك المنع أنه يجوز أن يناسب الضدين، أو النقيضين بجهتين مختلفتين منه هـ".

ص: 11

ذهب المصنف: إلى أنه خارجي، ونسب عكسه إلى الإمام، ونقل عن والده: أن الموضوع له هو المعنى من حيث هو، ومحل الخلاف -كما صرح به المصنف- هو الاسم النكرة لا المعرفة (1).

إذا تقرر هذا، فنقول: نقل المحققون من أئمة العربية أن الاسم النكرة موضوع للحقيقة من حيث هي.

وقيل: لمفرد مفسر متناول لجميع الأفراد على سبيل البدل (2)، وعلى كلا التقديرين، فالمدلول كلي، وإذا كان كليًا لا بد وأن يكون في الذهن إذ كل موجود خارجي جزئي حقيقي.

واعلم أنا قد قدمنا: أن للأشياء وجودات مختلفة، وجود في الكتابة، ووجود في العبارة، ووجود في الذهن، ووجود في الخارج.

وقد اتفق المحققون (3) -في مباحث الألفاظ-: على أن الكتابة تدل على العبارة، والعبارة تدل على ما في النفس، وما في النفس يدل على ما في الخارج.

(1) راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 269 - 270، ونهاية السول: 2/ 16، وتشنيف المسامع: ق (30 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 266، والمزهر: 1/ 42، وهمع الهوامع: ص / 84، والآيات البينات: 2/ 57، وإرشاد الفحول: ص / 14.

(2)

راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 1/ 26، وشرح ابن عقيل: 1/ 86، وأوضح المسالك لابن هشام: 1/ 60.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "منهم القطب في شرح المطالع، وتبعه أفضل المتأخرين الشريف رحمهما الله تعالى هـ".

ص: 12

والفرق بين هذه الدلالات: أن الأخيرة، أي: دلالة الصور الذهنية على الأمور الخارجية دلالة طبيعية لا يختلف فيها الدال، ولا المدلول، وفي الباقيتين وضعية، تختلف باختلاف الأوضاع إلا أن العلاقة بين العبارة، والصور الذهنية أشد من العلاقة بين الكتابة، والعبارة.

ومنشؤه كثرة الاحتياج: إذ النفس تعودت باستفادة المعنى من اللفظ حتى إن المفكر في المعنى وحده يجري اللفظ الذي يريد تصور معناه على لسانه كأنه يناجي نفسه.

فقد ثبت: أن الصور الذهنية هي مدلولات الألفاظ، وهي منطبقة على ما في الخارج إن كان للمتصور خارج.

والذي يحسم مادة الشبهة: أن الإنسان لفظ موضوع بإزاء الحيوان الناطق، ودلالته على المجموع مطابقة، وعلى كل واحد من الأجزاء تضمن، والمطابقة مفسرة بدلالة اللفظ على تمام ما وضع له.

ولا شك: أن الحيوان، والناطق صورتان ذهنيتان، والأمور الخارجية (1)، -زيد، وعمرو، وبكر- ليس للفظ الإنسان عليها دلالة، بل الصور الذهنية منطبقة عليها، فقد تحقق أن الموضوع له اللفظ هي الصور الذهنية لا المعاني الخارجية، كما اختاره المصنف، ولا المعنى من حيث هو على ما ذهب إليه والده، ويجيء لهذا زيادة بسط في بحث المجاز إن شاء الله تعالى.

(1) جاء في هامش (أ): "دلالة" أشار إلى أن محلها بعد الخارجية.

ص: 13

وليس كل معنى له لفظ وضع له -لغة- بل كثير من المعاني كالروائح، إنما يعبر عنها بالإضافة كروائح المسك وسائر المشمومات، أو بالصفة، مثل رائحة طيبة وخبيثة، بل إنما وضع اللفظ لكل معنى محتاج إلى اللفظ، أي: شديد الحاجة إليه، صرح به الإمام (1)، وإن لم يكن شديد الحاجة إما أن يوضع له، أو يعبر عنه بالإضافة، أو بالوصف (2).

قوله: "والمحكم المتضح المعنى".

أقول: المحكم -عند الشافعية- ما حفظ عبارته عن الإجمال، فيشمل النص والظاهر.

والمتشابه: ما تفرد الله به، أي: بعلمه، وربما أطلع بعض خواصه على بعض المغيبات (3)، يدل عليه قوله تعالى:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27].

(1) راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 266 - 267.

(2)

حاصل هذا أربعة أقسام:

الأول: ما احتاجه الناس، واضطروا إليه، فهذا لا بد لهم من وضعه.

الثاني: ما لا يحتاج إليه البتة يجوز خلوها عنه.

الثالث: ما كثرت الحاجة إليه الأظهر عدم خلوها، بل هو كالمقطوع به.

الرابع: ما قلّت الحاجة إليه يجوز خلوها عنه، وليس بممتنع. راجع: شرح الكوكب المنير: 1/ 103.

(3)

راجع تعريفات المحكم والمتشابه: الروضة: ص / 35، والإحكام للآمدي: 1/ 125، والمسودة: ص / 162، ومناهل العرفان: 2/ 168، والإتقان: 3/ 2، وشرح الكوكب المنير: 2/ 141، وإرشاد الفحول: ص / 32.

ص: 14

هذا شرح كلام المصنف، وفيه نظر: لأن المتشابه فيه مذهبان كما قدمنا:

مذهب السلف: أن الله منفرد بذلك لا يطلع عليه غيره كمدة بقاء الدنيا، ووقت قيام الساعة.

ومذهب الخلف: أن المتشابه ما فيه إجمال، وغموض لا يتضح (1) المقصود منه إلا بعد فحص شديد.

والحكمة -في ذلك- رفع درجات الراسخين، ونيل ما لا يناله غيرهم لأداءات قرائحهم، والمصنف مزج أحد المذهبين بالآخر.

قال الإمام: "اللفظ المشهور المتداول بين الناس لا يجوز أن يكون له معنى خفي يختص به بعض الأذكياء كما يقول -مثبتو الأحوال (2) -: الحركة: معنى يوجب كون الذات متحركة"(3)، والعلم: معنى يوجب لن قام به العالمية، فكون الذات متحركة، وكون الشئ عالمًا -عندهم- أمر وراء الحركة، والعلم.

(1) آخر الورقة (33 / ب من أ).

(2)

المراد بالحال هنا: هو الواسطة بين الموجود والمعدوم، وقد أثبته القاضي أبو بكر، وأبو هاشم المعتزلي، وإمام الحرمين أولًا، ثم رجع عنه. والجمهور منعوا ذلك إذ بطلانه بدهي؛ لأن الموجود ما له تحقق، والمعدوم ما ليس له تحقق، ولا واسطة بين النفي، والإثبات ضرورة، واتفاقًا.

راجع: المحصل للإمام: ص / 85 - 90، والمواقف: ص / 57 - 59، والنفائس للقرافي:(1 / ق / 108 - 109/ أ). و 4/ 377 من هذا الكتاب.

(3)

نقله بتصرف راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 271 - 272.

ص: 15

والجمهور: لا يقولون بذلك، بل ليس وراء العلم، والحركة في العالم، والمتحرك شيء، وقد عرفوا الحال: بأنه صفة لا موجودة، ولا معدومة قائمة بموجود (1)، والمسألة قليلة الجدوى في هذا المقام لا وجه لذكرها: لأن الكلام في الموضوعات اللغوية، وهذا أمر اصطلاحي، من أراد معرفته، فليتبع اصطلاحهم، وكذلك نظائره، وتبع المصنف الإمام في ذلك، وأوردها في إثر المتشابه لكونه مشتملًا على الخفاء، فناسب ذكره معه.

قوله: "مسألة: قال ابن فورك (2)، والجمهور: اللغات توقيفية".

أقول: لما بطل قول الصيمري: إن دلالة الألفاظ ذاتية، فثبت أنها وضعية إذ لا قائل بالفصل، وإذا كانت وضعية، فالواضع إما هو الله تعالى، وإليه ذهب الشيخ الأشعري، وتبعه الجمهور.

وإذا كان الواضع هو الله، فطريقة التوقيف منه إما بالوحي إلى آدم مثلًا، أو بأن يخلق الله الأصوات، والحروف التي هي الألفاظ الدالة، الموضوعة للمعاني، ثم يسمعها الواحد، أو الجماعة إسماع قاصد للدلالة على المعاني، أو بخلق علم ضروري في واحد، أو جماعة بأن هذه الألفاظ تدل على هذه المعاني.

(1) راجع: المحصل: ص / 85، والمواقف: ص / 57.

(2)

هو محمد بن الحسن أبو بكر الأنصاري، الأصبهاني الشافعي الفقيه الأصولي، النحوي، المتكلم صاحب التصانيف النافعة توفي سنة (406 هـ)، وفورك بضم الفاء، وفتح الراء كفوفل.

راجع: وفيات الأعيان: 3/ 402، وطبقات السبكي: 4/ 127، وطبقات الأسنوي: 2/ 266، وإنباه الرواة: 3/ 110، وشذرات الذهب: 3/ 181، وتاج العروس: 7/ 167 في شهرته.

ص: 16

وذهب الآمدي: إلى أن خلق الأصوات، والعلم الضروري طريق واحد (1).

وذهب أكثر المعتزلة: إلى أنها اصطلاحية، وضعها البشر، والتعريف حصل بالإشارة، والقرائن: كالطفل، فإنه يتعلم اللغة بالتكرار مرة بعد أخرى، مع قرينة الإشارة، وغيرها.

وقال الأستاذ: القدر المحتاج إليه توقيفي، والباقي محتمل (2).

وقيل: عكسه، أي: القدر المحتاج إليه اصطلاحي، والباقي محتمل للاصطلاح والتوقيف.

وتوقف كثير من العلماء عن القول بشيء من هذه المذاهب لعدم تمام أدلتها (3).

(1) راجع: الإحكام له: 1/ 60.

(2)

فيكون مذهب الأستاذ مركبًا من الوقف والتوقيف.

(3)

لأن جميع ذلك ممكن -عدا قول عباد، فإنهم جزموا ببطلانه- والأدلة متعارضة، وعزاه في المحصول: للقاضي، وجمهور المحققين، وتبعه البيضاوي، وغيره ممن اختصر المحصول، وهو اختيار الغزالي.

راجع: الخصائص: 1/ 40، والصاحبي: ص / 6 - 9، والمزهر: 1/ 8، وما بعدها، والمستصفي: 1/ 318، والمنخول: ص / 70، والمحصول: 1 / ق / 1/ 243 - 245، والإحكام للآمدي: 1/ 56، والمسودة: ص / 62، وشرح العضد: 1/ 194، ونهاية السول: 2/ 22، والتمهيد: ص / 138، وتشنيف المسامع: ق (30 / أ- ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 269، وهمع الهوامع: ص / 86، وفواتح الرحموت: 1/ 183، وشرح الكوكب المنير: 1/ 285، وإرشاد الفحول: ص/ 12.

ص: 17

والمذهب المختار -عند المصنف، وعليه المحققون- عدم القطع (1) بشيء من المذاهب المذكورة لانتفاء موجبه.

والظاهر: مذهب الشيخ، وأتباعه (2)، هذا ضبط المذاهب المعتبرة (3)، ونحن نشير إلى أدلة المذاهب على وجه الاقتصار، مع أجوبتها.

دليل الأشعري قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وكذلك الأفعال، والحروف لعدم القائل بالفصل.

قالوا: ألهمه بأن يضع الألفاظ للمعاني، قلنا: خلاف الظاهر، وكذلك قولهم: علمه باصطلاح سابق، الجواب هو الجواب.

قالوا: علم الحقائق بدليل {عَرَضَهُمْ} . قلنا: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} (4) يدفعه إذ هو ظاهر في أن التعليم لها، فيرجع الضمير إلى المسميات.

(1) آخر الورقة (34 / ب من ب).

(2)

يعني: أنهم لا يقطعون بواحد من هذه الاحتمالات، ولكن، مع ترجيح مذهب الأشعري بغلبة الظن. وقال الآمدى:"إن كان المطلوب اليقين، فالحق قول القاضي، وإن كان المطلوب الظن -وهو الحق- فالقول قول الأشعري لظهور أدلته".

واختاره ابن الحاجب، وابن دقيق العيد، والمحلي، والشارح تبعًا للمصنف.

راجع: الإحكام للآمدي: 1/ 57، ومنتهى الوصول: ص 281، ورفع الحاجب:(1 / ق / 44/ أ) والإبهاج: 1/ 197، وتشنيف المسامع: ق (30 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 271، وهمع الهوامع: ص / 87.

(3)

قال ابن السمعاني: "المختار تجويز كل ذلك، مع ظهور مذهب الأستاذ". ويعتبر هذا مذهبًا سابعًا في المسألة.

راجع: قواطع الأدلة: (1 / ق / 186 أ)، وتشنيف المسامع: ق (30 / ب).

(4)

الآية: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

ص: 18

والاستدلال بقوله: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22] ضعيف إذ الإقدار على الوضع والتعليم سيان في كون كل منهما آية.

المعتزلة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] يدل على سبق اللغة، وإلا يلزم الدور. قلنا: إذا علم آدم، فلا دور.

والأستاذ: إن لم يكن المحتاج إليه توقيفًا يلزم الدور.

قلنا: يعلم بالترداد، كما في الأطفال، فلا دور، والجواب عن عكس مذهبه هو الجواب.

قوله: "مسألة: قال القاضي، وإمام الحرمين .... " إلى آخره.

أقول: قد اختلف في أن اللغة هل تثبت قياسًا، أم لا؟ ، اختار المحققون: عدم ثبوتها.

ومحل النزاع -على ما صرح به الشيخ ابن الحاجب- ما يثبت عمومه عن أهل اللغة:

كرفع الفاعل، ولفظ رجل، والضارب، والمتكلم (1).

(1) اتفق الكل على امتناع جريان القياس في أسماء الأعلام: لأنها غير معقولة المعنى، والقياس فرع المعنى، فهى كحكم تعبدي لا يعقل معناه، وإنما الخلاف فيما ذكره الشارح، فالجمهور على المنع، بما فيهم الحنفية، واختاره القاضي، وإمام الحرمين، والصيرفي، والغزالي، والآمدي من الشافعية، وابن الحاجب من المالكية، وأبو الخطاب من الحنابلة، واختار الجواز الإسفرايني أبو إسحاق، والشيرازي أبو إسحاق، وابن فورك، وذكر بأنه الظاهر =

ص: 19

وتحقيق ذلك: أن واضع اللغة، قد يضع اللفظ الخاص للمعنى الخاص كالخمر لماء العنب إذا اشتد، وقذف بالزبد، والضرب، والقتل، ونظائرهما.

وقد يضع قاعدة كلية منطبقة على جزئيات كثيرة: كالمصغر، والمنسوب، والأسماء المشتقة، والمضاف، والمضاف إليه، فلا يلزم سماع ما صدقاتها من الوضع، بل يكفي سماع القاعدة منه.

والاستعمال مفوض إلى المتكلم بشرط أن لا يتجاوز ذلك القانون اللغوي، ومثل هذا يسمى وضعًا نوعيًا، وكذلك المركبات، وجميع المجازات من هذا القبيل، إنما الكلام في القسم الأول: مثل الخمر، فإن الواضع اعتبر فيه معنى المخامرة، فحيث وجد المعنى هل يطلق عليه الخمر، أم لا؟ فيه الخلاف المذكور:

الجمهور: على عدم الجواز (1).

= من مذهب الشافعي، فإنه قال: الشريك جارٍ قياسًا على تسمية امرأة الرجل جارة، ورجحه ابن سريج، والرازي، والأستاذ أبو منصور، وهو قول كثير من الفقهاء، وأهل العربية، ونقله الآمدي وابن الحاجب عن القاضي أيضًا في قوله الآخر، والمشهور عنه ما تقدم.

راجع: مختلف الحديث للشافعي هامش الأم: 7/ 263، واللمع: ص / 5، والبرهان: 1/ 172 - 173، والمستصفي: 1/ 332 - 334، والمنخول: ص / 70 - 72، والمحصول: 2 / ق / 2/ 457، والإحكام للآمدي: 1/ 43، والمسودة: ص / 173، تخريج الفروع على الأصول: ص / 237، وقواطع الأدلة للسمعاني:(1 / ق / 86 / أ- ب) ومنتهى الوصول: ص 261، وفواتح الرحموت: 1/ 185، وتشنيف المسامع: ق (30 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 271، وهمع الهوامع: ص / 87 - 88.

(1)

انظر التعليق السابق.

ص: 20

وفرقت طائفة بين الحقيقة، والمجاز، فجوزت في الأول، ولم تجوز في الثاني لكونه فرعًا لا يعتد به.

لنا -على المذهب المختار، وهو عدم الجواز-: أنه كما يحتمل أن يكون ملحقًا به، يحتمل أن يكون الواضع صرح بالمنع من طرد اللفظ على كل ما وجد فيه ذلك المعنى؛ لأن وجود المعنى في الأسماء المجردة علة للترجيح لا للإطلاق بخلاف الصفة، والوضع النوعى كما قدمنا.

ألا ترى: أنه قد منع طرد القارورة (1)، والأبلق، والأجدل، والأخيل، مع وجود المعنى في الغير، وإذا قام الاحتمال، فالإلحاق تحكم.

قالوا: دار الاسم مع الوصف إذ قبل تخمره، ووصف الإسكار ليس بخمر، فإذا طرأ المعنى سمي به، وإذا زال، زال الاسم، والدوران مظنة العلية.

قلنا: كما دار مع الوصف دار مع المحل، فالوصف جزء العلة، أي: علة التسمية كونه ماء عنب مع الوصف.

قالوا: قلتم: بالقياس شرعًا، فيجوز لغة بالطريق الأولى.

قلنا: هناك الإجماع انعقد على حجيته بخلاف هنا.

قالوا: قال به الشافعي، وهو الإمام المقدم في اللغة حيث قاس النباش على السارق، فأوجب القطع، وقاس النبيذ على الخمر، فأوجب الحد.

(1) جاء في هامش (أ، ب): "القارورة مخصوصة بالزجاج، والأبلق بالفرس، والأجدل من الجدل، وهو القوة خص بالصقر لغة، والأخيل من الخيلان خص بنوع طير هـ".

ص: 21

قلنا: قاس شرعًا إذ زوال العقل، وأخذ مال الغير، وصف مناسب للحكم: لأنه قاس وصف النباش، ووصف النبيذ على وصف السارق، ووصف الخمر (1).

قوله: "مسألة: واللفظ والمعنى".

أقول: هذا تقسيم اللفظ -بالنظر إلى المعنى- وهو أربعة أقسام:

الأول: أن يتحد اللفظ والمعنى، والمراد باتحادهما أن يكون اللفظ الواحد دالًا على المعنى الواحد: كالإنسان، والفرس، وزيد، وعمرو، فإن مَنعَ نفسُ تصور ذلك المعنى وقوعَ الشَّرِكَة، فالمعنى جزئي، ويطلق على اللفظ الدال عليه مجازًا.

وإن لم يمنع، فكلي، سواء كان موجودًا كالإنسان، أولم يوجد شيء من أفراده، مع إمكانه كالعنقاء، أو مع امتناعه كشريك الباري تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

وبعض الشراح (2) رجح تعريف المصنف- بمنع نفس التصور عن الشركة في الجزئي، وعدمه في الكلي- على تعريف الشيخ ابن الحاجب

(1) الفائدة من هذا الخلاف في هذه المسألة: هو أن من أثبت القياس في اللغة يستغني عن القياس الشرعي، فيكون إيجاب الحد على شارب النبيذ، والقطع على النباش عندهم بالنص، ومن أنكر القياس -في اللغة- جعل ثبوت ذلك بالقياس الشرعي.

راجع: أصول السرخسي: 2/ 156، وشفاء الغليل: ص / 600، والمحصول: 2 / ق / 2/ 457 وبيان المختصر: 1/ 257 - 258، وتخريج الفروع على الأصول: ص / 345 - 346، والتمهيد: ص / 469، والتلويح على التوضيح: 2/ 57 - 58، وفواتح الرحموت: 1/ 185.

(2)

هو الزركشي في تشنيف المسامع: ق (31 / أ).

ص: 22

بقوله: فإن اشترك في مفهومه (1) كثيرون، فكلي، وإن لم يشترك، فجزئي، بأن تعريف ابن الحاجب يوهم شرطية الاشتراك، وهو ليس بشرط (2)، وكأنه نظر إلى الوجود الخارجى، ولم يعتبر الأفراد الذهنية، وقد علمتَ أن الاشتراك وعدمه، إنما هو بالنظر إلى الأفراد الذهنية، والذهن هو مناط الكلية والجزئية. والأفراد الخارجية -وإن كانت موجودة- لا التفات إليها.

وتعريف الشيخ في غاية الحسن، ونهاية الكمال، مع أنه يصلح أن يكون شرحًا لكلام المصنف: لأن منع نفس تصور الشيء عن وقوع الشركة معلل بانتفاء الشركة، وعدمه بالاشتراك.

وذلك الكلي: إن استوت أفراده، فمتواطئ: كتساوي زيد وعمرو في الإنسانية.

والتواطؤ: التوافق سمي به لتوافق الأفراد فيه.

ومُشكِّك: إن تخالف بالشدة والضعف (3): كالبياض، فإنه في الثلج أشد منه في العاج، أو التقدم والتأخر: كوجود العلة، مع وجود المعلول،

(1) آخر الورقة (34 / ب من أ).

(2)

راجع: المنتهى: ص/ 17.

(3)

راجع: الإحكام للآمدي: 1/ 14، وشرح تنقيح الفصول: ص / 30، ومختصر ابن الحاجب: 1/ 126، وتحرير القواعد المنطقية: ص / 39، وحاشية عليش: ص / 41، وحاشية العطار: ص / 72، تشنيف المسامع: ق (31 / أ- ب)، فتح الرحمن: ص / 52، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 274، وهمع الهوامع: ص/ 89، وإرشاد الفحول: ص/17.

ص: 23

أو الإمكان والوجوب كوجود الواجب، والممكن (1)، وإنما سمي مشككًا: لأنه إن نظر إلى اشتراك المعنى يوهم التواطؤ، وإن نظر إلى التفاوت يوهم عدمه.

وإن تعدد اللفظ، والمعنى، فالمعاني متباينة حقيقة، والألفاظ -أيضًا- توصف بالتباين.

وإن اتحد المعنى دون اللفظ، فالألفاظ مترادفة: كالليث، والأسد (2).

وعكس هذا، وهو أن يتحد اللفظ، ويختلف المعنى إن كان ذلك اللفظ حقيقة فيهما: كالجون، والقرء، للأبيض، والأسود، والطهر، والحيض (3)، فاللفظ مشترك (4).

وإن لم يوضع لهما، ففي الموضوع له حقيقة، وفي المنقول إليه مجازًا إن لم يشتهر في الثاني، وإن اشتهر، ففى الثاني يكون حقيقة أيضًا، ويعبر عن الأول بالمنقول عنه، وعن الثاني بالمنقول إليه: كالصلاة، فإنها -لغة- هو الدعاء نقل

(1) لأن الوجود الواجب لا يقبل التغير، ولا الفناء، ولا العدم، ولا الزوال، والوجود الممكن بخلاف ذلك. راجع: شرح تنقيح الفصول: ص / 30.

(2)

راجع في تعريف المترادف: الإحكام للآمدي: 1/ 15، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 275، والمزهر: 1/ 402.

(3)

هذا التركيب في الكلام يعرف في البلاغة باللف والنشر، فالأبيض، والأسود يرجع إلى الجون، والطهر، والحيض يرجع إلى القرء.

(4)

راجع: العضد على المختصر: 1/ 127، وشرح تنقيح الفصول: ص / 29، والمزهر: 1/ 369.

ص: 24

في الشرع إلى الأركان المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وصار عند أهل الشرع (1) حقيقة في المعنى الثاني فبالنظر إلى وضع اللغة استعماله في الأركان المذكورة مجاز، وبالنظر إلى وضع الشرع بالعكس (2).

قوله: "والعَلَم: ما وضع لمعين".

أقول: الجزئي إنما يذكر في العلوم في مقابل الكلى لا استقلالًا، فإن الجزئي قليل الجدوى في إفادة الأحكام.

والمصنف -بعد أن ذكر الجزئي في مقابلة الكلى- أفرد قسمًا منه بالذكر ليبين أقسامه، وهو العلم، وعرفه: بأنه اللفظ الذي وضع لمعين لا يتناول غيره (3).

فبقوله: "وضع لمعين"، خرج النكرات، وبقوله:"لا يتناول غيره"، خرج سائر المعارف.

وكان يجب عليه زيادة قولهم: بوضع واحد: لئلا تخرج الأعلام المشتركة، فإنها وإن كانت متناولة غيرها، لكن لا بوضع واحد، بل بأوضاع متعددة (4).

(1) آخر الورقة (35 / ب من ب).

(2)

يعني يطلق عليها حقيقة شرعية؛ لأن الشارع هو الذي وضعها.

(3)

راجع تعريف العَلَم: تسهيل الفوائد: ص / 30، وشرح ابن عقيل: 1/ 118، وأوضح المسالك: 1/ 88.

(4)

اعتمد الشارح في اعتراضه على المصنف بظاهر تعريف ابن الحاجب في الكافية، مع أنه صرح في أماليه بعدم الحاجة إلى ذكر القيد الذي ذكره الشارح لأن قوله:"لا يتناول غيره"، =

ص: 25

ثم التعين إن كان خارجيًا، فالعَلَم شخصي، وإن كان ذهنيًا، فالعلَم جنسي.

فالأول: كزيد، والثاني: كأسامة، فإنه موضوع للحقيقة من حيث هي ملحوظًا حضورها في الذهن.

وإن وضع اللفظ للماهية من غير ملاحظة الحضور الذهني، فذلك اللفظ اسم الجنس (1).

وهنا مواضع بحث لا بد من تحقيقها: الأول: قوله: لمعين يتناول جميع المعارف عليه عول أكثر العربية (2)، وفي كون غير العلَم موضوعًا لمعين إشكال: لأن ضمير الخطاب: كـ "أنتَ" مثلًا مستعمل في كل مخاطب، وكذلك اسم الإشارة مثل:"هذا" مستعمل في كل مشار إليه قريب، ومثله: ذاك، وذلك في المتوسط، والبعيد، وكذا حال الموصول ولا فارق بين هذه الأقسام،

= عدم تناوله من حيث ذلك الوضع، والألفاظ يجب حملها على المتبادر منها حيث لا مانع، ولهذا قال المحلي:"لا يتناول غيره من حيث الوضع له" وهو إشارة إلى قيد الحيثية.

راجع: الكافية: 2/ 131، والأمالي: ق (26 ب- 27 / أ)، والمختصر على تلخيص المفتاح: 1/ 292، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 278، والآيات البينات: 2/ 73.

(1)

راجع: شرح تنقيح الفصول: ص 321، وتشنيف المسامع: ق (31 / ب- 32 / أ) وهمع الهوامع: ص / 89 - 90.

(2)

راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 1/ 27، وأوضح المسالك: 1/ 88، وشرح ابن عقيل: 1/ 118.

ص: 26

وبين النكرة بحسب المعنى إذ الرجل مثلًا موضوع لمفهوم كلي، وهو ذكر من بني آدم، مجاوز حد الصغر، فهو مستعمل في كل ما صدق عليه هذا المفهوم.

ولما استشعر هذا الإشكال بعض الفضلاء (1) غير التعريف، وقال:"المعرفة ما وضع ليستعمل في شيء بعينه، أي: وإن لم يكن الموضوع له معينًا، لكن الموضوع مستعمل في معين بخلاف النكرة، فإن استعماله ليس في معين"(2).

وليس بشئ إذ على ذلك التقدير يكون اللفظ دائمًا مستعملًا في غير موضوع له، لأن الوضع عنده إنما هو للمفهوم الكلي، والاستعمال في الجزئيات، ولم يقلبه أحد.

الثاني: أن المصنف جعل عَلَم الجنس، واسم الجنس كلًّا منهما موضوعًا للماهية من حيث هي، فلم يفرق بينهما، مع ثبوت الفرق قطعًا.

الثالث: أنه قيد التعيين في الأول بالخارجي، ويفهم منه أن التعيين في الثاني ذهني، وليس كذلك إذ التعيين فعل الواضع، فهو خارجى، وإن كان المعين موجودًا ذهنيًا.

والجواب -عن الأول- ما ذكره أفضل المتأخرين (3)، وهو أن وضع اللفظ للمعنى عقلًا لا يتجاوز عن أربعة أقسام:

(1) جاء في هامش (أ، ب): "التفتازاني".

(2)

راجع: المختصر شرح تلخيص المفتاح: 1/ 289 - 291، والتتمة لعبد القاهر: ص / 90.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "الشريف الجرجاني".

ص: 27

الأول: أن يكون الوضع عامًا، وكذا الموضوع له كالنكرات، أو يكون الوضع خاصًا، والموضوع له كذلك مثل الأعلام، أو يكون الوضع عامًا، والموضوع له خاصًا كسائر المعارف، فكأن الواضع قال: عينت لفظ "هذا" لكل مشار إليه، ولفظ "أنت" لكل مخاطب، فالوضع واحد عام، والموضوع له كل واحد من الأفراد بخصوصه، فامتازت عن النكرات إذ هناك لم يعتبر الأفراد المخصوصة، بل إما وضع اللفظ للماهية الصادقة على الأفراد، أو لفرد منتشر على المذهبين كما قدمنا.

وأما كون الوضع خاصًا، والموضوع له عامًا، فغير معقول، فالقسم الأخير من الأقسام الأربعة ليس موجودًا، والثلاثة الأول موجودة.

وبهذا التحرير زال الإشكال بحذافيره، وهذا البحث هو الذي أشرنا إليه بأنه سيأتي.

وأما الجواب -عن الثاني-: وهو الفرق بين عَلَم الجنس، واسمه هو أن في اسم الجنس النكرة مذهبين: أحدهما: أنه موضوع للفرد المنتشر، وعلى هذا لا إشكال: لأن عَلَم الجنس ليس موضوعًا لفرد، بل للحقيقة.

وثانيهما: أنه موضوع للماهية، وحينئذ يحصل الإشكال.

والجواب: أن في عَلَم الجنس يلاحظ الحضور الذهني، وفي اسم الجنس لم يلاحظ.

ص: 28

فإن قلت: [الواضع](1) إذا وضع لفظة بإزاء معنى، لا بد وأن يلاحظ [المعنى](2)، وكذلك القائل: جاءني رجل، لا بد وأن يلاحظ معناه.

قلت: قولنا: لم يلاحظ فيه. الجواب: لأن الحضور الذهني، وإن كان حاصلًا لم يلاحظ في النكرة بخلاف المعرفة، فإن الملاحظة واجبة فيه، وعدم اعتبار الشيء ليس اعتبارًا لعدمه (3)، فتأمل! .

قوله: "مسألة: الاشتقاق ردّ لفظ إلى آخر".

أقول: الاشتقاق -لغة-: الاقتطاع مأخوذ من الشق، وهو القطع، واصطلاحًا: ما ذكره المصنف (4)، وهو على ثلاثة أقسام (5):

(1) سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

أيَّد العبادي اعتراض الشارح على المصنف في تفرقته بين عَلَم الجنس واسمه، وقال:"وهذا فرق لا غبار عليه، ولا خلل يتطرق إليه". الآيات البينات: 2/ 75.

(4)

وقيل: هو نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنًى وتركيبًا، ومغايرتهما صفة.

راجع: المحصول: 1 / ق / 1/ 325، والإبهاج: 1/ 222، ونهاية السول: 2/ 67، والتعريفات: ص / 27، والمزهر: 1/ 346.

(5)

اختلف في الاشتقاق في اللغة إلى أقوال: فذهب الخليل، وسيبويه، والأصمعي، وأبو عبيد، وقطرب إلى أن اللفظ ينقسم إلى: مشتق، وجامد، وهذا هو الذي عليه العمل. وذهب الزجاج، وابن درستويه، وغيرهما إلى أن الألفاظ كلها مشتقة حتى إن ابن جني قال بوقوعه في الحرف، فنعم حرف جواب، والنعم، والنعيم، والنعماء مشتق منه عنده، وذهب نفطويه إلى أن الألفاظ كلها جامدة موضوعة.

راجع: الخصائص لابن جني: 2/ 34 - 37، وشرح الكوكب المنير: 1/ 205.

ص: 29

صغير: وهو ما إذا وافق الأصل الفرع في الحروف، والترتيب نحو خرج من الخروج.

وكبير: إن وافق في الحروف دون الترتيب، نحو: جبذ من الجذب.

وأكبر: إن لم توجد حروف الأصل، بل ما يناسبها نحو: نعق، ونهق (1).

وقد ذكر صاحب المفتاح: أن علم الاشتقاق علم مستقل حيث قال -في خاتمة كتابه-: "أين هم عن علم الاشتقاق؟ أين هم عن علم الصرف؟ "(2).

[وإنما نبهنا عليه، وإن لم يكن مقصودًا هنا: لأن بعض الأفاضل جعله جزءًا من علم الصرف](3).

قوله: "ولو مجازًا"، يريد تعميم الاشتقاق في الحقيقة، والمجاز تعريضًا بمن (4) منعه في المجاز كالقاضي، والغزالي (5)، فإن

(1) راجع: العضد على المختصر: 1/ 174، وتشنيف المسامع: ق (1/ 32)، والخصائص: 2/ 133، والمزهر: 1/ 346، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 182، وهمع الهوامع: ص / 91.

(2)

راجع مفتاح العلوم للسكاكي: ص/77.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(4)

آخر الورقة (35/ ب من أ).

(5)

واختاره الْكِيَا الهراس، وغيره.

راجع: المستصفى: 1/ 343، وتشنيف المسامع: ق (32 / أ) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 282، وهمع الهوامع: ص/ 91.

ص: 30

الغزالي ذكر أن أمر فرعون في قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] بمعنى الشأن مجازًا، فلا يشتق منه أمر، ولا مأمور.

والدليل على الاشتقاق من المجاز قولهم: نطقت الحال بكذا، أي: دلت: لأن النطق مستعمل في الدلالة، أولًا، ثم اشتق منه اسم الفاعل على ما هو القاعدة في الاستعارة التبعية في المشتقات (1)، وقيد الحروف بالأصلية: لأن الحروف المزيدة لا اعتداد بها.

قوله: "ولا بد من تغيير" تصريح بما علم ضمنًا إذ رد لفظ إلى آخر لا يمكن إلا بعد التغير الأولى في العبارة، التغير بياء واحدة، والتغير إما أن يكون لفظًا أو تقديرًا، إذ الفتحة في طلب ماضيًا، غيرها في طلب مصدرًا، وكذلك سكون اللام في فلك مفردًا، غيره في فلك جمعًا، وقد ضبط أقسام التغيير بعض الفضلاء (2)، فارتقت إلى خمسة عشر قسمًا (3)، وحظ الأصولي من الاشتقاق: أن اللفظ المشتق إذا وقع في لفظ الشارع كيف

(1) راجع: الإيضاح: 2/ 429، وأسرار البلاغة: ص / 39، وجواهر البلاغة: ص / 310، والبلاغة الواضحة: ص / 84.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "هو البيضاوي" وراجع: الإبهاج: 1/ 224 - 226، ونهاية السول: 2/ 69 - 70.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "وعند الإمام تسعة أقسام" راجع المحصول: 1/ ق / 1/ 326، وشرح العضد على المختصر: 1/ 173، مع حاشية السيد، والتفتازاني، والهروي، وتشنيف المسامع: ق (32 / أ- ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 283، وهمع الهوامع: ص / 92.

ص: 31

يستدل به على الحكم؟ ولا شك أن المشتق من حيث إنه مشتق لا يعلم بدون معرفة الاشتقاق، فلذلك صدر البحث به".

