المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب النسخ قوله: "النسخ". أقول: النسخ - لغة -: يطلق على المعنيين: - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ٢

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

الفصل: ‌ ‌باب النسخ قوله: "النسخ". أقول: النسخ - لغة -: يطلق على المعنيين:

‌باب النسخ

قوله: "النسخ".

أقول: النسخ - لغة -: يطلق على المعنيين: الإزالة، والنقل، فقيل: بالاشتراك فيهما، وقيل: حقيقة في الإزالة مجاز في النقل إطلاقًا للفظ الملزوم على اللازم إذ الإزالة يلزمها النقل.

وقيل: بالعكس إطلاقًا للفظ اللازم على الملزوم (1). ولا يتعلق بهذا المعنى غرض أصولي. وفي عرف الشرع: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر (2).

(1) النسخ بمعنى الإزالة يرد في اللغة على نوعين: أحدهما: نسخ إلى بدل كقولهم: نسخ الشيب الشباب، ونسخت الشمس الظل، أي: أذهبته وحلت محله، الثاني: نسخ إلى غير بدل نحو: نسخت الريح الأثر، أي: أبطلته، وأزالته.

راجع: المصباح المنير: 2/ 602 - 603، ولسان العرب: 4/ 28، والقاموس المحيط: 1/ 271، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ: ص/ 8.

(2)

راجع معناه اصطلاحًا: أصول السرخسي: 2/ 54، والإشارات للباجي: ص/ 61، والإيضاح لمكي بن أبي طالب: ص/ 41، والإحكام لابن حزم: 4/ 438، والبرهان للجويني: 2/ 1193، واللمع: ص/ 30، والعدة: 3/ 778، وأدب القاضي للماوردي: 3/ 423، والمستصفى: 1/ 107، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 423، وروضة الناظر: ص/ 66، والإحكام للآمدي: 2/ 236، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 301، والتوضيح: 2/ 31، وكشف الأسرار: 3/ 155، وفتح الغفار: 2/ 130، وفواتح الرحموت: 2/ 53، وشرح العضد: 2/ 185، ونهاية السول: 2/ 548.

ص: 461

فخرج الإباحة الثابتة قبل الشرع إذا رفعت بدليل شرعي لعدم كونها حكمًا شرعيًا. وخرج الرفع بالموت، والجنون، والنوم لعدم كونها دليلًا شرعيًا.

وقوله: "متأخر". احتراز عن المقارنة، كما إذا قال: صم هذا الشهر سوى يوم الجمعة، أو صلِّ إلى آخر الشهر، فإنه لا يسمى نسخًا.

فإن قلت: الكلام يتم بآخره، فما لم يتم كلامه لا يثبت حكم حتى يكون له رفع ليخبر عنه.

قلت: الأمر كذلك، ولكن الحدود تصان عما يوهم خلاف المقصود، وما ذكرناه يدل صريحًا، وإن كان بالتأمل يعلم أن ذلك غير وارد.

والمراد بالحكم: ما هو صفة فعل المكلف كالوجوب، والحرمة، لا خطاب الله، فلا يرد أن الحكم قديم، فلا يمكن رفعه (1) / ق (83/ ب من ب) لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

وأجيب - أيضًا -: بأن المراد من رفعه، رفع تعلقه، وفيه تكلف لا يخفى.

وقيل: النسخ بيان انتهاء الحكم الشرعي (2)، ولم يقبله المصنف: لأنه

(1) آخر الورقة (83/ ب من ب).

(2)

وهو قول أبي محمد بن حزم، والفخر الرازي، وإمام الحرمين، والبيضاوي.

راجع: الإحكام لابن حزم: 4/ 438، والبرهان: 2/ 1293، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 428، ونهاية السول: 2/ 548. واختار هذا الأستاذ، ونقل عن أكثر الفقهاء. وما اختاره المصنف هو قول القاضي، والغزالي، وغيرهما. =

ص: 462

يرد عليه النسخ قبل التمكن من الفعل، كذا في بعض شروحه (1).

وليس بشيء: لأنه داخل في الحد المذكور؛ لأنه إذا ورد نص دل على الوجوب، ثم نسخ قبل التمكن، فقد بُيِّن انتهاؤه.

والحق: أن التعريفين متلازمان: لأنه إذا رفع تعلق الحكم، فقد بين انتهاؤه، وإذا بين انتهاؤه، فقد رفع تعلقه (2).

ثم قول المصنف بخطاب، يخرج عنه فعله صلى الله عليه وسلم، مع كونه ناسخًا، وربما يجاب: بأنه يعلم منه بالطريق الأولى؛ لأن دلالة الفعل على النسخ أقوى من القول.

= راجع: المستصفى: 1/ 107، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 75، وتشنيف المسامع: ق (75/ ب)، والغيث الهامع: ق (77/ أ)، والدرر اللوامع للكمال: ق (178/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 229. أما الأحناف: فقد فصلوا في التعريف، فقالوا: النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ في حق الشارع، وتبديل لذلك الحكم بحكم آخر في حقنا على ما كان معلومًا عندنا لو لم ينزل الناسخ.

راجع: أصول السرخسي: 2/ 54، والتلويح على التوضيح: 2/ 32، وكشف الأسرار: 3/ 156، وفتح الغفار: 2/ 130.

(1)

هو شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع: 2/ 74.

(2)

يعني أن الخلاف لفظي: لأن القولين متفقان على انقطاع تعلق الحكم، وعلى أن ذلك إنما يتحقق بالخطاب اللاحق، فلا يتحقق بين القولين معنى يصلح مناطًا لاختلاف يترتب عليه حكم، أما الزركشي، فيرى أن الخلاف بين التعريفين حقيقي، وليس لفظيًا حيث قال - بعد ذكر الفارق بينهما -:"وبهذا يظهر وهم من ظن أن النزاع لفظي".

راجع: تشنيف المسامع: ق (75/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 229، والدرر اللوامع للكمال: ق (178/ ب).

ص: 463

وخرج - أيضًا - الإجماع على أحد القولين، فإنه يلحق القول الآخر بالعدم، مع أنه ليس بنسخ إذ لا نسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إليه؛ لأن الإجماع إذا انعقد على حكم يكون [سنده](1) ناسخًا لا هو، فالإجماع دليل على وجود الناسخ (2).

وبعض الفضلاء (3) - في شرح المنهاج (4) - لم يهتد إلى هذا الجواب، فقال: يقدر محذوف في الحد، أي: بطريق شرعي غير الإجماع، ثم قال: إنما اشترط في الناسخ أن يكون [متراخيًا](5) لئلا يكون الكلام متناقضًا، وأنت تعلم أن كل نسخ يلزمه التناقض، بل لا يعقل نسخ إلا إذا كان أحد الدليلين منافيًا للآخر، فكيف يصح عدم التراخي باستلزامه التناقض؟ وقد ذكرنا فائدته في صدر البحث.

قوله: "فلا نسخ بالعقل". تفريع على قوله: بخطاب.

قوله: "وقول الإمام: من سقط رجلاه نُسِخَ غسلُهما مدخولٌ". يريد أن سقوط الرجلين ليس بخطاب حتى يكون رفع الغسل نسخًا.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

ذكر الزركشي أن النسخ يكون بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع، وعلى ذلك يحمل قول الشافعي الذي نقله البيهقي في المدخل أن النسخ كما ثبت بالخبر ثبت بالإجماع. راجع: تشنيف المسامع: ق (77/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع:(2/ 76)، وهمع الهوامع: ص/ 230.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "وهو الحلوائي".