قوله: (1) وقد يطرد المشتق كاسم الفاعل، وقد يختص كالقارورة". وقد تبين لك -قبل هذا- أن مناط الإطراد هو عموم اللفظ: لأن الواضع قد وضع لفظ ضرب لكل من قام به الضرب بخلاف القارورة، فإنه وضع مقيدًا بالزجاج، فالقارورة: ما استقر فيه الشيء بقيد كونه زجاجًا، فالمعنى في الأول يصحح الاطلاق، وفي الثاني مرجح.

قوله: "ومن لم يقم به وصف لم يجز أن يُشتق منه اسم".

أقول: المدعَى -في هذه المسألة-: أنه لا يجوز أن يشتق لفظ الصفة لشئ، والمعنى الذي هو مأخذ الاشتقاق قائم بغيره (2)، فلا يجوز أن يقال: زيد ضارب إلا إذا قصد أن الضرب قائم به سواء صدقت القضية، أو كذبت إذ المقصود بيان طريق اللغة، والقانون في إجراء الصفات على الموصوفات.

(1) آخر الورقة (36 / ب من ب).

(2)

هذه المسألة، وإن كانت واضحة لكن الأصوليين ذكروها للرد على المعتزلة في نفيهم صفات الله الذاتية، مع اعترافهم بثبوت الأسماء له.

راجع: الإحكام للآمدي: 1/ 40، وشرح تنقيح الفصول: ص / 48، وشرح العضد على المختصر مع حواشيه: 1/ 181، وتشنيف المسامع: ق (32 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 286، وهمع الهوامع: ص/ 92، وفواتح الرحموت: 1/ 192، وشرح الكوكب المنير: 1/ 221.

ص: 32

وجوزت المعتزلة: حيث جوزوا إطلاق المتكلم على الله تعالى بمعنى أنه خالق الكلام في الغير: كالشجرة إلى أوجد فيها الكلام حين جمع موسى الكلام منها، ولهم في إثبات صفات الله -تعالى- اضطراب، وسنحققه في علم الكلام إن شاء الله تعالى (1).

لنا -على إثبات المدعى- الاستقراء التام، وذلك يفيد القطع.

قالوا: القتل، والضرب أثر، وهو قائم بالمفعول.

قلنا: ممنوع، بل هو التأثير، وهو قائم بالفاعل.

قالوا: يطلق على الله الخالق، والخلق غير المخلوق.

والجواب: ليس محل النزاع، إذ محل النزاع فعل قائم بالغير، وهذا مجموع قائم بنفسه، وإن كان بعضه قائمًا ببعضه إذ على تقدهـ تسليم أن الخلق نفس المخلوق (2) مفهومه يصدق على جميع الحوادث، والحوادث بعضها جواهر قائمة بنفسها، وبعضها أعراض قائمة بالجواهر، والمجموع ليس قائمًا بغيره.

(1) سيأتي في آخر الكتاب.

(2)

ذكر شيخ الإسلام أن الخلق فعل الله تعالى القائم به، والمخلوقات المنفصلة عنه، وحكاه البغوي عن أهل السنة، ونقله البخاري عن العلماء مطلقًا حيث قال:"قال علماء السلف: إن خلق الرب تعالى للعالم ليس هو المخلوق، بل فعله القائم به غير مخلوق". وهذا قول الكرامية وكثير من المعتزلة.

وذهب الأشعرية، وأكثر المعتزلة، والقاضي أبو يعلى -أولًا- وابن عقيل، وابن الزاغوني إلى أن الخلق هو المخلوق. =

ص: 33

قوله: "ومن بنائهم -على التجويز المذكور- أنهم يسمون إبراهيم ذابحًا، ولهم خلاف في أن إسماعيل مذبوح، أو لا".

واعلم أن ابتناء هذه المسألة على أصل المعتزلة في غاية البعد، إذ هذه المسألة مستقلة لا تعلق لها بذلك الأصل؛ لأن الخلاف هنا بيننا وبينهم، إنما هو في جواز النسخ قبل التمكن من الفعل كما سيأتي (1).

فعندنا يجوز أن ينسخ الحكم قبل التمكن من الفعل، والدليل على ذلك قصة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إذ أمر بالذبح، ونسخ قبل التمكن من الفعل، وهم منعوا ذلك.

وأجابوا عن هذا الاستدلال تارة بأنه لم يؤمر إلا بمقدمات الذبح، وقد أتى بها، وتارة يقولون: بل أتى بالذبح، ويروون في ذلك خبرًا موضوعًا، وهو أنه ذُبح، ولكنْ التأم موضع الذبح، فإنه كان كلما قُطِع جزء التأم مكانه.

= قال شيخ الإسلام: "ذهب هؤلاء إلى أن الله تعالى ليس له صفة ذاتية من أفعاله، وإنما الخلق هو المخلوق، أو مجرد نسبة أو إضافة، وعند هؤلاء حال الذات التي تخلق، وترزق، ولا تخلق، ولا ترزق سواء".

راجع: خلق أفعال العباد: ص / 74، ومجموع الفتاوى: 12/ 436، والرد على المنطقيين: ص / 229.

(1)

في باب النسخ، وقد رد العبادي بأن حصر الشارح الخلاف في جواز النسخ قبل التمكن من الفعل ممنوع، بل وقع الخلاف في غير ذلك، ثم ذكر أمثلة على ذلك راجع: الآيات البينات: 2/ 87.

ص: 34

وبالجملة: ذُبح، أولم يُذبح، الذبح قائم بالذابح، وإن ذهبوا إلى ما نقل عنهم من أن الضرب قائم بالمضروب، كما قدمنا، فلا وجه لقول المصنف: اتفاقهم على أن إبراهيم ذابح بناء على الأصل المذكور، فتأمل!

قوله: "وإن قام به" أي بالشيء "ما له اسم" كالكلام مثلًا، وجب أن يشتق له، أي: لمن قام به، اسم كالمتكلم.

وأما المعاني إلى لا أسماء لها كأنواع الروائح والآلام، فلا يشتق لمن قامت به اسم للاستغناء بالإضافة كما تقدم (1).

قوله: "الجمهور على اشتراط بقاء المشتق منه في كون المشتق حقيقة".

أقول: قد اختلف في أن بقاء المعنى شرط في كون المشتق حقيقة، أم لا؟ فيه مذاهب (2): أحدها: اشتراطه، وثانيهما: نفيه. وثالثها: شرط إن

(1) وهذا هو اختيار الإمام الرازي، ومن تبعه. راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 341، وتشنيف المسامع: ق (33 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 286، وهمع الهوامع: ص / 94.

(2)

وقد اتفقوا على أن إطلاق اسم المشتق باعتبار المستقبل مجاز، وباعتبار الحال حقيقة كقولهم لمن يضرب حال وجود الضرب منه: ضارب حقيقة، وإنما الخلاف في إطلاقه بعد انقضائه باعتبار الماضي كإطلاق الضارب بعد انقضاء الضرب، هل هو حقيقة أو مجاز؟ فالجمهور اشترطوا بقاء المعنى، ونفاه الجبائي، وابنه من المعتزلة، وابن سينا من الفلاسفة، واختاره أبو الطيب من الشافعية، وبعض الحنفية، وابن حمدان من الحنابلة، والقول الثالث نسبه المصنف إلى الجمهور، واختاره أبو الخطاب، والقاضي أبو يعلى في قول له من الحنابلة. =

ص: 35

كان البقاء ممكنًا (1)، وإلا [فآخر جزء](2)، ونمسب المصنف إلى الجمهور [أنهم يشترطون البقاء إن أمكن، وإلا فآخر جزء بقاؤه كاف](3).

المشترطون مطلقًا قالوا: بعد انقضاء المعنى يجوز نفيه، وهو أمارة المجاز.

قلنا: نفيه مطلقًا، أو في الحال؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلم، ولا يفيدكم إذ نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، نوضحه: أن الثبوت في الحال أخص من الثبوت مطلقًا.

وقد يجاب -عن هذا-: بأن المراد النفي المقيد بالحال (4) لا نفي المقيد بالحال، والسلب المطلق لازم للسلب المقيد.

= راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 329، والإحكام للآمدي: 1/ 41، وشرح تنقيح الفصول: ص / 48، والمسودة: ص / 567، والعضد على المختصر: 1/ 176، والقواعد لابن اللحام ص / 127، والإبهاج: 1/ 227، والتمهيد: ص / 153، ونهاية السول: 2/ 72، وتشنيف المسامع: ق (33 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 227، وهمع الهوامع: ص/ 94، وفواتح الرحموت: 1/ 193.

(1)

كالقيام، وإن لم يكن ممكنًا كالأعراض السيالة التي لا يمكن اجتماع أجزائها دفعة واحدة كالتكلم، وغيره، فآخر جزء بقاؤه كاف.

راجع: تشنيف المسامع: ق (33 / أ)، وهمع الهوامع: ص / 94.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب)، وأثبت بهامشها.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب)، ولم يذكره في محله، ولكنه ذكره بعد ذلك في غير محله كما ستأتي الإشارة إليه.

(4)

على أن يكون في الحال ظرفًا للنفي لا أن يكون في الحال ظرفًا للمنفي كما هو الأخير قال التفتازاني، "إن كان ظرفًا للنفي بمعنى أنه يصدق في الحال أنه ليس =

ص: 36

قالوا: -ثانيًا- لو لم يشترط بقاء المعنى، وصح إطلاقه حقيقة على الماضى يصح إطلاقه على المستقبل كذلك، واللازم منتف.

أجيب: بأنه لا يلزم من عدم اعتبار قيد كونه حالًا -نظرًا إلى الماضي- عدم اعتباره مطلقًا، إذ ربما كان المشترك بين الماضي والحال مشروطًا، وهو كون الضرب حاصلًا في الجملة.

النافون لاشتراط بقاء المعنى قالوا: أجمع أهل اللغة على صحة ضارب أمس، وأنه اسم فاعل، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

الجواب: مجاز بدليل إجماعهم على صحة ضارب غدًا، وهو مجاز اتفاقًا.

قالوا -ثانيًا-: لو اشترط لم يصح مؤمن لنائم إذ معنى الإيمان، وهو التصديق ليس بقائم به [والحالة هذه](1).

الجواب: مؤمن عرفًا استصحابًا للحكم، وإن لم يصدق لغة، وأجاب عنه بعض الأفاضل (2): بأنه غير محل النزاع، إذ النزاع إنما هو فيما يدل عل الحدوث من الصفات لا ما يدل على الثبوت منها: لأن

= بضارب فهذا عين النزاع، وإن كان ظرفًا للمنفي كضارب مثلًا بمعنى أنه يصدق أنه ليس بضارب في الحال، فهذا لا يستلزم صدق أنه ليس بضارب مطلقًا لأن الضارب في الحال أخص من الضارب مطلقًا، ونفي الأخص لا يستلزم نفى الأعم" حاشية العلامة التفتازاني مع شرح العضد على المختصر: 1/ 177.

(1)

ما بين المعكوفتين زيادة من هامش (أ، ب).

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "هو التفتازاني رحمه الله".

ص: 37

الاتصاف هنا كاف في صحة الإطلاق ما لم يطرأ عليه مناف (1)، ومحصله ما ذكرناه في الجواب من الاستصحاب.

واعلم أن قول المصنف: الجمهور على اشتراط بقاء المشتق منه في كون المشتق حقيقة، وإلا فآخر جزء، يشعر بأن هذا مذهب رابع غير الثلاثة التي قدمنا ذكرها، وليس كذلك، بل مذهب من يشترط بقاء المعنى.

ولما أورد عليه: بأن البقاء لو كان شرطًا لما كان مثل: متكلم، ومخبر حقيقة، ولو حين المباشرة، واللازم باطل اتفاقًا.

ووجه الملازمة: أن [حصول](2) هذه الأفعال إنما يمكن بتقصي أجزائها شيئًا فشيئًا، فلا تجتمع الأجزاء في حين من الأحيان قط، فقبل الحصول لا تحقق، وبعد الحصول قد انقضى.

أجاب: بأن اللغة مبنية على المساهلة (3) وإلا لخرجت أكثر الأفعال التي هي من الأصول كيضرب ويمشى، ضرورة أنها تحصل تدريجيًا، فالبقاء في جزء كاف، أي: ما دام مباشرًا لجزء منه، فهو حقيقة، وعند انقضاء الأجزاء بأسرها يصير مجازًا، نعم لما كانت الدلائل لا تفيد قطعًا مال بعض المحققين (4) إلى التوقف، وإنما لم نذكر أدلة من

(1) راجع: حاشيته على المختصر مع شرح العضد: 1/ 177 - 178.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (1).

(3)

آخر الورقة (36/ ب من أ).

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "هو الشيخ ابن الحاجب رحمه الله"، وراجع: المختصر مع شرح العضد 1/ 176.

ص: 38

اشترط البقاء إن أمكن: لأنها علمت من أدلة المشترط مطلقًا، غايته أن المشترط مطلقًا اعتد ببقاء جزء ما، وهذا لم يعتد به (1)، والله أعلم.

قوله: "ومن (2) ثم كان اسم الفاعل حقيقة في الحال، أي: حال التلَبُّس خلافًا للقرافي (3) ".

أقول: هذا تفريع على مذهب الجمهور، وهو اشتراط البقاء، وعبارة المصنف غير سديدة (4)، وكان الأولى أن يقول: لم يكن اسم الفاعل (5) حقيقة إلا في حال التلبس، وكان الأولى -أيضًا- تقديم مذهب الوقف ليظهر تفرعه على مذهب الجمهور.

(1) قال شيخ الإسلام: "وهذه مسألة النبوة لا تزول بالموت، وبسببها جرت المحنة على الأشعرية في زمن ملك خراسان سبكتكين، والقاضي، وسائر أهل السنة أنكروا عليهم هذا حتى صنف البيهقي حياة الأنبياء -صلوات الله عليهم- في قبورهم" المسودة: ص / 568 - 569.

(2)

أي: من أجل ما اشترط سابقًا.

(3)

هو أحمد بن إدريس شهاب الدين أبو العباس الصنهاجي المالكي المشهور بالقرافي، كان إمامًا، بارعًا في الفقه، والأصول، والعلوم العقلية، وله معرفة في التفسير، وله مؤلفات منها: الذخيرة، في الفقه، والنفائس شرح المحصول، وتنقيح الفصول، وشرحه، في الأصول، والفروق، وغيرها، توفي سنة (684 هـ).

راجع: الديباج المذهب: ص / 62، وشجرة النور الزكية: ص / 188، والمنهل الصافي: 1/ 15، والفتح المبين: 2/ 82، والأعلام: 1/ 90.

(4)

جاء في هامش (ب): "بلغ مقابلة على خط مؤلفه أمتع الله بحياته".

(5)

آخر الورقة (37 / ب من ب)، وجاء في بداية (38 / أ) منها الهامش:"الخامس" يعني الجزء الخامس بتجزئة الناسخ.

ص: 39

ثم الحال المعتبرة في كون اسم الفاعل حقيقة هو حال التلبس بالفعل كما قدمنا من التكلم، والإخبار مثلًا، لا حال النطق، كما توهمه بعضهم، وبني على ذلك إشكالًا بالزاني، والسارق، إذ الزاني، والسارق في زماننا بعد انقطاع الوحي يجلد، ويقطع، مع أنه لم يكن حال الخطاب موجودًا.

وأجاب عن هذا الإشكال: بأن النزاع في اسم الفاعل، واشتراط البقاء فيه إنما هو فيما إذا كان محكومًا به، وأما إذا كان محكومًا عليه كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، فهو حقيقة مطلقًا (1)، وهذا كلام من لا تحقيق عنده.

[أما أولًا: فلأن](2) الكلام في اللغة هل يشترط بقاء المعنى للإطلاق حقيقة، أم لا؟

ولا ريب في أن كون اللفظ محكومًا عليه، أو محكومًا به لا دخل له في هذا لا نفيًا، ولا إثباتًا.

وأما ثانيًا: فلأن وجوب الحكم في مسألة الزاني والسارق، ليس مبنيًا على أن الصفة في النصين المذكورين وقع محكومًا عليه، وأنه حقيقة مطلقًا، بل لأن الشارع رتب الحكم على الوصف الصالح للعلية، فحيث وجد

(1) هو الإمام القرافي في شرح تنقيح الفصول: ص / 49 - 50.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 40

الوصف وجد الحكم، كما رتب الزكاة على السوم في قوله:"في السائمة زكاة"، مع أن القول: بأن اسم الفاعل حقيقة في المستقبل مخالف للإجماع (1).

وأما قوله: الخلاف إنما هوفيما إذا كان محكومًا به كقولنا: زيد زانٍ، أو زيد سارق (2)، مع أنه كلام مخترع لم يقل به أحد لم يجد نفعًا: لأنه إذا قامت البنية عند الحاكم بأن زيدًا سارق في الزمان الماضى تقطع يده عند القائل بأنه مجاز في الماضي، فأي فائدة شرعية يعتد بها في هذه التفرقة؟

وقد حققنا لك المقام بما لا مزيد عليه، فاعتمده، والله الموفق.

وقد توهم بعضهم (3) -أيضًا- أن الخلاف إنما هو في المشتق الذي زال [معنى](4) المشتق منه، ولم يتصف المحل بضد آخر، أما إذا اتصف المحل بضد آخر كالأبيض الذي زال بياضه، واتصف المحل بالسواد، فإن أطلق عليه الأبيض لا يكون ذلك إلا مجازًا، وكل هذا عدول عن الصواب، بل ليس الخلاف إلا في بقاء المعنى كما تقدم في صدر البحث.

وأما أن المحل -بعد زواله- هل اتصف بالضد أو بغيره، فلا التفات إليه.

(1) لأنهم أجمعوا على أن إطلاق ذلك مجاز كما ذكرته سابقًا في بداية المسألة.

(2)

راجع: شرح تنقيح الفصول: ص/ 50.

(3)

هو الإمام الآمدي في الإحكام: 1/ 42، وانظر: المحصول: 1/ ق / 1/ 330، وتشنيف المسامع: ق (33/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 289، وهمع الهوامع: ص / 95.

(4)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 41

قوله: "وليس في المشتق إشعار بخصوصية الذات"، يريد أن الوصف أعني المشتق على ما ذكره النحاة في باب منع الصرف [مُعرَّف](1) بأنه الذي وضع لذات مبهمة باعتبار معنى هو المقصود (2)، وإذا كان لدى الوضع قيد الإبهام معتبرًا، فلا إشعار بالخصوصية (3).

فإذا قلت: الأسود جسم يكون مفيدًا لعدم إشعار الأسود بالجسم بخلاف ما إذا قلت: الإنسان حيوان، وإن صح الحمل، ولكن لا فائدة فيه (4).

وخرج -أيضًا- أسماء الزمان، والمكان، والآلة عن تعريف المشتق لدلالتها على شيء معين، وهو المكان، والزمان، والآلة، والمراد هو التعين النوعي كما لا يخفى.

(1) في (ب): "معترف" والصواب المثبت لأنه من التعريف لا من الاعتراف.

(2)

راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 1/ 62، وأوضح المسالك: 3/ 142، وشرح ابن عقيل: 4/ 322، وحاشية التفتازاني على العضد: 1/ 183، وتشنيف المسامع: ق (33 / ب)، وهمع الهوامع: ص / 96، وحاشية البناني على المحلي: 1/ 289.

(3)

أي: بخصوصية الذات، فالأسود مثلًا ذات لها سواد، ولا يدل على حيوان، ولا غيره، والحيوان ذات لها حياة لا خصوص إنسان، ولا غيره، ثم إن علم منه بشيء، فهو على طريق الالتزام لا باعتبار كونه جزءًا من مسماه، وعلى هذا يحمل نفي المصنف الإشعار على المطابقة، والتضمن خاصة. راجع: تشنيف المسامع: ق (33 / ب).

(4)

للزوم التكرار بدون فائدة، راجع: شرح العضد: 1/ 182، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 289، وفواتح الرحموت: 1/ 196.

ص: 42

قوله: "مسألة: المترادف واقع خلافًا لثعلب (1)، وابن فارس (2) ".

أقول: قد علمت فيما سبق أن الألفاظ المترادفة هي التي وضعت لمعنى واحد، وهل هي واقعة، أم لا؟

الصحيح وقوعها: للتواتر في بعض الألفاظ كليث، وأسد في الأجسام، وحَبَسَ ومَنَعَ في المعاني (3).

(1) هو أحمد بن يحيى الشيباني مولاهم الكوفي المعروف بثعلب أبو العباس، النحوي اللغوي، من مؤلفاته: المصون في النحو، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن، ومعاني الشعر، وما ينصرف، وما لا ينصرف، وتوفي ببغداد سنة (291 هـ).

راجع: الفهرست: ص / 110، وطبقات النحويين للزبيدى: ص / 141، وتاريخ بغداد: 5/ 204، ومروج الذهب: 2/ 496، والمنتظم: 6/ 44، ومعجم الأدباء: 5/ 102، والبلغة: ص / 34.

(2)

هو أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين الإمام اللغوي المفسر صاحب جامع التأويل في تفسير القرآن، ومعجم مقاييس اللغة، والمجمل في اللغة، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وغريب القرآن، ومتخير الألفاظ، وحلية الفقهاء، وتوفي سنة (395 هـ).

راجع: وفيات الأعيان: 1/ 100، ومعجم الأدباء: 4/ 80، وإنباه الرواة: 1/ 92، وطبقات المفسرين: 1/ 59، وترتيب المدارك: 4/ 610، وبغية الوعاة: 1/ 352، وشذرات الذهب: 3/ 132.

(3)

وهذا هو مذهب الجمهور: لأن لغة العرب طافحة بذلك.

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 349، والإحكام للآمدي: 1/ 18، وشرح تنقيح الفصول: ص / 31، وشرح العضد على المختصر: 1/ 134، والإبهاج: 1/ 141، ورفع الحاجب:(1/ ق / 24 / ب- 25 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 290، وتشنيف المسامع: ق (33 / ب)، وهمع الهوامع: ص / 96.

ص: 43

قالوا: لو وقع لعري عن الفائدة إذ أحد اللفظين كاف.

قلنا: ممنوع إذ الفائدة لا تنحصر في الدلالة على الموضوع له، بل فائدته التوسعة في اللغة، وربما كان أحدهما صالحًا للروى (1) دون الآخر، أو للتجنيس (2).

قالوا -ثانيًا-: تعريف للمعَرَّف، وهو باطل.

قلنا: لكل منهما علامة، وتوارد العلامات جائز، ثم النافون لَمَّا منعوا وقوع الترادف قالوا: وما يُظن أنه من الترادف، فهو من اختلاف الذات، والصفة: كالإنسان، والناطق، أو اختلاف الصفات كالمنشئ، والكاتب، أو الصفة، وصفة الصفة كالمتكلم، والفصيح، أو الذات، وصفة الصفة كالإنسان، والفصيع، وكل هذا عدول عن الصواب.

واعلم أن الواضع إذا كان واحدًا، فالفائدة في الترادف ما ذكرنا، وأما إذا كان الواضع متعددًا، فالأمر فيه واضح: لأنه ربما كان

(1) يعني القافية لوزن الشعر. راجع: التعريفات: ص / 113.

(2)

الجناس: تشابه اللفظين في النطق، واختلافهما في المعنى، وهو نوعان:

تام: وهو ما اتفق فيه اللفظان في أمور أربعة هي نوع الحروف، وشكلها، وعددها، وترتيبها كقوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55].

غير تام: وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة المتقدمة كقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9 - 10].

راجع: الإيضاح في علوم البلاغة: 2/ 535، والبلاغة الواضحة: ص/ 265.

ص: 44

أحد الواضعين في الشرق، والآخر في الغرب، ولا علم لأحدهما بوضع الآخر (1).

ومن ذهب: إلى أنه لم يقع في الأعاء الشرعية إنما أخبر عن وجدانه، يدل على هذا عبارة الإمام -في "المحصول" في آخر بحث الحقيقة الشرعية-:"الأظهر أنه لم يوجد، فيقدر بقدره"(2).

ومن رد عليه بالفرض، والواجب (3)، فقد اشتبه عليه اصطلاح الفقهاء (4)، بالحقيقة الشرعية، إذ المراد بها: ما وضع الشارع كالصلاة، والحج، والزكاة على ما سيأتي تحقيقه.

(1) قسم العلامة ابن القيم الأسماء الدالة على مسمى واحد إلى قسمين:

ما دل عليه باعتبار الذات فقط، وهذا هو المترادف ترادفًا محضًا: كالحنطة، والبر، والقمح، واللقب إذا لم يكن فيه مدح ولا ذم.

والثاني: ما دل على ذات واحدة باعتبار تباين صفاتها كأسماء الرب، وأسماء كلامه، ولعل من أنكر الترادف في اللغة أراد هذا المعنى، وهذا صحيح إذا كان الواضع واحدًا: لأن ما من اسمين لمسمى واحد إلا وبينهما فرق في صفة أو نسبة، أو إضافة سواء علمت لنا، أو لم تعلم. أما لو كان الترادف باعتبار واضعين، وهو كثير، فلا يسلم لهم إنكاره.

راجع: روضة المحبين: ص / 57.

(2)

نقله بتصرف. راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 439.

(3)

جاء في هامش (أ): "المصنف، والقرافي". راجع: شرح تنقيح الفصول: ص / 31، والإبهاج: 1/ 286.

(4)

لأن الفرض، والواجب، ونحوهما أسماء اصطلاحية عند الفقهاء، ولم يضعها الشارع كغيرها من الأمور التي ذكرها الشارح.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 290، وهمع الهوامع: ص / 96.

ص: 45

وأما الحد، مع المحدود: كالحيوان الناطق، مع الإنسان، فليس من الترادف في شيء إذ الحد يدل على أجزاء الماهية تفصيلًا، والمحدود (1) يدل عليها إجمالًا، أي: الحد يدل على الأجزاء بأوضاع متعددة، والمحدود يدل بوضع واحد، وكذلك نحو حسن، وبسن، وعطشان، ونطشان، ليس من قبيل المترادفين: لأن [هذه التوابع](2) لا تفرد، ولو أفردت لم تفد، وإذا اجتمعت مع المتبوع، أفادت نوع تقوية لوقوعها في كلام البلغاء، فيبعد عراؤها عن الفائدة (3).

قوله: "ووقوع كل من الرديفين مكان الآخر"، عطف على قوله:"إفادةٌ"(4) ولو قدم هذه المسألة على مسألة التابع كان أولى، كما لا يخفى (5).

(1) آخر الورقة (38 / ب من ب).

(2)

في (ب): "لأن نبذة التوابع" والصواب المثبت من (أ).

(3)

يرى الإمام أن التابع يفيد بشرط تقدم الأول عليه، وذكر الآمدي أن التابع قد لا يفيد معنى أصلًا كقولهم، حسن بسن، وشيطان ليطان، وحُكي عن ابن دريد أنه سأل أبا حاتم عن معنى بسن، فقال: ما أدري ما هو. وأكد المصنف بأن التابع يفيد التقوية، وأن العرب لا تضعه سدى، وعدم معرفة أبى حاتم بمعناه لا يضر، أما الإمام البيضاوي، فيرى أن التابع لا يفيد.

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 348، والإحكام للآمدي: 1/ 20، والإبهاج: 1/ 239 - 240، ورفع الحاحب:(1/ ق / 25 / أ - ب)، وتشنيف المسامع: ق (34 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 291، وهمع الهوامع: ص / 97.

(4)

وعبارته في "جمع الجوامع": ص / 28: "والحق إفادةُ التابع التقوية، ووقوعُ كل من الرديفين مكان الآخر

".

(5)

وذلك ليتصل كلامه على المترادف بدون فاصل من غيره. =

ص: 46

والحق -في هذه المسألة-: أنه لما كان كل من اللفظين دالًا على المعنى الواحد بلا تفاوت، فيما يرجع إلى الوضع، والدلالة، فلا مانع من استعمال أحدهما في موضع الآخر، أي: بدلًا عنه (1)، وما ذكره الإمام- من أن: من الابتدائية معناها بالفارسية: أز، بفتح الهمزة، وسكون الزاي المعجمة، فلا يجوز استعمال أحدهما مكان الآخر، وإلا يكون ضم مهمل إلى مستعمل، وإذا جاز هذا في لغتين يتأتي في لغة أيضًا (2) -كلام ساقط: إذ عدم جوازه في اللغتين ممنوع.

ولو سلم، فالفرق واضح، إذ ثم اختلاط اللغتين بخلاف هنا (3).

= قلت: يمكن الاعتذار للمصنف: أنه لما كان التابع فيه شبه بالمترادف حتى ظن البعض أن التابع من قبيل المترادف، ذكره المصنف ضمن المترادف بيانًا بأنه يفيد التقوية لا الترادف، ولهذه المناسبة صح ذكره معه، وإن كان بينهما فرق إذ التابع يفيد التقوية فقط عند اجتماعه بالمتبوع عند من قال بذلك، فلو انفرد لا يفيد شيئًا، أما المترادفان، فيفيد كل واحد منهما على انفراده.

راجع: المزهر: 1/ 414 - 425، والإبهاج: 1/ 239، ونهاية السول: 2/ 110، والإحكام للآمدي: 1/ 20.

(1)

وهو مذهب الجمهور، ورجحه الأصفهاني، وابن الحاجب، وغيرهما.

راجع: الكاشف عن المحصول: (1/ ق/108/ ب)، والمختصر مع شرح العضد: 1/ 137، والإبهاج: 1/ 243 - 244، ورفع الحاجب:(1/ 25/ ب)، ونهاية السول: 2/ 112، وتشنيف المسامع: ق (34/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 292، وهمع الهوامع: ص / 97.

(2)

راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 352 - 353.

(3)

آخر الورقة (27 / ب من أ).

ص: 47

ثم قول المصنف: "إن لم يكن تَعَبُّدٌ بلفظه"، إشارة إلى ما اختاره الشافعي رضي الله عنه من عدم جواز تبديل لفظ التكبير بمرادفه (1)، وقد أشار إليه الشيخ ابن الحاجب حيث قال:"لو صح لصح خداي أكبر"(2)، وأجيب بالتزامه، ولما لم يكن مذهب المصنف احترز عنه (3).

وبما ذكرنا خرج الجواب عن قول البيضاوي، والهندي (4) أيضًا حيث منعا اللغتين (5).

قوله: "مسألة: المشترك واقع".

أقول: الاشتراك اللفظي: هو وضع اللفظ الواحد لمعنيين فأكثر، بتعدد الوضع (6).

(1) راجع: الأم 1/ 87.

(2)

راجع: مختصر ابن الحاجب مع العضد 1/ 137، وخداي: لفظ فارسي معناه: (الله).

(3)

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 292، وهمع الهوامع: ص / 97.

(4)

هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد، أبو عبد الله، الملقب بصفي الدين الهندى الأرموي الفقيه، الشافعي، الأصولي، ولد بالهند سنة (644 هـ) وقدم اليمن، والحجاز، ومصر، وسورية، واستقر فيها للتدريس، والفتوى، وكان قوي الحجة، ناظر الإمام ابن تيمية في دمشق، وله مؤلفات منها: الزبدة في علم الكلام، ونهاية الوصول إلى علم الأصول، والفائق في التوحيد، وتوفي سنة (715 هـ) بدمشق.

راجع: طبقات السبكي: 9/ 162، والدرر الكامنة: 4/ 132، وشذرات الذهب: 6/ 37، والبدر الطالع: 2/ 187، والفتح المبين: 2/ 116.

(5)

راجع: الإبهاج: 1/ 243، وتشنيف المسامع: ق (34 / أ).

(6)

راجع: أصول الشاشي ص / 36، وأصول الفقه لأبي النور زهير: 2/ 35، وأبرز القواعد الأصولية لشيخنا الدكتور عمر عبد العزيز حفظه الله: ص / 55.

ص: 48

وفيه خلاف، والصحيح أنه ممكن، بل واقع، وقيل: واجب الوقوع، وقيل: ممتنع الوقوع، وقيل: بين النقيضين فقط، وقيل: في القرآن، وقيل: والحديث (1).

لنا -على المختار، وهو وقوعه مطلقًا-: إجماع أهل اللغة على أن القرء للطهر والحيض معًا على البدل، والجون للأبيض والأسود كذلك من غير ترجيح.

فقولنا: معًا احتراز عما إذا كان لواحد بعينه. وقولنا: على البدل احتراز عن المتواطئ: لأنه للقدر المشترك. وقولنا: من غير ترجيح احتراز عن الحقيقة والمجاز.

الموجب: لو لم يكن المشترك واقعًا لخلت أكثر المسميات. بيان الملازمة: بأن المسميات غير متناهية، والألفاظ متناهية، أما تناهي الألفاظ، فلأنها مركبة من حروف التهجي، وهي متناهية، والمركب من المتناهي متناهٍ قطعًا. وأما أن المسميات غير متناهية. فظاهر.

(1) في هذه المسألة سبعة أقوال بإضافة أن من منع، منهم من منعه عقلًا، ومنهم من منعه لغة، فالجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، قالوا بإمكانه، ووقوعه لغة في الأسماء، والأفعال، والحروف، والمنع لغة هو قول ثعلب، والأبهري، والبلخي، واختار الرازي المنع بين النقيضين، وداود الظاهري في القرآن.

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 359 - 360، والإحكام للآمدي: 1/ 15، وشرح تنقيح الفصول: ص / 29، والإبهاج: 1/ 248، ورفع الحاجب:(2/ 23 / أ- 24 / ب)، وشرح العضد على المختصر: 1/ 127، ونهاية السول: 2/ 114، وتشنيف المسامع: ق (34 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 293، والمزهر: 1/ 369، وهمع الهوامع: ص/ 97.

ص: 49

الجواب: بمنع المقدمتين إذ لا نسلم [أن](1) المركب من المتناهي متناه، وسند المنع أسماء العدد، فإن المبدأ متناه، والمركب غير متناه إذ لا حد منه ينقطع سلسلة العدد، وأيضًا: لا نسلم أن المعاني غير متناهية: لأن محل النزاع هي المعاني المتضادة، والمختلفة لا المتواطئ، فإن لفظ الإنسان مثلًا يدل على جزئيات غير متناهية، ولو سلم ذلك كله لا يستلزم وجوب الاشتراك لجواز الامتياز بالإضافة، فلا يتم التعريف.

المانع مطلقًا: إنما وضعت الألفاظ للإفادة والافهام، والاشتراك مخل بذلك.

قلنا: [مع](2) القرينة لا اختلال، ولئن سلم لا يدل على الامتناع إذ ربما يكون المراد الإيهام والإجمال، كما في الأجناس.

وذهب الإمام -في "المحصول"-: إلى أن وضع اللفظ -مشتركًا- بين وجود الشئ، وعدمه [لا يجوز](3)، واستدل: بأن اللفظ إنما وضع ليفيد شيئًا وإلا كان عبثًا، والمشترك بين النفي والإثبات، لا يفيد شيئًا سوى التردد، وهذا معلوم لكل (4).

والجواب -عنه-: هو الجواب عن المنع مطلقًا، أي: بدون القرينة مسلم، ويرتفع ذلك، مع القرينة.

(1) غير موجودة في (أ، ب) وزيدت لوضوح المعنى وسلامة التركيب.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 368.

ص: 50

ومن منع وقوعه: في القرآن، والحديث يعلم جوابه من الأجوبة السابقة، مع أن في القرآن: ثلاثة قروء (1)، وعسعس (2)، أي: أقبل، وأدبر، وفي الحديث:"دعي الصلاة أيام أقرائك"(3).

قالوا: إن وقع غير مبين لا يفيد، أو مبينًا، فيطول (4).

الجواب: غير مبين، وربما كان المراد: الإجمال، وإن سلم كونه مفصلًا، فائدته الاستعداد للامتثال وقت البيان.

قوله: "مسألة: يصح إطلاقه على معنييه مجازًا".