(4)

نقل عنه الشارح في عدة مواضع، ولكني لم أعثر على هذا الشرح.

(5)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 464

والحق: أن الإمام لما عرف النسخ بأنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم، فهو قائل: بأن سقوط الرجلين ليس نسخًا مصطلحًا، فلا وجه لمؤاخذة مثل ذلك الإمام بما تسامح فيه، بعد ظهور مراده (1).

قوله: "ويجوز على الصحيح نسخ بعض القرآن".

أقول: النسخ إما للتلاوة، والحكم (2) / ق (82/ ب من أ)، أو لأحدهما، والكل جائز عندنا (3).

(1) ما نقل عن الإمام ذكره في باب العموم في بحث تخصيص العموم بالعقل، وفي باب النسخ ذكر عكسه، فقال في باب العموم:"فإن قيل: لو جاز التخصيص بالعقل، فهل يجوز النسخ به؟ قلنا: نعم؛ لأن من سقطت رجلاه، سقط عنه فرض غسل الرجلين، وذلك إنما عرف بالعقل".

وقال - في باب النسخ -: "ولا يلزم أن يكون العجز ناسخًا لحكم شرعي لأن العجز ليس بطريق شرعي" المحصول: 1/ ق/ 3/ 113، 429، ففهم البعض من كلامه التناقض، ولا تناقض، إذ لعله استعمل ما ذكره المصنف في أحد معانيه اللغوية، فيكون من قبيل التوسع في مفهوم النسخ، ولا يكون مراده أن العقل ينسخ به، بل يعني أن العقل أدرك سقوط الفرض لسقوط محله.

ولما فهم الإمام القرافي عن الإمام القول بأن العقل ناسخ، أخذًا بقوله في باب العموم الذي سبق فقد رد عليه بما يطول ذكره، والأولى حمل كلامه على ما سبق.

راجع: النفائس: (2/ 201/ أ - ب)، وتشنيف المسامع: ق (76/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 75 - 76، وهمع الهوامع: ص/ 230.

(2)

آخر الورقة (82/ ب من أ).

(3)

أجمع العلماء على امتناع نسخ جميع القرآن: لأنه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرة، وخالف في هذه المسألة مكي بن أبي طالب حيث أجاز أن ينسخ الله جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده. وأما نسخ بعضه فالخلاف كما ذكر الشارح. =

ص: 465

وخالف بعض المعتزلة في جواز الثلاثة (1).

لنا: أن تلاوة آية مثلًا حكم من الأحكام، وما تدل عليه حكم آخر، ولا تلازم بين الحكمين، فيجوز نسخهما، ونسخ كل منهما منفردًا لعدم المانع.

ولنا: الوقوع - أيضًا - وهو دليل الجواز، أما نسخهما، فلما روت عائشة رضي الله عنها:"كان فيما نزل عشر رضعات محرمات"(2)، وقد نسخ لفظه، وحكمه.

وأما نسخ التلاوة، مع بقاء الحكم:"الشيخ والشيخة (3) إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله" فالحكم ثابت، وإن خصص بالإحصان.

= راجع: الإيضاح له: ص/ 56 - 58، والإشارات: ص/ 66، وأصول السرخسي: 2/ 78، والعدة: 3/ 780، والمعتمد: 1/ 386، والمستصفى: 1/ 123، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 482، رروضة الناظر: ص/ 69، والإحكام للآمدي: 2/ 263، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 309، وشرح العضد: 2/ 194، والتوضيح: 2/ 36، وكشف الأسرار: 3/ 188، وفتح الغفار: 2/ 134، والمسودة: ص/ 198، وفواتح الرحموت: 2/ 73، وإرشاد الفحول: ص/ 189.

(1)

راجع: المعتمد: 1/ 386، ونهاية السول: 2/ 562، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 76.

(2)

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن".

راجع: صحيح مسلم: 4/ 167، والموطأ: ص/ 376، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: ص/ 44 - 45، 60.

(3)

قال مالك: "قوله: الشيخ والشيخة يعني الثيب، والثيبة"، وعن عمر أنه قال:"كان فيما أنزل آية الرجم، فقرأناها، ورعيناها، وعقلناها، ورجم رسول الله، ورجمنا بعده". =

ص: 466

وأما نسخ الحكم، مع بقاء التلاوة، فعدة المتوفى عنها زوجها بالحول، مع بقاء اللفظ مقروءًا (1).

قالوا: قال الله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت: 42](2)، فلو نسخ لتطرق إليه البطلان.

قلنا: الضمير لجميع القرآن، ولو سلم النسخ ليس مستلزمًا للبطلان، إذ هو رفع الحكم بدليل متراخ.

قالوا: لو نسخ لفات مقصود الإنزال.

قلنا: ممنوع، لم لا يجوز أن يكون فائدته الابتلاء، أو الإعجاز، أو ثواب التلاوة حيث كان / ق (84/ أمن ب) النسخ للحكم وحده.

قوله: "والفعل قبل التمكن".

= فهذا الحكم باق، واللفظ مرتفع، لرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزًا، والغامدية، واليهوديين.

راجع: صحيح البخاري: 8/ 205، 209، وصحيح مسلم: 5/ 116، 119، والموطأ: ص/ 515، وسنن أبي داود: 2/ 463، وسنن ابن ماجه: 2/ 115 - 117.

(1)

والآية المنسوخة حكمًا هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] نسختها الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

(2)

والمعنى لا يأتيه ما يبطله، وليس للبطلان إليه سبيل.

راجع: تفسير ابن كثير: 4/ 103.

ص: 467

أقول: المختار جواز النسخ قبل التمكن من الفعل، مثل أن يقول الشارع: حجوا هذه السنة، ثم قبل دخول الوقت، أو بعد الدخول، وقبل مضي وقت يسعه الفعل، فقال: لا تحجوا، خلافًا للصيرفي منا، والمعتزلة (1).

لنا: أنه قد ثبت أن توجه التكليف إنما هو قبل وقت الفعل، فيجوز رفعه بالنسخ، كما يرفع بالموت: لأنهما سواء في أن الحكم كان ثابتًا قبلهما.

وفيه نظر: لأن التكليف مقيد بعدم الموت عقلًا، فلا رفع في الموت.

والحق: أن الدليل على وقوع النسخ قبل التمكن هو حديث نسخ الصلوات ليلة الإسراء (2).

(1) وأكثر الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة. وأما مذهب جمهور الأصوليين وأكثر الفقهاء الجواز كما ذكر الشارح.

راجع: اللمع: ص/ 31، والتبصرة: ص/ 260، والإشارات للباجي: ص/ 69، والبرهان للجويني: 2/ 1303، والعدة: 3/ 807، والإحكام لابن حزم: 4/ 472، والمعتمد: 1/ 375، والإيضاح لمكي بن أبي طالب: ص/ 100، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 467، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 307، والمسودة: ص/ 207، ومناهج العقول: 2/ 171، والتلويح على التوضيح: 2/ 33، وكشف الأسرار: 3/ 169، ونهاية السول: 2/ 562.

(2)

هو حديث أنس بن مالك، وفيه:"فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل، وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب خفف على أمتي، فحط عني خمسًا. . ." الحديث. =

ص: 468

ولنا - أيضًا -: أن مقصود الشارع إما الاعتقاد، والعمل بموجبه، أو الاعتقاد وحده لحصول الابتلاء في الصورتين.