أقول: هذه مسألة [استعمال](5) المشترك في معنييه، وأكثر، وتحرير محل النزاع: أنه هل يصح أن يراد [بإطلاق](6) واحد من المشترك معانيه؟ أي: كل واحد أفرادا لا المجموع من حيث هو المجموع- بأن

(1) في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

(2)

في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17].

(3)

رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي من حديث عائشة، وعروة بن الزبير، وعدي بن ثابت، والحديث ورد في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، وحمنة بنت جحش بألفاظ مختلفة.

راجع: الموطأ: ص / 62، وصحيح البخاري: 1/ 84، وصحيح مسلم: 1/ 180، وسنن أبى داود: 1/ 63 - 64، ومسند أحمد: 6/ 204، وسنن الترمذي: 1/ 220، وسنن النسائي: 1/ 118، وسنن ابن ماجه: 1/ 214، والسنن الكبرى: 1/ 323، وشرح مسلم: 4/ 16 - 26، والفتح الرباني: 2/ 170، وفتح الباري: 1/ 409، وجامع الأصول: 7/ 360 - 368.

(4)

أي: الكلام من غير فائدة، راجع: رفع الحاجب: (1/ 24 / ب).

(5)

سقط من (ب)، وأثبت بهامشها.

(6)

في (ب): "إطلاق".

ص: 51

يقال: رأيت العين، ويراد بها الجارية، [والباصرة، وفي الدار الجون، أي: الأسود والأبيض، وأقرأت هند، أي: حاضت، وطهرت- قيل: لا يجوز](1).

وقيل: يجوز في النفي دون الإثبات (2)، وإليه ذهب صاحب (3) الهداية من الحنفية، صرح بذلك في باب الوصية (4).

وقيل: يجوز مطلقًا (5).

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

فمثلًا لو قلت: لا عين عندي، يجوز أن تريد به الباصرة، والذهب، بخلاف ما لو قلت: عندي عين، فلا يجوز أن يراد به إلا معنى واحد، وزيادة النفي على الإثبات معهودة كما في عموم النكرة المنفية دون المثبتة.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 297.

(3)

هو الإمام شيخ الإسلام برهان الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل، الفرغاني المرغيناني الحنفي، كان فقيهًا، محدثًا، حافظًا، مفسرًا، فرضيًا، مشاركًا في أنواع من العلوم، وله مؤلفات منها: الهداية شرح بداية المبتدي، وكفاية المنتهي، ومختار الفتاوى، وشرح الجامع الكبير، وكلها في فروع الفقه الحنفي، وتوفي سنة (593 هـ).

راجع: الجواهر المضيئة: 2/ 627، والفوائد البهية: ص / 141، وتاج التراجم: ص / 31، وطبقات الفقهاء لطاش كبرى: ص/101.

(4)

حيث قال: "ومن أوصى لمواليه، وله موال أعتقهم، وموال أعتقوه، فالوصية باطلة

لأن أحدهما سمي مولى النعمة، والآخر منعم عليه، فصار مشتركًا، فلا يتضمنهما لفظ واحد في موضع الإثبات، بخلاف ما إذا حلف لا يكلم مولى فلان، حيث يتناول الأعلى، والأسفل لأنه مقام النفي، ولا تنافي فيه" الهداية شرح بداية المبتدي: 4/ 251.

(5)

وحكي هذا عن الأكثر، وأما المانعون، وهو المذهب الأول، فمذهب جمهور الأحناف، =

ص: 52

ولا يخفى أن محل الخلاف هو ما إذا أمكن الجمع في القصد كما تقدم من الأمثلة، وأما ورود صيغة الأمر- مثلًا- من الشارع يراد به الوجوب والإباحة، فلا قائل بجوازه، وعن الشافعي: أنه يجب الحمل على المعنيين عند التجرد عن القرائن (1)، وهذا معنى (2) عموم المشترك الذي قال به الشافعي خلافًا لأبي حنيفة (3).

= وأهل اللغة، وأبى هاشم، وأبي عبد الله البصري من المعتزلة، وإمام الحرمين، والرازى من الشافعية، وأبي الخطاب، وأبي يعلى، وابن القيم من الحنابلة المنع لغة، وإرادة، ونقله القرافي عن مالك وأبي حنيفة، وقال الغزالي، وأبو الحسين البصري بالمنع لغة لا إرادة.

وذهب السرخسي من الأحناف: إلى التوقف حتى يظهر المراد بالبيان.

واختار صدر الشريعة منهم: أنه لا يجوز عقلًا. راجع: الإبهاج: 1/ 256، وجلاء الأفهام: ص / 53 - 85، والمعتمد: 1/ 300 - 301، وأصول السرخسي: 1/ 126، 162، وأصول الشاشي: ص / 39، والبرهان: 1/ 343 - 345، والتبصرة: ص / 184، والمستصفي: 2/ 71 - 73، والمنخول ص / 147، والمحصول: 1/ ق / 1/ 371، والإحكام للآمدي: 2/ 87، والمسودة: ص / 166 - 168، وشرح العضد على ابن الحاجب: 2/ 112، وكشف الأسرار: 1/ 40، ومختصر البعلي: ص / 110 - 111، والتمهيد: ص / 176، وتيسير التحرير 1/ 235، وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية: ص / 230 - 232، والمغني للخبازي: ص / 122، والتوضيح: 1/ 68 - 69.

(1)

أما إذا وجدت القرائن المعينة لأحدهما، فلا إشكال.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 126، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 297.

(2)

آخر الورقة (39 / ب من ب).

(3)

راجع: كشف الأسرار: 1/ 36.

ص: 53

وإذا استعمل في المعنيين هل هو حقيقة فيهما، أم مجاز؟ فيه خلاف:

ذهب الشافعي، وتبعه القاضي إلى أنه حقيقة (1)، وقال بذلك القاضي عبد الجبار (2)، والجبائي من المعتزلة.

ومن قال بالامتناع، لم يفرق بين الجمع والمفرد، وهو المختار.

قال الإمام -في "المحصول"-: "بعض من أنكر جوازه في المفرد جوز في الجمع، ثم قال: والحق أنه لا يجوق"(3)، وهو كما قاله؛ لعدم فرق يُعتد به.

وشبهة القائل به: أن لفظ الجمع يدل على الأفراد، فيجوز أن يراد به أفراد مختلفة الحقيقة، وليس بشيء، إذ الذي يمنع إرادة المعنيين في المفرد لا يصح منه دعوى الاختلاف في الجمع، وهو واضح، إذ الجمع إنما يدل على أضعاف ما يدل عليه المفرد، والغرض أن المفرد لم يرد به سوى معنى واحد.

(1) راجع: المعتمد: 1/ 301، والبرهان: 1/ 343، والمستصفي: 2/ 71، والمنخول: ص / 147، والإحكام للآمدي: 2/ 87.

(2)

هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن خليل الهمذاني الأسدي الأبادي أبو الحسن القاضي، إمام المعتزلة في زمانه، ويعتبر من غلاتهم، درس الحديث، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والتوحيد على طريقة الاعتزال، وكان شافعيًا في الفروع، وله مؤلفات منها: المغني في أصول الدين، والعمد في أصول الفقه، ومتشابه القرآن، وشرح الأصول الخمسة التي قام عليها مذهب الاعتزال وتوفي سنة (425 هـ).

راجع: تاريخ بغداد: 11/ 113، وطبقات السبكي: 5/ 97، وميزان الاعتدال: 2/ 511، وطبقات المفسرين: 2/ 16، وشذرات الذهب: 3/ 202.

(3)

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 378، والمسودة: ص / 168، ومختصر البعلي: ص / 111.

ص: 54

[وتصدير](1) المصنف البحث بقوله: يصح إطلاقه على معنييه مجاز -ثم ذكر الشافعي، ونسبة كونه حقيقة إليه- صريح في أن المختار عنده كونه مجازًا، وإليه ذهب إمام الحرمين، والشيخ ابن الحاجب (2)، وهذا ليس بشئ إذ قد قدمنا: أن محل النزاع هو إرادة كل من المعنيين، ولا شك أن اللفظ موضوع للمعنيين بوضعين مختلفين، ولم يخرج اللفظ -بالاستعمال في المعنيين -عن كونه حقيقة لكون اللفظ مستعملًا فيما وضع له، نعم لو أريد المجموع من حيث هو المجموع كان مجازًا إذ اللفظ لم يوضع للمجموع.

والفرق بين الكل الأفرادي والمجموعي، واضح يظهر ذلك في قولنا: كل الرجال يحمل هذه الصخرة، وكل الرجال يشبعه هذا الرغيف (3)، فالحق الذي لا محيد عنه: هو ما ذهب إليه إماء الأئمة الشافعي عليه من الله الرحمة متواصلة إلى يوم الدين.

(1) سقط من (ب) وأثبت بالهامش.

(2)

راجع: البرهان: 1/ 344 - 345، والمختصر مع العضد: 2/ 111، والإبهاج: 1/ 256، وتشنيف المسامع: ق (34/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 294، وهمع الهوامع: ص/ 99.

(3)

المثال الأول: للكل المجموعي، فلا يصح أن يقال: كل واحد يحمل هذه الصخرة بالمعنى الأفرادي دون المجموعي إذ إن الشخص لا يستطع حملها بانفراده، بل مع غيره.

والمثال الثاني: للكل الأفرادي إذ هو جزء من المجموعي، ومن ثم يصح كل واحد يشبعه رغيف بالمعنى الأفرادي، دون المجموعي لأن رغيفًا واحدًا لا يشبع مجموعة من الرجال عادة.

ص: 55

ثم القاضي أبو بكر الباقلاني -وإن قال بكونه حقيقة- لم يقل بكونه ظاهرًا فيهما، بل قال: إنه مجمل يتوقف على البيان (1) لا يعمل به بدونه قياسًا، ولكن يحمل على المعنيين احتياطًا (2)، وهذا كلام قليل الجدوى.

وقد نقل المصنف عن الغزالي: أنه يصح أن يراد بالمشترك المعنيان لا لغة، وفي شروحه، أي: لا حقيقة، ولا مجازًا (3).

وكلام الغزالي -في "المستصفى"- لا يدل على شيء من ذلك، وهو أنه، أورد قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18] إلى آخر الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] إلى آخر الآية، ثم قال: "هذا يعضد الشافعي، ويفتح هذا الباب في معنيين يتعلق أحدهما بالآخر، فإن طلب المغفرة يتعلق بالمغفرة، ولكن الأظهر -عندنا-: أن هذا إنما أطلق على

(1) ولهذا قال الزركشي: "واعلم أن هذا النقل عن القاضي تابع فيه المصنف "المحصول"، وغيره، وليس كذلك، فقد صرح القاضي في كتاب "التقريب" بأنه: لا يجوز حمله عليهما، ولا على واحد منهما إلا بقرينة" تشنيف المسامع: ق (34 / ب)، وانظر المحصول: 1/ ق / 1/ 371.

(2)

فهذا هو الفرق بين قول الشافعي والقاضي؛ لأن الشافعي جعله من باب عموم المشترك كما تقدم في الشرح لا الاحتياط.

(3)

راجع: الإبهاج: 1/ 256، والمحلي: 1/ 296.

ص: 56

معنى واحد مشترك بين العنيين، وهو العناية بأمر النبي لشرفه، وحرمته، والعناية من الله مغفرة، ومن الملائكة استغفار، ومن المؤمنين دعاء، وصلاة عليه، وكذلك العذر (1) عن السجود" (2).

وليس في هذا الكلام شيء مما قاله المصنف (3)، ولا أنه لا حقيقة ولا مجاز، بل صرح بأنه من عموم المجاز (4): لأنه أراد بلفظ واحد معنى مجازيًا يشمل المعاني المرادة من اللفظ، كما سنحققه في باب المجاز إن شاء الله تعالى، بل نقول: لا يجوز- عقلًا- أن يستعمل لفظ على قانون اللغة استعمالًا صحيحًا، ولا يكون مجازًا، ولا حقيقة.

وقيل: يجوز في النفي، مثاله: لا عين عندي، ولا جون في الدار؛ لأن النفي يفيد العموم بخلاف الإثبات.

(1) في (أ): "العقد" والأولى المثبت من (ب) لأنه الموافق لما في المستصفي.

(2)

راجع: المستصفي: 2/ 76 - 77.

(3)

آخر الورقة (38 / ب من أ).

(4)

قلت: لعل المصنف في نقله اعتمد على قول الغزالي -بعد ذكره مذهب القاضي-: "فنقول: إن قصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعًا بالمرة الواحدة، فهذا ممكن، لكن يكون قد خالف الوضع" ولذا فإن الزركشي، والمحلي، والأشموني، والعبادي، أيدوا المصنف في نقله عن الغزالي، بل إن العبادي رد على الشارح اعتراضه على المصنف بأسلوب شديد القسوة.

راجع: المستصفي: 1/ 73، وشرح العضد: 2/ 112، وتشنيف المسامع: ق (34 / ب) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 296، وهمع الهوامع: ص / 99، والآيات البينات: 2/ 105 - 106.

ص: 57

الجواب: أن المدعي الظهور، وهو حاصل في الإثبات أيضًا.

وما ذهب إليه بعض (1) الحنفية من أن المراد بالسجود في الآية هو الانقياد ليس بشئ إذ لو كان المراد الانقياد والتسخير، لم يكن لقوله:{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] فائدة إذ جميع الناس بل جميع الكائنات مسخرة لأمره. وكذا كون المراد من الصلاة غير ما وضع له، وهو إرادة التعظيم بعيد.

قوله: "والأكثر أن جمعه باعتبار معنييه مبني عليه".

أقول: ذهب قوم من العلماء إلى الفرق بين الجمع، والمفرد، أي: جَوَّزَ في الجمع دون المفرد، مستدلًا: بأن الجمع له مدلولات متعددة هي مدلولات المفردات، فيجوز أن يراد به المعاني باعتبار المفردات، وليس بشيء: لأن آحاد الجمع يجب أن يكون من جنس واحد، فما أريد بالمفرد هو الذي يراد أضعافه في الجمع كما تقدم، وإليه أشار المصنف بقوله:"مبني عليه"، أي: من يُجَوِّز في المفرد الإطلاق على ما فوق الواحد يُجَوِّز في الجمع، ومن لا، فلا (2).

(1) جاء في هامش (ب): "يعني صدر الشريعة". راجع: التوضيح: 1/ 68 - 69.

وانظر: كشف الأسرار: 1/ 40 - 41، وتيسير التحرير: 1/ 240 - 241، والتقرير والتحبير: 1/ 217.

(2)

راجع: الإحكام للآمدي 2/ 88، وشرح العضد: 2/ 112، وتشنيف المسامع: ق (34 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 297، وهمع الهوامع: ص / 100.

ص: 58

والخلاف -في الإطلاق على الحقيقي، والمجازي- هو الخلاف في الاشتراك غير أن القاضي خالف أصله قائلًا: بأن [المجاز](1) غير ما وضع له اللفظ بخلاف المشترك، فإنه موضوع لكل من المعنيين (2)، وفرقه ضعيف بلا خفاء (3).

وادعى الغزالي: أن هذا أقرب من استعمال اللفظ المشترك، ولم يبين القرب بوجه كلي جار في جميع الصور، بل مَثَّل بالنكاح الذي وضع للوطء، واستعمل في العقد مجازًا: لأن العقد مقدمة الوطء (4).

والظاهر: أن وجه القرب هو أن بين المعنى المجازي، والحقيقي لا بد من علاقة بخلاف معاني الاسم المشترك إذ لا يلزم أن يكون هناك علاقة، بل ربما كانت المعاني في غاية البعد، فيظهر بذلك قرب المجاز في سائر المجازات لوجود العلاقة في الكل.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

يرى الزركشي أن البعض قد اختلط عليه مسألة الحمل بمسألة الاستعمال فغلط في النقل عن القاضي، فإن أراد المصنف بمخالفة القاضي هنا في الاستعمال فهو موافق لا مخالف، وإن أراد الحمل، فهاهنا يحيل، وهناك يجوز مع القرينة، راجع: تشنيف المسامع: ق (35 / أ)، والعدة: 2/ 703، والمسودة: ص / 166، وشرح العضد: 2/ 113.

(3)

لأنه خارج عن محل النزاع، إذ محل النزاع، فيما إذا ساوى المجاز الحقيقة لشهرة في الاستعمال، ونحوه، فإن خلا المجاز من ذلك امتنع الحمل مطلقًا؛ لأن المجاز لا يعلم تناول اللفظ له إلا بتقييد، والحقيقة تعلم بالإطلاق.

راجع؛ المحلي على جمع الجوامع: 1/ 199، وهمع الهوامع: ص / 100.

(4)

راجع: المستصفي: 2/ 74 - 75.

ص: 59

قوله: "ومن ثم"، تفريع على المذهب الصحيح، وهو أن اللفظ يحمل على معناه الحقيقي، والمجازي معًا عند القرينة الدالة على جواز إرادتهما نحو قوله تعالى:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، حيث حمل صيغة أفعل على الوجوب الذي هو معناه الحقيقي، وعلى الندب الذي هو معناه المجازي بقرينة لفظ الخير (1) الذي تعلق به الصيغة.

والظاهر: أن المراد النوافل: إذ قوله: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 77] معناه: بما تعبدتم به من الفرائض، وافعلوا سائر الخيرات التي ما تعبدتم بها، خلافًا لمن لم يجوز الجمع، فإنه مستعمل عنده إما في الوجوب، أو في الندب، وكذلك من يقول: بأنه موضوع للقدر المشترك بين الوجوب، والندب، وهو الرجحان، وسيأتي أنه ضعيف.

قوله: "والمجازان"، أي: الخلاف في أنه هل يجوز أن يراد من لفظ واحد معنياه المجازيان، أم لا؟ هو الخلاف في المشترك، والبحث هو البحث سؤالًا، وجوابًا (2)، والله أعلم.

قوله: "الحقيقة لفظ مستعمل".

(1) جاء في هامش (أ): "إنما قيد بقوله: لفظ الخير: لأنه قد تقدم أنه لا يمكن وروده من الشارع في شيء واحد هـ".

(2)

راجع: البرهان: 1/ 345، والمحصول: 1/ ق / 38911 - 391، والإحكام للآمدي: 2/ 172، والكاشف عن الحصول (1/ 129 / أ)، وشرح العضد: 2/ 158، وتشنيف المسامع: ق (35 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 300، وهمع الهوامع: ص / 101.

ص: 60

أقول: الحقيقة -لغة- فعيل بمعنى الفاعل من حَقَّ الشيء إذا ثبت، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية.

واصطلاحًا: ذات الشيء (1)، ولما كان اللفظ -بالنسبة إلى المعنى الموضوع له -ثانيًا- له بحسب الوضع، فكأنه ذات المعنى، وبالنسبة إلى المعنى المجازي كالعارض له سمي حقيقة جريًا على الاصطلاح.

قوله: "لفظ" جنس يشمل الحقيقة، وغيرها، وقوله:"مستعمل"، يخرج اللفظ قبل الاستعمال: لأنه ليس بحقيقة، كما أنه ليس بمجاز، وقوله:["فيما"](2) وضع له، يخرج المجاز، والغلط كقولك: خذا هذا الفرس مشيرًا إلى كتاب.

قوله: "ابتداء"، يشمل الحقيقة اللغوية، والعرفية، والشرعية، كالأسد، والدابة، والصلاة، أما اللغوية (3)[فظاهرة](4) وأما

(1) راجع: الصاحبي: ص / 196، والمفردات: ص / 125، والإيضاح: للقزويني: 2/ 392، والتلخيص له: ص / 292، والمصباح المنير: 1/ 144، والطراز: 1/ 46 - 59، والمزهر: 1/ 355، والمعتمد: 1/ 11، والعدة: 1/ 172، والواضح: 1/ 164، والحدود: ص / 51، وأسرار البلاغة: ص / 303، والمستصفي: 1/ 341، والمحصول: 1/ ق / 1/ 395، والإحكام للآمدي: 1/ 21، وشرح تنقيح الفصول: ص / 42، وشرح العضد على المختصر: 1/ 138، والتوضيح: 1/ 69، ومفتاح الوصول: ص / 9، وفواتح الرحموت: 1/ 203، وإرشاد الفحول: ص / 21.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

آخر الورقة (40 / ب من ب).

(4)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 61

العرفية، والشرعية، فلأن الدابة وإن كانت -لغة- لكل ما يدب على الأرض، لكن عرفًا خصت بالفرس، وقيل: بذوات القوائم الأربع، فبالنظر إلى العرف وضع ابتداء، ولا ينافي كون اللغة ابتداء أيضًا، وقس عليه الصلاة- مثلًا- فإنها -في اللغة- وضعت للدعاء، وفي الشرع للأركان المخصوصة، ويصدق أن اللفظ وضع لكل منهما ابتداء كما عرفت (1).

وعبارة المصنف أولى من عبارة الشيخ ابن الحاجب: "الحقيقة اللفظ المستعمل في وضع أول"(2): لأنه يشكل بالحقيقة التي لا مجاز لها (3)، ولا اشتراك فلا وضع آخر، اللهم إلا أن يقال: يُكتفَى بالفرض والتقدير، وهو بعيد.

وزاد جمهور المحققين (4): اصطلاح التخاطب، ورأوا الحد بدونه مختلًا: لأنه إذا كان اصطلاح التخاطب لغة مثلًا، واستعمل لفظ الصلاة

(1) راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 409 - 414، والإحكام للآمدي: 1/ 22، وتشنيف المسامع: ق (35 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 301، وهمع الهوامع: ص / 102، وشرح الكوكب المنير: 1/ 150، ونزهة الخاطر: 2/ 9 - 12.

(2)

راجع: المختصر مع شرح العضد: 1/ 138.

(3)

لأنه يلزم من ذلك: أن الحقيقة تستلزم المجاز، ولا قائل بذلك.

(4)

كالقرافي، والآمدي، واعتبره جامعًا، مانعًا، وكذا البيضاري، وأبي الحسين البصري، وابن عبد الشكور، وغيرهم.

راجع: المعتمد: 1/ 14، والإحكام: 1/ 22، وشرح تنقيح الفصول: ص / 42، والإبهاج: 1/ 271، ونهاية السول: 2/ 145، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت: 1/ 203.

ص: 62

في الأركان المخصوصة يكون مجازًا؛ لأنه وإن كان لفظ الصلاة يصدق عليه أنه موضوع للأركان ابتداء، ولكن ليس في اصطلاح التخاطب، وكذلك إذا كان اصطلاح التخاطب هو الشرع يكون عكس القضية، وقس عليه العرف، وترك المصنف ذلك القيد: لأن ترتيب الحكم على المشتق يشعر بعلية المشتق منه، فكأنه قيل: لفظ مستعمل فيما وضع له ابتداء من حيث إنه موضوع له. ولا شك أن استعمال اللغوي لفظ الصلاة في الأركان ليس من حيث إنه موضوع له، بل لعلاقة بينه وبين الموضوع له، كما سيأتي في المجاز إن شاء الله تعالى.

هذا، ولكن يتوجه على الكل إيراد آخر أقوى منه، وهو أنه إما أن يراد بالوضع الشخصي، أو النوعي، وكلاهما غير مستقيم.

أما الأول: فلأنه يخرج كثير من الحقائق: لأنا قد قدمنا أن المنسوب، والمصغر، وجميع المركبات، وبالجملة كل ما يكون دلالته بحسب الهيئة لا المادة، موضوع بالنوعي، مع أنها حقائق اتفاقًا.

وإن أريد أعم من الشخصي، والنوعي دخل المجاز لأنه موضوع بالنوع أيضًا.

والجواب: أن المراد بالوضع، أعم من الشخصي، والنوعي، ولا يدخل المجاز، تحقيق ذلك: أن الواضع إما أن يعين لفظًا بإزاء معنى كالفرس، والرجل، ولا ريب في أن هذا من الحقيقة.

ص: 63

وإما أن يعين اللفظ للمعنى في ضمن قاعدة كلية مثل أن يقول: المنسوب كل لفظ ألحق بآخره ياء مشددة، واسم الفاعل من الثلاثي يكون على فاعل، فمثل هذا يكون حقيقة: لأن اللفظ يدل على المعنى الموضوع له المعين بلا قرينة.

وقد يكون الوضع النوعي بقاعدة من واضع اللغة بأن يقول: إذا وضع اللفظ بإزاء [معنى](1) معين، ثم منع من إرادته مانع من قرينة صارفة، كما إذا قيل: رأيت أسدًا (2) على المنبر يخطب، فذلك اللفظ مستعمل فيما يتعلق بالموضوع له تعلقًا خاصًا، ومثل هذا مجاز.

والحاصل: أن الوضع -عند الإطلاق- يراد به اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه سواء كان ذلك التعيين بأن يفرد اللفظ بعينه للمعنى بالتعيين، أو يدرج في القاعدة الدالة على التعيين إذ لا يحتاج في كليهما إلى القرينة، وانتفاء القرينة الصارفة دليل الحقيقة.

فإذا قلت: رأيت الأسود على السروج من حيث إن المراد بها الشجعان بقرينة السروج، فاللفظ مجاز من حيث إنه جمع محلَّى باللام، وقد ثبت عن الواضع أن كل محلَّى باللام للعموم، فهذا الجمع للعموم حقيقة، فتدبر، والله أعلم.

قوله: "ووقعَ الأُوليان".

(1) سقط من (ب) وأثبت هامشها.

(2)

آخر الورقة (39/ ب من أ).

ص: 64

أقول: الحقيقة اللغوية [والعرفية](1) -كالأسد للحيوان المفترس، والدابة لذوات القوائم الأربع- لم يخالف في [إمكانها، بل وقوعها.

[وأما الشرعية](2) أصلية كانت، أو فرعية، ففيها خلاف.

قال شرذمة لا يعتد بهم بعدم] (3) إمكانها مطلقًا (4)، ويشبه أن يكون القائل بهذا هو القائل بأن بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتية، ومع سقوطه بديهة، وبما قدمنا من الدليل على بطلانه يرد عليهم العرفية لقولهم: بجوازها، مع أن علة المنع مطردة.

ثم الجمهور على وقوع الشرعية، الفرعية كالصلاة للأركان المقصودة المخصوصة.

لنا -على مختار الجمهور-: أن الصلاة، والزكاة، والحج -لغة- الدعاء، والنماء، والقصد مطلقًا، ولا شك أن الشارع لم يوجب تلك

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

قوله: "وأما الشرعية" سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(4)

وهم قوم من المرجئة شذوا في هذا، وقد حكى الإمام، والآمدي الإجماع على إمكانها.

راجع: المعتمد 1/ 18، والمحصول: 1/ ق / 1/ 414، والإحكام للآمدي: 1/ 27، وتشنيف المسامع: ق (35 / ب) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 301، وهمع الهوامع: ص / 102.

ص: 65

المعاني، بل أوجب غيرها بتلك الألفاظ من غير قرينة، فتكون حقائق في عرفه، ولم يعن بالشرعي إلا ذلك (1).

قالوا: مستعمل في اللغة، والقيود المذكورة، والزيادات المعتبرة شروط لوقوع الفعل على المطلوب شرعًا إذا الصلاة الواجبة هي الدعاء، ولكن شُرِط مع الدعاء الركوع والسجود، وكذلك ما يتوهم من الحقائق الشرعية على هذا النمط.

الجواب: النقض بالأخرس المنفرد إذ هو مُصَلٍّ إجماعًا من غير دعاء، ولا اتباع لداع.

قالوا -ثانيًا-: مجازات، قلنا -لغة-: ممنوع إذ لم يَعْرِف أهل اللغة هذه المعاني، وشرعًا هو المدعَى، وأيضًا من علامات الحقيقة السبق إلى الفهم.

ولا شك: أن لفظ الصلاة إذا أطلق يتبادر الفهم إلى تلك الأركان، ولم يخطر الدعاء بالخاطر.

قالوا -ثالثًا-: لو كان كذلك لفهَّمها الشارع المكلفين، وإلا يكون تكليفًا بالمحال، ولو فهَّمها لنقل إلينا: لأنا مكلفون مثلهم، والآحاد في مثله لا يفيد، ولا تواتر.

قلنا: يعلم بالتكرار، والقرائن كما في تعلُّم الأطفال اللغات.

(1) راجع: التبصرة: ص / 195، والبرهان: 1/ 177، والمحصول: 1/ ق / 1/ 415، وشرح العضد على المختصر: 1/ 162، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 303.

ص: 66

قالوا -رابعًا-: لو وقعت لوقع في القرآن بعضها لا محالة، ولم يكن القرآن عربيًا: لأن المدعَى أن العرب لم تفهم معناها، ولا هي من موضوعات العرب.

الجواب: عربية [بوضع](1) الشارع، ولا تنافي، ولو سلم لم يخرج القرآن بذلك [عن كونه](2) عربيًا إذ ما غالبه عربب، فهو عربب كشِعْر غالبه عربي، أو المراد بكون القرآن عربيًا عربي أسلوبه.

وذهبت المعتزلة: إلى وقوعها مطلقًا فرعية -كما ذكرنا- أو أصلية كالإيمان، والكفر (3).

واستدلوا: بأن الإيمان -لغة- التصديق، وشرعًا هو العبادات: لأنها الدين المعتبر لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] مشيرًا إلى فعل العبادات، والدين: الإسلام، لقوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] والإسلام هو الإيمان لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وعورض بقوله:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].

قالوا: لو كان الفاسق مؤمنًا لم يكن مخزيًا بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التحريم: 8].

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

راجع: المعتمد: 1/ 18، والإحكام للآمدي: 1/ 27، ومنتهى الوصول: ص/ 21.

ص: 67

الجواب: أنه مخصوص بالصحابة، أو كلام مستأنف، وسيأتي تحقيق هذا في علم الكلام في هذا الكتاب على وجه أبسط إن شاء الله تعالى.

وتوقف الآمدي في المسألة، فلم يجزم بشئ (1).

وقول المصنف: " [ومعنى الشرعي: ما لم يُستفد اسمُه إلا من الشرع، وقد يطلق على المندوب، والمباح"] (2) - بعد أن قدم أن الحقيقة لفظ مستعمل فيما وضع له ابتداء، وأن الحد شامل للشرعية -كلام قليل الجدوى إذ قد علم ذلك، مع أن قوله:"وقد يطلق على المندوب والمباح"-، خارج عن البحث (3): لأن قولهم: المباح مشروع معناه: فعل تعلق [به حكم الشارع: لا أن الشارع وضع بإزائه لفظًا كالصلاة، والزكاة، فتأمل](4).

[قوله: "والمجاز](5): اللفظ المستعمل بوضع ثان لعلاقة".

(1) حيث قال: "فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين، وأما ترجيح الواقع منهما، فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه". الإحكام: 1/ 33.

وراجع: اللمع: ص/6، وشرحها 1/ 173، 183، والتبصرة: ص / 165، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 303، وهمع الهوامع: ص / 102 - 103.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

اعتذر العبادي للمصنف أنه لما ذكر معنى الشرعي، ناسب بيان بقية معانيه، وإن كانت خارجة عن المبحث لكن لها به غاية التعلق، والمناسبة.

راجع: الآيات البينات: 2/ 119.

(4)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(5)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 68

أقول: عرف المجاز بأنه اللفظ المستعمل (1) فخرج المهمل، وما لم يستعمل.

وقوله: "بوضع ثان"، أخرج الحقيقة مطلقًا (2) لما سبق من الاستعمال فيها بوضع أول.

وقوله: "العلاقة" أخرج الغلط [من الألفاظ](3) وما نقل من الأعلام لغير علاقة، كأسد وكلب.

واعلم: أن الحقيقة، والمجاز (4) من الألفاظ المشتركة بين العقلي، واللغوي، فالحقيقة العقلية: إسناد الفعل، أو شبهه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر، والمجاز العقلي: إسناد الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له لملابسة بين الفعل، وبينه كقولك: سرتني رؤيتك، وأنبت الربيع البقل.

واختيار السكاكي: أن ما يتوهم كونه مجازًا عقليًا داخل في سلك الاستعارة بالكناية، وليس قسمًا على حدة (5).

(1) راجع: تعريف المجاز والكلام عليه: الخصائص: 2/ 442، والصاحبي: ص/197، والحدود: ص / 52، وأسرار البلاغة: ص / 304، والإشارة إلى الإيجاز: ص / 28، والمزهر: 1/ 355، والطراز: 1/ 64، والمعتمد: 1/ 11، والمستصفي: 1/ 341، والمحصول: 1/ ق / 1/ 397، والإحكام للآمدي: 1/ 22، وشرح تنقيح الفصول: ص / 44، والعضد على المختصر: 1/ 141، وفواتح الرحموت: 1/ 203، وإرشاد الفحول: ص / 21.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "عرفية، وشرعية، ولغوية".

(3)

ما بين المعكوفتين من هامش (ب).

(4)

آخر الورقة (41 / ب من ب).

(5)

راجع: مفتاح العلوم: ص / 189.

ص: 69

والشيخ ابن الحاجب أنكره رأسًا قال: "وقول عبد القاهر -في نحو أحياني اكتحالي بطلعتك-: إن المجاز في الإسناد بعيد".

قال المولي المحقق -في شرحه-: "لاتحاد الجهة، فإنه لا فرق في اللغة بين قولنا: سرني رؤيتك، وبين ضرب زيد، ومات عمرو"(1).

والحاصل: أن يجعل الفعل مجازًا عن التسبب العادي، فإذا قلت: صام نهاره معناه: نسبت نهاره للصوم، وإذا قلت: أنبت الربيع البقل: نسبت الربيع لحصول الفعل، وهذا تعسف ظاهر لا حاجة إليه، مع أنه مخالف لعلماء العربية، ولا يستقيم في مثل جَدَّ جِدُّ إذ لا معنى للتسبب هنا.

وإن شئت ضبط الكلام في هذا المقام، قلت: لا شك أن إسناد الفعل إلى شيء يقتضي قيامه به، وإذا أسند إلى غير ما هو له من المصدر، والزمان، والمكان، فلا بد من صرفه عن ظاهره بتأويل إما في المعنى، أو في اللفظ، واللفظ إما المسند، أو المسند إليه، أو الهيئة التركيبية الدالة على الإسناد.

الأول: مذهب الشيخ عبد القاهر، وعليه أطبق علماء البيان (2)، فالمجاز -عندهم- بحسب الفعل حيث أسند الفعل إلى غير ما يقتضي [الفعل](3) إسناده إليه بتأويل.

(1) راجع: المختصر مع شرح العضد: 1/ 154، والإيضاح: 1/ 107.

(2)

راجع: أسرار البلاغة: ص/ 322، والإيضاح: 1/ 99، والمحصول: 1 / ق/ 1/ 458 - 459.

(3)

هكذا في (أ، ب) ولعل الأظهر: "العقل".

ص: 70

الثاني: أن المسند مجاز عن المعنى الذي يصح إسناده إلى المسند إليه المذكور، وهو معنى التسبب الذي أشرنا إليه، وإليه ذهب الشيخ ابن الحاجب (1).

الثالث: أن المسند إليه استعارة بالكناية عما يصح الإسناد إليه حقيقة، والإسناد قرينة الاستعارة [وهو مختار السكاكى](2).

الرابع: إن شُبِّه تلبَّس غير الفاعل (3) بتلبسه، فيكون تشبيه حالة بأخرى، كقولك: أراك أيها الفتى تقدم رِجلًا، وتؤخر أخرى، فيكون استعارة تمثيلية، وهذا لم يذهب إليه أحد، وإنما أبداه احتمالًا بعض الأفاضل (4).

(1) راجع: المختصر، وشرح العضد عليه، مع الحواشي: 1/ 155.

(2)

ما بين المعكومتين سقط من (ب) وأثبت بالهامش، وبعد تقسيمه للمجاز، وكلامه عليه قال: "هذا كله تقرير الكلام في هذا الفصل بحسب رأي الأصحاب من تقسيمه إلى لغوي، وعقلي، وإلا فالذي عندي هو نظم هذا النوع في سلك الاستعارة بالكناية بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقى بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبنى الاستعارة

" إلخ. مفتاح العلوم: ص/ 189.

(3)

آخر الورقة (40 / ب من أ).

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "العلامة التفتازاني". حيث قال - بعد ذكره الاحتمال الذي نقله الشارح عنه -: "وهذا ليس قولًا لعبد القاهر، ولا لغيره من علماء البيان لكنه ليس ببعيد" حاشيته على المختصر وعليه شرح العضد: 1/ 156.

ص: 71

هذا، وقد علمت: أن اللفظ بعد الوضع، وقبل الاستعمال ليس بحقيقة، ولا مجاز، ويعلم ضرورة: أن قبل الوضع لا يعقل مجاز، ولا حقيقة (1)، وأما وجود الحقيقة بدون المجاز: بأن يوضع لفظ المعنى، ولا يستعمل في غيره متفق على جوازه (2).

وعكسه: وهو أن يوجد لفظ لم يستعمل في معناه الحقيقي أصلًا مختلف فيه (3).

(1) قال الزركشي: "المصنف فرق هنا بين الوضع، والاستعمال، وهذا هو الصواب، وفي كلام القرافي ما يخالفه، فإنه لما تكلم على أن الوضع جعل اللفظ دليلًا على المعنى قال: ويطلق على غلبة الاستعمال، وعلى أصل الاستعمال من غير غلبة". تشنيف المسامع: ق (36/ ب)، وراجع: شرح تنقيح الفصول: ص/ 20.

(2)

راجع: المعتمد 1/ 28، والمحصول: 1/ ق / 1/ 479، ورفع الحاجب:(1/ 28 / أ)، وهمع الهوامع: ص/ 104، وشرح الكوكب المنير: 1/ 189.

وقال الغزالي - بعد ذكره هذه المسألة -: "ضربان من الأسماء لا يدخلهما المجاز الأول: أسماء الأعلام، والثاني: الأسماء التي لا أعم منها ولا أبعد: كالمعلوم، والمجهول، والمدلول، والمذكور". المستصفى: 1/ 344.

(3)

اختلفوا في هل المجاز يستلزم الحقيقة بمعنى أن استعمال اللفظ في غير وضع أول هل يكون مشروطًا باستعماله في وضع أول قبل هذا الاستعمال، أو لا؟

بل يجوز أن يستعمل في الوضع الثاني، ولو لم يستعمل فيما وضع له أولًا.

المختار عند الآمدي، والمصنف عدم الاستلزام، وذهب أبو الحسين البصري وابن السمعاني، والرازي إلى الاستلزام. راجع: المعتمد: 1/ 28، والمحصول: 1/ ق / 1/ 479، والمستصفى: 1/ 344، والإحكام للآمدي: 1/ 27، ورفع الحاجب:(1/ 28 أ - ب)، =

ص: 72

احتج القائل - بعدم الجواز -: بأن الوضع إنما يكون لإفادة الألفاظ معانيها، وإذا لم يستعمل [في الموضوع له](1) انتفت فائدته.

الجواب: لا نسلم حصر الفائدة فيما ذكرتم: لأن استعماله في المجاز لاتصاله بالموضوع له فائدة جليلة.

والحق الذي لا محيد عنه: أن المجاز إن كان لغويًا، فلا بد له من معنى حقيقي إذا استعمل فيه اللفظ يكون حقيقة، وذلك: لأن الاستعمال في غير الموضوع له لا يعقل بدون تحقق الموضوع له.

وإن كان المجاز عقليًا، فلا بد من شئ إذا أسند إليه كان حقيقة:

لأن الإسناد إلى غير ما هو له فرع لتحقق ما هو له، [هذا ما اختاره الإمام، والسكاكي (2)، خلافًا للشيخ عبد القاهر، مستدلًا بقولهم: أقدمني بلدك حق لي عليك، فإنه لا يوجد فاعل حقيقي لو أسند إليه الفعل كان حقيقة](3).

= وتشنيف المسامع: ق (36 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 306، وهمع الهوامع: ص / 104، وشرح الكوكب المنير: 1/ 189.

(1)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: المحصول: 1/ ق /1/ 459 - 461، 479، ومفتاح المعلوم: ص / 187 - 188.

(3)

ما بين المعكوفتين حصل تقديمه على ما قبله من الكلام في (ب) ثم ألغاه الناسخ، وصححه بالهامش منها.

ص: 73

وأما تحقق الاستعمال، فلا تدعو إليه ضرورة، وكذا وجود الإسناد إلى ما هو له مما لا يحتاج إليه.

وأما تفصيل المصنف بقوله: "والأصح لما عدا المصدر"، ومعناه -على ما نقل (1) عنه-: أن لفظ المشتق كالرحمن مثلًا، وإن لم يستعمل حقيقة قط إذ لا يستعمل في غير الله، واستعماله فيه حقيقة محال (2)، وهذا

(1) الناقل هو الجلال المحلي، راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 306 - 307، ورفع الحاجب (1/ 29 / أ - ب).

(2)

بناء على أن لفظ الرحمن مشتق من الرحمة التي هي رقة القلب وانعطافه، وهي لا تتصور في حقه سبحانه وتعالى، ومع هذا لا يستعمل في معناه الحقيقى، أي: في المخلوق الحادث، وأما قولهم: رحمان اليمامة، وقول شاعرهم: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا. فهذا مُنكَّر، والأول مُعَرَّف بالإضافة، ولم يستعملوا المعرف بالألف واللام، أو يعتبر ذلك من تعنتهم في كفرهم، وهو مردود لغة، وعرفًا، وشرعًا، مع أنهم لم يريدوا منه الانعطاف، ورقة القلب.

قلت: هذا بناء على مذهب الأشاعرة الذين يؤولون مثل هذه الصفة.

والقول الذي لا مرية فيه: أن لفظ "الرحمن" اسم كريم من أسماء الله الحسنى دال على اتصافه تعالى بصفة الرحمة، وهي صفة حقيقية تليق بجلاله، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فنؤمن. مما أخبر به عن نفسه، ذاتًا، وصفة حقيقة لا مجازًا بدون تأويل ولا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل كما قال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

راجع: شرح العقيدة الواسطية: ص / 20 - 21، ومجموع الفتاوى: 5/ 250، وشرح العضد وحواشيه: 1/ 155، وهمع الهوامع: ص / 104.

ص: 74

المجاز لا بد وأن يستعمل مصدره المشتق منه حقيقة، كالرحمة - فشئ لا يساعده عقل، ولا نقل.

أما الأول: فلأن المشتق موضوع بوضع مغاير للمشتق منه بلا ريب، وإذا كان كذلك، فأي لزوم في أن اللفظ المشتق إذ كان مجازًا يكون مصدره مستعملًا في معناه الموضوع له ليصير حقيقة؟

[وإن جنح](1) إلى الاستقراء، والتتبع لكلام البلغاء، واستعمالاتهم، وأنَّى يتم له ذلك! ؟ وكيف السبيل إلى الإحاطة بجزئيات المشتق بأسرها؟

وإن نظر إلى لفظ الرحمن، وأن مصدره مستعمل في معناه الحقيقي، فذلك لم يخالف فيه أحد، ولكن لا يجدي نفعًا.

وأما الثاني: فلأن علماء البيان، والأصول مطبقون على ما ذكرنا من عدم التفرقة، وإن خالف فيه أحد، فلا يلتفت إليه لمخالفته العقل والنقل.

والعجب: كيف يخفى عليه فساد مثل هذا حتى لم يرض بذكره احتمالًا بل اتخذه مذهبًا (2)؟ .

وتحرير هذه المباحث على هذا الوجه لا تجده في غير كلامنا، والله الموفق.

قوله: "وهو واقع خلافًا للأستاذ".

(1) سقط من (ب) وأثبت هامشها.

(2)

أيد العبادي اعتراض الشارح هنا، ورد بعض فقراته، راجع: الآيات البينات: 2/ 123.

ص: 75

أقول: المجاز واقع في كلام العرب (1)، خلافًا للشيخ أبي إسحاق الاسفراييني، وأبي عليّ الفارسي (2)، مطلقًا، أي: في شئ من كلام العرب (3)، وليس لهم دليل سوى الاستبعاد (4).

(1) وهذا هو مذهب جمهور اللغويين، والأصوليين، والفقهاء، وغيرهم.

راجع: اللمع: ص/ 5، والمعتمد: 1/ 24، والخصائص: 2/ 447، والتلخيص لإمام الحرمين: ق (11/ ب)، والمنخول: ص / 75، والمزهر: 1/ 364، والمحصول: 1/ ق/ 1/ 462، والإحكام للآمدي: 1/ 35، والمسودة: ص/564، وشرح العضد على المختصر: 1/ 167، وفواتح الرحموت: 1/ 211، وإرشاد الفحول: ص/ 22.

(2)

هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي النحوي، إمام عصره في علوم العربية، أشهر مصنفاته: الإيضاح في النحو، والتذكرة، والمقصور، والممدود، والحجة في القراءات، وتوفي سنة (377 هـ)، راجع: معجم الأدباء: 7/ 132، وإنباه الرواة: 1/ 273، والمنتظم: 7/ 138، ووفيات الأعيان: 1/ 361، وبغية الوعاة: 1/ 496، وشذرات الذهب: 3/ 88.

(3)

قلت: هذا هو المشهور عن الأستاذ، وأبي على الفارسي، ولكني وجدت إمام الحرمين، وتلميذه حجة الإسلام ذكرا أن الظن بالأستاذ عدم صحة هذا النقل عنه، وإن صح، فلعله أراد أنه ليس بثابت ثبوت الحقيقة.

وكذا النقل عن أبي علي - وإن اشتهر - ففيه نظر: لأن تلميذه أبا الفتح أعرف بمذهبه، وقد نقل عنه في كتاب "الخصائص" عكس المشهور عنه، وهو أن المجاز غالب على اللغات.

راجع: الخصائص لابن جني: 2/ 447، والتلخيص للجويني: ق (11/ ب)، والمنخول: ص/75، وتشنيف المسامع: ق (36/ ب).

(4)

قلت: بل استدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، فقد ذكرها شيخ الإسلام لأنه اختار المنع، وأطنب في ذكرها العلامة ابن القيم لأنه منعه، وسماه طاغوتًا حيث قال: "هذا =

ص: 76

والحق: أن فساد هذا المذهب، أظهر من أن يحتاج إلى الاشتغال به. وهو واقع في القرآن، والحديث، خلافًا للظاهرية (1).

= الطاغوت - يعني المجاز - لهج به المتأخرون، والتجأ إليه المعطلون

" ثم أبطله من خمسين وجهًا، أما الكتاب الذي نسب إليه باسم:(الفوائد المشوق إلى علوم القرآن) وذكر فيه المجاز، وعرفه، وقسمه، ومثل له من الكتاب العزيز، فهذه النسبة لا تصح له، بل الكتاب لغيره، ونسب إليه لأمر، وغرض مراد.

راجع: مجموع الفتاوى: 20/ 400، ومختصر الصواعق المرسلة: 2/ 2، وما بعدها.

(1)

هذا مذهب داود بن علي الأصبهاني، وابنه أبي بكر، وأخذ به محمد بن خويز منداد البصرى المالكي، وأبو العباس بن القاص الشافعي، ومنذر بن سعيد البوطي ورواية عن الإمام أحمد، ونقله ابن الحاحب عن الباقلاني، أما ابن حزم، فقد ذكر الخلاف، ثم قال: "والذي نقول به: أن الاسم إذا تيقنا بدليل بنص، أو إجاع، أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقف عنده

وأما ما دمنا لا نجد دليلًا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة فلا يحل لمسلم أن يقول: إنه منقول

" الإحكام: 4/ 412.

وللعلامة الشيخ الشنقيطي رحمه الله كلام في هذا الباب أحببت ذكره هنا حيث قال: "والذي ندين الله به، ويلزم قبوله كلّ منصف، محقق أنه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقًا على كلا القولين، أما على القول الأول بأنه لا مجاز في اللغة أصلًا، فعدم المجاز في القرآن واضح، وأما على القول الثاني، وهو الوقوع في اللغة العربية، فلا يجوز القول به: لأنه عن طريق المجاز توصل المعطلون إلى نفي صفات الله تعالى، فلهذا كان المنع من وقوعه في القرآن، وهو الحق".

منع جواز المجاز في المُنْزَل للتعبد والإعجاز 9/ 7، في آخر تفسير أضواء البيان.

وراجع: المعتمد: 1/ 24، والإحكام للآمدي: 1/ 33، والكاشف عن المحصول:(1/ 60 / أ)، وشرح العضد على المختصر: 1/ 141، والتمهيد: ص / 185، والمحلي على جمع الجوامع مع حاشية العطار: 1/ 402، وطبقات العبادي: ص / 74.

ص: 77

لنا - على وقوعه في القرآن -: "قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية، فهو مجاز بالنقصان:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] إذ ليس الواقع جزاء سيئة حقيقة، وقوله:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، وقوله:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24].

قالوا - أولًا -: لو وقع يلزم الكذب: لأنه يصدق نفيه، فلا يصدق هو، وإلا يلزم الإثبات، والنفي معًا.

قلنا: محل الحكم مختلِف إذ النفى للحقيقة، والإثبات للمجاز، فلا محذور.

قالوا - ثانيًا -: يكون البارى متجوزًا، ولا يطلق (1) عليه.

قلنا: عدم الإطلاق: لعدم الإذن لا لعدم الصحة لغة، والكلام فيه.

ولما كانت الحقيقة أصلًا، والمجاز فرعًا، فلا يعدل من الأصل إلى الفرع إلَّا لنكتة يعتد بها، وهي: إما كون الحقيقة أثقل على اللسان من لفظ المجاز كالخنفقيق للداهية، أو كون لفظ الحقيقة كريهًا في السمع، فيعدل إلى المجاز، كالغائط أصله المكان [المنخفض](2) أطلق مجازًا على قضاء الحاجة،

(1) آخر الورقة (42 / ب من ب).

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 78

أو كون المتكلم، أو المخاطب جاهلًا بلفظ الحقيقة، أو كون المجاز أشهر، أو للوزن، أو للقافية، أو للسجع (1).

والمجاز - في الكلام، وإن كان كثيرًا - فليس بغالب خلافًا لابن جني (2) من أئمة العربية.

وشبهته: أنك إذا قلت: رأيت زيدًا، أو ضربته قلمًا، يكون رأيت جميع أجزائه، أو وقع ضربك عليها (3)، وهو مردود إذ الألفاظ المذكورة قد استعملت في الموضوع لها، وأما أن المرئي بعض، أو كلّ لا دخل له في كون اللفظ حقيقة، بل لو لم ير من زيد شيئًا، وقال: رأيت زيدًا يكون حقيقة، غايته: أن القضية تكون كاذبة.

قوله: "ولا معتمدًا حيث يستحيل المعنى"، يريد أن المجاز خلَف يعدل إليه الصارف عن إرادة المعنى الحقيقي، فيستدعي إمكان المعنى الحقيقى.

(1) راجع: الخصائص 2/ 442 - 447، والطراز 1/ 80، والمحصول: 1/ ق / 1/ 464 - 467، وشرح العضد على المختصر: 1/ 158، وتشنيف المسامع: ق (37 / أ)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 309، وهمع الهوامع: ص/105، وشرح الكوكب المنير: 1/ 155.

(2)

هو عثمان بن جني أبو الفتح الموصلي، النحوي، اللغوي من أحذق أهل الأدب، وأعلمهم بالنحو، والتصريف، أشهر كتبه: الخصائص في النحو، وسر الصناعة، وشرح تصريف المازني، واللمع، وغيرها، وتوفي سنة (392 هـ).

راجع: وفيات الأعيان: 2/ 410، والمنتظم: 7/ 220، ومعجم الأدباء: 12/ 81، وإنباه الرواة: 2/ 335، وشذرات الذهب: 3/ 140.

(3)

راجع: الخصائص: 2/ 447، والمحصول: 1/ ق / 1/ 468، وتشنيف المسامع: ق (37 /أ) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 310، وهمع الهوامع: ص / 105.

ص: 79

خلافًا للإمام أبي حنيفة، حيث لم يشترط الإمكان حتى لو قال - لعبد معروف النسب، وهو أكبر سنًا منه -: هذا ابني، يعتق عنده، وعند صاحبيه - وفاقًا للجمهور - لا يعتق، ويكون هذا لغوًا من الكلام (1).

دليل الجمهور: أن الأصالة، والخلفية إنما يعتبران في الحكم الذي هو المقصود من الكلام.

وله: أن الحقيقة، والمجاز من أوصاف اللفظ، فالأصالة، والخلفية في التكلم الذي هو إخراج اللفظ من العدم إلى الوجود لا في الحكم.

والحق: أن إمكان المعنى الحقيقي على ما ذهب إليه الجمهور مشكل: لأن كثيرًا من المجازات الواقعة في كلام العرب، بل في كلام الله تعالى مما لا إمكان لمعانيها الحقيقية مثل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5](2)،

(1) راجع: شرح فتح القدير: 4/ 437، 439، والمغني لابن قدامة: 9/ 332، والتلويح على التوضيح: 1/ 82، وفواتح الرحموت: 1/ 213، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 311.

(2)

قلت: وما قاله الشارح رحمه الله بناء على مذهب الأشاعرة في تأويلهم لاستوى بمعنى استولى، أو يجعلون على بمعنى إلي، واستوى بمعنى قصد، مع أن استوى في اللغة إذا عُدِّي بعلى لا يمكن أن يفهم منه إلَّا العلو، والارتفاع، ولهذا لم تخرج تفسيرات السلف لهذا اللفظ - لغة - عن أربع عبارات: استقر، وعلا، وارتفع، وصعد، وقد جمعها العلامة ابن القيم في نونيته. والله سبحانه قد أخبرنا في سبع مواضع من كتابه بأنه استوى على عرشه، وذلك قطعي الثبوت، وصريح في بابه، ولا يحتمل التأويل، فيجب أن نؤمن بأنه مستو على عرشه، بائن من خلقه بالكيفية التي يعلمها هو جل شأنه، كما قال الإمام مالك، وغيره:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". =

ص: 80

و: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10](1)، وأما إذا كان المعنى الحقيقي ممكنًا، كما إذا قال للأصغر سنًّا - منه بحيث يولد مثله لمثله - فالمذهب عندنا، وعندهم حصول العتق، وإن كان معروف النسب (2)، إطلاقًا للملزوم وإرادة اللازم، فيكون مجازًا مرسلًا، والعلاقة اللزوم.

قوله: "وهو والنقل خلاف الأصل".

= راجع: الإبانة عن أصول الديانة: ص / 119 - 127، ودرء تعارض العقل والنقل: 1/ 14 - 15، ومجموع الفتاوى: 5/ 518 - 527، والنونية لابن القيم: ص / 67، وشرح الطحاوية: ص / 128، والفتوى الحموية: ص / 56، والتدمرية: ص / 29 - 31، 35.

(1)

وهي كسابقتها في التأويل بمعنى أن الأشاعرة يقولون: يد الله: نعمته، فيؤولونها كغيرها، ومذهب السلف أن لله يدين كما أخبر تعالى عن نفسه في عدة آيات من كتابه، وأخبر عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في أحاديثه.

قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: "فإن سئلنا: أتقولون: إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، وقوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، ثم استطرد في ذكر الأدلة من الكتاب، والسنة إلى أن قال: ويقال - لأهل البدع -: لم زعمتم أن معنى قوله: {بِيدَيَّ} نعمتي، أزعمتم ذلك إجماعًا، أو لغة، فلا يجدون ذلك في الإجماع، ولا في اللغة" الإبانة: ص / 131 - 133. وراجع: درء تعارض العقل والنقل: 1/ 15، والفتوى الحموية: ص / 57، والرسالة التدمرية: ص / 27.

(2)

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 312، وهمع الهوامع: ص / 106.

ص: 81

أقول: قد تقدم: أن الأصل يطلق، ويراد به الراجح تارة، وهو المراد هنا، يعني إذا وقع لفظ في أي استعمال كان، وله معنى حقيقي، ومعنى مجازي، فالحمل على الحقيقى واجب: لكونه راجحًا، والعمل بالراجح واجب، ولا يجوز الحمل على المجاز إلَّا بعد قيام قرينة صارفة، وكذا المنقول عنه أصل، بالنظر إلى المنقول إليه، والعلة ما ذكرناه في الحقيقة والمجاز (1).

قوله (2): "وأولى من الاشتراك".

أقول: يريد بيان تعارض ما يخل بالفهم، وهو ما يكون خلاف الأصل.

فقال: المجاز، والنقل أولى من الاشتراك، أما المجاز، فلأن لفظ النِّكَاح مثلًا يحتمل أن يكون حقيقة في الوطء، مجازًا في العقد، وأن يكون مشتركًا.

المختار -عند الجمهور-: أن المجاز أولى لكثرة مفاسد الاشتراك وفوائد المجاز.

أما مفاسد الاشتراك [فمنها: أن يخل بالتفاهم عند خفاء القرائن دون المجاز إذ حينئذ يحمل على الحقيقة.

(1) راجع: شرح تنقيح الفصول: ص/ 112، والمحصول: 1/ق/1/ 147، وروضة الناظر مع شرحها لبدران: 2112، والمحلي: 1/ 312، وشرح الكوكب المنير: 1/ 294.

(2)

آخر الورقة (41/ب من أ).

ص: 82

ومنها: ] (1) أنه ربما يؤدي إلى خلاف المراد، كما إذا قال: طلق في القرء، فربما يفهم منه جواز الطلاق في الحيض، وهو نقيض المراد، وذلك من آفة الاشتراك.

ومنها: أنه يحتاج إلى القرينة لكل معنى وضع بخلاف المجاز، فإنه يستغي بقرينة.

وأما فوائد المجاز: فمنها أنه أغلب في كلام العرب بخلاف الاشتراك، فيلحق المتنازع فيه بالأعم الأغلب.

ومنها: أنه أبلغ بإطباق البلغاء: لأنه كالدعوي، مع البينة نحو:

{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، أين هذا من قولك: شاب رأسى؟ !

ومنها: أنه يكون أوفق بحسب المقام لعذوبة فيه، أو لثقل الحقيقة هكذا قيل (2)، وفيه نظر: لأن العذوبة، والثقل من أوصاف اللفظ.

والفرض: أن اللفظ واحد دائر بين كونه مشتركًا بين المعنيين، أو حقيقة في أحدهما، مجازًا في الآخر، فلا يتأتى ما ذكره.

ومنها: أنه يتوصل بحمله على المجاز إلى أنواع من محاسن البديع (3)،

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "قائله المولى المحقق عضد الملة والدين"، وراجع: شرح العضد على المختصر: 1/ 159.

(3)

البديع: هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطيقه على مقتضى الحال، ووضوح الدلالة.

راجع: الإيضاح في علوم البلاغة: 2/ 477، وجواهر البلاغة: ص / 360.

ص: 83

كالسجع (1) نحو: حمار ثرثار، والمقابلة (2): نحو صنعت للأشهب الأدهم (3)، أو إلى الروي نحو:

عارضننا أُصُلًا فقلنا الربربُ

حتى تبدَّى الأُقحوانُ الأشنبُ (4)

ولو قال: سنهن الأبيض، فسد عليه الشعر.

(1) السجع: هو تواطؤ الفاصلتين في الحرف الأخير من النثر، وأفضله ما تساوت فقره، وهو ثلاثة أقسام: مطرف، ومرصع، ومتوازٍ.

راجع: الإيضاح للقزويني: 2/ 547، والتعريفات للجرجاني: ص / 117، وجواهر البلاغة: ص / 404.

(2)

المقابلة: هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين، أو معان متوافقة، ثم يأتي بما يقابل ذلك على الترتيب.

راجع: الإيضاح: 2/ 485، جواهر البلاغة: ص / 367، البلاغة الواضحة: ص / 285.

(3)

المثال الذي ينطبق على تعريف المقابلة بوضوح هو ما جاء في الأثر في حق الأنصار رضي الله عنهم: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع".

ففي صدر الكلام صفتان للأنصار، وفي الكثرة، والفزع، ثم قابل ذلك في آخر الكلام بالقلة، والطمع على الترتيب، والمثال الذي ذكره الشارح للمطابقة على رأي من يرى أن الجمع بين الشئ وضده منها كما هو رأي الشريف الجرجاني، ولعل الشارح يرى ذلك.

راجع: الإيضاح: 2/ 477، والتعريفات: ص / 218، وجواهر البلاغة: ص / 366، والبلاغة الواضحة: ص / 281.

(4)

قائل هذا البيت هو الطائي الصغير الطرماح بن حكيم بن الحكم بن نصر بن قيس بن جحدر المتوفى سنة (125 هـ)، والبيت من قصيدة مدح في إسحاق بن إبراهيم.

راجع: الخصائص لابن جني: 2/ 459، والوافي: 14/ 100، والأعلام للزركلي: 3/ 325، ومعجم المؤلفين: 5/ 40.

ص: 84

وقد عورض هذا الاستدلال: بأن فوائد الاشتراك لا توجد في المجاز، ومفاسد المجاز لا توجد في الاشتراك، فتعارضا، تساقطا، إذ من فوائد الاشتراك صحة الاشتقاق من اللفظ بالمعنيين.

ومنها: أنه مستغن عن العلاقة، ومنها: عدم مخالفة الظاهر دونه، ومنها: عدم الغلط عند عدم القرينة.

والحق: ما اختاره بعض المحققين (1) من أن الأغلبية سالمة عن المعارض، فيتم به ما ذهب إليه الجمهور (2).

والنقل - أيضًا -: أولى من الاشتراك (3) مثاله: الزكاة، يحتمل أن يكون لفظًا [مشتركًا](4) بين النماء، والقدر المخرج من المال، وأن يكون موضوعًا للنماء، ونقله الشرع إلى القدر المخرَج، وإنما كان أولى: لأنه لا إجمال فيه قبل النقل [وبعده](5) لإفراد مدلوله في الحالتين.

(1) جاء في هامش (أ، ب): "الشيخ ابن الحاجب". راجع: المختصر له: 1/ 162.

(2)

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 492، وشرح العضد: 1/ 157، ورفع الحاجب:(1/ 37 / أ) وتشنيف المسامع: ق (37 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 312، وهمع الهوامع: ص / 106.

(3)

راجع: الإبهاج: 1/ 323.

(4)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(5)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 85

والإمام - في "المحصول" - اعترض: بأن الاشتراك لم ينكره أحد من المعتبرَين، والنقل أنكره كثير من المحققين.

الثاني: أن الاشتراك إن وجد فيه القرينة عمل به، وإن لم توجد يتوقف فيه، وعلى كلا التقديرين لا محذور، وأما النقل، فربما لا يعرف النقل الجديد، فيحمل على المعهود الأول، فيقع الغلط في العمل.

الثالث: أن الاشتراك ربما يكون بوضع واحد مثل أن يقول المتكلم: وضعت هذا اللفظ لهذا [ولهذا بالاشتراك، وأما النقل، فيتوقف على وضعه أولًا، ثم على نسخه ثانيًا، ثم على وضعه وضعًا جديدًا](1)، والموقوف على أمر واحد أولى من الموقوف على أمور كثيرة (2).

ثم قال: "الجواب: أن الشرع إذا نقل اللفظ عن معناه اللغوي إلى معناه الشرعي، فلا بد وأن يشتهر ذلك اللفظ، ويبلغه حد التواتر، وعلى هذا تزول المفاسد كلها"(3).

قلت (4): أما قوله: "أنكر النقل كثير من المحققين" ممنوع: لأنك إذا استقريت كلام أهل العربية، والأصول، والمعقول لا ترى محققًا إلَّا وهو قائل به.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 490 - 491.

(3)

المحصول: 1/ ق / 1/ 492.

(4)

آخر الورقة (43 / ب من ب).

ص: 86

وأما قوله: "إن وجد القرينة في الاشتراك عمل به، وإلا يتوقف فيه" كلام باطل على أصله إذ عند عدم القرينة يحمل على المعنيين وجوبًا عند الشافعي كما تقدم.

قوله: "وأما النقل، فربما لا يُعْرَف النقل الجديد، فيحمل على المعهود الأول" كلام مختل إذ الفرض أن اللفظ دار بين كونه منقولًا، أو مشتركًا، فكيف يستقيم قوله: فلا يعرف النقل الجديد إذ الكلام فيما إذا لم يعلم، ويحتمل الأمرين؟ وأما قوله:"الاشتراك ربما يكون بوضع واحد" كلام لا يعقل إذ الكلام في المشترك لفظًا، ولم يقل أحد: إنه بوضع واحد يتصور، بل ذاك المشترك المعنوي: كالإنسان، والحيوان (1).

وأما قوله - في الجواب -: "إن الشرع إذا نقل اللفظ يبلغه حد التواتر"(2)، فكلام باطل من وجوه: الأول: أن الكلام في المنقول مطلقًا لا في المنقول شرعًا.

الثاني: أن الكلام فيما إذا لم يعلم كونه منقولًا، ولا مشتركًا كما تقدم، وأما إذا علم كونه منقولًا ليس محلًا للنزاع.

(1) قلت: اعتراض الشارح على ما ذكره الإمام قبل هذا لا يرد عليه لأن الإمام مع القائلين بأن النقل يقدم على الاشتراك، ولكنه ذكر ما نقله الشارح كأدلة للذين يقدمون الاشتراك على النقل لا أنه مختاره، ثم رد تلك الوجوه، وأجاب عنها. انظر المحصول: 1/ ق / 1/ 489 - 492.

(2)

أما هذا الاعتراض فنعم يرد على جواب الإمام المذكور إذ هو كلامه لا أنه حكاه عن غيره، ثم هل يسلم ذلك للشارح، أو لا؟ شيء آخر.

ص: 87

الثالث: أن الحكم - على الشارع بأنه إذا نقل لفظًا يبلغه حد التواتر - لا يصح لا نقلًا، ولا عقلًا، أما نقلًا فواضح، وأما عقلًا، فلأن أكثر الأحكام الشرعية إلى أمر بالتبليغ فيها إنما تثبت بالآحاد، فبأي علة امتاز النقل في الألفاظ حتى وجب أن يبلغه حد التواتر؟

قوله: "قيل: ومن الإضمار".

أقول: ذكر المصنف أنه قيل: النقل، والمجاز أولى من الإضمار، إشارة إلى أن المختار عنده أن الثلاثة متساوية.

والحق: أن المجاز خير من النقل (1): لأن المجاز لا يستلزم نسخ الأول، بخلاف النقل كالصلاة في عرف الشرع.

وأما المجاز والإضمار، فسيان لاستوائهما في استدعاء القرينة (2)، فإذا وقع التعارض بقي اللفظ مجملًا إلى أن تظهر قرينة مرجحة لأحدهما، ومن رجح المجاز على الإضمار نظر إلى شيوعه، وكثرة وروده في كلام البلغاء.

(1) راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 498، والإبهاج: 1/ 329.

(2)

وجزم به الإمام في المحصول: وتابعه البيضاوي، والمصنف، والمحلي، والشارح، وغيرهم ورجح الإمام في "المعالم المجاز"، وقال: هو أولى من الإضمار لكثرته، واختاره الصفي الهندي، والقرافي. وذهب البعض إلى أن الإضمار أولى لاتصال قرينته.

راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 500، والمعالم: ص / 75، وشرح تنقيح الفصول: ص / 121 - 122، والإبهاج: 1/ 331، وتشنيف المسامع: ق (37 / أ - ب)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 313، وهمع الهوامع: ص / 106 - 107.

ص: 88

مثاله: قول القائل - لمن ليس بابن له -: هذا ابني، يحتمل أن يكون مجازًا مرسلًا، أي: معزَّز، إطلاقًا للملزوم، وإرادة للازمه، وأن يكون المضاف مقدرًا، أي: مثل ابني. ومثال تعارض النقل، والإضمار قوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] قيل: أخذه، فإذا سقط صح البيع، وقيل: الربا منقول إلى العقد، فيفسد، وإن طرحت الزيادة، فلا يصح البيع.

إلى الأول: ذهب أبو حنيفة، وإلى الثاني: الشافعي رضي الله عنهما (1).

قوله: "والتخصيص أولى منهما".

أقول: التخصيص أولى من النقل والمجاز، يعني أن اللفظ إذا احتمل الثلاثة، فالحمل على التخصيص أولي، أما أنه أولى من المجاز، فلأن الباقي بعد التخصيص متعين، بخلاف المجاز، فإن اللفظ ربما كان له مجازات متساوية، فالمتعين أقرب إلى الفهم، فيكون أولى.

وإذا كان أولى من المجاز، فيكون أولى من النقل: لأن المجاز أولى من النقل كما تقدم.

مثاله: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].

قيل: بالتخصيص: لأن لفظ "ما" عام، فأخرج عنه الناسي، وإليه ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله.

(1) راجع: فواتح الرحموت: 1/ 211، والإبهاج: 1/ 330، وتشنيف المسامع: ق (37/ ب) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 313، وهمع الهوامع: ص / 107.

ص: 89

وقيل: ما ذبح لغير الله كما كان أهل الجاهلية يذبحون بأسماء آلهتهم فيكون (1) مجازًا (2).

فإن قلت: المجاز انتقال من الملزوم إلى اللازم، ولا يلزم من ترك اسم الله ذكر أسماء الآلهة.

قلت: يكفى في المجاز اللزوم العرفي، ولما كان دأبهم ذلك كفى في اللزوم، وانتقال الذهن، وأما اللزوم العقلي إنما يعتبر عند المنطقيين، وأنت إذا تأملت في كلام البلغاء، وجدت المجازات أكثرها من هذا القبيل.

(1) آخر الورقة (42 / ب من أ).

(2)

في هذه المسألة عدة مذاهب:

فذهب أبو حنيفة، ومالك، وابن القاسم، وأصبغ، وغيرهم إلى أنه إن تركت التسمية سهوًا أكلت، وإن تركت عمدًا لم تؤكل.

وذهب الشافعي والحسن إلى أكلها سواء تركت عمدًا أو سهوًا.

وذهب أحمد في رواية، وابن سيرين إلى تحريم أكلها إن تركت عمدًا أو سهوًا، وذهب القاضي أبو الحسن، والشيخ أبو بكر من المالكية، وغيرهما إلى أنه إن تركها عمدًا كره أكلها، ولم تحرم، وحكى أنه ظاهر قول الشافعي.

وقيل: التسمية شرط في إرسال الكلب دون السهم، وهي رواية عن أحمد، وقيل: يجب أن تعلق هذه الأحكام بالقرآن، والسنة، والدلائل المعنوية التي أسستها الشريعة، وهذا نقل عن القاضي الباقلاني.

راجع: شرح فتح القدير: 9/ 489، وأحكام القرآن لابن العربي: 2/ 749 - 750، ومغني المحتاج: 4/ 272، والمغني لابن قدامة: 8/ 540، وفواتح الرحموت: 1/ 211، وتشنيف المسامع: ق (37 / ب)، والمحلى على جمع الجوامع: 3/ 311 - 314، وهمع الهوامع: ص / 107.

ص: 90

واعلم: أنَّا وإن قلنا: إن التخصيص أولى من المجاز لا يلزم من ذلك في هذه الآية إلزام الشافعي: لأن هذه الآية، وإن كان الظاهر منها ما ذكروه، لكن بعد التدقيق يجب المصير إلى ما ذهب إليه، وهو أن قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] جملة حالية لعدم جواز العطف على الإنشائية قبلها، ولا على الصلة لعدم استقامة المعني، تقديره: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه حال كون ذلك مقيدًا بالفسق.

ومحصله: كلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلَّا في حالة كونه فسقًا، نظيره: قولك - لعبدك -: لا تضرب زيدًا، وهو يصلي، كيف لا، وقد ثبت: أن الأحوال قيود للأفعال، والمُقيَّد من حيث إنه مقيد ينتفى بانتفاء قيده، فالأكل المنهى عنه ينتفى بانتفاء كونه فسقًا.