وإذا جاز أن يكون الاعتقاد مقصود الشارع، فجواز النسخ قبل التمكن ظاهر، بل نقول: الاعتقاد أقوى من العمل لاحتمال سقوطه بعذر كالإقرار في الإيمان إذا كان قلبه مطمئنًا (1)، وكسقوط الصلاة، والصوم بالأعذار.

ومما يؤيده نزول المتشابه، على القول بأن الله مستأثر بعلمه إذ لا فائدة في الإنزال سوى الاعتقاد.

هذا. وقد ذهب الجمهور إلى أن قصة ذبح الخليل ولده (2) من قبيل النسخ قبل التمكن من الفعل.

وجه الاستدلال: أنه لو لم يكن مأمورًا بذبح ولده لما احتيج إلى الفداء لأنه بدل الواجب قطعًا.

وأيضًا: لو لم يكن واجبًا لما جاز له الإقدام عليه، والاشتغال بمقدماته (3).

= راجع: صحيح البخاري: 1/ 93 - 94، وصحيح مسلم: 1/ 101، وتحفة الأحوذي: 1/ 626، وسنن النسائي: 1/ 222 - 223، وسنن ابن ماجه: 1/ 425 - 426.

(1)

يعني قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].

(2)

يعني المذكورة في قوله تعالى: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} الآيات [الصافات: 102 - 107].

(3)

راجع: المستصفى: 1/ 112، وروضة الناظر: ص/ 70، والإحكام للآمدي: 2/ 253، وشرح العضد: 2/ 190، ونهاية السول: 2/ 564، وفواتح الرحموت: 2/ 64، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 78، وهمع الهوامع: ص/ 231، وتشنيف المسامع: ق (76/ أ)، والغيث الهامع: ق (77/ ب).

ص: 469

والحق: أن هذه القصة ليست من قبيل النسخ قبل التمكن من الفعل للقطع بأنه تمكن من الذبح، لولا المانع من الخارج.

وأما كونه نسخًا قبل الفعل، فالنسخ لا يكون إلا كذلك، ولهذا قال إمام الحرمين:"كل نسخ واقع، فهو متعلق بما كان تعذر وقوعه في المستقبل، فإن النسخ لا ينعطف على متقدم سابق"(1).

قالوا: إن كان مأمورًا به في ذلك الوقت توارد النفي والإثبات، وإن لم يكن، فلا نسخ.

الجواب: أن الوقت الذي قبل التمكن ذو أجزاء، فالإثبات في بعض، والنفي في بعض آخر، فلا تناقض. هذا خلاصة الكلام في هذه المسألة، والله أعلم.

قوله: "والنسخ بالقرآن لقرآن" إلى آخره.

أقول: اتفق القائلون بجواز النسخ / ق (83/ أمن أ) على جواز نسخ القرآن بالقرآن كنسخ العدة بالحول، بأربعة أشهر وعشرًا (2)، وكذا نسخ الخبر المتواتر بالمتواتر،

ص: 470

والآحاد بالآحاد، والآحاد بالمتواتر أولى، وأجدر (1).

وإنما الخلاف في نسخ المتواتر بالآحاد، الجمهور على عدم جوازه (2).

= وكذا نسخ وجوب ثبوت الواحد للعشرة في فوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65 - 66].

(1)

راجع: الرسالة: ص/ 106، والتبصرة: ص/ 272، واللمع: ص/ 32، وأصول السرخسي: 2/ 67، والعدة: 3/ 802، والإحكام لابن حزم: 4/ 477، والبرهان: 2/ 1307، والمعتمد: 1/ 390، والاعتبار للحازمي: ص/ 24 - 29، والإيضاح لمكي بن أبي طالب: ص/ 67، وأدب القاضي للماوردي: 1/ 346، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 495، والمسودة: ص/ 205، وكشف الأسرار: 3/ 175، وفتح الغفار: 2/ 133، والتلويح على التوضيح: 2/ 34.

(2)

المشهور جوازه عقلًا، وحكى الآمدي، وغيره الاتفاق عليه، غير أن الخلاف ثابت، منقول في ذلك، وأما وقوعه فالمشهور عن الجمهور المنع. وذهب بعض أهل الظاهر إلى جوازه، واختاره الطوفي من الحنابلة. وذهب القاضي أبو بكر، والباجي، والقرطبي، والغزالي إلى وقوعه في زمنه صلى الله عليه وسلم دون ما بعده؛ لأنه ثبت عنه أنه كان يبعث الآحاد بالناسخ إلى أطراف البلاد ولما ذكره الشارح من تحول أهل قباء.

راجع: الإشارات: ص/ 74، والإحكام لابن حزم: 4/ 477، والمستصفى: 1/ 124، وروضة الناظر: ص/ 79، والإحكام للآمدي: 2/ 267، وفواتح الرحموت: 2/ 76، ومختصر الطوفي: ص/ 81، وشرح العضد: 2/ 195، ونهاية السول: 2/ 578، ومناهج العقول: 2/ 179، وتشنيف المسامع: ق (76/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (77/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 78، وهمع الهوامع: ص/ 233.

ص: 471

وقد عرفت من هذا التقرير أن عطف المصنف هذه المسألة على ما قبلها ليس برضي: لأنه يفهم منه أن نسخ القرآن بالقرآن مختلف فيه، وليس كذلك بل مناط الخلاف هو هذا القسم الأخير.

لنا: أن الآحاد مظنون، والمتواتر قطعي، فلا تعارض بين مظنون، وقطعي. قالوا: قد نسخ المتواتر - في عصره - بالآحاد، إذ التوجه إلى بيت المقدس كان متواترًا، وقد صح أنه لما حولت القبلة نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحويل، فاستدار أهل مسجد قباء، أو غيره إلى الكعبة (1): فقد نسخ المتواتر بالآحاد.

قلنا: خبر الآحاد (2) / ق (84/ ب من ب) إذا حفت به القرائن يصير قطعيًا، ونداء الصحابي من هذا القبيل: لأن العقل قاطع بأن نداءه على رؤوس الأشهاد، والنبي [صلى الله عليه وسلم](3) بين أظهرهم لا يكون إلا بأمره.

(1) روى البخاري، ومسلم، والنسائي، وغيرهم عن البراء بن عازب، وابن عمر وأنس رضى الله عنهم، ولفظ البراء قال:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا حتى نزلت الآية التي في البقرة: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فنزلت بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار، وهم يصلون، فحدثهم، فولوا وجوههم قبل البيت".

راجع: صحيح البخاري: 1/ 104 - 105، وصحيح مسلم: 2/ 65 - 66، وسنن النسائي: 1/ 242 - 243.

(2)

آخر الورقة (84/ ب من ب).

(3)

سقط من (أ) والمثبت من (ب).

ص: 472

قالوا: كان يبعث الآحاد في الوقائع، وتبليغ الأحكام بعد تقررها، فيبلغ خلاف ما عندهم.

الجواب: ما تقدم أن تلك الأخبار محفوفة بالقرائن، فتكون قطعية.

قالوا: قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذي ناب حرام"(1)، وهو خبر آحاد، وإذا جاز نسخ القرآن به، فالخبر المتواتر أجدر.

قلنا: لا نسخ هنا إذ التقدير لا أجد الآن، ولا ينافي وجود محرم في المستقبل، والحديث إنما حرم ابتداء ما كان حلالًا بالإباحة الأصلية، فلم يرفع حكمًا شرعيًا، ليكون نسخًا.

قوله: "والحق لم يقع إلا بالمتواتر" إشارة إلى أن الحق جواز نسخ المتواتر بالآحاد عقلًا، غايته: أنه لم يقع، وهذا ضعيف، ومخالف للجمهور لأنهم لم يجوزوه.