ثم الاحتمالات في التعارض خمسة (1)، وإذا قيس أحد الاحتمالات على البواقي يحصل عشر مسائل.

(1) ذكر الأشموني أن المخلات بالفهم اليقيني عشر، وتسمى الاحتمالات العشرة، وذكر المصنف منها خمسة، وسكت عن حمسة، وهي النسخ، والتقليم، والتأخير والتعارض العقلي، وتغيير الإعراب، والتصريف.

قلت: وإنما اقتصر المصنف على الخمسة التي ذكرها لأنها أصل ما يخل بالفهم، ثم يقع التعارض بين الخمسة، وهي التخصيص، والمجاز، والإضمار، والنقل، والاشتراك على عشرة أوجه.

وضابط ذلك: أن تأخذ كلّ واحد، مع ما قبله، فالاشتراك يعارضه الأربعة قبله، والنقل يعارضه الثلاثة قبله، والإضمار يعارضه الاثنان قبله، والمجاز يعارضه التخصيص قبله، فجملتها عشر مسائل كما ذكر الشارح. =

ص: 91

والمصنف لم يذكرها مفصلة إلَّا أنه يعلم من عبارته تلك العشرة: لأنه حكم - أولًا - بأن المجاز، والنقل أولى من الاشتراك، فقد علم مسألتان.

ثم أشَار بقيل: إنهما أولى من الإضمار، فعلم مسألتان أخريان، فهذه أربع.

وذكر أن التخصيص أولى من المجاز، والنقل، فهاتان، مع الأربع ست مسائل.

وإذا علم: أن التخصيص أولى منهما، فهو أولى من الذي هما أولى منه، وهو الاشتراك، أو مساوٍ لهما، وهو الإضمار، فهاتان، مع تلك الست ثماني مسائل.

والتاسعة: ما فهم من قيل، ومن الإضمار، وهو التساوي بين الثلاثة.

والعاشرة: رجحان المجاز على النقل، كما قدمنا، وليس لكلام المصنف بذلك إشعار، وكأنه اختار التساوي، والأمر في ذلك سهل.

قوله: "وقد يكون بالشكل".

أقول: لما فرغ من ذكر التعارض شرع يبين ما هو ضروري في المجاز، وهي العلاقة، وهي - مطلقًا - أمر يتصل به المعنى المجازي بالمعنى

= راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 489 - 502، والإبهاج: 1/ 322، 336، وتشنيف المسامع: ق (37/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 316، وهمع الهوامع: ص / 108.

ص: 92

الحقيقي لينتقل الذهن من المعنى الحقيقى إليه لدى الإطلاق، أو يعقله، وقد اضطربت كلمتهم في ضبطها، حصرها بعض المحققين (1) في خمسة وجوه، واجتهد بعضهم (2)، فبلغ حمسة وعشرين وجهًا (3)، وحصرها بعضهم (4) في تسعة والمصنف ضبطها في اثني عشر وجهًا:

الأول: الشكل، كإطلاق الفرس على الصورة المنقوشة إذ هو حقيقة في الحيوان الصاهل، والعلاقة الشكل.

الثاني: الصفة الظاهرة، كالأسد للشجاع، والعلاقة الشجاعة دون البخر، فإنه وصف خفى لا ينتقل الذهن بواسطته.

الثالث: المآل، وهو ما يصير إليه قطعًا، إما لموجب هو البرهان، أي: الدليل القاطع نحو: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30]، أو لعادة مستقرة كإطلاق لفظ الخمر على العصير بأن (5) شأنه وعادته أن يصير خمرًا إن لم يعالج بمانع يمنعه.

الرابع: الضد، نحو المفازة للمهلك، والتبشير للإنذار.

(1) جاء في هامش (أ، ب): "ابن الحاجب". وانظر المختصر مع شرح العضد: 1/ 141.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "صاحب التلخيص". وهو جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب المتوفي سنة (739 هـ).

(3)

وتبعه الشريف الجرجاني في ذلك، راجع: الإيضاح: 2/ 399، وحاشية التفتازاني على المختصر: 1/ 143 - 144.

(4)

هو صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفى في كتابه التوضيح لمتن التنقيح: 1/ 73.

(5)

آخر الورقة (44 / ب من ب).

ص: 93

الخامس: المجاورة، كالراوية للمزادة، وهي اسم للجمل الذي يحمل المزادة.

السادس: الزيادة، مثل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] على رأي من يقول: بزيادتها (1).

(1) أما الذين لا يرون زيادتها، وبالتالي ليس في الآية مجاز، يقولون: لأن الحرب تطلق المثل، وتريد به الذات، فهو أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهو حقيقة في محله، كقول العرب: مثلك لا يفعل هذا، يعنون لا ينبغي لك أن تفعل هذا، وقد جاء في القرآن من هذا الأسلوب عدة آيات كقوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] أي: شهد على القرآن أنه حق، وكقوله:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] يعني كمن هو في الظلمات، وكقوله:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137] أي: بما آمنتم به.

وهذا على أظهر الأقوال فيها، ويدل لذلك قراءة ابن عباس:"فإن أمنوا بما آمنتم به"، ولأن أداة التشبيه كررت لتأكيد نفى المثلية المنفية في الآية، والعرب ربما كررت بعض الحروف لتأكيد المعني، وإذا انتفى أن يكون شئ مثل مثله استلزم ذلك نفى المثل بالطريق الأولى كما حققه بعض الأعيان، وعلى ما تقدم، فالكاف، والمِثْل ليستا زائدتين.

راجع: شرح العقيدة الأصفهانية: ص / 9 - 10، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 41، وشرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 24، والقائد إلى تصحيح العقائد: 2/ 270 - 271، تفسير ابن كثير: 4/ 109، وفتح القدير: 4/ 528، ومنع جواز المجاز في المُنْزَل للتعبد والإعجاز: ص / 36 - 37.

ص: 94

السابع: النقصان، نحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82](1).

الثامن: السبب للمسبب، نحو:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10](2)

أي: قدرته، ولما كان ظهور آثار القدرة على اليد في الأغلب عند سببًا لها.

التاسع: الكل للبعض، نحو:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] أي: بعضها.

العاشر: إطلاق لفظ المتعلق على ما تعلق به، نحو:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أي: مخلوقه.

وعكسه الثلاثة: وهو إطلاق المسبب على السبب كإطلاق النبات على الغيث، نحو: أمطرت السماء نباتًا، وإطلاق الجزء على الكل نحو:

(1) وقد رد الذين يمنعون المجاز في القرآن بأن إطلاق القرية، وإرادة أهلها أسلوب من أساليب اللغة العربية، ولأن المضاف المحذوف مدلول عليه بالاقتضاء، فكأنه مذكور، راجع: المصدر السابق: ص / 35.

(2)

وإبطال حقيقة اليد، ونفيها، وجعلها مجازًا هو في الأصل قول الجهمية المعطلة، وتبعهم على ذلك المعتزلة، وبعض المتأخرين ممن ينسب إلى الأشعري، أما الأشعري، وقدماء أصحابه، فقد ردوا على الذين أولوا اليد بمعنى القدرة، أو النعمة، وبدعوهم كما تقدم ذلك في كلام أبى الحسن.

راجع: سنن أبي داود: 2/ 529، وسنن الترمذي: 5/ 266، والإبانة: ص / 131، ومختصر الصواعق المرسلة: 2/ 165.

ص: 95

إطلاق العين على الجاسوس، وإطلاق اسم ما تعلق به الشيء على ذلك الشيء، نحو إطلاق لفظ المفعول على الفعل نحو:{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] أي: الفتنة.

الرابع عشر: إطلاق الفعل على القوة نحو: الخمر مسكر أي في الدَّن (1).

قوله: "وقد يكون في الإسناد".

أقول: المجاز كما يكون في المفرد، يكون في الإسناد نحو: أنبت الربيع البقل، وقد تقدم شرحه، مع الخلاف فيه.

وكما يكون المجاز في الأسماء يكون في الأفعال، والحروف نحو:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]، وقوله:{فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] استعمل الماضي في معنى المضارع، ولفظ "في" بمعنى "على"(2).

قوله: "ومنع الإمام الحرفَ مطلقًا"، أي: لم يجوز المجاز في الحرف مطلقًا لا أصالة، ولا تبعًا، وليس في كلام [الإمام](3) شئ من هذا (4).

(1) راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 450 - 454، والإشارة إلى الإيجاز: ص / 52 - 55، والمزهر: 1/ 359، والطراز: 1/ 69، والإبهاج: 1/ 300 - 312، والفوائد المشوق: ص / 16، ونزهة الخاطر: 2/ 17، وشرح الكوكب المنير: 1/ 157.

(2)

راجع: تشنيف المسامع: ق (38 / أ)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 321، وهمع الهوامع: ص / 111.

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

ذكر الزركشيُّ: أن مراد المصنف في منع الإمام الحرف بالنسبة إلى مجاز الإفراد، وإلا =

ص: 96

قال - في المحصول -: "أما الحرف، فلا يدخل فيه المجاز بالذات: لأن مفهومه غير مستقل بنفسه"(1).

وهذا موافق لكلام أهل العربية، والأصول، فإن البلغاء مطبقون على أن الاستعارة في الحرف تبعية.

[قال صاحب المفتاح](2): "الاستعارة في الحروف تجري - أولًا - في متعلقاتها، ثم تسري فيها - ثم قال -: والمراد بمتعلقات الحروف ما يعبر به عن معناها كقولنا: من، معناها. ابتداء الغاية".

تحقيق ذلك: أن ما اشتهر بين الناس أن "مِن"، معناها الابتداء، و "إلى" معناها الانتهاء، فيه تسامح، إذ لو كان الأمر على ظاهره لكانت هذه الحروف أسماء لدلالتها على معانيها.

بل معنى "من" ابتداء خاص، ومعنى "إلى" انتهاء خاص لا يفهم بدون ذكر المتعلق قطعًا، فتجري الاستعارة - أولًا - في المتعلق، ثم في الحرف.

ولهم في ذلك المتعلق خلاف: منهم من قال: هو المجرور بمن مثلًا في قولك: سرت من البصرة.

= فقد سبق أن أجاز دخول المجاز فيه بالانضمام لكنه يجعله من مجاز التركيب لا الإفراد الذي يبحث فيه الأصولي.

راجع: تشنيف المسامع: ق (38 / ب)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 321، وهمع الهوامع: ص / 112.

(1)

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 455.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 97

ومنهم من قال: المتعلق هو ذلك المعنى العام الذي يندرج فيه معنى الحرف، وسيأتي لهذا زيادة بيان في بحث الحروف إن شاء الله تعالى.

وكذا قوله: "والفعل، والمشتق إلَّا تبعًا"، نسبته إليه لا وجه [له](1) إذ أطبق أهل العربية، والأصول على أن الاستعارة [الواقعة](2) في الأفعال، والصفات تقع في المصادر أولًا، ثم تسري فيها.

والسر في ذلك: أن وجه الشبه قائم بالطرفين [وقيامه بهما يقتضي أن يكون كلّ من الطرفين](3) موصوفًا به، ولا يصلح للموصوفية إلَّا الأسماء (4).

قوله: "وكذا في الأعلام" وإن كان يفهم منه الوصفية كحاتم، وأبي لهب، وما ذهب إليه المصنف خلاف ما عليه المحققون (5)، إذ قالوا: إذا قلت: رأيت حاتمًا، وأردت به شخصًا معينًا، وإنما أطلقت عليه لفظ حاتم

(1) سقط من (ب).

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 455.

(5)

يرى العبادي، والمحلي: أن مراد المصنف هو أن العَلَم باعتبار استعماله في المعنى العَلَمي هل هو مجاز، أو لا؟ لا أنه هل يصح التجوز باستعماله في معنى آخر مناسب للمعنى العَلَمي، والغزالي خالف في الأول لا في الثاني، بل إن العبادي اتهم الشارح بأنه التبس عليه الحال، ولم يفرق بين المقامين، وبناء على ما تقدم، فكلام المصنف لا يمنع التجوز باستعمال العَلَم في معنى مناسب للمعنى العَلَمي كما مثل الشارح لذلك.

راجع: تشنيف المسامع: ق (38 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 312 - 313، وهمع الهوامع: ص / 112 - 113، والآيات البينات: 2/ 140.

ص: 98

بعد التشبيه به في الجود، فهو مجاز، لكونه استعارة تصريحية، وهي مجاز لغوي عند المحققين. وكذلك إذا قلت: رأيت اليوم أبا لهب، وأردت شخصًا معينًا، وقصدت كونه كافرًا مثله يكون استعارة.

في ذكره الغزالي (1)(2) هو كلام في غاية الحسن والدقة، فلا وجه لعدم قبوله.

قوله: "ويعرف بتبادر غيره إلى الفهم".

أقول: شرع يبين أمارات يعرف بها المجاز، وقد ذكر الأصوليون أن المجاز يعرف تارة بتصريح أهل اللغة به، أو بحده، أو بخاصة من خواصه [الأول: مثل أن يقولوا: هذا مجاز، والثاني: أن يقولوا: هذا مستعمل في غير ما وضع له، والثالث: أن يقولوا: هذا مشروط بالقرينة، أو يصح نفيه] (3).

وتارة: يعرف استدلالًا (4)، والمصنف ترك القسم الأول لوضوحه وذكر للثاني وجوهًا.

(1) يرى الغزالي أن المجاز يدخل في متلمح الصفة، يعني العَلَم الذي يتلمح فيه معناه الأصلي، وهو كونه صفة كالحارث، والأسود، دون الأعلام التي لم توضع إلَّا للفرق بين الذوات كزيد، وعمرو، فلا يدخلها المجاز. راجع: المستصفى: 1/ 344.

(2)

آخر الورقة (43 / ب من أ).

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

راجع: اللمع: ص / 5، والمعتمد: 1/ 25، والمستصفى: 1/ 342، والإحكام للآمدي: 1/ 24، والمسودة: ص / 570، وشرح العضد على المختصر: 1/ 146، والقواعد لابن اللحام: ص / 127، ونزهة الخاطر: 2/ 23.

ص: 99

منها: تبادر غيره إلى الفهم: لذا انتفاء القرينة عكس الحقيقة، فإنها تعرف بأن لا يتبادر غير المعنى الحقيقي لولا القرينة.

وأورد المشترك إذا استعمل في معناه المجازي لعدم تبادر الغير إذ لا يدلُّ على شئ من معانيه الحقيقية إلَّا بالقرينة، فلا تبادر.

والجواب: أنه عند انتفاء قرينة المجاز يدلُّ على أن المراد أحد المعاني، وإن لم يعلم على التعيين مراد المتكلم، وذلك كاف في تبادر غيره.

ومنها: صحة النفي كقولك - للبليد -: حمار، إذ يصح في نفس الأمر سلبه، أي: سلب الحمار عنه، وإنما قيدنا بنفس الأمر لصحة قولنا: ما أنت بإنسان لغة، إذ الصحة اللغوية لا تقتضي صدق الكلام، فليفهم ذلك.

وكما أن صحة النفي على الوجه المذكور علامة المجاز، عدم صحته على ذلك الوجه أمارة الحقيقة، ولذا لم يصح أن يقال - للبليد -: ليس بإنسان في نفس الأمر.

فإن قيل: صحة النفي في المجاز تتوقف على أنه ليس شيئًا من معانيه الحقيقية، وكونه ليس شيئًا منها يتوقف على كونه مجازًا، فيكون دورًا، وكذلك في الحقيقة إذ عدم صحة النفي متوقف على كونه حقيقة، وكونه حقيقة موقوف على عدم الصحة المذكورة، فيكون دورًا صريحًا.

ص: 100

الجواب: أن الاعتراض المذكور إنما يتم أن لو أُطلِق لفظ على معنى، ولم يُعلَم أنه حقيقة فيه، أو مجاز، أما إذا عُلِم أن للفظ المستعمل معنى مجازيًا، ومعنى حقيقيًا، ولم يُعلَم أيهما مراد هنا لخفاء القرينة، فصحة نفي المعنى الحقيقي دليل على أن المجازي هو المراد، فيُعلَم أن اللفظ مجاز.

مثلًا إذا قيل: طلع البدر علينا (1): من ثنيات الوداع (2).

وقد صح في هذا المقام أن يقال: إن الطالع ليس هو القمر الحقيقي علم أن المراد إنسان كالقمر، ويعلم مما ذكرنا حال الحقيقة.

ومنها: عدم وجوب اطراده، والمراد بعدم الاطراد أن يستعمل لفظ لمعنى العلاقة، ثم لا يستعمل ذلك اللفظ، أو لفظ آخر في معنى آخر، مع وجود تلك العلاقة كالقرية تستعمل في أهلها نحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي: أهلها، والعلاقة المحلية، مع [عدم](3) جواز استعمال البساط في أهله، مع وجود العلاقة.

(1) آخر الورقة (45 / ب من ب).

(2)

هذا من نظم قاله أهل المدينة بمناسبة قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ووصوله إليها مهاجرًا من مكة.

راجع: البداية والنهاية: 3/ 197، أما ابن القيم فقد ذكر في "زاد المعاد" 3/ 481 - 482 أن ذلك النظم قيل عندما دنا من المدينة بعد عودته من غزوة تبوك.

(3)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 101

وكالراوية تستعمل في المزادة للمجاورة، مع عدم جواز استعمال الشبكة في الصيد، مع وجود العلاقة المذكورة.

وأشار بعدم الوجوب إلى أمرين: أحدهما: وجوب الاطراد في الحقيقة.

والثاني: جواز الاطراد في بعض أفراد المجاز كالأسد للشجاع، فإنه مطرد.

والحاصل: أن عدم الاطراد دليل المجاز، والاطراد ليس دليل الحقيقة.

وأورد على الحقيقة: الفاضل، والسخي، والقارورة.

توجيه الإيراد: أن هذه الألفاظ حقائق، مع أن الفاضل، والسخي لا يطلقان على الله، والقارورة لا تطلق على غير الزجاجة.

الجواب: شرط الاطراد عدم المانع، وفي الأولين: المانع الشرعي، منع، وهو كون أسمائه توقيفية، وفي الثاني: المانع اللغوي إذ قُيِّد لدى الوضع بالزجاج.

فإن قلت: قد صرح كثير من المحققين: أن المعنى إذا كان صحيحًا لا يتوقف في إطلاق الاسم عليه تعالى، فعلى ذلك الأصل هل يصح إطلاق الفاضل، والسخي عليه تعالى؟

قلت: لا؛ لأنهم شرطوا أن لا يكون اللفظ موهمًا بالنقص، ولفظ السخي، والفاضل إنما يستعمل حيث يكون المحل قابلًا للبخل، والجهل.

ص: 102

واعترض الشيخ ابن الحاجب: بأنه يلزم الدور، لأن عدم الاطراد إنما يعلم بعدم الوضع للمعنى المستعمل فيه، فلو علم عدم الوضع بعدم الاطراد كان دورًا (1).

الجواب: لا نسلم لزوم الدور، قوله: عدم الاطراد إنما يعلم [بعدم الوضع. قلنا: ممنوع، بل يعلم بالنقل، والاستقراء.

تحقيق ذلك: أَنَّا إذا وجدنا لفظًا مستعملًا في معنى، وترددنا] (2) فيه هل هو حقيقة، أو مجاز؟ ، ثم استقرأنا، فوجدنا ذلك اللفظ لم يستعمل في شئ آخر، مع وجود المعنى: كالنخلة للإنسان الطويل، مع وجود الطول في غيره، ولم يطلق عليه، علمنا أنه مجاز.

ومنها: جمعه على خلاف جمع الحقيقة كلفظ الأمر، فإنه حقيقة في القول، ويجمع على أوامر، وإذا أطلق على الفعل مجازًا يجمع على أمور.

ومنها: التزام تقييده نحو: نار الحرب، وجناح الذل، واعلم أن مثله من قبيل الاستعارة التخيلية.

والجمهور: على أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي، وإنما المجاز في إثباته لما ليس له، خلافًا للسكاكي حيث جعل في مثله اللفظ مستعملًا في الصورة الوهمية الشبهية في معناه الأصلي (3).

(1) راجع: المختصر مع شرح العضد: 1/ 150.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

حيث قال: "والمراد بالتخييلية: أن يكون المشبه المتروك شيئًا وهميًا محضًا لا تحقق له إلَّا في مجرد الوهم" مفتاح المعلوم له: ص / 176، 178.

ص: 103

ومنها: توقفه على المسمى الآخر نحو: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50].

وهذا القسم من المجاز (1) يخص باسم المشاكلة، والعلاقة المصاحبة في الذكر، وهذا إذا لم يعتبر التشبيه، وإلا يصح إطلاقه ابتداء، فتأمل!

ومنها: استحالة الحقيقي نحو: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أي: بقدرته الكاملة (2).

واعلم: أن المختار سماع العلاقة - نوعًا - كالمجاورة، والجزئية، والكلية، فإن العرب اعتبروا هذه الأنواع (3).

وأما الأشخاص، فلا يشترط سماعها، بل ذلك مفوض إلى المتكلم، ولكن بشرط أن لا يتجاوز عن تلك الأنواع.

(1) في (ب): "ويخص".

(2)

هذا على مذهب الأشاعرة، وقد تقدم بيان ذلك عند السلف.

(3)

وهذا هو اختيار الرازي، والبيضاوي، والمصنف، والزركشي، والمحلي، والأشموني، وغيرهم، ومنهم من اكتفى بالعلاقة لا غير، ولا يشترط نقلها عن العرب، ويكفي السماع في نوع الصحة، وصححه ابن الحاجب.

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 456، وشرح العضد على المختصر: 1/ 143 - 144، وتشنيف المسامع: ق (39 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 326، وهمع الهوامع: ص / 115.

ص: 104

والآمدي: قد توقف (1) فيما إذا أطلق اسم السبب مثلًا على المسبب، هل يجوز عكسه من غير سماع، [ويقاس](2) عليه إطلاق اسم المسبب، [أم لا يكفي؟ ](3).

قوله: "المعَرَّب لفظ غيرُ عَلَمٍ استعملته العرب".

أقول: المعرب لفظ موضوع في غير لغة العرب تصرفت فيه العرب بالنقل، مع معناه من تلك اللغة، فاعتورت (4) عليه جميع أحكام لفظ العرب عَلَمًا كان، أو غيره.

والمصنف قيده بغير (5) العَلَم: لأنه [اختار](6) -كما عزاه إلى الشافعي- أنه ليس واقعًا في القرآن.

ونحو إبراهيم، وفرعون - بإطباق أهل العربية- ألفاظ عجمية، ولهذا منع منها الصرف.

(1) راجع: الإحكام له: 1/ 39 - 40.

(2)

في (ب): "ويقال" والمثبت من (أ) أولى.

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

اعتورت، أي: جاءت، ووردت عليه جميع الأحكام من تذكير، وتأنيث، ورفع، ونصبه وغير ذلك.

(5)

قال الزركشيُّ: "وقد يقال: لا حاجة لقوله: "غيرُ عَلَم"، فإن الأعلام معَرَّبة قطعًا، وإنما خرجت عن محل الخلاف بوقوعها في القرآن لإجماع النحويين على أن إبراهيم، ونحوه ممنوع من الصرف للعَلَمية، والعجمة" تشنيف المسامع: ق (39/ أ).

(6)

في (ب): "إضمار" والمثبت من (أ) هو الصواب.

ص: 105

وما عدا العَلَم، فالأكثر على عدم وقوعه في القرآن، وهو نص الشافعي في "الرسالة"(1).

والحق: أن ما يتوهم أنه معَرَّب من غير الأعلام لم يقم عليه دليل إذ يحتمل أن يكون من قبيل توافق اللغات، كالتنور، والصابون، والأصل في كلام العرب أن يكون عربيًا حتى يقوم دليل على خلافه.

وأما الاستدلال بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، فليس بقوي إذ الضمير راجع إلى السورة، لأن القرآن يطلق على الكل، والبعض حقيقة.

(1) مذهب الجمهور المنع، ونصره القاضي في "التقريب"، وابن جرير الطبري، وأبو عبيدة، وابن فارس، ومن الحنابلة الخلال، وأبو يعلى، وأبو الخطاب، وابن عقيل، والمجد، وغيرهم.

ونقل عن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، وغيرهم: أن في القرآن ألفاظًا بغير العربية: كالإستبرق، والقسطاس، والمشكاة.

ونقل عن أبي عبيد أنه قال: والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك: أن هذه الأحرف أصولها أعجمية، كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربت بألسنتها، وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية، فهو صادق، ومن قال: أعجمية فصادق.

قلت: ومن جمع بينهما فهو صادق، فرحمهم الله جميعًا ورضى عنهم.

راجع: الرسالة: ص/ 40، 45، والمعرب للجواليقى: ص / 4، والصاحبي لابن فارس: ص / 57، وجامع البيان للطبرى: 1/ 8، والمزهر: 1/ 266، ومعترك الأقران: 1/ 195، والإتقان: 2/ 105، والإحكام للآمدي: 1/ 38، والمسودة: ص / 174، وشرح العضد على المختصر: 1/ 170، والبرهان: 1/ 287، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 326، وفواتح الرحموت: 1/ 212، وهمع الهوامع: ص / 116.

ص: 106

ولئن سلمنا عوده (1) إلى المجموع يطلق العربي على ما غالبه عربي.

قيل: مجاز، فلا يصار إليه إلَّا بقرينة.

قلنا: لو سلم: معناه عربي الأسلوب.

فإن قيل: بعض تلك الأوزان خارجة عن أوزان كلام العرب.

قلنا: الحمل على الشذوذ، أولى من حمله على أنه من لغة أخرى.

قوله: "مسألة: اللفظ إما حقيقة".

أقول: كون اللفظ حقيقة تارة، ومجازًا أخرى شائع بلا نكير (2).

وأما هل يجوز أن يكون حقيقة، ومجازًا معًا؟ ففيه تفصيل؛ لأنه إما أن يكون بوضعين، كالدابة إذا استعمل في الفرس حقيقة عرفية، ومجازًا لغويًا.

وإما أن يكون بوضع واحد، وهذا محال، إذ يلزم النفي والإثبات من جهة واحدة، لعدم تعدد الجهة، فتأمل!

وقد علمت سابقًا: أن اللفظ قبل الاستعمال لا يوصف بالحقيقة والمجاز: لأن الاستعمال قيد فيهما (3).

(1) آخر الورقة (44/ ب من أ).

(2)

قال شيخ الإسلام: "وهذا التقسيم حادث بعد القرون الثلاثة". مجموع الفتاوى: 20/ 404، يعني تقسيم اللفظ إلى: حقيقة ومجاز.

(3)

آخر الورقة (46/ ب من ب)، وجاء في نهايتها على الهامش:(بلغ مقابلة على خط مؤلفه والله الموفق).

وراجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 327، وهمع الهوامع: ص/ 116 - 117.

ص: 107

قوله: "ثم هو محمول على عرف المخاطب".

أقول: اللفظ الوارد في كلام الشارع إن دل بمنطوقه على معنى شرعي، فلا يعدل عنه: لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الأحكام الشرعية.

وإن لم يكن له معنى شرعي يتعين الحمل على العرفي: لأنه كثيرًا ما يحال الحكم الشرعي على العرف عند انتفاء النص، فإن لم يكن له معنى عرفي يحمل على الحقيقة لغة، وإلا، فعلى المجازي (1).

واعلم: أن الترتيب المذكور إنما يراعى عند عدم الصارف.

وأما إذا وجد الصارف يعدل عن الأصل المذكور.

ومن قال (2): "هذا الترتيب إنما هو عند استعمال الشرعي، والعرفي إلى حد يسبق إلى الذهن أحدهما دون اللغوي.

فأما إذا لم يفهم أحدهما إلَّا بقرينة، صار مشتركًا بين المفهومين" (3).

فلا يلتفت إليه، لأن المنطوق إذا دل على المعنى الشرعي لا يجوز العدول عنه كيف كان.

فإن قلت: تقييد المصنف بالعرف العام، هل له فائدة؟

(1) راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 577، والإبهاج: 1/ 364.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "الزركشي".

(3)

راجع: تشنيف المسامع: ق (39/ ب).

ص: 108

قلت: لا، بل حذفه أولى ليشمل العرف الخاص (1)، لكن ينبغي أن يعلم أن العرف العام، يقدم على العرف الخاص.

قال الإمام - في "المحصول" -: "فإن خاطب الله تعالى طائفتين بخطاب هو حقيقة في شئ عند إحداهما، وعند الأخرى في شئ آخر، وجب أن يحمل كلّ منهما على ما يتعارفه، وإلا يلزم أن يكون قد خاطب الله بما ليس بظاهر بدون القرينة"(2).

هذا الذي ذكرناه هو المختار عند الجمهور، وخالف الإمام الغزالي، والآمدي في النفي، أي: ما ذكر من الترتيب إنما هو في الإثبات.

وإذا كان الكلام مشتملًا على معنى النفي سواء كان فيه حرف النفي، أو معناه كقوله صلى الله عليه وسلم:"دعي الصلاة أيام أقرائك".

فعند الإمام مجمل، وعند الآمدي يعدل إلى اللغة لتعذر الشرعي (3).

قال الإمام الغزالي - في "المستصفى" -: "قوله: "لا تصوموا يوم النحر" إن حمل على الشرعي دل على انعقاده، إذ لولا إمكانه لما قيل: لا تفعل، إذ لا يقال - للأعمى -: لا تبصر"(4).

(1) راجع: الآيات البينات: 2/ 154، فقد رد اعتراض الشارح على المصنف، وبين مراد المصنف من كلامه المذكور، وسلامة ما قاله.

(2)

المحصول: 1/ ق / 1/ 577، وجاء في هامش (أ، ب): "إنما أورد كلام الإمام ليعلم أن العرف الخاص معتبر".

(3)

راجع: المستصفى: 1/ 358 - 359، والإحكام: 2/ 176.

(4)

المستصفى: 1/ 359.

ص: 109

وهذا الاستدلال منه ضعيف، إذ لا يشك أحد في أن قوله:"لا تصوموا يوم النحر" المنهي عنه هو الصوم الشرعي الذي هو عبارة عن الإمساك من طلوع الفجر إلى الغروب. وكذا في قوله: "دعي الصلاة أيام أقرائك" المنهي عنه هي الصلاة الشرعية.

قوله: "وفي تعارض المجاز والحقيقة المرجوحة".

أقول: إذا صارت الحقيقة مهجورة بأن لا يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي (1)، فالمجاز اتفاقًا، وإلا فإن لم يصر المجاز متعارفًا، أي: غالبًا في التفاهم (2)، فالعمل بالحقيقة اتفاقًا.

وإن صار متعارفًا، فالعمل بالحقيقة عند أبي حنيفة، وبالمجاز عند صاحبيه (3).

له: أن الأصل لا يترك ما أمكن، والفرض أن الحقيقة لم قجر فيجب المصير إليها.

(1) كما في الدابة، فإنه في اللغة لكل ما يدب، ثم نقل في العرف لذوات الأربع، وكثر حتى صار حقيقة عرفية، وصار الوضع الأول مجازًا بالنسبة إلى العرف لقلة استعماله.

(2)

بأن لا توجد قرينة تدل عليه كما لو قيل: رأيت أسدًا.

(3)

كما لو حلف لا يشرب من هذا النهر، فهو حقيقة في الكرع منه بفيه كما هي عادة الرِّعاء، والمجاز الغالب هو الشرب بما يغترف به منه كالإناء، فهو شرب منه بفيه حنث عند الإمام تقديمًا للحقيقة، وعلى مذهب صاحبيه لا يحنث إلَّا إذا اغترف منه بالإناء بناء على تقديم المجاز.

راجع: شرح تنقيح الفصول: ص / 119 - 121، وكشف الأسرار: 2/ 87، وفواتح الرحموت: 1/ 220، والقواعد لابن اللحام: ص / 122.

ص: 110

لهما: أن العبرة بالراجح، فلا يجوز العدول إلى المرجوح.

والمختار - عند الشافعي -: أن مثله مجمل (1)، وإليه أشار المصنف بقوله:"ثالثها: المختار مجمل"، والبيضاوي بقوله:"وإن غلب تساويا"(2) ومَثَّلَه بالطلاق، فإنه في اللغة: لإزالة القيد مطلقًا، وفي عرف الشرع: غلب على رفع النِّكَاح.

ثم وجه التساوي: أن كلًّا من المجاز، والحقيقة راجح من وجه ومرجوح من وجه.

بيان ذلك: أن الحقيقة - من حيث إن اللفظ موضوع للمعنى الحقيقي - راجحة، ومن حيث الاستعمال مرجوحة، والمجاز بالعكس، فتساويا.

فإن قلت: [إذا كان الأمر على ما ذكرت ينبغي أن لا يقع الطلاق إلَّا بالنية، مع أنه صريح عند القائل بالتساوي.

قلت: ] (3) لما تساويا حمل على المعنيين، كما في الاشتراك، فيقع به الطلاق، ولأنه في الأصل لرفع القيد مطلقًا، وفي المجاز لرفع القيد الخاص، فعلى أي معنى حمل يقع.

(1) راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 585، وتشنيف المسامع: ق (39 / ب - 40 / أ)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 331، وهمع الهوامع: ص / 118.

(2)

الإبهاج: 1/ 315.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 111

أما على الثاني، فراجح، وأما على الأول: فلأنه إذا رفع القيد مطلقًا أي قيد كان، فقد رفع القيد الخاص، وهو النِّكَاح.

قوله: "وثبوت حكم يمكن كونه مرادًا من خطاب، لكن مجازًا لا يدلُّ على أنه المراد منه، بل يبقى الخطاب على حقيقته".

أقول: إذا ورد من الشارع لفظ له معنى مجازي كاللمس مثلًا في قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، والمائدة: 6] إذ معناه المجازي هو الجماع.

وقد ثبت أن المجامع يجب عليه التيمم لفقد الماء [فهل وجوب التيمم المذكور - بعد اللمس - يدلُّ على أن المراد معناه المجازي لوجوب التيمم على المجامع عند فقد الماء، أم لا يدلُّ؟ ](1).

اختيار المصنف - وهو الصواب -: أنه لا يدلُّ (2): لأن ثبوت الحكم المذكور لم ينحصر طريقه في حمل اللفظ على المجاز لجواز استناد ذلك الحكم إلى دليل آخر من نص، أو إجماع، أو قياس، وذِكْرُ التيمم، مع اللفظ لا يصلح قرينة صارفة، وهو ظاهر، وكأنه منشأُ وَهْمِ الخصم،

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

وهذا هو مذهب الجمهور. وذهب الكرخي من الحنفية، وأبو عبد الله البصري من المعتزلة إلى أنه يدلُّ، وأن المراد من اللمس معناه المجازي لوجوب التيمم على المجامع عند فقد الماء.

راجع: المحصول: 1 /ق /1/ 587 - 588، وتشنيف المسامع: ق (40/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 332، وهمع الهوامع: ص/119.

ص: 112

وإلا فأي ملازمة بين ثبوت وجوب التيمم، وبين كون اللمس في الآية محمولًا على معناه المجازي؟

هذا على طريق البحث والمناظرة، وإلا فلا إلزام على الشافعي رضي الله عنه، وإن حمل على المجازي لجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز عنده، فاللمس عنده محمول على المعنيين.

قوله: "الكناية لفظ استعمل في معناه مرادًا منه لازم المعنى".

أقول: لما كان مدار الحقيقة والمجاز، هو الاستعمال - لا الدلالة والإرادة - حكم المصنف: بأن الكناية لفظ مستعمل في المعنى الموضوع له مرادًا من ذلك الاستعمال لازم معنى الموضوع له، فتكون الكناية (1) من قبيل الحقيقة: لأن الاستعمال إنما هو في الموضوع له، وإن أريد غيره.

(1) الكناية - لغة -: مصدر كنيتُ بكذا عن كذا، وكنوت إذا تركت التصريح به، وجمهور البيانيين أَنَّها حقيقة لاستعمال اللفظ في معناه، وإن أريد منه اللازم. وذهب البعض إلى أَنَّها مجاز، وهو مقتضى قول صاحب الكشاف.

وذهب القزويني، والجرجاني إلى أَنَّها قسم ثالث، وليست مجازًا، ولا حقيقة، والمصنف تابع والده في انقسامها إلى حقيقة، ومجاز.

راجع: الإيضاح: 2/ 456، والتلخيص: ص / 337، 346، ومفتاح المعلوم: ص / 189، والصاحبي: ص / 260، والكشاف: 1/ 226، والطراز: 1/ 364، ومعترك الأقران: 1/ 266، والبرهان: 2/ 300، والإشارة إلى الإيجاز: ص / 85، وجواهر البلاغة: ص / 445، وكشف الأسرار: 1/ 66، وفواتح الرحموت: 1/ 226، والفوائد المشوق: ص / 126، وتشنيف المسامع: ق (40/ أ)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 333، وهمع الهوامع: ص/ 119.

ص: 113

الثاني: أن المشهور أن الفرق بين المجاز والكناية إنما هو بأن الانتقال في المجاز من الملزوم إلى اللازم، وفي الكناية من اللازم إلى الملزوم، عليه أطبق المحققون، وكلام (1) المصنف يخالفه صريحًا.

فإن قلت: قولهم: إن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم غير سديد: لأن اللازم قد يكون أعم كالتنفس للإنسان، فلا ينتقل منه إذ لا دلالة للعام على الخاص بوجه.

قلت: اللازم المذكور - في تعريف الكناية - ليس اللازم بالمعنى المذكور في المعلوم العقلية، بل بمعنى التابع، والرديف كطول النجاد، فإنه تابع لطول القامة عرفًا، ولكن شرط ذلك التابع أن يكون مساويًا للمتبوع، أو أخص، وإلا لا ينتقل منه الذهن إلى المتبوع.

والحاصل: أن هذا اللازم الذي هو بمعنى التابع، والرديف لا يطلق، ويراد به المتبوع إلَّا بعد كونه ملزومًا، لكن أي لزوم كان عقلًا، أو عرفًا، أو عادة، ويمكن أن يحمل كلام المصنف على هذا، ويسقط عنه السؤال الأول لكن خلاف الاصطلاح.

قال صاحب المفتاح (2): "مبني الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم، ومبني المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم"(3).

(1) آخر الورقة (45/ ب من أ).

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "إنما أورد كلام المفتاح ليعلم أن كلام المصنف بخلاف الاصطلاح".

(3)

مفتاح المعلوم للسكاكي: ص / 190.

ص: 114

فإن قلت: فالكناية من أي قبيل، حقيقة هي، أم مجاز، أم لا حقيقة، ولا مجاز؟

قلت: الجمهور على أنها من الحقيقة، أي: قسم منها.

قال صاحب المفتاح - في آخر بحث الكناية -: "اللفظ إذا استعمل، فإما أن يراد معناه، وهو الحقيقة، أو يراد غير معناه، وهو المجاز، أو يراد معناه وغير معناه، وهو الكناية"(1).

وعلى هذا يكون اللفظ مستعملًا في كلّ من المعنيين، فيدخل في الحقيقة لصدق تعريف الحقيقة على الكناية: لأن اللفظ مستعمل فيما وضع له، فيكون كلّ من المعنيين غرضًا أصليًا، وإن كان أحد جزئي الغرض الأصلي - وهو المعنى الموضوع له - وسيلة إلى الجزء الآخر، أعني: المعنى المكنى عنه، وهو طول القامة في قولنا: زيد طويل النجاد.

وأُورد على هذا التقرير: بأن الكناية قد توجد بدون المعنى الحقيقي كقولنا - لمن لا نجاد له -: فلان طويل النجاد، كناية عن طول قامته (2)، فلا حقيقة في هذه الكناية، ولما أجاب عنه بعض الأفاضل: بأنه لا بد في الكناية من تصوير المعنى الموضوع له - لينتقل الذهن إلى المكني عنه، فيكون الموضوع له مقصودًا في الكناية من حيث

(1) نفس المرجع: ص/95.

(2)

آخر الورقة (47/ ب من ب).

ص: 115

التصوير، وإن لم يكن مقصودًا تصديقًا - رد أفضل المتأخرين (1): بأن المجاز - أيضًا - كذلك إذ لا يمكن الانتقال هناك - أيضًا - بدون تصوير الملزوم، فالقول بذلك في أحدهما دون الآخر تحكم.

واختار أن الأولى أن يقال: بجواز إرادة المعنى الموضوع له في الكناية دون المجاز إذ لا بد فيه من قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له، وعلى هذا تكون الكناية قسمًا ثالثًا لا تدخل في المجاز، ولا في الحقيقة.

قوله: "والتعريض: لفظ استعمل في معناه ليُلوَّح بغيره".

أقول: التعريض: هو اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي، ولا المجاز، بل يفهم المعنى من جانب اللفظ.

والعُرض - بالضم - هو الجانب، كذا ذكره ابن الأثير (2) في "المثل السائر"(3).

(1) جاء في هامش (أ، ب): "الشريف قدس الله روحه".

(2)

هو نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد، الشيباني، الجزري، ضياء الدين، أبو الفتح كنيةً، انتهت إليه كتابة الإنشاء، والترسل أديب، كاتب من الوزراء له مؤلفات: منها المثل السائر في أدب الكاتب، والشاعر، والمعاني المخترعة في صناعة الإنشاء، وكنز البلاغة، وديوان رسائل، والوشي المرقوم في حل المنظوم، وتوفي ببغداد سنة (637 هـ).

راجع: مختصر دول الإسلام: 2/ 19، مرآة الجنان: 4/ 97، وفيات الأعيان: 2/ 208، وبغية الوعاة: ص / 404، وشذرات الذهب: 5/ 188.

(3)

راجع: المثل السائر له: 3/ 75.

ص: 116

ولما لم يستعمل اللفظ في المعنى المعرض به كأنه وقع اللفظ منحرفًا عنه، فكل منهما في جانب، بخلاف ما إذا استعمل فيه حقيقة أو مجازًا، فإنه يكون المعنى تلقاء اللفظ، وتجاهه.

وإذا علم: أن اللفظ ليس مستعملًا في المعنى المعرض به، وإنما يؤخذ المعنى من السياق، فيجوز أن يوجد التعريض، مع كلّ من الكناية، والمجاز، والحقيقة، كما لا يخفى (1).

ولنذكر مثالًا يقاس عليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"(2)، المعنى الأصلي: انحصار الإسلام، فيمن سلم المسلمون من لسانه، ويده. والمعنى المكني عنه - الذي هو المقصود من الحديث - هو انتفاء الإسلام عن المؤذي مطلقًا. والمعنى المعرض - الذي هو المقصود من الكلام سياقًا - هو نفى الإسلام عن المؤذي المعين (3).

فتحرر: أن المجاز، والحقيقة، والكناية، إذا كان واحد منها مقصودًا من الكلام استعمالًا، لا ينافي أن يكون التعريض مقصودًا سياقًا.

(1) راجع: المصباح المنير: 2/ 403، والبرهان: 2/ 311، والطراز: 1/ 380، والفوائد المشوق: ص / 133، وتشنيف المسامع: ق (40/ ب)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 333، وهمع الهوامع: ص/ 120.

(2)

راجع: صحيح البخاري: 1/ 11، وصحيح مسلم: 1/ 48.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "كما إذا كان بجانبك شخص معين يؤذى المسلمين، قلت: المسلم من سلم، إلى آخر الحديث".

ص: 117

وقول المصنف: "فهو - أي: التعريض - حقيقة أبدًا". تقييده بالأبد حشو: إذ مقصوده الاحتراز عن الكناية على ما صُرح به في بعض شروحه (1).

والكناية لم [يقل](2) أحد: بأنها حقيقة في وقت دون وقت (3) حتى يحترز عنها، بل هي - دائمًا - حقيقة على ما هو المشهور، أو واسطة بين المجاز، والحقيقة على ما تقدم تحقيقه.

ولو قال: حقيقة من كلّ وجه، لكان له وجه، كما لا يخفى.

(1) صرح بذلك الجلال المحلي في شرحه: 1/ 335.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

قلت: هذا النفي من الشارح غير مسلم له رحمه الله، إذ قد قدمتُ في صدر المسألة: أن والد المصنف ذهب إلى أنها قد تكون حقيقة، وقد تكون مجازًا وتبعه المصنف، ولذلك قال الإمام السيوطي:"وقال السبكى - في كتابه الإغريض - في الفرق بين الكناية، والتعريض -: الكناية لفظ استعمل في معناه مرادًا منه لازم معناه، فهي بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوز في إرادة إفادة ما لم يوضع له، وقد لا يراد منها المعني، بل يعبر بالملزوم عن اللازم، وهي حينئذ مجاز، ومن أمثلته: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81]، فإنه لم يقصد إفادة ذلك لأنه معلوم، بل إفادة لازمه، وهو أنهم يردونها، ويجدون حرها إن لم يجاهدوا". الإتقان في علوم القرآن: 3/ 147، وانظر الآيات البينات: 2/ 167. مع أن قول الشارح رحمه الله: "بل هي حقيقة دائما على ما هو المشهور". يتناقض، مع قوله:"والكناية لم يقل أحد بأنها حقيقة في وقت دون آخر". إذ القول المشهور يقابله قول غير مشهور، فليتأمل ذلك!

ص: 118

قوله: "الحروف".

أقول: ترك المصنف تعريف الحرف: إما لأنه معلوم في كتب النحو، أو لأن في تعريفه إشكالًا.

ونحن نذكر تعريفه، وما عليه من الإشكال، مع الجواب، ونزيد عليه أبحاثًا شريفة إن شاء الله تعالى.

فنقول: عرض بعض النحاة الحرف بأنه: لفظ لا يدلُّ على معنى في نفسه، وبعضهم بأنه: لفظ يدلُّ على معنى في غيره، وبعضهم بأنه: لفظ [لا يستقل](1) بالمفهومية، وهي متقاربة (2).

فذهب الجمهور: إلى أن معنى هذه العبارة: هو أن الفعل، والاسم، والحرف لا يفيد المعنى [التركيبي](3) إلَّا بذكر المتعلق (4)، وأما المعنى

(1) في (أ): "لا يستعمل"، والمثبت من (ب) أولى.

(2)

المراد بالحروف هنا حروف المعاني التي توصل معاني الأفعال إلى الأسماء وهي التي يحتاج إلى معرفتها الفقيه، ثم ذكر معها كثيرًا من الأسماء لكثرة تداولها وأطلق على الجميع حروفًا تغليبًا، أو لأنها أجزاء الكلام.

راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 8/ 2، وشرح الكافية: 1/ 118، وشرح ابن عقيل: 1/ 24، وأوضح المسالك: 1/ 20، وقطر الندى: ص / 36، وحاشية التفتازاني على المختصر: 1/ 185، والتعريفات: ص / 84، والبرهان: 1/ 184، وتشنيف المسامع: ق (40 / ب)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 335، وهمع الهوامع: ص / 120، ومنتهى الوصول: ص / 26.

(3)

سقط من (ب)، وأثبت بهامشها.

(4)

راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 1/ 20، وأوضح المسالك: 1/ 11، وشرح ابن عقيل: 1/ 14، وقطر الندى: ص / 44.

ص: 119

الإفرادي، فالفعل، والاسم يستقلان بإفادته دون الحرف، إذ لفظة "من"، مثلًا: لا تدل على معنى بدون ذكر البصرة (1)، والكوفة (2)، مثلًا.

ولما توجه السؤال: بأن كثيرًا من الأسماء كذلك مثل: ذو، وفوق، [وعلى](3)، وعن، والكاف، اسمين، فإنه لا فائدة فيها بدون ذكر المتعلق.

أجابوا: بأن اشتراط ذكر المتعلق في الحرف إنما هو بحسب الوضع، وأما في الأسماء المذكورة، ونظائرها، إنما هو بحسب اتفاق الاستعمال.

ولمَّا لاح - على هذا الكلام - آثار الضعف - إذ الاشتراط في أحدهما وضعًا، والآخر استعمالًا تحكم لا يشهد لصحته عقل، ولا نقل - عدل عنه بعض المحققين (4) تقصيًا عن الإشكال المذكور، قال: "وضع اللفظ للمعنى قد يكون بخصوص اللفظ لخصوص المعني، كما في الأعلام، وقد

(1) هما بصرتان: العظمى، وهي المشهورة بالعراق سميت بذلك: لأن أرضها فيها الحجارة الرخوة تضرب إلى البياض، وأما البصرة الأخرى فهي بالمغرب في أقصاه.

راجع: معجم البلدان: 1/ 430، ومعجم ما استعجم: 1/ 254، ومراصد الاطلاع: 1/ 201.

(2)

الكوفة - بالضم - المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق سميت بذلك لاستدارتها، أو لاجتماع الناس بها، أو بموضعها من الأرض إذ كلّ رملة يخالطها حصى تُسمى كوفة.

راجع: معجم ما استعجم: 4/ 1141، ومراصد الاطلاع: 3/ 1187.

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "المولى المحقق عضد الملة والدين هـ".

وراجع: شرحه على المختصر: 1/ 189.

ص: 120

يكون بخصوص اللفظ لعموم المعني، كاللفظ الموضوع للمعنى الكلي نحو: رجل، وفرس، حتى إذا أطلق لفظ رجل على زيد بخصوصه يكون مجازًا.

وأما إذا أطلق من حيث عمومه، وأن زيدًا مما صدقات ذلك المعنى العام يكون حقيقة".

وقد يكون اللفظ خاصًا، والمعنى كذلك، والوضع يكون عامًا، مثل: أسماء الإشارة وضمير الخاطب، والتكلم، والموصول، فيكون الوضع عامًا، واللفظ، والمعنى خاصين.

مثاله: لفظة "هذا" وضعت لكل مشار إليه منفردًا عن الآخر، بمعنى أنه لوحظ كلّ فرد لدى الوضع بخصوصه تحت مفهوم المشار إليه الكلي، فهذا المفهوم الكلي ليس موضوعًا له، كما في رجل، وفرس، بل هو الأمر الذي صار لأجله الوضع عامًا، فالموضوع له هو تلك الخصوصيات، التي تقع، مشارًا إليها.

إذا تقرر هذا. فنقول: الحرف من هذا القبيل: لأن لفظة "من" مثلًا، إنما وضعت لكل ابتداء بخصوصه: لأن لفظة "من" لو كان معناها الابتداء مطلقًا كانت اسمًا، لا حرفًا، فهي موضوعة لكل ابتداء (1) خاص على ما ذكرنا.

والابتداء - سواء كان في الذهن، أو في الخارج - لا يعقل بدون متعلقه: لأن الابتداء نسبة من النسب، فلا يتعين بدون المنسوب إليه، فلا بد في دلالة "من" على معناه من ملاحظة متعلقه ضرورة، بخلاف الاسم،

(1) آخر الورقة (46 /ب من أ).

ص: 121

والفعل؛ لأن الاسم قد يكون المراد به الذات نحو رجل، وفرس، وقد يكون للنسبة مطلقًا كلفظ الابتداء، والانتهاء، وقد يكون للذات باعتبار النسبة نحو ذو، وفوق. والفعل يدُل على نسبة الحدوث إلى موضوع ما.

فلفظ "عن"، و "الكاف"، إذا أريد بهما تجاوز، وتشبيه مطلقًا من غير نظر إلى خصوصية، فهما اسمان، وإن أريدا بخصوصهما، فهما حرفان، ويعلم ذلك بالقرائن، كما في سائر الألفاظ المشتركة، فتأمل!

قوله: "أحدها: إذن".

أقول: من الحروف - الذي يتداولها الأصوليون - إذن (1)، وهي تكون جوابًا، وجزاء، كما إذا قال لك صاحبك: لأزورنك، قلت له: إذن أكرمك، فقد أجبته، وجعلت ما بعده جزاء لزيارته.

(1) ذهب الجمهور إلى أن إذن، حرف ناصب بسيط غير مركب من إذ، وأن، وقيل: إنها اسم، والأصل في إذن أكرمك، إذا جئتنى أكرمك، ثم حذفت الجملة، وعوض التنوين عنها، وأضمرت أن، أما عند الوقف عليها تبدل نونها ألفًا عند الأكثر تشبيهًا لها بتنوين المنصوب، وروي عن المازني، والمبرد الوقف بالنون: لأنَّها كنون لن، وإن، ونتج عن ذلك الخلاف في كتابتها، فالجمهور يكتبونها بالألف، وكذا رسمت بالمصاحف، وذهب المازني، والمبرد إلى أنَّها تكتب بالنون، وذهب الفراء، وتبعه آخرون إلى أنَّها إن عملت، كتبت بالألف، وإن لم تعمل كتبت بالنون للفرق بينها، وبين إذا، وهي تنصب المضارع بشرط تصديرها، واستقباله، واتصالهما، أو انفصالهما بالقسم، أو بلا النافية، وأجاز ابن عصفور الفصل بالظرف، وأجاز الكسائي وهشام بن معاوية الفصل بمعمول الفعل، لكن الأول رجح النصب، والثاني رجح الرفع، وأجاز بعض آخر الفصل بالنداء، والدعاء. =

ص: 122

هذا كلام سيبويه (1)، فجعله بعض النحاة كليًا حيث وقع، وأول ما لم يكن من ذلك ظاهرًا متى دخل في القاعدة الكلية، وجعله بعضهم أكثريًّا، وقد أشار إليه المصنف في المتن (2)، وهي ظاهرة في سبقية ما قبلها لما بعدها، به صرح كثير من النحاة.

الثاني - من الحروف المتداولة -: إنْ بالكسر، ومعناه الشرط نحو:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، والأصل في استعمالها الشك، وعدم الوثوق بوقوع الشرط نحو:{إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

وقد يُنَزَّل المحقق منزلة المشكوك فيه، فيستعمل فيه "أن" لنكتة نحو:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]، وهي أن صدور الإسراف عن العارف باقتدار الله سبحانه، وشدة ما أعده للمسرفين، ينبغى أن يكون على سبيل الندرة والشك.

وقد تأتي للنفي، وهي نظيرة "ما"، في النفي الحالي نحو:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40].

= راجع: الجنى الداني: ص / 367، ورصف المباني: ص / 62، والصاحبي: ص / 141، وشرح جمل الزحاج: 2/ 170، ومغني اللبيب: ص / 30 - 32، وأوضح المسالك: 3/ 169، والإتقان: 2/ 152، والمقتضب: 2/ 10، ومعجم الأدوات النحوية: ص / 9 - 10.

(1)

راجع: الكتاب له: 1/ 481.

(2)

ذكر المصنف بأن الشَّلَوْبِين جعل كلام سيبويه كليًّا، وأبا على الفارسي جعله أكثريًا وقد تتمخض للجواب عنده.

ص: 123

وقد تأتي زائدة نحو: ما إن زيد قائم، ومعنى زيادتها: أَنها إذا حذفت لم يختل أصل المعني، لا أن لا فائدة لها أصلًا، إذ تفيد التأكيد قطعًا.

وكذلك جميع ما يقع في القرآن الكريم، والأحاديث مما يطلق عليه باصطلاح النحاة لفظ الزيادة من هذا القبيل، فليكن على خاطرك (1).

الثالث - من تلك الحروف -: أو، للشك نحو:{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون: 113].

وتأتي للإبهام على السامع كقولك لصاحبك: لأعطينك هذا، أو ذاك، وأنت مضمر لأحدهما، معينًا.

وتقع للتخيير نحو: جالس العلماء، أو الأشراف.

وبمعنى الواو كما في بيت النابغة (2):

ألا ليتما هذا الحمامُ لنا

إلى حمامتنا أو نصفُه فقدِ (3)

(1) راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 8/ 112، ومغني اللبيب: ص / 33، والإتقان: 2/ 167، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 336، وهمع الهوامع: ص / 121.

(2)

هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري شاعر جاهلي من أهل الحجاز، كانت تضرب له قبة من جلد أحمر بسوق عكاظ، فتقصده الشعراء لعرض أشعارها عليه، وله شعر كثير، جمع بعضه في ديوان صغير، ويعتبر من فحول الطبقة الأولى، وتوفي حوالى (18 قبل الهجرة).

راجع: الأغاني: 11/ 3 - 41، والعمدة لابن رشيق: 1/ 19، ومعجم الشعراء: ص / 191، ومقدمة ديوانه: ص / 5 - 8.

(3)

أول البيت: قالت

إلخ، وهي من قصيدة مطلعها: يا دارمية بالعلياء، فالسند إلخ.

راجع: ديوانه: ص/ 30 - 35، وشرح أبيات سيبويه: 1/ 26 - 27.

ص: 124

على ما أنشده قطرب (1)، واستحسنه ابن جني لمجيء الواو صريحًا في بعض روايات البيت (2).

وللتنويع، والتقسيم: كما في قولهم - في حد الحكم -: بالاقتضاء، أو التخيير كما سبق، وعليه حمل الشافعي رضى الله عنه قوله تعالى:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33](3).

(1) هو محمد بن المستنير بن أحمد أبو علي النحوي اللغوي البصري تلميذ سيبويه له مؤلفات منها: معاني القرآن، وإعراب القرآن، وغريب القرآن، والاشتقاق، والأمثال، وغيرها وتوفي سنة (216 هـ) وقيل غير ذلك.

راجع: طبقات النحويين للزبيدي: ص / 167، والمعارف: ص / 543، ووفيات الأعيان: 2/ 344، وإنباه الرواة: 2/ 197، وطبقات المفسرين: 1/ 354، ونور القبس: ص / 125.

(2)

راجع: الخصائص لابن جني: 2/ 460.

(3)

ومعنى حمل الإمام الشافعي "أو" في الآية على أَنها للتقسيم، والتنويع أن قطاع الطُّرق تتنوع عقوباتهم بحسب ما ارتكبوه، فإذا قَتَلُوا، وأخذوا المال قُتِلُوا، وصُلِّبُوا، وإذا قَتَلُوا، ولم يأخذوا المال قُتِلُوا، ولم يُصَلَّبوا، وإذا أخذوا المال، ولم يَقْتُلُوا قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالًا نُفوا من الأَرض، وهذا هو مذهب ابن عباس، والحسن، وقتادة، وجماعة.

وذهب سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي وغيرهم إلى أنها على التخيير، وفي المسألة أقوال أخرى.

راجع: الأم: 6/ 139، وشرح فتح القدير: 6/ 99، والمدونة الكبرى: 6/ 298، وأحكام القرآن لابن العربي: 2/ 599، والمغني للموفق: 8/ 289.

ص: 125

وبمعنى إلى نحو: لألزمنك، أو تعطيني حقي. وقيل: بمعنى إلَّا، أي: إلَّا أن تعطيني، فلا ألزمنك.

وللإضراب نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ (1) أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أي: بل يزيدون.

وما نقله عن الحريري (2): من أن "أو"، قد تأتي للتقريب نحو: ما أدري أسَلَّم، أو وَدَّع، فهو راجع إلى الشك، لكن لا حقيقة، بل تجاهلًا (3).

(1) آخر الورقة (48 / ب من ب).

(2)

هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان أبو محمد الحريرى البصرى صاحب المقامات المشهورة، أحد أئمة الأدب، واللغة، ولم يكن له في فنه نظير في عصره، فاق أهل زمانه بالذكاء، والفصاحة، وكان غنيًا كثير المال، وله مؤلفات منها: المقامات، وملحة الإعراب مع شرحها، وديوان شعر، ورسائل أخر، وتوفي سنة (516 هـ) وقيل غير ذلك.

راجع: وفيات الأعيان: 3/ 227، ومرآة الجنان: 3/ 213، وطبقات السبكى: 7/ 266، وإنباه الرواة: 3/ 23، والنجوم الزاهرة: 5/ 225، وشذرات الذهب: 4/ 50.

(3)

راجع معاني أو: تأويل مشكل القرآن: ص / 543، والكتاب؛ 1/ 499، 567 - 569، والجنى الداني: ص / 227، ورصف المباني: ص / 131، والصاحبي: ص / 127، والأزهية: ص / 115، ومغني اللبيب: ص / 87، والإتقان: 2/ 175، ومعترك الأقران: 1/ 612، وكشف الأسرار: 2/ 143، وشرح تنقيح الفصول: ص / 105، وفواتح الرحموت: 1/ 238، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 336، وتشنيف المسامع: ق (41 / أ).

ص: 126

الرابع: أيْ، بسكون الياء للتفسير نحو: قدم، أي: تقدم، من قدم بمعنى تقدم لغة فيه، وقد عده صاحب المفتاح من حروف العطف (1)، وهي من حروف النداء عند جمهور النحاة (2).

واختلف فيها، فقيل: للقريب، وعليه الأكثر، وقيل: للبعيد، وقيل: للمتوسط (3).

قوله: "وبالتشديد للشرط".

أقول: ألحَقَ بحث أيّ المشددة، بأيْ المخففة، وإن كانت الأولى حرفًا، وهذه اسمًا للمناسبة الصورية.

والمشددة تارة: تكون شرطًا نحو: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].

واستفهامًا نحو: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124].

وموصولة نحو: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69]، وهي مبنية، موصولة حذف صدر صلتها، كما في الآية المذكورة (4).

(1) راجع: مفتاح العلوم: ص / 57.

(2)

راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 8/ 118، ومغني اللبيب: ص / 106، وشرح ابن عقيل: 2/ 255، وأوضح المسالك: 3/ 70، ومعجم الأدوات النحوية: ص / 38.

(3)

راجع: المصادر السابقة، وتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد: ص / 179، وهمع الهوامع: ص / 122.

(4)

وهي في الأوجه الثلاثة مُعْرَبة غير أَنها في الوجه الثالث تبنى على الضم إذا حذف =

ص: 127

ودالة على معنى الكمال نحو: رأيت زيدًا عالمًا، أيّ عالم، أيْ (1) كاملًا في علمه.

وتقع حالًا عن المعرفة بالمعنى المذكور نحو: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41، 67]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104، 183].

ومن الأسماء المتداولة بين الأصوليين تداول الحروف المذكورة "إذ" وهي موضوعة للظرفية في الزمان الماضي.

ولو ذكر المصنف الحروف على نسق واحد، ثم أردفها بالأسماء كان أولى من إيرادها مختلطة.

وتكون اسمًا مجردًا نحو: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] لكونه مفعولًا به ظاهرًا.

= عائدها، وأضيفت كما في الآية المذكورة، وأعربها الأخفش، وغيره في هذه الحالة أيضًا، وخُرِّج عليه قراءة بعضهم بالنصب، وأول قراءة الضم على الحكاية، وأولها غيره على التعليق للفعل، وأولها الزمخشرى على أنها خبر مبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: لننزعن بعض كلّ شيعة، فكأنه قيل: من هذا البعض، فقيل: هو الذي أشد.

راجع: المقتضب: 2/ 296، والكشاف: 2/ 520، ومغي اللبيب: ص / 107، والإتقان: 2/ 180، ومعجم الأدوات النحوية: ص / 40.

(1)

وتعرب صفة للنكرة، كما أَنها تضاف إلى نكرة كما في المثال المذكور.

ص: 128

وبدلًا من المفعول به نحو: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20].

وقد يضاف إليها اسم يدلُّ على الزمان نحو: يومئذ، وحينئذ.

وتجئ للاستقبال عند بعض النحاة، وهو مختار المصنف نحو:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 70، 71]، وقوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4].

وأجاب الجمهور: بأن هذا ليس ناشئًا من لفظ إذ، بل لكونه واقعًا في كلام من صدقه مقطوع به، والمستقبل في كلامه بمنزلة الماضي.

وتستعمل تعليلًا نحو: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39]، وقولِه:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].

واختلف في كونها حرفًا حينئذ، أو ظرفًا، الأول مروي عن سيبويه، وقيل: ظرف، والتعليل مستفاد من قوة الكلام لا من اللفظ، وهذا كلام باطل لا وجه له إذ لا معنى [لإذ](1) سوى التعليل في بعض المواطن، فالقول بأن التعليل ليس مستفادًا عنه، قول يأباه الطبع السليم.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 129

وترد للمفاجأة -بعد بينا، وبينما- نحو: فبينما العسر إذا دارت مياسير (1) فهي حرف حينئذ، وهو مختار إمام النحو [سيبويه](2).

وقيل: ظرف مكان، وقيل: ظرف زمان (3).

قوله: "السابع: إذا للمفاجأة".

أقول - من تلك الكلمات المتداولة -: إذا الفجائية، ويقع المبتدأ بعدها دائمًا نحو: إذا إنه عبد القفا واللهازم (4)، ونحو قوله تعالى:{فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 20]، واختلف فيها على ثلاثة مذاهب:

(1) صدر البيت:

استقدر الله خيرًا وارضينَّ به

فبينما العسرُ إذ دارت مياسيرُ

وينسب هذا البيت لعتير بن لبيد العذري، وقيل: لنويفع بن لقيط الفقعسي، وقيل: لحريث بن جبلة، وقيل: غير ذلك.

راجع: الكتاب: 3/ 258، وعيون الأخبار: 2/ 305، وابن الشجري: 2/ 207، والمعمرين: ص / 40، وسمط اللآلئ: 2/ 800، ومغني اللبيب: ص / 115، وشرح شواهد المغني: 1/ 244، وشذور الذهب: ص / 126.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها. وراجع مختاره الكتاب: 2/ 158.

(3)

راجع معاني إذ: المقتضب: 3/ 177، والصاحبي: ص / 140، ورصف المباني: ص / 59، والبرهان: 4/ 207، ومغني اللبيب: ص / 111 - 120، ومعترك الأقران: 1/ 576، والإتقان: 2/ 144 - 147، ومعجم الأدوات النحوية: ص 13 - 14.

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "أوله: وكنت أرى زيدًا كما قيل سيدًا".

وهذا البيت من شواهد سيبويه، ولم ينسب إلى قائل معلوم قال سيبويه:"وسمعت رجلًا من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به". ثم ذكره. =

ص: 130

الأول: أَنها حرف، وهو المختار عند الأخفش، وابن مالك (1)،

ورجح بأن المفاجأة معنى من المعاني كالاستفهام، والنفي، والشرط، والأصل في المعاني أن تؤدى بالحروف.

وقيل: ظرف مكان، وإليه ذهب المبرد (2)، ومن تبعه.

وقيل: ظرف زمان، وإليه ذهب صاحب الكشاف (3)، وابن الحاجب.

= الكتاب: 3/ 144، وراجع: المقتضب: 2/ 351، وشرح المفصل لابن يعيش: 4/ 97، والأشموني: 1/ 276، وشرح الشذور: ص / 207، وخزانة الأدب: 4/ 303.

(1)

هو محمد بن عبد الله بن مالك الطائى الجياني أبو عبد الله جمال الدين أحد أئمة اللغة، ولد في جيان من الأندلس سنة (600 هـ)، وانتقل إلى دمشق، من مؤلفاته: الألفية، والكافية الشافية، ولامية الأفعال، وإيجاز التعريف، والتسهيل، وغيرها، وتوفي بدمشق سنة (672 هـ).

راجع: الوافي: 3/ 359، ووفوات الوفيات: 3/ 407، وغاية النهاية: 2/ 180، ونفح الطيب: 2/ 222، وبغية الوعاة: 1/ 130، ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 674، والأعلام: 7/ 111.

(2)

هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدى البصري أبو العباس المبرد، إمام النحو، واللغة، أشهر مؤلفاته: الكامل، والروضة، والمقتضب، ومعاني القرآن، وإعراب القرآن، والاشتقاق، وتوفي سنة (285 هـ) وقيل غير ذلك.

راجع: طبقات النحويين للزبيدي: ص / 101، ووفيات الأعيان: 3/ 441، ومعجم الأدباء: 19/ 111، وإنباه الرواة: 3/ 241، والمنتظم: 6/ 9، ونور القبس: ص 324، وطبقات المفسرين: 2/ 267، وبغية الوعاة: 1/ 269، وشذرات الذهب: 2/ 190.

(3)

راجع: المفصل مع شرحه لابن يعيش: 4/ 97.

ص: 131

وتستعمل في الاستقبال ظرفًا، مضمنًا فيه معنى الشرط نحو:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20].

أو مجردًا عن الشرط نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] لعدم الجواب.

واعلم أنها في الشرط عكس إن: لأنها تستعمل في محقق الوقوع نحو قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] لَمَّا كانت الحسنة، وهي الخصب (1) والرخاء، والعافية غالبًا أتى بلفظ إذا، ولما كان القحط، والمرض قليلًا أتى بإن في السيئة.

وقد تستعمل في الماضي نادرًا نحو: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] لنزول الآية بعد وقوع القصة.

وترد للحال - أيضًا - نحو: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1].

قيل (2): علامة كونها للحال وقوعها بعد القَسَم لأنها لو كانت للاستقبال لم تكن ظرفًا لفعل القسم؛ لأنه إنشاء لا إخبار عن قسم ثان، لأن قسمه سبحانه قديم، ولا يكون المحذوف حالًا لأن الحال، والاستقبال متنافيان. وليس بشئ، أما أولًا: فلأنه لا يلزم من كونها استقبالية تعلقها

(1) آخر الورقة (47 / ب من أ).

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "قائله الزركشي". وراجع: تشنيف المسامع: ق (42 / أ).

ص: 132

بفعل القسم إذ يصح أن يكون بدلًا عن المقسم به، فيكون معنى الكلام أقسم بالليل لا مطلقًا، بل بوقت غشيانه، وطمسه آثار النهار، وإزالته الأنوار الساطعة، الشاملة للجو، والبر، والبحر، فإنه من الآيات الباهرات الدالة على القدرة القاهرة، ومثله يقسم به لا مطلق الليل، أو يقدر مضاف قبل الليل، أي: وعظمة الليل وقت غشيانه.

وكذلك القسم بالنجم حين سقوطه إذ يدلُّ على أنه مقهور تحت القدرة ليس له اختيار في حركاته، ومثل [ذلك](1) الجرم المنير العظيم بعد كونه تجتليه أبصار الناظرين يصير مفقودًا كأن لم يكن شيئًا مذكورًا آية لا تخفى على أحد، فيلائم أن يكون مُقْسَمًا به.

وأما ثانيًا: فلأنه علل عدم الجواز بقوله: فلأن قَسَمه تعالى قديم، وإذا كان قَسَمه قديمًا، فقد وقع فيما فَرَّ منه: لأنه يكون "إذا" مستقبلًا [قطعًا](2) لحدوث الأزمان، والأوقات، والنجم، بل جميع الكائنات ما عدا الذات، والصفات، على أنك، وإن جعلت "إذا" للحال، فالإشكال باق: لأن قَسَمه لم يقع وقت غشيان الليل، فلا يصح الكلام إلَّا بأحد التقديرين على ما ذكرنا، وكون المُقْسَم به مستقبلًا، والقسم قديمًا لا مانع منه لقوله:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} [الحجر: 72]، وقولِه:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1].

(1) سقط من (ب) وأثبت هامشها.

(2)

سقط من (ب) وأثبت هامشها.

ص: 133

وأما ثالثًا: فلأن الحال، والاستقبال لا تنافي بينهما، وإنما التبس عليه الحال الذي هو قسيم الماضي، والمستقبل المذكور في علم الصرف بالحال المذكور في علم النحو، أعني ما يُبَيِّن هيئة الفاعل، أو المفعول به، وهذه الحال تجتمع، مع الماضي، والحال، والمضقبل، بل تكون جملة اسمية.