فإن قلت: ما الفرق بين التخصيص، والنسخ حيث جوزوا تخصيص القطعي بالمتواتر، ولم يجوزوا نسخه به؟

قلت: الفرق أن التخصيص بيان أن المخرج لم يكن داخلًا في مراد المتكلم، فهو في الحقيقة دفع، كما تقدم في بابه، والنسخ رفع، وإبطال لما كان ثابتًا، والوجدان حاكم بأن المبطل لا بد وأن يكون أقوى، أو مساويًا، بخلاف الدفع، فإنه يحصل بأدنى مانع.

(1) روى البخاري، ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع".

راجع: صحيح البخاري: 6/ 124، وصحيح مسلم: 6/ 59 - 60.

ص: 473

قوله: "قال الشافعي: وحيث وقع بالسنة فمعها قرآن، أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة".

أقول: المنقول عن الشافعي في جواز نسخ القرآن بالسنة، وبالعكس قولان: المنع، والجواز (1)، وأطبق المتأخرون من أصحابه على الجواز (2)، وهو المختار (3)، لما نقلناه في أول الفصل من الأدلة.

(1) بالنسبة لنسخ القرآن بالسنة المتواترة، ونسخ السنة بالقرآن فالذي صرح به الشافعي في الرسالة المنع فيهما، ونقل عنه الجواز فيهما.

وذهب بعض أهل الظاهر إلى المنع في المسألة الأولى، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وذهب أكثر الحنفية، والمالكية، وهي رواية عن أحمد، واختارها بعض أصحابه، وابن الحاجب، وحكاه عن الجمهور، واختاره ابن حزم ذهبوا إلى الجواز فيها، وقيل: يمتنع بالآحاد منها دون المتواتر لأن الظبي لا يرفع قطعيًا. وأما نسخ السنة بالقرآن، فمذهب جمهور الفقهاء، والأشاعرة، والمعتزلة جوازه عقلًا، ووقوعه شرعًا.

راجع: اللمع: ص/ 33، والتبصرة: ص/ 264، وأصول السرخسي: 2/ 67، والإشارات: ص/ 71، والإحكام لابن حزم: 4/ 477، والمعتمد: 1/ 391، 392، والاعتبار للحازمي: ص/ 26، 138، والإيضاح لمكي بن أبي طالب: ص/ 68، 122، وأدب القاضي للماوردي: 1/ 344، وروضة الناظر: ص/ 78، وأحكام القرآن للجصاص: 1/ 226، والرسالة: ص/ 106 - 108، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 313، والتوضيح: 2/ 34، وكشف الأسرار: 3/ 175، وفتح الغفار: 2/ 134، وفواتح الرحموت: 2/ 78، وإرشاد الفحول: ص/ 191.

(2)

راجع: البرهان للجويني: 2/ 1307، والمستصفى: 1/ 124، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 508 - 519، والإحكام للآمدي: 2/ 269 - 272، وشرح العضد: 2/ 197، ونهاية السول: 2/ 578، ومناهج العقول: 2/ 179، وشرح المحلي: 2/ 78، والآيات البينات: 3/ 139.

(3)

قال المصنف: "وأما نسخ الكتاب بالسنة، والسنة بالكتاب، فالجمهور على جوازه ووقوعه. . . وذهب قوم إلى امتناعها، ونقل عن الشافعي" الإبهاج: 2/ 247 - 248.

ص: 474

ثم قال المصنف: قول الشافعي في المسألة مقيد غفل عنه الناقلون، وهو أن السنة إذا نسخت القرآن، فمع تلك السنة قرآن يعضده، وكذا مع القرآن الناسخ سنة عاضدة، تبين توافق الكتاب والسنة، وما اختاره ليس مختار الشافعي، بل استنبطه من كلامه، وليس هذا الاستنباط بشيء.

أما أولًا: فلأن الكتاب نسخه للكتاب وحده هو مختار الشافعي، وجميع من قال بجواز النسخ، فإذا وجد مع السنة الناسخة آية تصلح أن تكون ناسخًا، فالنسخ يستند إليها لا إلى السنة، وما الفائدة في أن يقال: السنة ناسخة، والقرآن يعضده؟ فلم لا يكون القرآن ناسخًا ابتداء؟ وكذلك القرآن الناسخ للسنة بنسخه ابتداء إذ هو أقوى (1)، / ق (83/ ب من أ) لأنه وحي متلو معجز، والسنة وإن تواترت لا تبلغ رتبته اتفاقًا.

وأما ثانيًا: فإن كلام الشافعي في الرسالة على ما نقلوه (2) ليس إلا أن قال: "فإن قال - يريد الخصم -: هل تنسخ السنة بالقرآن؟ قيل: لو نسخت السنة بالقرآن، لكان للنبي [صلى الله عليه وسلم] (3) سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الأخيرة حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله"(4). هذا آخر كلام الشافعي، وليس في هذا أنه قوله المختار لأنه/ ق (85/ أمن ب) يصلح

(1) آخر الورقة (83/ ب من أ).

(2)

جاء في هامش (أ): "الزركشي" يعني ناقله.

(3)

سقط من (أ) والمثبت من (ب).

(4)

راجع: الرسالة: ص/ 110، وتشنيف المسامع: ق (76/ ب).

ص: 475

أن يكون تعليلًا لقوله الذي لم يوافق عليه أصحابه، بل يجب حمله على هذا القول لأن قوله:"حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله" غير مستقيم لأن نسخ الشيء بمثله - في نسخ السنة بالسنة مثل قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها"(1). وقوله: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها"(2). وكذا نسخ التقاء الختانين (3) لحديث: "الماء من الماء"(4) - كثير، فالحجة في ذلك قائمة.

(1) راجع: صحيح مسلم: 3/ 65، وسنن أبي داود: 2/ 195، وتحفة الأحوذي: 4/ 159، وسنن النسائي: 4/ 89، وسنن ابن ماجه: 1/ 476، وشرح السنة للبغوي: 5/ 462، وموارد الظمآن: ص/ 201، وفيض القدير: 5/ 55.

(2)

راجع: صحيح البخاري: 7/ 134، وصحيح مسلم: 6/ 80، والموطأ: ص/ 299، ومسند أحمد: 6/ 51، وسنن أبي داود: 2/ 89، وتحفة الأحوذي: 5/ 99، وسنن النسائي: 4/ 89، وسنن ابن ماجه: 2/ 280، والمستدرك: 4/ 232، وفيض القدير: 5/ 55، ونيل الأوطار: 5/ 126.

(3)

سبق أن خرجت رواية عائشة عند أحمد والترمذي، وابن ماجه، وقد رواه أيضًا غيرها. وعنون له البخاري باب: إذا التقى الختانان.

راجع: صحيح البخاري: 1/ 77، وصحيح مسلم: 1/ 186، والموطأ: ص/ 53، وسنن أبي داود: 1/ 49، وسنن الدارمي: 1/ 194، وموارد الظمآن: ص/ 81، وشرح السنة: 2/ 3.

(4)

الحديث رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الماء من الماء".

راجع: صحيح مسلم: 1/ 186، وسنن أبي داود: 1/ 49، وسنن النسائي: 1/ 115، وعارضة الأحوذي: 1/ 168، وسنن الدارمي: 1/ 194، وسنن البيهقي: 1/ 167.