والحاصل: أن هذا الحال لفظ يبين هيئة الفاعل، أو المفعول به قَيْد للعامل، والحال الذي ينافي الاستقبال أجزاء من أواخر الماضي، وأوائل المستقبل [وعدم جواز كونه حالًا صحيح لا لما توهمه، بل لأن الحال قيد للفعل العامل، فيكون المعنى على وقوع القسم في ذلك الوقت، وهو فاسد](1).

قوله: "الثامن: الباء للإلصاق حقيقة، ومجازًا".

أقول: الباء تستعمل لمعان كثيرة عَدَّ المصنف منها جملة: فالأول: الإلصاق نحو: به عيب، وربما أطلق الإلصاق مجازًا نحو: بررت بزيد، أي: بقربه إذ لا لصوق بزيد.

والثاني: [التعدية نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17].

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

وراجع معاني إذا: البرهان للزركشي: 4/ 190، والجنى الداني: ص / 367، والصاحبي: ص /139، والأزهية: ص / 211، ورصف المباني: ص/ 61، ومغني اللبيب: ص / 120 - 137، والإتقان: 2/ 147، وكشف الأسرار: 2/ 193، ومعترك الأقران: 1/ 580، وفواتح الرحموت: 1/ 248، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 341.

ص: 134

والفرق بين ذهب به، وأذهبه: أن الأول يفيد أنه لم يبق منه شيء بخلاف الثاني] (1)، فإنه ليس كذلك، فالباء أبلغ، ذكره في الكشاف (2).

الثالث: الاستعانة نحو: كتبت بالقلم.

الرابع: المصاحبة نحو: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33].

والبدلية نحو: قول عمر (3): "ما يسرني لو أن لي بها الدنيا وما فيها"، قاله حين استأذن رسول الله في العمرة، فقال له:"لا تنسنا من دعائك يا أُخَيَّ"(4).

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بالهامش.

(2)

راجع: الكشاف: 1/ 199.

(3)

هو الفاروق عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي أبو حفص ثانٍ الخلفاء الراشدين، وأحد المبشرين بالجنة، والفقهاء العاملين، أول من سمي بأمير المؤمنين، وأول من دون الدواوين، وأول من اتخذ التأريخ الهجري، أسلم سنة ست من البعثة، فأعز الله به الإسلام، وكان شديدًا في الحق، وهاجر جهارًا، ونزل الوحي في عدة وقائع مصدقًا له، وفتح الله في خلافته عدة أمصار، ومناقبه كثيرة، واستشهد رضى الله عنه في آخر سنة (23 هـ).

راجع: الإصابة: 2/ 518، والاستيعاب: 2/ 458، وصفة الصفوة: 1/ 268، والعقد الثمين: 6/ 291، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 3، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: ص / 108.

(4)

وفي رواية: "يا أخى أشركنا في دعائك"، فقال عمر: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي. والحديث رواه أحمد، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجة.

راجع: المسند: 1/ 29، 2/ 59، وسنن الترمذي: 5/ 559 - 560، وسنن ابن ماجة: 2/ 211، والتحفة: 10/ 7 - 8.

ص: 135

الخامس: المقابلة نحو: بعته بألف.

السادس: المجاورة نحو: سألت بزيد، أي: عنه.

والاستعلاء نحو: قام بالسطح، أي: عليه.

والقسم نحو: بالله لأفعلن كذا.

والغاية نحو: أحسن بي، أي: إليَّ.

والتوكيد - وهي الزائدة - نحو: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28](1).

وقد تقع للتبعيض نحو مسحت بالمنديل، عند بعض النحاة، كالأصمعي، وأبي عليّ وابن مالك.

التاسع: "بل للعطف، والإضراب".

أقول: من الحروف المتداولة كلمة بل، وهي تشتمل على العطف، وهو معلوم، والإضراب، وهو صرف الحكم عن المتبوع إلى التابع، ويبقى المتبوع كالمسكوت عنه سواء كان الكلام موجبًا نحو: جاءني زيد، بل عمرو، أو منفيًا نحو: ما جاءني زيد، بل عمرو، وهذا على رأي الجمهور.

(1) وانظر معاني الباء: تأويل مشكل القرآن: ص / 568، والبرهان للزركشي: 4/ 252، والإشارة إلى الإيجاز: ص / 36، ومغني اللبيب: ص / 137 - 150، والفوائد المشوق: ص / 41، وأوضح المسالك: 2/ 135 - 136، والقواعد لابن اللحام: ص / 140، والإتقان: 2/ 182 - 185، والجنى الداني: ص/ 36، والأزهية: ص / 294، ورصف المباني: ص / 142، والمفصل: ص / 285، والمسودة: ص / 356، وفواتح الرحموت: 1/ 242.

ص: 136

وقيل: تفيد في النفي عدم الحكم في المتبوع قطعًا [عند الجمهور](1)، والمراد بالحكم الثابت [للتابع] (2) في النفى: هو الثبوت كالمجيء مثلًا في قولك:

ما جاءني زيد، بل عمرو، أي: جاء عمرو.

واستشكله بعض (3) الأفاضل: بأنه لا صرف عن المتبوع لا للإثبات، ولا للنفي.

أما الإثبات: فلأن الكلام (4) نفي، وأما النفي:

فلأن الحكم الثابت للتابع هو المجيء وليس مسندًا إلى المتبوع، فلا يوجد صرف الحكم على مذهبهم، وإنما يصح على مذهب المبرد: لأن مذهبه ثبوت الحكم الذي هو النفي للتابع، وصرف النفي عن المتبوع صحيح (5).

[ويمكن أن يجاب - من طرف الجمهور -: بأن الحكم المثبت لتابع هو المصروف عن المتبوع، وتقدير الكلام صرف الحكم الذي ورد عليه النفي، وهو المجيء مثلًا، إذ النفى أداة ترد على الإيجاب](6).

(1) سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

في (ب): "التابع" والمثبت من (أ) أولى.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "هو العلامة التفتازاني قدس الله روحه هـ". وراجع: التلويح على التوضيح: 1/ 106.

(4)

آخر الورقة (49 / ب من ب).

(5)

راجع: المقتضب: 1/ 12، 4/ 298.

(6)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 137

وفي عبارة الشيخ ابن الحاجب: أن الحكم على الأول كان خطأ (1)، فحكم بعض الأفاضل المذكور آنفًا: بأن مذهبه عدم المجيء في المتبوع قطعًا في قولك: جاءني زيد، وعمرو. قلت: عبارة الشيخ يجب تأويلها: بأن مراده: أن المقصود لما كان الاخبار عن التابع، والمتبوع لم يكن مقصودًا بالإخبار، فالتعرض له غلط من المتكلم.

وإنما قلنا: يجب تأويله: لأن القول: بأن المجيء منتف عن المتبوع لم يقل به أحد، ولا يدل عليه كلامه صريحًا، ولا دلالة للفظ عليه، وصاحب المفتاح سَوَّى بين مذهب الجمهور، والمبرد في النفي، قال:"وما جاءني بكر، بل خالد، لإفادة مجيء خالد تارة، ولا مجيئه أخرى"(2).

وتحقيق معنى بل على ما شرحناه من نفائس الأبحاث.

ثم حاصل كلام المصنف: أن الإضراب نوعان:

الأول: لإبطال ما تليه، ومُثِّل في بعض الشروح (3) بقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70]، وهذا - في التحقيق - هو القسم الذي بعد النفي: لأن قولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} أرادوا به نفى حقيقة ما جاء به، إطلاقًا للملزوم، وإرادة اللازم، إذ الجنون يقتضي عدم الإرادة في الأفعال، وعدم الفرق بين الحسن، والقبيح، فالمجيء بالحق عنه بمراحل.

(1) راجع: شرح الكافية: 1/ 127.

(2)

راجع: مفتاح المعلوم للسكاكي: ص / 58.

(3)

مراده في المحلي على جمع الجوامع: 1/ 344.

ص: 138

الثاني: هو الانتقال من غرض إلى غرض آخر نحو: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 62، 63]، وهذا -[أيضًا] (1) عائد إلى النفي إذ الكفار كانوا يزعمون: أن لا حشر، ولا نشر، فرد عليهم بأن الأمر ليس كما تزعمون، نحن نضبط أحوالكم، لسنا عنكم غافلين، بل أنتم الغافلون الذين قصر فكرهم على الحطام الفاني (2).

قوله: "العاشر: بيد".

أقول: من تلك الكلمات المتداولة لفظة بيد، وهي تأتي بمعنى غير، كذا ذكر في بعض كتب اللغة (3).

وتكون علة نحو: "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش"(4) أي: لأني من قريش، وهذا فيه نظر قوي، وهو أن كونه

(1) سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع معاني بل: تأويل مشكل القرآن: ص / 536، الصاحبي: ص / 145، الجني الداني: ص / 235، ورصف المباني: ص / 153 - 157، والأزهية: ص / 228 - 231، ومغني اللبيب: ص / 151 - 153، ومعترك الأقران: 1/ 637، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 258، والإتقان: 2/ 185، وشرح تنقيح الفصول: ص / 109، وكشف الأسرار: 2/ 135، وتشنيف المسامع: ق (43 / ب)، وهمع الهوامع: ص / 127 - 128.

(3)

راجع: مغني اللبيب: ص / 155 - 156.

(4)

ذكر العجلوني عن غيره أن معناه صحيح، لكن لا أصل له، كما قاله ابن كثير، وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب، ولا يعرف له سند، وذكر بأنه روي مرسلًا عند ابن سعد، ورواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري، ثم حَكَى انتقاد السيوطي للحلال المحلي، ولشيخ الإسلام زكريا الأنصاري حيث ذكراه بدون بيان حاله.

راجع: كشف الخفاء: 1/ 232، وأسنى المطالب: ص / 72.

ص: 139

من قريش لا يقتضي أن يكون أفصح من قريش (1). والحق: أنه من قبيل المدح بما يشبه الذم، وهو نوع من المحسنات البديعية، كما في الحديث: أن جارية (2) عائشة (3) رضي الله عنها حين سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن أخبار عائشة - فقالت: "لا عيب فيها غير أنها جارية حديثة سن تنام عن عجين أهلها، فتأكله الداجن"(4).

(1) آخر الورقة (48/ ب من أ).

(2)

هي بريرة بنت صفوان مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعًا، صحابية، ولها أحاديث، روى لها النسائي، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، ثم اشترتها، وأعتقتها، وكان زوجها مولي، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختارت فراقه، فاشتد عليه فراقها، فكان يتبعها باكيًا حتى تعجب من حاله النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار عليها بالرجوع فأبت.

راجع: أسد الغابة: 7/ 39، والإصابة: 4/ 251، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 332.

(3)

هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، أسلمت، وهي صغيرة، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وبنى في بعد الهجرة، وكناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير، وهي من المكثرين من الرواية ولها فضائل كثيرة، ومناقب معروفة، علمًا، وفقهًا، وزهدًا، وفضلًا، وتوفيت سنة (57 هـ) بالمدينة.

راجع: الاستيعاب: 4/ 356، والإصابة: 4/ 359، وطبقات الفقهاء للشيرازي: ص / 47، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 352.

(4)

ورد هذا في قصة الإفك، وفيها:"فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: "أي بريرة، هل رأيت من شيء يرييك من عائشة؟ " قالت - له - بريرة: والذى بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا - قط - أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن، فتأكله

" إلخ هذا لفظ مسلم.

راجع: صحيح البخاري: 6/ 135، وصحيح مسلم: 8/ 115، والمسند للإمام أحمد: 6/ 196.

ص: 140

وقول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب (1)

[ولنا - في مدح السلطان المعظم سيد الغزاة صاحب الروم، فاتح القسطنطينية نصره الله - شعر:

هو الشمس إلَّا أنه الليث باسلا

هو البحر إلَّا أنه مالك البر (2)

فرجع إلى معنى الغير، وإليه ذهب جمهور المتأخرين (3).

قوله: "الحادي عشر: ثم".

أقول: ثم في العطف تفيد التشريك في الإعراب، أو الحكم، مع التراخي في الزمان، والرتبة.

والمصنف قيد المهلة بالأصح، والترتيب بمخالفة العبادي (4).

(1) راجع: ديوانه: ص / 15، والكتاب: 1/ 367، ومغني اللبيب: ص / 155، والخزانة: 2/ 9.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

راجع: تشنيف المسامع: ق (44 / أ)، وهمع الهوامع: ص / 128، ومعجم الأدوات النحوية: ص / 51.

(4)

هو أبو عاصم محمد بن أحمد بن عبد الله العبَّادي الهروي الإمام الجليل القاضي، كان بحرًا في العلم، حافظًا للمذهب، معروفًا بغموض العبارة حبًّا لاستعمال الذهن الثاقب، ويعتبر من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، مناظرًا، دقيق النظر، فقيهًا، محدثًا، انتفع به الكثير، وصنف كتبًا عديدة منها: أدب القضاء، وطبقات الفقهاء، والرد على القاضي السمعاني، والمبسوط، وكتاب الأطعمة، والزيادات والهادي، وغيرها، وتوفي سنة (458 هـ). =

ص: 141

وشبهة الفريقين - في نفي المهلة، والترتيب -: أشياء [ما وَلَّت](1) عند الجمهور نحو قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، ولا شك: أن الجعل قبل خلق سائر المخلوقات، فلا ترتيب، وحيث لا ترتيب لا مهلة بالطريق الأولى.

الجواب: أن معنى الآية أنه تعالى خلقكم من نفس واحدة، وكأنه قيل: كيف كان بدأ الخلق؟ ، أجاب: بأنه خلقها، ثم جعل منها زوجها، ثم ذرأكم على التعاقب على ما تشاهدون الآن بينكم أمة بعد أمة، فلفظ "ثم" عاطفة، جعل على خلق المقدر صفة للنفس، فهي على الترتيب، والمهلة.

= راجع: طبقات السبكي: 4/ 104، ووفيات الأعيان: 3/ 351، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 249، وطبقات ابن هداية الله: ص / 161، وشذرات الذهب: 3/ 306.

أما مخالفة العبادي التي نقلها المصنف تبعًا لأبيه، فيرى الزركشي أن هذا النقل عن العبادي غلط، وإنما قاله العبادي في بعض التراكيب الخاصة كقول القائل:"وقفتُ هذه الضيعة على أولادي، ثم على أولاد أولادي بطنًا بعد بطن". لا مطلقًا كما لو قال: وقفت على أولادي، ثم على أولاد أولادي. واقتصر عليه فهو في هذا مع الجمهور، وإنما خالفهم فيما أضيف إلى عبارة: بطن بعد بطن. المقتضي للجمع عنده. قلت: غير أني وجدت المصنف في "الطبقات" ذكر أن والده رجع وتوقف في ثبوت مخالفة العبادي للجمهور في إفادتها الترتيب، وأنه لم يجده في كلام العبادي وإن صح عنه ذلك في المثال المذكور سابقًا يقتصر عليها فقط، وهو معنى ما قاله الزركشي سابقًا، ثم قال المصنف:"وأما إنكار أن ثم للترتيب مطلقًا فيجل أبو عاصم عنه، فإن ذلك مما لا خلاف فيه بين النحاة، والأدباء، والأصوليين، والفقهاء، بل هو من المعلوم باللغة بالضرورة" والطبقات الكبرى: 4/ 110.

(1)

في (أ، ب): "ما ولة".

ص: 142

هذا تحقيق الجواب على الوجه المرضي، وبعض الشارحين (1) لما لم يصل إلى هذا التدقيق فاضطرب، وأجاب - أولًا -: بأن ثم بمعنى الواو، وثانيًا: بأنها للترتيب الذكري (2).

قوله: "الثاني عشر: حتى لانتهاء الغاية غالبًا".

أقول: حتى مثل: ثم في الترتيب، والمهلة، مع زيادات أخرى:

الأول: أن المعتبر في حتى ترتب أجزاء ما قبلها ذهنًا [من الأضعف إلى الأقوي، أو بالعكس، ولا يعتبر الترتيب الخارجي لجواز ملابسة الفعل لما بعدها قبل ملابسة الأجزاء الأخر نحو: مات كلّ أب لي حتى آدم، أو في أثنائها نحو: مات الناس حتى الأنبياء، أو في زمان واحد نحو: جاءني القوم حتى خالد، إذا جاؤوا معًا، والخالد أضعفهم، أو أقواهم.

وينصب الفعل بعدها تارة نحو: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9](3).

(1) جاء في هامش (أ): "المحلي". راجع: شرحه على جمع الجوامع: 1/ 345.

(2)

راجع معاني ثم: الجنى الداني: ص / 426، ورصف المباني: ص / 173، والصاحبي: ص / 148، والمفصل: ص / 304، والإشارة إلى الإيجاز: ص / 35، ومغني اللبيب: ص / 158 - 162، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 266 - 270، والإتقان: 2/ 189، وشرح تنقيح الفصول: ص / 101، والمسودة: ص / 356.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 143

وتكون ابتدائية، تقع بعدها الجملة الاسمية نحو قوله:

فما زالت القتلى تمج دماؤها

بدجلة حتى ماء دجلة أشكل (1)

والفعلية المضارعية نحو: {حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] بالرفع، وهي للحال حينئذ، فيكون ما بعدها كلامًا مستقلًا، مسببًا عما قبلها، ولذلك امتنع أن تقول: كان سيري حتى أدخلها، بالرفع: لأن كان الناقصة تبقى بلا خبر لانقطاع ما بعدها عما قبلها لاستقلاله.

وكذلك امتنع: أَسِرتَ حتى تدخلها الآن، الأول: يجب أن يكون سببًا للثاني في الابتدائية، ولا يصح الأول أن يكون سببًا لكونه مشكوكًا فيه، ولهذا دخله الاستفهام، ولو حملت كان على التامة صح الكلام في المسألة الأولى.

وقد تجيء للتعليل نحو: أسلم حتى تدخل الجَنَّة أي لتدخل.

وتكون للاستثناء نادرًا.

(1) الأشكل: هو الأبيض الذي تخالطه الحمرة من أشكل عليَّ الأمر إذا اختلط.

والبيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل.

راجع: اللسان: 13/ 380، وديوان جرير: ص / 344، ومغني اللبيب: ص / 173، وخزانة الأدب: 4/ 142.

ص: 144

واعلم: أن أصل معنى حتى: هي الغاية، فتحمل على الغاية مهما أمكن، فإذا تعذر تحمل على غيرها (1) مجازًا بحسب القرائن.

قوله: "الثالث عشر: رب للتكثير".

أقول: من الكلمات المتداولة لفظ: رب، وهي جارَّة، ولها صدر الكلام: لأنها لإنشاء معنى التقليل عند الجمهور.

وقد صرحوا: بأنها نقيضة كم الخبرية التي هي لإنشاء التكثير، أو موضوعة للتكثير، وهو مذهب بعض النحاة.

وليس لهم - في ذلك - دليل، إلَّا أنهم رأوا ظاهر قوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] إذ وَدَّ - أنهم [يوم القيامة](2) كونهم مسلمين في الدنيا - كثير بلا ريب، فيكون حقيقة فيه.

الجواب: أنها في الآية المذكورة للتقليل: لأنهم مستغرقون في العذاب، مدهوشون، فزعًا حانت منهم إفاقة، فتمنوا الإسلام.

(1) راجع معاني حتى: الأزهية: ص/223، والجني الداني: ص/542 - 558، ورصف المباني: ص / 180 - 185، والصاحبي: ص/ 150، وتسهيل الفوائد: ص / 146، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 272، والإتقان: 2/ 192، ومغني اللبيب: ص / 131 - 139، وشرح تنقيح الفصول: ص / 102، وكشف الأسرار: 2/ 160، وفواتح الرحموت: 1/ 240.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 145

وقيل: معنى التقليل فيها: أنهم لو كانوا يودون الإسلام في الدار الآخرة مرّة كان الإسراع إلى الدين، والإيمان واجبًا عليهم، فكيف، وهم يودونه كلّ لمحة (1).

ومن أحكامها: أن مدخولها نكرة، موصوفة، أو ضمير مبهم.

ولها أبحاث أخر مذكورة في كتب النحو، فلتطلب هناك.

قوله: "الرابع عشر: على".

أقول: من تلك الكلمات المتداولة، كلمة على، وهي حرف وضع للاستعلاء مطلقًا، حسيًا نحو: زيد على الفرس، أو عقليًا نحو: لزيد على عمرو دين.

وقد تكون اسمًا نحو: من عليه في قوله: "غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها"(2).

(1) والمذهب الثالث: أنها ترد للتقليل، وللتكثير على السواء، فتكون من الأضداد وهو قول الفارسي، ومقتضى كلام المصنف يرجحه.

واختار ابن مالك، وابن هشام أنها في جانب التكثير أرجح كثيرة، والتقليل نادر، وقيل: هي للتكثير في مواضع المباهات، والافتخار، وللتقليل فيما عداه، وقيل: إنها حرف إثبات لم توضع لتقليل، ولا تكثير، وإنما يستفاد ذلك من القرائن، واختاره أبو حيان، وقيل: إنها للتقليل غالبًا، وللتكثير نادرًا وهو اختيار السيوطي.

راجع: المفصل مع شرحه لابن يعيش: 8/ 26، وأوضح المسالك: 2/ 144، ومغني اللبيب: ص / 179 - 184، والإتقان: 2/ 196 - 197، وتشنيف المسامع: ق (45 / أ) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 346، وهمع الهوامع: ص / 131.

(2)

هذا صدر بيت لمزاحم العقيلي يصف فيه القطا، والبيت كاملًا هكذا:

غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها

تصلّ وعن قيض ببيداء مجهل =

ص: 146

فهي حقيقة في الحرفية، فلا يحتاج استعمالها حرفًا إلى قرينة، بخلاف ما إذا كانت اسمًا، فإنه يحتاج إلى قرينة نحو دخول حرف الجر عليها، ولو قدم المصنف كونها حرفًا على كونها اسمًا كان أولى، كما لا يخفى (1).

وتكون للمصاحبة نحو: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]، أي: مع حبه.

والمجاورة نحو: رضي عليه، أي: عنه.

والتعليل نحو: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].

وتكون ظرفًا، وزائدة، وتكون للاستدراك (2).

= راجع: الاقتضاب: ص / 428، وشرح ابن عقيل: 1/ 243، ومغني اللبيب: ص / 194، ولسان العرب: 11/ 383، وشرح أبيات المغني: 3/ 267، وشرح شواهد المغني: 1/ 426، وشرح شواهد شروح الألفية للعيني 2/ 226، وخزانة الأدب: 4/ 253، وشرح شواهد ابن عقيل: ص / 150.

(1)

لأنه الأصل في استعمالها، فلا يحتاج إلى قرينة، عكس الاسمية.

(2)

مثال الظرفية قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] أي: في ملك سليمان.

ومثلوا للزائدة بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" أي: من حلف يمينًا.

راجع: صحيح البخاري: 8/ 159، وصحيح مسلم: 5/ 82، ومسند أحمد: 4/ 256، وسنن الدارميِّ: 2/ 186.

ومثال الاستدراكية قولهم: فلان لا يدخل الجَنَّة لسوء صنعه على أنه لا ييأس من رحمة الله، أي: لكنه لا ييأس. =

ص: 147

وأما لفظ: علا فِعْلًا ماضيًا، فليس من المادة المذكورة، إذ يكتب هذا بالألف، والأول بالياء، فهما متمايزان كتابة، كما امتازا معنى.

قوله: "الخامس عشر: الفاء للترتيب".

أقول: من تلك الحروف المتداولة لفظ: الفاء، وهي عاطفة معناها الترتيب بلا مهلة نحو: جاء زيد فعمرو.

ثم قول المصنف: والتعقيب في كلّ شيء بحسبه، إشارة إلى جواب سؤال مشهور، وهو أن القول: بأن الفاء للترتيب بلا مهلة قد لا يطرد، بدليل قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63].

ولا شك: أن اخضرار الأرض متراخ عن نزول المطر. وكذا قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، وأمثال ذلك كثيرة في كلام العرب.

أجاب: بأن التعقيب أمر نسبي يختلف باختلاف الأمور المترتبة عظمًا، وحقارة.

= راجع معاني "على": الجنى الداني: ص/ 470، ومغني اللبيب: ص / 189، ورصف المباني: ص/ 371، والصاحبي: ص / 156، والإشارة إلى الإيجاز: ص / 34، تأويل مشكل القرآن: ص/573، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 284، والإتقان: 2/ 201، وكشف الأسرار: 2/ 173، وفواتح الرحموت: 1/ 243.

ص: 148

ولا شك: أن إحياء الأرض [الميتة](1) بعد استيلاء اليبس عليها، وذهاب نضارتها من الآياتِ الباهرة على قدرة الصانع، فحصول [مثل](2) هذا الأمر العظيم في أقلّ من أسبوع لا يعد متراخيًا.

وكذلك انقلاب النطفة علقة بعد أن كان ماء مهينًا في الرحم ممتزجًا بماء آخر مثله، ولم يعالج بما يوجب انعقاده، ولم يغير لونه بصبغ بعد أن كان أبيض، مثل هذا لا تعد تلك المدة بالنسبة إليه مهلة، وتراخيًا.

ثم الترتيب المعنوي معلوم، كما في قولك: جاء زيد فعمرو.

والذكري: هو أن يكون الترتيب في الذكر لا في الحكم كقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ (3) قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]، فإن مجئ البأس مقدم على الإهلاك وكذلك كلّ فاء دخلت على المفصل بعد المجمل.

وقد يراد، مع التعقيب سببية (4) ما قبلها لما بعدها (5).

(1) سقط من (ب) وأثبت بالهامش.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بالهامش.

(3)

آخر الورقة (49 / ب من أ).

(4)

آخر الورقة (50 / ب من ب).

(5)

راجع معاني الفاء: رصف المباني: ص / 376، والأزهية: ص / 250، والصاحبي: ص / 109، والجنى الداني: ص / 61، ومغني اللبيب: ص / 213، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 294، والإتقان: 2/ 209، وشرح تنقيح الفصول: ص / 101، والقواعد لابن اللحام: ص / 137، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 348.

ص: 149

قوله: "السادس عشر: في، للظرفين".

أقول: من تلك الحروف المتداولة لفظة: في، وهي للظرفين، ولو قال: في للظرفية - كما ذكره المحققون - لشمل المكان، والزمان.

المكان نحو قولك: صليت في المسجد، والزمان نحو: قدم زيد في الليل.

والظرفية: استقرار الشيء في الشيء.

والنحاة يذكرون أنها على قسمين: حقيقية نحو الماء في الكوز، ومجازية نحو العز في القناعة.

ولو حمل معنى الاستقرار على ما يعم الحسي، والمعنوي كان أولى كما تقدم في على: لأن أهل اللغة لم يقيدوه بأن يكون حسيًا.

وإذا حمل على ذلك المعنى الأعم يشمل جميع الأقسام التي ذكرها المصنف كما لا يخفى على المتأمل.

المصاحبة نحو: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} [الأعراف: 38] أي: مصاحبين لهم.

والتعليل نحو: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14] أي: لأجله.

والاستعلاء نحو: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: عليها.

ص: 150

والتوكيد نحو: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41] إذ الركوب يستعمل بدون في، فهي مزيدة توكيدًا.

والتعويض عن أخرى محذوفة نحو: "زهد زيد فيما رغب، أي: فيه".

والأصل: زهد ما رغب فيه، كذا نسب إلى ابن مالك (1).

وتكون بمعنى الباء السببية نحو: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي: ينبتكم، ويكثركم بسبب التناكح، والازدواج.

وبمعنى إلى، نحو:{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9] أي: إليها غيظًا.

وبمعنى من، نحو "ذراع في الجنة خير من الدنيا وما فيها" (2) أي: منها (3).

(1) جاء في هامش (أ، ب): "ذكره الزركشي". وراجع تشنيف المسامع: ق (46 / أ).

(2)

رواه ابن ماجه، وغيره بلفظ:"شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها" من حديث أبي سعيد الخدري، وعند البخاري بلفظ:"ولقاب قوس أحدكم من الجنة، خير من الدنيا وما فيها"، ومحل الشاهد في اللفظ الأول.

راجع: صحيح البخاري: 4/ 20 - 21، ومسند أحمد: 2/ 315، وسنن ابن ماجه: 2/ 589، وسنن الدارمي: 2/ 332 - 333.

(3)

راجع معاني في: رصف المباني: ص / 388، والأزهية: ص / 277، ومغني اللبيب: ص/ 223، والصاحبي: ص / 157، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 302، والإشارة إلى الإيجاز: ص/ 31، ومعترك الأقران: 3/ 170، وشرح تنقيح الفصول: ص / 103، وفواتح الرحموت: 1/ 247.

ص: 151

قوله: "السابع عشر: كي للتعليل".

أقول: من تلك الحروف كلمة "كي"، ومعناها التعليل نحو: أسلمتُ كي أدخل الجنة، وهى ناصبة [للفعل المضارع بنفسها، هو المختار.

وقيل: حرف جر تقدر أن بعدها] (1)، ومنعه الشيخ ابن الحاجب، وأسنده بصحة قولك: أسلمت لكى أدخل الجنة، إذ لو كانت حرف جر لم تدخلها اللام، وهو كلام قوي.

والمصنف جعل كونها بمعنى أن المصدرية منافيًا لكونها للتعليل على ما ذكره شارحو كلامه (2).

واستدل بعضهم (3) على التنافي بدخول اللام عليها في قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]، فإنها لو كانت للتعليل لم يدخل عليها اللام.

وهذا ليس بشيء: لأن كون الحرف مصدريًا معناه راجع إلى اللفظ، وتصرفه إنما هو في لفظ الفعل إما بنصبه، أو بجعله في حكم المصدر، وكونه لكذا، أي: للتعليل راجع إلى المعنى، فلا تنافي بين المعنيين.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: تشنيف المسامع: ق (46/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 349، وهمع الهوامع: ص/ 134.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "الزركشي". وراجع تشنيف المسامع: ق (46/ أ).

ص: 152

ألا ترى أن الحروف الجارَّة كلها مشتركة في عمل الجر، مع اختلاف معانيها.

وأما الاستدلال بدخول اللام على عدم كونها للتعليل، فسقوطه ظاهر: لأن اللام هناك للتأكيد، ألا ترى أنك لو حذفت اللام كان التعليل بحاله، مع أن الحرف قد يجرد عن معناه بحسب المقامات (1).

قوله: "الثامن عشر: كل اسم لاستغراق أفراد المُنَكَّر، والمعرَّف المجموع".

أقول: من تلك الكلمات المتداولة لفظة كل، نحو: كل رجل كذا، أي: كل فرد من جنس الرجال.

وضبط كلام المصنف: أنها تفيد استغراق الأفراد، إذا دخلت على مفرد، مُنَكَّر، كما ذكرناه، أو معرَّف إذا كان مجموعًا نحو: أخذ زيد كل الدراهم.

وإذا كان المعرَّف مفردًا تفيد الإحاطة، والشمول في الأجزاء نحو: رأيت [كل](2) زيد، أي جميع أجزائه.

وفي بعض الشروح (3) هنا عن/ ق (50/ أمن أ) والد المصنف كلام غريب، وهو أنه استشكل كون "كل" في الجمع المعرَّف لإحاطة الأفراد:

(1) راجع: مغني اللبيب: ص/ 241 - 243.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

راجع: تشنيف المسامع: ق (46/ أ).

ص: 153

لأن الجمع المعرَّف قبل دخول كل، يفيد هذه الفائدة، إذ الجمع المحلَّى باللام مستغرق عند المحققين.

واختار - في الجواب -: أن اللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه، وكل تفيد العموم في أجزاء كل من تلك المراتب.

فإذا قلت: كل الرجال، أفادت اللام استغراق كل مرتبة من مراتب جمع الرجال، وأفادت كل، استغراق الآحاد.

وبعد ركاكة عبارته فيه نظر: أما أولًا: فلأن ما اختاره من أن الجمع المحلَّى باللام يفيد استغراق مراتب الجمع، قول مردود ذكره صاحب المفتاح (1) / ق (51/ أمن ب) في تفسير قوله تعالى:{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4].

ورده المحققون: إذ لا ريب في أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134، 148] معناه كل فرد لا كل جمع.

وأما ثانيًا: فلأن ما ذكره يدل على عدم جواز استثناء زيد في مثل جاءني الرجال إلا زيدًا: لأنه لم يتناوله لفظ الجمع.

قال صاحب التلويح: "لا يقال: المستثنى في مثل جاءني الرجال إلا زيدًا، ليس من الأفراد: لأن أفراد الجمع جموع لا آحاد، لأنّا نقول: الحكم

(1) راجع: مفتاح العلوم للسكاكي: ص/ 104.

ص: 154

في الجمع المعرَّف الغير المحصور إنما هو على الآحاد لا على الجموع بشهادة الاستقراء، والاستعمال" (1).

فإن قلت: في الجواب عن ذلك الإشكال؟ .

قلت: الجواب: هو أن الجمع المعرَّف، قبل دخول كل، ظاهر في الاستغراق، فإذا دخل عليه كل، صار نصًا لم يختلف فيه، هكذا حقق المقام، وجانب الأباطيل، والأوهام (2).

وسيأتي مباحث كل، في مبحث العام مستوفاة إن شاء الله تعالى.

قوله: "التاسع عشر: اللام للتعليل".

أقول: من تلك الحروف المتداولة اللام، وهي الجارة، المكسورة.

وإنما قيدنا بذلك ليخرج لام الابتداء، والتعريف، وهي تأتي لمعان.

منها: التعليل نحو: جئتك للسمر، والاستحقاق نحو: ويل لمن كذب نبيًا.

والاختصاص نحو: الجُلّ للفرس، والملك نحو: المال لزيد.

وللعاقبة نحو: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] إذ لم يكن الغرض كونه عدوًا بل ابنًا، وهذا راجع إلى التعليل

(1) راجع: التلويح على التوضيح: 1/ 53.

(2)

وانظر: تشنيف المسامع: ق (46/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 349، وهمع الهوامع: ص / 134.

ص: 155

لا حقيقة، بل مجازًا: لأنه شبه ما ترتب على فعلهم بالغرض المقصود من الفعل، وأدخل عليه ما يدخل الغرض استعارة تبعية.

والتمليك نحو: وهبت الكتاب لزيد، أي: ملَّكتَه.

والحق: أن التمليك داخل في الاختصاص، وكذا الملك، فتأمل.

أو شبه الملك نحو: أبحت له، وهذا - أيضًا - يرجع إلى الاختصاص.

والتأكيد - وهو الذي يأتي بعد النفي الداخل على كان - نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]، وتسمى لام الجحود.

والتعدية نحو: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103].

والتأكيد - أي: المبالغة في صدور الفعل - نحو: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] أي: ما يريد، وحيث لا معارض له في مشيئته أكده باللام.

وبمعنى إلى، نحو:{سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57] أي: إلى بلد.

وبمعنى على نحو: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] أي: عليها.

وفي نحو: قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: فيه.

وبمعنى عند، نحو:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وسماه في "الكشاف" لام التوقيت (1).

(1) راجع الكشاف: 2/ 462.

ص: 156

وبمعنى من، نحو: سمعت له، أي: منه.

وبمعنى عن، نحو:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. إذ لو كان على أصله لكان القياس الخطاب في {سَبَقُونَا} .

ولم يذكر المصنف إلا المعاني المشهورة، ولها معان أُخر (1).

تكون (2) / ق (50/ ب من أ) للقسم في مقام التعجب نحو قول الشاعر:

لله يبقى على الأيام ذو حِيَدٍ

بمشْمَخرٍّ به الظَّيَّان والآسُ (3)

(1) راجع معاني اللام: الجنى الداني: ص/ 95، وكتاب اللامات للزجاج، والأزهية: ص/ 298، والصاحبي: ص/ 112، وتسهيل الفوائد: ص/ 145، واللامات لابن فارس، ورصف المباني: ص/ 218، ومغني اللبيب: ص/ 274، وتأويل مشكل القرآن: ص/ 69، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 339، والإتقان: 2/ 239، ومعترك الأقران: 2/ 239.