ص: 476

قال الغزالي رحمه الله، في المستصفى بعد نقل كلام الشافعي -:"قلنا: هذا إن كان في جوازه، فلا يخفى أنه يفهم من القرآن وجوب التحول إلى الكعبة، وإن كان التوجه ثابتًا إلى بيت المقدس بالسنة إذ لا ضرورة في هذا التقدير"(1). وإنما نقلنا كلام الغزالي: لأن بعض الشراح تبجح بأن المصنف فهم من كلام الشافعي ما لم يفهمه أحد قبله (2).

فكم من عائب قولًا صحيحًا

وآفته من الفهم السقيم (3)

قوله: "وبالقياس إلى آخره".

أقول: قد اختلف في جواز النسخ بالقياس (4): قيل: يجوز مطلقًا، وبه قال المصنف: لأن الناسخ في الحقيقة هو النص الذي يستند إليه القياس.

(1) راجع: المستصفى: 1/ 125.

(2)

هو الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 2/ 79.

(3)

هذا البيت من قصيدة للمتنبي، وأول القصيدة:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

قلت: واعتراض الشارح على المحلي لا يسلم له؛ لأن الجلال المحلي لم يعب على أحد بعينه، وكونه ذكر أن المصنف فهم فهمًا لم يطلع المحلي على أحد سبقه إليه لا يستدعي ذلك الرد عليه إذ هو تكلم عما علم.

وراجع: ديوان المتنبي مع شرح العكبرى: 4/ 120.

(4)

وصورة النسخ بالقياس كان ينص على إباحة التفاضل في الأرز مثلًا، فهل ينسخ من نهيه عليه السلام الأصناف الستة، أو عن بيع الطعام إلا مثلًا بمثل؟

اختلفوا في ذلك على نحو ما ذكره الشارح رحمه الله.

فمذهب الجمهور من الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم عدم الجواز. =

ص: 477

وقيل: لا يجوز مطلقًا: لأن النص أقوى من القياس لكونه أصلًا له في الجملة.

وقيل: إن كان جليًا يصلح، وإلا فلا لضعفه، والجلي: ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.

وقيل: إن كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، والعلة منصوصة جاز النسخ به لقوته بعلته المنصوصة، والزمان قابل له، وإن لم تكن منصوصة، فلا يجوز لضعف القياس، أو بعد زمنه، فلا نسخ لحكم بعده (1).

قال ابن الحاجب: "القياس المظنون لا يكون ناسخًا، ولا منسوخًا، أما أولًا: فلأن ما قبله إن كان قطعيًا، فلا ينسخ بالمظنون، وإن كان ظنيًا، فلا بد وأن يكون القياس راجحًا عليه إذ لو كان مرجوحًا، أو مساويًا لم يقدر عليه، وإذا كان راجحًا، فالدليل الأول لم يبق معمولًا به إذ شرط العمل به رجحانه.

= راجع: اللمع: ص/ 33، وأصول السرخسي: 2/ 66، والإحكام لابن حزم: 4/ 488، والمستصفى: 1/ 126، والمسودة: ص/ 230، وكشف الأسرار: 3/ 174، وفواتح الرحموت: 2/ 84، والفقيه والمتفقه: 1/ 123، وفتح الغفار: 2/ 133، ومختصر الطوفي: ص/ 83.

(1)

راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 280، وروضة الناظر: ص/ 80، والإبهاج: 2/ 256، وتشنيف المسامع: ق (76/ ب - 77/ أ)، والغيث الهامع: ق (78/ أ).

ص: 478

وأما أنه لا ينسخ، فلأن الذي بعده إما قطعي، أو ظني، وشرطه أن لا يعارضه قطعي، أو ظني راجح، وأما المقطوع، فينسخ بالمقطوع في زمنه، وبعده يظهر أنه كان منسوخًا بنسخ حكم أصله" (1).

أما المصنف: فقد جوز أن ينسخ بقياس أجلى، وفاقًا للإمام الرازي (2).

والآمدي: اكتفى بنسخ المساوي (3)، والحق ما ذهب إليه الآمدي، إذ الناسخ في الحقيقة هو النص الذي استند إليه القياس، والنص ينسخ المساوي إذا تأخر عنه (4).

قوله: "ونسخ الفحوى دون أصله كعكسه على الصحيح".

أقول: الفحوى: عبارة عن مفهوم الموافقة، كما تقدم، وأصله منطوق اللفظ، ثم نسخهما معًا جائز اتفاقًا، ونسخ الأصل دون الفحوى جائز عند الجمهور (5).

(1) راجع: المختصر مع شرح العضد: 2/ 199.

(2)

راجع: المحصول: 1/ ق/ 3/ 537.

(3)

راجع: الإحكام له: 2/ 279.

(4)

راجع: أصحاب المذاهب الأخرى في المسألة: المعتمد: 1/ 402 - 403، والعدة: 3/ 827، والمسودة: ص/ 216، وشرح العضد: 2/ 199، ومناهج العقول: 2/ 186، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 81، والتبصرة. ص/ 274، وهمع الهوامع: ص/ 235، والإبهاج: 2/ 256، والآيات البينات: 3/ 150، وإرشاد الفحول: ص/ 193.

(5)

من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم.

واختار ابن قدامة، والطوفي، وغيرهما المنع، ونقله الآمدي عن الأكثر: لأن الفرع يتبع الأصل، ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع. =

ص: 479

وأما نسخ الفحوى/ ق (84/ أمن أ) دون الأصل نفاه الجمهور، واختاره أبو الحسين من المعتزلة (1)، وهو مختار المصنف (2).

لنا - على جواز نسخهما ما تقدم من الأدلة، فإنها شاملة للأصل والفحوي، وعلى جواز نسخ الأصل مع بقاء الفحوى مثل انتفاء تحريم (3) / ق (85/ ب من ب) التأفيف مع بقاء حرمة الضرب، إذ الأصل ملزوم، والفحوى لازم، ولا يلزم من انتفاء الملزوم انتفاء لازمه.

وعلى عكسه، وهو نسخ الفحوى بدون الأصل، إذ الفحوى والأصل معنيان متغايران، فيجوز رفع كل منهما بدون الآخر (4).

= راجع: المحصول: 1/ ق/ 3/ 539، وروضة الناظر: ص/ 80، والإحكام للآمدي: 2/ 281، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 315، والمسودة: ص/ 221، وشرح العضد على المختصر: 2/ 200، ومختصر الطوفي: ص/ 82، ونهاية السول: 2/ 596، وفواتح الرحموت: 2/ 87، والإبهاج: 2/ 257.

(1)

راجع: المعتمد: 1/ 405، ومناهج العقول: 2/ 188، وتشنيف المسامع: ق (77/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 82، والغيث الهامع: ق (78/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 235.

(2)

المصنف هنا يرى الجواز في نسخ الفحوى دون أصله، كما صححه في كلامه السابق حيث قال:"ويجوز نسخ الفحوى دون أصله كعكسه على الصحيح"، ولعل الشارح اعتبر قوله الآخر بعد هذا:"والأكثر أن نسخ أحدهما يستلزم الآخر" مذهبه في المسألة.

(3)

آخر الورقة (85/ ب من ب).

(4)

وهو مذهب أكثر المتكلمين، ولعل مأخذ الخلاف هل دلالته لفظية، أو قياسية؟ وقد تقدم ذلك في بابه.

راجع: تشنيف المسامع: ق (77/ أ)، والغيث الهامع: ق (78/ أ - ب)، وهمع الهوامع: ص/ 230 - 236.

ص: 480

وفيه نظر: لأن أحد المتغايرين إذا كان لازمًا للآخر لا يمكن رفعه بدون الآخر لامتناع بقاء الملزوم بدون لازمه، بخلاف عكسه، فإن بقاء اللازم بدون ملزومه واقع.

وأما النسخ بالفحوى، فعليه الاتفاق بناء على أنه ليس بقياس (1)، كما سبق في بحث المفاهيم.

واعلم: أن قول المصنف: "الأكثر أن نسخ أحدهما يستلزم نسخ الآخر". كلام باطل: لأنك تحققت أن الفحوى لازم، والأصل ملزوم، ورفع الملزوم لا يستلزم رفع اللازم على ما حققناه (2).

(1) نقل الاتفاق الرازي، والآمدي بناء على أنه منطوق، وأما الشيرازي وغيره، فقد جعلوه قياسًا، وعليه لا يكون ناسخًا.

راجع: اللمع: ص/ 33، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 540، والإحكام للآمدي: 2/ 281، والإبهاج: 2/ 257.

(2)

الواقع أن هذه المسألة هي عين المسألة التي سبقت قبلها، وقد علم هناك أن المصنف صحح فيها جواز نسخ مفهوم الموافقة بقسميه الأولى، والمساوي دون أصله، وهو المنطوق، كما جوز نسخ المنطوق، وهو الأصل دون المفهوم لأن الفحوى وأصله مدلولان متغايران، فجاز نسخ كل منهما وحده، وذكره هنا عن الأكثر استلزام كل منهما للآخر ينافي - في ظاهره - ما صححه في جواز نسخ كل منهما دون الآخر لأن الامتناع مبني على الاستلزام، والجواز مبني على عدمه، لذا نجد ابن الحاجب اقتصر على الجواز، مع مقابله، والبيضاوي اقتصر على الاستلزام، والمصنف جمع بينهما في المسألة. قال المحلي:"وكأنه - يعني جمع المصنف بين الجواز، والاستلزام فيها - مأخوذ من قول الآمدي: "اختلفوا في جواز نسخ الأصل دون الفحوى، والفحوى =

ص: 481

ولبعض الشراح (1) هنا كلام عجيب: وهو أنه لما نقل عن بعضهم أن نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى: لأنها تابعة له دون العكس، فلا يتضمن نسخ الفحوى نسخ الأصل.

قال: "واعلم أن هذا التعليل يشكل بقولهم: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز"، وكأنه توهم أن الجواز تابع للوجوب، وقد حققنا في: بحث الأحكام أن الوجوب، والجواز بمعنى الإباحة المأخوذة من خطاب الشارع ضدان لا يجتمعان، وبمعنى البراءة الأصلية ليس حكمًا شرعيًا، فلا إشكال.

قوله: "ونسخ المخالفة، وإن تجردت عن أصلها لا الأصل دونها".

= دون الأصل غير أن الأكثر على أن نسخ الأصل يفيد نسخ الفحوى" المشتمل على العكس أيضًا، فكأنه سرى إلى ذهن المصنف من غير تأمل أن الخلاف الثاني مفرع على الجواز من الأول، وليس كذلك، بل هو بيان المأخذ الأول المفيد أن الأكثر على الامتناع، فليتأمل! ".

وقد أسهب العبادي في إبطال اعتراض الشارح على المصنف، مبينًا صحة كلام المصنف من عدة وجوه. قلت: ويمكن حمل ما ذكره أولًا على أنه اختياره، وما ذكره ثانيًا حكاية عمن قال به.

راجع: مختصر ابن الحاجب: 2/ 200، ونهاية السول: 2/ 596، والإحكام للآمدي: 2/ 281، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 83، وتشنيف المسامع: ق (77/ ب)، والغيث الهامع: ق (78/ ب)، والآيات البينات: 3/ 151 - 152.

(1)

هو الإمام الزركشي في تشنيف المسامع: ق (77/ ب).

ص: 482

أقول: يجوز نسخ مفهوم المخالفة، مع الأصل اتفاقًا (1)، ويجوز نسخ المفهوم دون الأصل (2). لا العكس: لأنها تابع ضعيف لا استقلال له بدون الأصل.

وقيل: يجوز لأن رفع الملزوم لا يقتضي رفع اللازم.

والجواب: أن اللزوم هنا ليس عقليًا، كما في الفحوى، ولهذا لم يقل به كثير من العلماء، ولما ذكرنا من الضعف لم يجز النسخ بها عند الجمهور (3).

قوله: "ونسخ الإنشاء، ولو كان بلفظ الخبر" إلى آخره.

أقول: من قال بجواز النسخ يقول بجوازه في الإنشاء من غير خلاف إذا كان بلفظ الإنشاء.

(1) كأن ينسخ وجوب الزكاة في السائمة، ونفيه في المعلوفة الدال عليهما في الحديث، الذي سبق ذكره في المفهوم، ثم يرجع الأمر في المعلوفة إلى ما كان قبل، مما دل الدليل العام بعد الشرع من تحريم للفعل إن كان مضرة، أو إباحة له إن كان منفعة، كما يرجع في السائمة إلى ما تقدم في مسألة إذا نسخ الوجوب بقي الجواز.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 2/ 84، وهمع الهوامع: ص/ 236.

(2)

مثال نسخ مفهوم المخالفة دون أصله ما تقدم من حديث: "إنما الماء من الماء" منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".

مع أن الأصل باق، وهو وجوب الغسل بالإنزال، والمنسوح مفهومه، وهو أنه لا غسل عند عدم الإنزال.

راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 286، والمسودة: ص/ 222، وفواتح الرحموت: 2/ 89، وروضة الناظر: ص/ 80 - 81، ومختصر الطوفي: ص/ 82، والغيث الهامع: ق (78/ ب)، والآيات البينات: 3/ 152، وإرشاد الفحول: ص/ 194.

(3)

ومذهب الشيخ أبى إسحاق الشيرازي الجواز، بل جعله الصحيح من القولين.

راجع: اللمع: ص/ 33، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 84، وهمع الهوامع: ص/ 237.

ص: 483

وأما إذا كان بلفظ الخبر - أي: يكون صورة اللفظ خبرًا، ومعناه إنشاء مثل:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وقوله:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233]-، فكذلك عند الجمهور: لأن مدار الأحكام الشرعية على المعنى دون اللفظ (1).

وكذا إذا قيد الإنشاء بالتأبيد مثل: صوموا أبدًا، وكذا إذا قال - بلفظ الخبر مثل -: الصوم واجب أبدًا (2)، خلافًا للشيخ ابن الحاجب، فيما إذا كان قيد التأبيد مع الخبر (3).

(1) وخالف الجمهور في هذا أبو بكر الدقاق من الشافعية، فقال: يمنع نسخه لكون لفظه لفظ الخبر، والخبر لا يبدل، وضعفه البناني بأن ذلك في الخبر حقيقة لا فيما صورته صورة الخبر، والمراد منه الإنشاء.

راجع: اللمع: ص/ 31، والعدة: 3/ 825، والإحكام لابن حزم: 4/ 449، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 486، والإحكام للآمدي: 2/ 265، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 309، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 195، والمسودة: ص/ 196، وفواتح الرحموت: 2/ 75، وإرشاد الفحول: ص/ 188.

(2)

وهو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك بعض الحنفية، وبعض المتكلمين.

راجع: أصول السرخسي: 2/ 60، والبرهان للجويني: 2/ 1296 - 1298، والتبصرة: ص/ 255، والمعتمد: 1/ 382، وفتح الغفار: 2/ 131، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 310، والتلويح على التوضيح: 2/ 33، والمسودة: ص/ 195، وفواتح الرحموت: 2/ 68.