(2)

آخر الورقة (50/ ب من أ).

(3)

الحيد: كل حرف من الرأس، وكل نتوء في القرن، والجبل، والمشمخر: الجبل، والظيان، والآس: نباتان جبليان زكيان.

ولهذا البيت روايات مختلفة، وقد اختلف في نسبته، ففى اللسان وديوان الهذليين، والخزانة أنه لمالك بن خالد الهذلي، وقيل: لأمية بن أبي عائذ، وقيل: لأبي ذؤيب الهذلي، وقيل غير ذلك.

راجع: الكتاب: 3/ 497، وشرح المفصل لابن يعيش: 9/ 89، ولسان العرب: 4/ 136 - 137، وديوان الهذليين: 1/ 193، 3/ 2، ومغني اللبيب: ص/ 283، وخزانة الأدب: 4/ 231 - 234.

ص: 157

قوله: "العشرون: لولا".

أقول: من تلك الحروف المتداولة كلمة لولا، وهى تدخل على الفعل تارة، وعلى الاسم أخرى.

فإذا دخلت الاسم تكون حرف امتناع يدل على أن الثاني امتنع لوجود الأول، فوجود الأول علة لامتناع الثاني نحو:"لولا عليّ (1) لهلك عمر".

وما ذكرناه من العلية ينبغي أن يكون مراد المصنف، وإلا ليس في الكلام شرط يقتضي جوابًا.

وإذا وقع بعدها فعل (2) / ق (51/ ب من ب) فإن كان مضارعًا، فللحث، والترغيب، في الفعل، وهو معنى التحضيض، وإن كان في الماضي، فللتوبيخ، واللوم على الترك، ولا يلام على شيء إلا وكان

(1) هو الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، أبو الحسن القرشي الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولد قبل البعثة بعشر سنوات، وربي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول من أسلم من الصبيان، شهد جميع المشاهد إلا تبوك استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة، وكان اللواء بيده في معظم الغزوات، اشتهر بالفروسية، والشجاعة، والقضاء، وكان عالمًا بالقرآن والفرائض، والأحكام، واللغة، والشعر، ومناقبه كثيرة، واستشهد في رمضان سنة (40 هـ)، رضي الله عنه.

راجع: أسد الغابة: 4/ 91، والإصابة: 2/ 507، والاستيعاب: 3/ 26، وصفوة الصفوة: 1/ 308، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: ص/ 166.

(2)

آخر الورقة (51/ ب من ب).

ص: 158

مطلوبًا وجوده، فهي لطلب الفعل مطلقًا، وما ذكروه تفصيل لذلك الطلب. قال: وقد تأتي للنفي، ومثل لذلك بقوله تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] أي: ما كانت.

والمحققون - على أنها على أصلها - وهو التوبيخ، أي: لم لا تؤمنون قبل معاينة العذاب، وحصول البأس الذي لا ينفع الإيمان عنده، تعليلًا لعدم قبول إيمان فرعون عليه لعائن الله، عاش أربع مئة سنة ما مسه فيها ألم يومًا، ولم يصرف يومًا بصره إلى أمر المعاد، وتحصيل الجنة الباقية، ولما أدركه غضب الله، وأحاط به سرادقات القهر والانتقام آمن ثلاثة أنواع من الإيمان: إذ قوله: {آمَنَتْ} نوع من الإيمان: لأنه كان دهريًا، وقول الدهري: آمنت إسلام منه، ثم قال:{لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} نوع ثان من الإيمان، وقوله:{وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) نوع ثالث من الإيمان.

وإنما قيد قوله: بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل قطعًا للشركة، والربوبية التي كان يدعيها لنفسه الخبيثة أيام شوكته الذاهبة، ودولته الخاسرة.

ص: 159

ثم مدح قوم يونس على تلافيهم قبل حصول البأس الذي جرت سنة الله تعالى بعدم الرأفة، والرحمة على من يضطر عنده إذ لم يبق له اختيار، والإيمان تكليف لا يوجد لدى الاضطرار (1).

قوله: "لو: حرف شرط للماضي، ويقل للمستقبل، قال سيبويه: حرف لِمَا كان سيقع لوقوع غيره"(2).

أقول: من تلك الكلمات المتداولة لفظ: لو، وهو حرف موضوع لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر مقدر فيه.

هذا أصل وضعه، ثم حصول المقدر في الماضي مقطوع بعدمه، فينتفي الحصول المعلق عليه لانتفاء الشرط.

فمن عَرَّف بأن لو: لانتفاء الثاني لانتفاء الأول - أي انتفاء الجزاء معلل بانتفاء الشرط، أو قال: معناه امتناع الجزاء لامتناع الشرط - كما قاله صاحب المفتاح - أخذ بالحاصل، وتعبير عن معنى اللفظ بلازمه.

ثم قد اعترض على هذا بعض المحققين (3)، وقال: "الشرط السبب، والمشروط مسبب، ولا يلزم من انتفاء السبب الواحد انتفاء المسبب:

(1) راجع معاني لولا: تأويل مشكل القرآن: ص/ 540، والصاحبي: ص/ 163، ورصف المباني: ص/ 292، والأزهية: ص/ 175، والجنى الداني: ص/ 597، ومغني اللبيب: ص/ 359، ومعترك الأقران: 2/ 257، والبرهان للزركشي: 4/ 376، والإتقان: 2/ 239، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 109، وفواتح الرحموت: 1/ 249.

(2)

راجع: الكتاب: 3/ 261.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "الشيخ ابن الحاجب". الكافية في النحو وعليها شرح رضي الدين: 2/ 390.

ص: 160

لجواز أن يكون لشيء أسباب كثيرة، بل الأمر بالعكس: لأن انتفاء المسبب دليل على انتفاء الأسباب كلها".

ونقح كلامه بعض الأفاضل (1): بأن قوله: الشرط سبب، باطل لأن الشرط ملزوم، والملزوم أعم من أن يكون سببًا، إذ ربما كان الشرط، والجزاء مسببين عن سبب واحد كقولنا: إن كان النهار موجودًا كان العالم مضيئًا: لأن/ ق (51/ أمن أ) سببهما طلوع الشمس ولكن دليله تام: لأن الشرط ملزوم/ ق (52/ أمن ب) وانتفاء الملزوم لا يوجب انتفاء اللازم بل الأمر بالعكس.

يدل عليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

استدل - بعدم الفساد الذي هو انتفاء اللازم على عدم التعدد الذي هو انتفاء الملزوم، كما أطبق عليه أئمة المنطق -: أن نقيض الجزاء ينتج نقيض الشرط دون العكس.

والجواب - عما ذكراه -: هو أن "لو" في كلام العرب مستعمل على وجهين:

أحدهما: ما ذهبا إليه، وهو الاستدلال بأن انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم، كما ذكر في الآية الكريمة.

الثاني: أن يكون الانتفاء أن معلومين في نفس الأمر، فلا استدلال بأحدهما على الآخر للعلم بهما، فتستعمل "لو" لبيان سببية الانتفاء، أي: انتفاء [الجزاء](2).

(1) جاء في هامش (أ، ب): "هو الرضي" انظر المرجع السابق.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 161

مثال: لو جئتني أكرمتك، مخاطبك عالم بأن لا مجيء، ولا إكرام، ولكن عرَّفته أن سبب انتفاء الإكرام - في نفس الأمر - هو انتفاء المجيء.

فالقولان مستقيمان، لكن هذا الاستعمال الثاني هو الأكثر، وكلام سيبويه، وكلام غيره - وهو الامتناع للامتناع - والرد على الاستعمال الأكثر.

وقد تستعمل في المستقبل بمعنى إن، نحو:"اطلبوا العلم ولو بالصين"(1)، أي: وإن كان العلم المطلوب حاصلًا في الصين، وهو الذي أشار إليه المصنف بأنه قليل، نقل (2) هذا عن المبرد.

وقد تستعمل للاستمرار، والدوام، أي: لزوم الجزاء، مع الشرط، ونقيضه، وهذا في كل شرط يكون ترتب الجزاء على نقيض الشرط أولى،

(1) الحديث رواه البيهقي، وابن عبد البر، والخطيب، وغيرهم عن أنس، والحديث ضعيف، بل قال ابن حبان: باطل، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات". وقال النيسابوري: لم يصح فيه إسناد، وقال المزي: له طرق ربما يصل بمجموعها إلى الحسن، وقال الذهبي: روي من عدة طرق واهية، وبعضها صالح.

راجع: الكامل لابن عدي: 2/ 207، والضعفاء للعقيلي: 2/ 230، وجامع بيان العلم وفضله: 1/ 9، والموضوعات لابن الجوزي: 1/ 215، وتاريخ بغداد: 9/ 364، وأخبار أصفهان: 2/ 106، والجامع الصغير: 1/ 44، واللآلئ للسيوطي: 1/ 193، والمقاصد للسخاوي: ص/ 63، والفوائد للشوكاني: ص/ 272، وكشف الخفاء: 1/ 154، وأسنى المطالب: ص/ 44.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "نقله التفتازاني رحمه الله تعالى" راجع: مطوله على التلخيص: ص/ 170.

ص: 162

وأليق من ترتبه على الشرط نحو: لو أهنتني لأكرمتك، أي: إكرامي لازم على كل حال، لأن وجوده مع الإهانة، دليل على أنه مع عدمه أولى.

ومنه قول عمر: "نعم العبد صهيب (1) لو لم يخف الله لم يعصه"(2) فتأمل! .

وقيل: يكون لمجرد الربط ليس إلا، وأما الامتناع، أو الانتفاء يحصل من القرائن، وليس بشيء لمخالفته إجماع علماء العربية، والمنطق.

(1) هو صهيب بن سنان الرومي، وهو من العرب يرجع نسبه إلى النمر بن قاسط، ولكن الروم سبته، وهو صغير، فأخذ لسانهم، ثم هرب ومعه مال كثير فنزل مكة بجوار عبد الله بن جدعان، وحالفه، وانتمى إليه، أسلم قديمًا، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم تبعه صهيب، فأرادت قريش منعه إلا أن يدلهم على ماله ويتخلى عنه، ففعل، فخلوا سبيله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ربح البيع أبا يحيى"، فأنزل الله تعالى فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، وروى عنه عبد الله بن عمر، وكعب الأحبار، وعبد الرحمن بن أبي ليلي، وأسلم مولى عمر، وجماعة. وتوفي بالمدينة سنة (39 هـ) رضي الله عنه.

راجع: الإصابة: 2/ 195، والاستيعاب: 2/ 174.

(2)

اشتهر هذا الأثر في كلام الأصوليين، وأصحاب المعاني، وأهل العربية من حديث عمر، ورفعه البعض، ونقل عن الحافظ أنه عثر عليه في مشكل الحديث لابن قتيبة، ولكن بدون إسناد، وبعضهم ذكر بأنه لم يثبت حديثًا، ولا من قول عمر لكن أبا نعيم روى عن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن سالمًا شديد الحب لله عز وجل، لو كان لا يخاف الله عز وجل ما عصاه".

راجع: حلية الأولياء: 1/ 177، والمقاصد الحسنة: ص/ 444 - 445، وكشف الخفاء: 2/ 446 - 447، وأسنى المطالب: ص/ 244.

ص: 163

واختار المصنف - وفاقًا لوالده رحمه الله: أنها لامتناع الشرط واستلزام التالي سواء كان التالي مثبتًا أو منفيًا ثم ينتفي التالي إن كان بين التالي والمقدم مناسبة عرفية، أو عقلية، ولم يكن للمقدم خلف من ماصدقات التالي ليحصل التالي في ضمنه نحو: لو كان إنسانًا، لكان حيوانًا: إذ لا يلزم من انتفاء الإنسان انتفاء الحيوان لوجود الخلف من سائر أنواع الحيوان، بخلاف ما إذا لم يكن له خلف نحو:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

ونحن نقول - في هذا المختار -: نظر من وجوه: الأول: أنه لا يمكن أن يكون وضع "لو" لما ذكره: لأنها إذا وضعت لامتناع الشرط لا يعقل أن تدل على استلزام الشرط نفسه للجزاء: لأنك إذا قلت: لو جئتني لأكرمتك، فدلت لو على امتناع المجيء، وإذا كان المجيء ممتنع الوجود، كيف يستلزم وجوده، وجود الجزاء؟ .

الثاني: قوله: "ثم ينتفي التالي إن كان بينه، وبين المقدم مناسبة" غير سديد: لأنه جعل وجود الشرط ملزوم [الجزاء](1)، ولا يلزم من انتفاء الملزوم انتفاء اللازم، وإن كان اللازم عقليًا، فكيف بالمناسبة المذكورة (2) / ق (52/ ب من ب).

(1) في (ب): "من الجزاء".

(2)

آخر الورقة (52/ ب من ب).

ص: 164

فإن قلت: قد قال المصنف: إن انتفاء التالي يكون لازمًا إذا لم يوجد خلف المقدم.

قلت: وجود الخلف، وعدمه لا دخل له في دلالة الكلمة، والاستدلال بها.

ألا ترى: أن المنطقيين أجمعوا على عدم جواز الاستدلال بانتفاء المقدم على انتفاء التالي، وإن كان التالي مساويًا للمقدم نحو: لو كان هذا إنسانا لكان ناطقًا (1) / ق (51/ ب من أ).

الثالث: أنها إذا لم تدل على انتفاء التالي - لأنها موضوعة لامتناع الشرط الذي وجوده مستلزم لوجود الجزاء، مع عدم دلالته على ثبوت الجزاء، أو انتفائه، وترتب انتفاء الجزاء يكون ناشئًا من المناسبة المذكورة - يكون مخالفًا لإجماع أهل العربية لإجماعهم على أنها لامتناع الجزاء، لامتناع الشرط، أي: امتناع الشرط علة لامتناع الجزاء.

وأهل المنطق: لأنهم مطبقون على أنها لانتفاء الشرط لانتفاء الجزاء، أي: انتفاء الجزاء علة لانتفاء الشرط: لأن ما اختاره لا يوافق شيئًا من المذهبين.

الرابع: لا ريب - عند من يعتد به - أن "لو"، وضعت لتعليق أمر بآخر، مع الجزم بانتفاء المعلق عليه في الماضي قطعًا، فيلزم انتفاء المعلق أيضًا.

(1) آخر الورقة (51/ ب من أ).

ص: 165

وعلى ما اختاروه لا تعليق إذ "لو"، موضوعة لانتفاء الشرط الذي وجوده مستلزم لوجود الجزاء.

وأما الانتفاء المذكور إنما حصل من المناسبة، فلا ربط بين الانتفاءين، فتأمل! .

فإن قلت: قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] ما معناه؟ ، ومن أي قبيل هو من الواردة لبيان السببية - على ما ذهب إليه الجمهور -، أو للاستدلال؟ .

قلت: قيل: إنه للاستدلال على صورة القياس الاقتراني، أي:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} ، فينتج: لو علم الله فيهم خيرًا لتولوا.

واعترض: بأنه على تقدير علم الله فيهم خيرًا التولي غير ممكن.

أجيب: بأن علم الله فيهم خيرًا محال، والمحال يجوز أن يستلزم المحال.

ورده بعض الأفاضل (1): بأن "لو"، لم تستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني، وإنما تستعمل في الاستثنائي الذي يكون المستثنى فيه يقتضي التالي، نحو:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، لكن لم تفسدا، فلا آلهة، بل الآية واردة لبيان السببية، أي: سبب انتفاء

(1) جاء في هامش (أ، ب): "هو التفتازاني في مطوله" راجع المطول على التلخيص: ص/ 70.

ص: 166

الإسماع هو العلم بانتفاء الخير فيهم، ثم ابتدأ كلامًا آخر، وقال:{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} [الأنفال: 23] كيف، ولم يسمعهم؟ ، فهو من قبيل:"لو لم يخف الله لم يعصه".

ثم جوز الفاضل المذكور آنفًا أن تكون "لو" في قوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} على أصله لبيان السببية، ومعناه: أن انتفاء التولي حاصل منهم لانتفاء الإسماع من الله تعالى.

ولما توجه: أن انتفاء التولي خير، وقد أخبر الله تعالى أنه لا خير فيهم.

أجاب: بأن عدم التولي ليس بخير مطلقًا، بل إذا سمعوا أحكام الله، ولم يتولوا، وأما إذا لم يتولوا لعدم الإسماع إياهم لعلمه بأن لا خير فيهم، فلا خير في عدم التولي إذا.

ثم قول المصنف: "وثبت إن لم يناف"، أي: ثبت التالي إن لم يناف وجوده انتفاء المقدم، وناسب بالأولى نحو:"لو لم يخف الله لم يعصه".

إشارة إلى ما ذكرناه من أنه تستعمل للدوام، واللزوم، إذا كان ترتبه على نقيض الشرط أولى.

وقوله: "إن لم يناف" زائد، لا فائدة في ذكره: لأنه شرط أن يكون مناسبًا لنقيض الشرط من باب الأولى، فكيف يتصور أن يكون منافيًا لانتفاء الشرط؟

وقوله: "أو المساواة: كـ: لو لم تكن ربيبة لما حلت للرضاع".

ص: 167

وقوله: "أو الأدون كقولك: لو انتفت أخوة النسب لما حلت للرضاع".

من فروع: لو لم يخف الله، والملحقات به لعدم التفاوت في أصل المراد.

قوله: "وترد للتمني، والعَرْض، والتحضيض".

مثال التمني: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] / ق (53/ أمن ب).

والعرْض نحو: لو نزلت بنا ليلة [حيث يعلم أنه لا ينزل.

والتحضيض: حيث] (1) يكون القصد الحث على الفعل.

قوله: "والتقليل / ق (52/ أمن أ) نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا، ولو بظلف (2) محرق" (3) ".

أي: لا تردوا السائل محرومًا، ولو تصدقتم عليه بأدنى شيء خير من رده خائبًا.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

الظلف - بكسر الظاء المعجمة -: للبقر، والغنم، كالحافر للفرس والبغل، والخف للبعير، والمقصود المبالغة، والمحرق، أي: المشوي.

راجع: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 3/ 159.

(3)

وفي رواية: "ردوا المسكين. . . الحديث"، وفي أخرى:"ردوا السائل. . .".

راجع: الموطأ: ص / 575، والمسند للإمام أحمد: 4/ 70، 5/ 281، 6/ 282، وسنن أبي داود: / 1/ 387، وسنن الترمذي: 3/ 52، وسنن النسائي: 5/ 81.

ص: 168

والحق: أن هذا من قبيل ما استعمل فيه "لو"، مستقبلًا، إذ معناه: الحث على التصدق، كما قدمنا في قوله:"اطلبوا العلم، ولو بالصين"(1)، والتقليل عُلِمَ من خصوص المثال.

ولو قال: زيد صديقك القديم أهل للبر، ولو أعطيته جميع ما تملكه كان المعنى بحاله على الاستقبال (2).

قوله: "الثاني والعشرون: لن".

أقول: من تلك الأحرف المتداولة كلمة لن، وفي أصلها خلاف، فهى حرف مقتضب، عند سيبويه، وهو إحدى الروايتين عن الخليل، وأصلها: لا أن، عند الفراء (3).

وعملها: نصب المضارع، ومعناها: نفي الفعل المستقبل، بلا تأكيد، وتأبيد عند المصنف، والتأكيد، والتأبيد مفوض إلى القرائن.

(1) تقدم مع تخريجه ص/ 162.

(2)

راجع معاني لو: المفصل: ص/ 320، ورصف المباني: ص/ 289، والجنى الداني: ص/ 272، والصاحبي: ص/ 163، ومغني اللبيب: ص/ 337، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 363، والطراز: 2/ 211، والإتقان: 2/ 236، ومعترك الأقران: 2/ 253، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 107، وفواتح الرحموت: 1/ 249.

(3)

هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي المعروف بالفراء، كان أبرع الكوفيين، وأعلمهم بالنحو، واللغة، وفنون الأدب من كتبه: معاني القرآن، والحدود، والمصادر في القرآن، وغيرها، وتوفي سنة (207 هـ).

راجع: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 366، ووفيات الأعيان: 5/ 225، وبغية الوعاة: 2/ 333.

ص: 169

والأظهر: أن معناها: التأكيد، والتأبيد هو المتبادر في مواطن الاستعمال، إلا لقرينة صارفة. ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34]. إذ لا ريب أنهم نفوه على التأبيد.

وقول موسى - صلوات الله عليه -: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17].

وقول أخي يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80].

وقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7].

وحيث قارنه التأبيد يكون نصًا في التأبيد، وبدونه ظاهرًا.

وهذه الاستعمالات الكثيرة دعوى القرينة فيها بعيد جدًا.

وأما الجواب - عن استدلال "الكشاف"(1) بها في: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]- واضح.

إذا قلنا: إنها ظاهرة في التأبيد يجب صرفها عن ظاهرها للدلائل الدالة على وقوع الرؤية، أو لن تراني في دار التكليف (2).

(1) راجع الكشاف للزمخشري: 2/ 112 - 114.

(2)

سيأتي الكلام على مسألة الرؤية، وبيان مذهب أهل الحق فيها في آخر الكتاب.

ص: 170

وقولنا: تفيد التأبيد، معناه: ما دام التكليف باقيًا.

ألا ترى: أنه تعالى نفى تمني اليهود الموت على سبيل التأبيد بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، مع أن اليهود في جهنم يتمنون الموت كل ساعة.

قوله: "وترد للدعاء"، نحو: لن تصاب بأمر تكرهه.

والحق: أن هذا ليس خاصة معناه، بل جميع أدوات النفي تشاركه.

نحو: لا زلت منصورًا على الأعداء.

قولِه: "الثالث والعشرون: ما، ترد اسمية، وحرفية".

أقول: من تلك الحروف المتداولة لفظة: ما، وهى مشتركة بين الاسم، والحرف.

فالاسمية موصولة نحو: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

وموصوفة نحو: مررت بما يعجب، أي شيء معجب، فهى إذًا نكرة موصوفة.

وللتعجب نحو: ما أحسن الدين، والدنيا إذا اجتمعا.

واستفهامية نحو: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ} [يوسف: 51]؟

وشرطية نحو: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2].

وقسمها المصنف قسمين: زمانية نحو: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وغير زمانية كما ذكرنا من المثال.

ص: 171

والحق: أن الزمانية، وعدم الزمانية ليس راجعًا إلى معنى الشرط إذ معنى الشرط تعليق أمر بآخر، ولا نظر في ذلك إلى كونه زمانيًا، أو غير زماني، بل لا يتصور التعليق إلا في الزمان.

فذلك الذي ذكره بعض النحاة، وتبعهم المصنف هو معنى الدوام، لا الزمان، يظهر بالنظر في الأمثلة التي ذكروها للزماني.

والحرفية منها المصدرية، وقسمها - أيضًا - إلى الزمانية نحو:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وإلى غير الزمانية نحو:

يسر المرء ما ذهب الليالي

وكان ذهابهن له ذهابا (1)

والكلام فيها، كالكلام في الشرطية (2) / ق (52/ ب من أ)، وأن الزمان ليس راجعًا إلى المعنى المصدري ونافية نحو:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144].

وزائدة للتأكيد إما كافة (3) / ق (53/ ب من ب) نحو: قلما يوجد مثل زيد فاضل.

وغير كافة إما عوض نحو: افعل كذا إما لا، أي: إن كنت لا تفعل غيره.

(1) استشهد بهذا البيت ابن هشام، وذكر محيي الدين عبد الحميد أنه لم يجد أحدًا ممن استشهد به نسبه إلى قائل معين. راجع: قطر الندى وبل الصدى: ص/ 41.

(2)

آخر الورقة (52 / ب من أ).

(3)

آخر الورقة (53 / ب من ب).

ص: 172

أو غير عوض نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159](1).

قوله: "الرابع والعشرون: مِن، لابتداء الغاية".

أقول: من تلك الحروف المتداولة كلمة من، ذكر المصنف: أن معنى الابتداء غالب فيها، وعبر عنه - في "المحصول" -: بأنه المشهور، ثم اختار أنها للتمييز. لوجوده في جميع معانيه (2).

والبيضاوي: أنها للبيان، وغيره مجاز دفعًا للاشتراك (3).

وفي أصول الحنفية: أنها حقيقة في التبعيض (4).

مثال الابتدائية: سرت من البصرة.

ومثال التبعيضية: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] على الأصح.

والتبيين: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30].

والتعليل نحو: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32].

والبدل نحو: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"(5).

(1) راجع معاني ما: مغني اللبيب: ص/ 390 - 395، ومعجم الأدوات النحوية: ص/ 102، والإتقان في علوم القرآن: 2/ 242 - 245.

(2)

راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 529 - 530.

(3)

راجع: الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج: ص/ 56.

(4)

راجع: التقرير والتحبير: 2/ 65، وتيسير التحرير: 2/ 107.

(5)

راجع: صحيح البخاري: 9/ 117، وصحيح مسلم: 2/ 95.

ص: 173

والغاية [نحو](1): فلان قريب من زيد، أي: إليه، والحق: أنها ابتدائية، أي: المسافة منه قريبة إلى زيد.

وتنصيص العموم نحو: ما في الدار من أحد، إذ بدون من لفظ ما ظاهر في العموم، ومع من نص لا يحتمل غيره، ولفظ من زائدة، والنصوصية من خصوص المقام، لا أنها معنى من.

وللفصل، أي: التمييز بين الشيئين نحو: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

قيل: وتدخل على ثاني الضدين في هذه الصورة، كما في هذه الآية الكريمة.

قوله: "ومرادفة الباء" مصدر من باب المفاعلة نحو: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] أي: به".

[وبمعنى](2) عن نحو: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء: 97] أي: عن هذا.

أو في نحو: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] أي: فيه.

وعند نحو: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10] أي: عند الله.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 174

وعلى نحو: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الأنبياء: 77](1) أي: عليهم.

قوله: "الخامس والعشرون: من".

أقول: من تلك الكلمات المتداولة لفظ من، وهى تكون شرطية نحو:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94].

واستفهامية نحو: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].

وموصولة نحو: أكرمن من تعرفه.

ونكرة موصوفة نحو:

كفى بنا فضلًا على مَن غيرِنا

حبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا (2)

وأثبت أبو علي الفارسي "من" التامة نكرة بمعنى إنسان، أو شخص.

والجمهور: لم يثبتوه لعدم الظفر بشاهد يعتمد عليه (3).

(1) وراجع معاني من: الصاحبي: ص/ 172، والمفصل: ص / 283، والجنى الداني: ص / 308، ورصف المباني: ص/ 322، والإشارة إلى الإيجاز: ص/ 35، ومغني اللبيب: ص/ 419، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 415، والأزهية: ص/ 292، والإتقان: 2/ 247، والقواعد لابن اللحام: ص/ 150.

(2)

نسب هذا البيت إلى حسان بن ثابت، وليس في ديوانه، وإلى كعب بن مالك، وحفيده بشير بن عبد الرحمن، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جميعًا.

راجع: الكتاب: 1/ 269، وأمالي الشجري: 2/ 169، وشرح المفصل لابن يعيش: 4/ 12، وخزانة الأدب: 2/ 545.

(3)

راجع: معاني من: مغني اللبيب: ص/ 431 - 435، والأزهية: ص/ 100 - 105.

ص: 175

قوله: "السادس والعشرون: هل".

أقول: من تلك الحروف المتداولة لفظ: هل، وهى للتصديق، أي: للسؤال عنه نحو: هل قام زيد.

والجمهور: لم يقيدوا التصديق، والمصنف قيده بالإيجابي احترازًا عن التصديق السلبي.

والظاهر: أنها اختصت بالإيجابي: لأن أصلها أن تكون بمعنى قد، مع همزة الاستفهام.

وقد جاء صريح الهمزة معها نحو:

سائل فوارسَ يربوعٍ بشدتنا

أَهلْ رأونا بسفح القاعِ ذي الأكمِ (1)

ولا معنى للهمزة، مع قد في الفعل المنفي، يعرف بالتأمل! .

ولما كانت لطلب التصديق، امتنع أن يقال: أزيد قام أم عمرو؟ .

ولأن وقوع المفرد بعد أم دليل كون أم متصلة، وبين "أم" المتصلة و"هل" تدافع: لأن المتصلة لطلب التصور، أي: تعينه بعد الحكم، وهل لطلب التصديق، فيتنافيان.

(1) هذا البيت من قصيدة لزيد الخيل بن مهلهل بن منبه بن عبد رضا من طيئ من أبطال الجاهلية، ولقب بزيد الخيل لكثرة خيله، أو لكثرة طراده لها لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم سنة (9 هـ) وتوفي فيها.

راجع: شرح المفصل لابن يعيش: 8/ 152 - 153، والأعلام: 3/ 101 - 102.

ص: 176

ويقبح: هل زيدًا ضربت: لأن التقديم يستدعى حصول/ ق (53 / أمن أ) التصديق.

وإنما الكلام في المفعول أزيد هو، أم عمرو؟ .

فإن قلت: إذا كان التصديق حاصلًا ينبغى أن يكون ممتنعًا لا قبيحًا، وإلا فما وجهه؟

قلت: يحتمل أن يكون [زيدًا مفعولًا](1) لفعل يفسره الفعل الظاهر، لكن لما لم يشتغل الفعل المفسر بالضمير قبح لذلك.

واعلم: أن هل، إذا دخلت المضارع صيرته نصًا في الاستقبال [فإذا وقع ضرب من مخاطبك على أخيه، فلا يصح أن تقول: هل تضرب زيدًا، وهو أخوك لا، لأن الجملة الحالية تنافي الاستقبال](2)، بل لأن الفعل الواقع في الحال لا ينكر بلفظ موضوع للاستقبال.

وتنقسم هل إلى بسيطة/ ق (54/ أمن ب)، ومركبة، فالبسيطة، يكون الوجود في تصديقها محمولًا نحو هل العشاء موجودة؟ ، والمركبة يكون الوجود فيها معلومًا، والمحمول يكون صفة مرتبة على الوجود نحو: هل حركة زيد سريعة، أو بطيئة (3)؟ .

(1) في (أ، ب): "زيدًا مفعول" والصواب المثبت.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

راجع الكلام على هل: مغني اللبيب: ص/ 456 - 462، ورصف المباني: ص/ 406، والأزهية: ص/ 208 - 210.

ص: 177

ثم المصنف ترك الهمزة، وكان الأولى ذكرها: لأنها أصلية في باب الاستفهام، وأوسع معنى لوقوعها في التصور سؤالًا عن المحكوم عليه، نحو: أزيد قائم، أم عمرو؟ والمحكوم به، نحو: في الخابية عسلك، أم في الزق (1)؟ وفي التصديق نحو: أقام زيد، أم عمرو؟ وباقي أدوات الاستفهام كلها للتصور فقط.

قوله: "السابع والعشرون: الواو لمطلق الجمع".

أقول: من تلك الحروف المتداولة الواو، وهى للجمع المطلق، أي: للجمع المشترك بين المعية، والترتيب، فإذا قلت: جاء زيد، وعمرو أفاد صدور المجيء عنهما، ويحتمل أن يكون مجيء زيد قبل عمرو، والعكس، والمعية، كذا ذكره أبو على الفارسي، ونص عليه سيبويه في الكتاب في خمسة عشر موضعًا (2)، هذا هو المختار نقلًا، ودليلًا، وقيل: للترتيب، وقيل: للمعية (3).

(1) الخابية من خبأت الشيء، إذا سترته وحفظته، وترك الهمز تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وربما همزت على الأصل.

والخابية: الحُبُّ، وعاء يوضع فيه الماء، وهى الجرة الكبيرة. والخباء ما يعمل من وبر أو صوف، وقد يكون من شعر، والجمع أخبية، ويكون على عمودين، أو ثلاثة، وما فوق ذلك، فهو بيت. والزق: السقاء، وجع القلة أزقاق، والكثرة زقاق.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 167، 273، والمصباح المنير: 1/ 163، 1/ 254.

(2)

راجع: الكتاب له: 1/ 437 - 439.

(3)

راجع معاني الواو: رصف المباني: ص/ 410، والجنى الداني: ص/ 158، والصاحبي: ص/ 117، والمفصل: ص/ 304، ومغني اللبيب: ص/ 463، والبرهان في علوم القرآن: 4/ 435، والإتقان: 2/ 255، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 99، والعضد على ابن الحاجب: 1/ 189، والمسودة: ص/ 355، وكشف الأسرار: 2/ 109، وفواتح الرحموت: 1/ 229.

ص: 178

لنا - على المختار - ما نقلناه من أئمة العربية، ولو كان للترتيب، لكان قولنا: جاء زيد، وعمرو يعد تكرارًا، ولو كان للمعية لكان تناقضًا.

قالوا: قال الله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، والسجود بعد الركوع إجماعًا.

قلنا: مستفاد من قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(1) جمعًا بين الأدلة.

قالوا: لما نزل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] قال صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به"(2).

قلنا: لنا، لا علينا إذ لو كان مستفادًا منه لما أمر به.

قالوا: خطب أعرابي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"من أطاع الله ورسوله، فقد اهتدى، ومن عصاهما، فقد غوى".

فقال صلى الله عليه وسلم: "بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن عصى الله ورسوله"(3)، فلو كان الواو لمطق الجمع - على ما زعمتم - لما كان فرق بين العبارتين، ولو لم يكن فرق لما رده، وما ذاك إلا أن في العطف ترتيبًا لم يكن في عدمه لعدم فارق آخر.

قلنا: الفارق: هو التعظيم إذ الإفراد بالذكر مُؤْذِن بالتعظيم، ومعصيتهما لا ترتيب فيها، إذ مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم عين مخالفة الله لأنه مبلغ عنه.

(1) راجع: صحيح البخاري: 1/ 165، وصحيح مسلم: 2/ 134، والفتح الرباني: 3/ 4، وسنن النسائي: 2/ 9، وسنن الدارقطني: 1/ 272، وسنن الدارمي: 1/ 229، وتلخيص الحبير: 1/ 193.

(2)

راجع: صحيح مسلم: 4/ 40.

(3)

راجع: صحيح مسلم: 3/ 12 - 13، والمسند للإمام أحمد: 4/ 256.

ص: 179

قالوا: لو قال - لغير المدخول بها -: أنت طالق، وطالق، وطالق تقع واحدة، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثًا تقع الثلاث، فلو لم تكن الواو للترتيب لم يكن فرق في المسألتين.

قلنا: عدم وقوع الثلاث ممنوع إذ قال به مالك في المسألة الأولى أيضًا، وهو قول قديم للشافعي (1).

وأما قوله الجديد، وهو المذهب، فالفرق أن قوله/ ق (53 / ب من أ) - في الصورتين (2) -: أنت طالق جملة مستقلة تفيد وقوع الطلاق، بل توقف على شيء آخر (3).

وقوله: ثلاثًا. بيان متصل به يقبل منه، ويحمل على أنه قصد بقوله: أنت طالق [إيقاع الثلاث بخلاف قوله: وأنت طالق لا يصلح بيانًا لقوله: أنت طالق](4) فيتم الكلام به، وتحصل البينونة.

فإن قيل: فقد نقل عن مالك أنها مثل ثم، في وجه ذلك؟ .

أجيب: بأن مالكًا قاله - في المدخول بها -: وهو أنه إذا قال - لها -: أنت طالق، وطالق، ثم قال: أردت بالثانية تأكيد الأولى، لا يقبل منه لظهور الواو في عدم الترتيب.

قالوا: وفي هذه الصورة مثل ثم، فكما لا يقبل دعوى التأكيد في ثم، فكذا في الواو.

(1) راجع: المدونة الكبرى: 2/ 419، ومغني المحتاج: 3/ 311.

(2)

آخر الورقة (53/ ب من أ).

(3)

راجع: الأم للإمام الشافعي: 5/ 164.

(4)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 180