(3)

راجع: المختصر مع شرح العضد عليه: 2/ 192، واختار هذا أبو زيد الدبوسي وأبو منصور الماتريدي، والجصاص، والسرخسي، والبزدوي.

راجع: أصول السرخسي: 2/ 60، وكشف الأسرار: 3/ 165، وفتح الغفار: 2/ 131، وتيسير التحرير: 3/ 194، والأحكام للآمدي: 2/ 259 - 260.

ص: 484

لنا - على الأول، وهو الإنشاء المقيد بالتأبيد -: أن دلالة التأبيد. على جميع أجزاء الزمان لا يزيد على النص على تلك الأجزاء، ومع التنصيص جائز، مثل أن يقول: صم غدًا، ثم يقول: لا تصم، وإذا جاز فيما هو نص، ففي الظاهر أولى.

قالوا: يوجب البداء، والتناقض، والشارع منزه عنهما.

قلنا: لا تناقض بين إيجاب الدوام، وبين عدم دوام (1) / ق (84/ ب من أ) الإيجاب، إنما التناقض بين إيجاب الدوام، وعدم إيجابه: لأنه رفعه، وسلبه، فتأمل! .

وعلى الثاني - وهو ما إذا كان الوجوب في صورة الخبر -: أن ذلك الخبر إنما دل على الوجوب: لأنه في معنى الإنشاء، وقد برهنا على جوازه في الإنشاء.

قالوا: قوله: صوموا أبدًا، الأبد قيد للفعل، وقوله: الصوم/ ق (86/ أمن ب) واجب أبدًا قيد للوجوب، والوجوب المقيد بالأبد لا يمكن رفعه بخلاف الفعل المقيد به، هذا خلاصة ما ذكره المحقق في شرحه، وفاقًا لابن الحاجب (2).

وفيه نظر: لأن الشارع لو قال: صوم غد واجب عليكم، ثم قال: رفعت صومه، كان نسخًا، لم يخالف فيه أحد إذا كان معناه الإنشاء على ما ذكره ابن الحاجب في بحث نسخ الخبر (3).

(1) آخر الورقة (84/ ب من أ).

(2)

راجع: المختصر مع شرح العضد: 2/ 192.

(3)

نفس المرجع: 2/ 195.

ص: 485

وأما أن الأبد قيد للوجوب في المسألة المذكورة، فلا يقيد شيئًا لأن النسخ إنما يتوجه إلى الوجوب الذي هو حكم، لا إلى فعل المكلف، فإذا صح توجيهه إليه، في الزمان المنصوص كالغد مثلًا، ففي غير المنصوص بالطريق الأولى.

قوله: "ونسخ الأخبار بإيجاب الإخبار بنقيضها".

أقول: نسخ الخبر له صورتان: أحدهما: إيقاعه، بأن يكلف الشارع أحدًا بأن يخبر عن شيء مثل:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخر السورة [الكافرون: 1 - 2]، ثم ينسخه.

وهذا يقع على وجهين: إما أن يرفعه مطلقًا، أو يرفعه بأن يكلفه الإخبار بنقيضه، مثل أن يقول له: قل: إن زيدًا قائم، ثم [قل] (1): إنه ليس بقائم، وفي هذا الثاني خلاف المعتزلة بناء على أصلهم الفاسد في الحسن، والقبح: لأن أحدهما كاذب (2)، وقد علمت فساد مقالتهم (3).

الثانية: نسخ مدلول الخبر، فإن لم يقبل التغير مثل وجود الباري، وحدوث العالم، فلا يجوز نسخه اتفاقًا (4).

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 265، والمعتمد: 1/ 387 - 389، وشرح العضد: 2/ 195، ومناهج العقول: 2/ 176، وفواتح الرحموت: 2/ 75، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 85، والآيات البينات: 3/ 154، وتشنيف المسامع: ق (77/ ب)، والغيث الهامع: ق (79/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 238، والدرر اللوامع للكمال: ق (183/ أ).

(3)

تقدم بيان ذلك في أول الكتاب عند الكلام على الحكم: 1/ 226 - 228.

(4)

لأنه يفضي إلى الكذب حيث يخبر بالشيء، ثم نقيضه، وهذا محال على الله تعالى.

راجع: المسودة: ص/ 196.

ص: 486

وإن قبل مثل: إيمان زيد وكفره، فالجمهور على عدم جوازه أيضًا، وهو مختار الإمام المحقق إمامنا الشافعي رضي الله عنه، وأرضاه (1).

ومن ذهب إلى جوازه يخصه بغير الماضي: لأن نسخه غير معقول (2).

ومنشأ وهمهم: أن الشارع إذا قال: أنتم مأمورون بصوم عاشوراء مثلًا يجوز نسخه (3).

والجواب: أن المنسوخ هو الوجوب المستفاد من الأمر السابق، وأن هذا الكلام من الشارع إنشاء، وإن كان صورته خبرًا.

(1) وبهذا قال القاضي أبو بكر، والجبائي، وأبو هاشم، وجماعة من المتكلمين، والفقهاء.

راجع: اللمع: ص/ 31، وأصول السرخسي: 2/ 9، والإيضاح لمكي بن أبي طالب: ص/ 75، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 309، والتلويح على التوضيح: 2/ 33، وكشف الأسرار: 3/ 163، وفتح الغفار: 2/ 131، وفواتح الرحموت: 2/ 75، وتشنيف المسامع: ق (77/ ب)، والغيث الهامع: ق (79/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 86، وهمع الهوامع: ص/ 138، والآيات البينات: 3/ 154.

(2)

ومنهم من أجاز مطلقًا سواء كان ماضيًا، أو مستقبلًا، وعدًا، أو وعيدًا، أو حكمًا شرعيًا، وقد اختار هذا القول أبو الحسين البصري، والفخر الرازي، والآمدي، والقاضي أبو يعلى، وأبو عبد الله البصري، ونسب إلى الأكثر.

راجع: المعتمد: 1/ 390، والعدة: 3/ 825، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 486، والإحكام للآمدي: 2/ 266، والمسودة: ص/ 197، ونهاية السول: 2/ 577.

(3)

أما الشوكاني فله في المسألة تفصيل آخر، فبعد سرده للأقوال قال:"والحق منعه في الماضي مطلقًا، وفي بعض المستقبل، وهو الخبر بالوعد، لا بالوعيد، ولا بالتكليف. ." إرشاد الفحول: ص/ 189.

ص: 487

وأما مضمون قوله: أنتم مأمورون، فلم يتوجه إليه نسخ.

قوله: "ويجوز النسخ ببدل أثقل، وبلا بدل".

أقول: النسخ ببدل أخف (1)، أو مساو (2) لا خلاف فيه، إنما الخلاف ببدل أثقل، أو بلا بدل، والمختار جوازه (3).

لنا - على الأول -: أن فعله تعالى لا يعلل، ولا يتبع مصلحة العبد، فيجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل، ولو سلم، فلعل المصلحة في الأثقل، إذ هي أعم من الدنيوية، والأخروية.

(1) كوجوب مصابرة الواحد للعشرة، نسخ إلى وجوب مصابرة الواحد للاثنين، وذلك في الجهاد في سبيل الله، وقد تقدم ذكر ذلك.

(2)

كنسخ استقبال بيت المقدس، باستقبال الكعبة.

راجع: صحيح البخاري: 6/ 79، والرسالة: ص/ 127، والجهاد لابن المبارك: ص/ 174، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: ص/ 96، وأحكام القرآن لابن العربي: 2/ 877.

(3)

مذهب الجمهور الجواز، واختاره ابن حزم من الظاهرية.

وذهب داود الظاهري، وبعض المعتزلة، وبعض الشافعية إلى المنع، ومنهم من أجازه عقلًا، ومنع منه سمعًا، والبعض منعه في العبادات.

راجع: أصول السرخسي: 2/ 62، والبرهان: 2/ 1313، واللمع: ص/ 32، والتبصرة: ص/ 258، والإشارات للباجي: ص/ 65، والعدة: 3/ 785، والإحكام لابن حزم: 4/ 466، والمعتمد: 1/ 384 - 385، وكشف الأسرار: 3/ 187، وفتح الغفار: 2/ 134، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 308، والإبهاج: 2/ 239، ومناهج العقول: 2/ 174، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 479، وروضة الناظر: ص/ 76، والإحكام للآمدي: 2/ 260، والمسودة: ص/ 198.

ص: 488

وأيضًا: الوقوع دليل الجواز، وقد نسخ صوم عاشوراء (1) برمضان (2)، وقد نسخ التخيير بين الصوم والفدية في قضاء صوم رمضان بإيجاب، ولا شك أنه أثقل من التخيير (3).

قالوا: نقلهم من الأخف إلى الأثقل بعيد عن المصلحة، فلا يصدر عن الحكيم.

قلنا: أولًا: منقوض بأصل التكاليف، وثانيًا: ربما علم الله المصلحة في ذلك، مع خفائها علينا، وثالثًا: أن رعاية المصلحة أصل قد أبطلناه.

(1) لما رواه البخاري، ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال:"من شاء صامه، ومن شاء تركه".

راجع: صحيح البخاري: 3/ 54 - 55، وصحيح مسلم: 3/ 146 - 147، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ: ص/ 134، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: ص/ 123.

(2)

أجمع المسلمون على أن صوم عاشوراء بعد فرض رمضان ليس واجبًا، بل سنة، واختلفوا في حكمه قبل فرض صوم رمضان: فذهب الأحناف إلى وجوبه، ثم نسخ بصيام رمضان، وهي رواية عن الشافعي، وأحمد.

وذهب الشافعية، والحنابلة، وغيرهم، وهو صريح قول الشافعي إلى أنه لم يكن واجبًا قط.

راجع: مرقاة المصابيح شرح مشكاة المصابيح: 2/ 551، والمجموع للنووي: 6/ 383، والمغني لابن قدامة: 3/ 174 - 175.

(3)

لما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر، فافتدى بطعام مسكين حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ". وانظر صحيح مسلم: 3/ 154.

ص: 489

قالوا: قال تعالى: / ق (85/ أمن أ){نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، والأثقل ليس بخير ولا مثل.

قلنا: خير باعتبار الثواب، إذ الأجر على قدر النصب، كما يختار الطبيب الدواء المر للمريض، مع وجود أطعمة شهية.

قالوا: قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185].

قلنا: في تلك القضية الخاصة، ولو سلم عمومه، فاليسر باعتبار الحساب المبني على كثرة الثواب، وهو بالأثقل أليق.

وعلى الثاني: وهو النسخ بلا بدل، فلأن رعاية المصلحة غير واجبة، كما تقدم، وإن قيل: بها، فلعل المصلحة في عدم البدل.

وأيضًا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع إذ (1) / ق (86/ ب من ب) الصدقة بين يدى النجوى نسخت بلا بدل (2)، وادخار لحوم

(1) آخر الورقة (86/ ب من ب).

(2)

لحديث على رضي الله عنه قال: "لما نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى دينارًا؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟

قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد".

قال: فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13]، قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وذكر الشوكاني أن ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبا يعلى، وابن المنذر، والنحاس، وابن مردويه أخرجوه عن علي رضي الله عنه.

راجع: تحفة الأحوذي: 9/ 192 - 194، وجامع البيان: 28/ 15، وفتح القدير للشوكاني: 5/ 191.

ص: 490

الأضاحي نسخ بلا بدل، والإمساك عن المباشرة بعد الفطر نسخ بلا بدل (1).

قالوا: قال تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106].

قلنا: ربما كان عدم البدل خيرًا، بل هو الظاهر في التكاليف، وقد أشار المصنف إلى أنه جائز لكنه لم يقع على ما أشار إليه الإمام المحقق الشافعي رضي الله عنه (2).

والحق: أن الخلف لفظي إذ القائلون بالنسخ بلا بدل لم يريدوا أنه إذا نسخ، ولم يأت من الشارع نص يدل على حكم آخر، يبقى فعل المكلف خاليًا عن أحد الأحكام الخمسة، بل أرادوا أن النسخ يقع على وجهين:

إما أن يثبت بنص من الشارع بدله، كما في نسخ العدة بالحول، بأربعة أشهر وعشرًا، وكما في نسخ الحبس في البيوت إلى الموت في حد الزنى بالرجم (3).

(1) يعني ما كان من تحريم مباشرة الصائم أهله ليلًا نسخ بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].

راجع: أحكام القرآن للجصاص: 1/ 226، والاعتبار للحازمي: ص/ 138، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: ص/ 122، وفتح القدير للشوكاني: 1/ 187.

(2)

راجع: الرسالة: ص/ 109 - 110.

(3)

يعني قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] نسخت بآية الرجم المنسوخة لفظًا، والباقية حكمًا، وطبق ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمه ماعزًا، والغامدية، واليهوديين، وقد تقدم ذلك.

ص: 491

وإما أن ينسخ الحكم المستفاد من النص، ويرجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ورود ذلك النص، كما في وجوب الصدقة بين يدي النجوى، وحل المباشرة بعد الفطر على ما كان [عليه](1) الأمر قبل.

فالحاصل: أن النسخ يستلزم الانتقال من حكم شرعى إلى حكم آخر شرعي، وهذا متفق عليه.

وأما أن مراد الشافعي: أن كل ما وقع من النسخ، فلا بد، وأن يكون بدله مستفادًا من نسخ آخر، فكلا، وحاشاه من جلالة قدره أن يرتكب شيئًا من ذلك (2).

قوله: "مسألة: النسخ واقع عند كل المسلمين".

أقول: كان الأولى ذكر هذه المسألة في صدر البحث حيث ذكر الجواز (3) ليتلاءم الكلام. ثم نقول: الإجماع من أهل القبلة على أن

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

قال الإمام الشافعي رحمه الله: "وليس ينسخ فرض أبدًا إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس، فأثبت مكانها الكعبة، وكل منسوخ في كتاب، وسنة هكذا" الرسالة: ص/ 109 - 110.

وظاهر كلامه عدم وقوع النسخ إلى غير بدل، ولذا وجه الشارح كلام الإمام فأحسن، كما وجهه غيره من قبل.

راجع: تشنيف المسامع: ق (78/ أ)، والغيث الهامع: ق (79/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 88، وهمع الهوامع: ص/ 239.

(3)

كما فعل ذلك غالب الأصوليين، كالغزالي، والرازي، وابن قدامة، والآمدي، والقرافي، وابن الحاجب، والبيضاوي، وابن عبد الشكور، وغيرهم.

ص: 492

شرعنا ناسخ للشرائع قبلنا، والنسخ في القرآن والأحاديث أكثر من أن يحصى (1).

فإن قال ذلك تخصيص بحسب الأزمان لا نسخ، فالخلف معه لفظي، وإن أنكر أصل النسخ، فهو مباهت يعرض عنه.

والمختار: أن حكم الأصل إذا نسخ لا يبقى حكم الفرع بعده (2).

(1) النسخ جائز عقلًا، وسمعًا باتفاق أهل الشرائع، وأنكرت وقوعه عقلًا الشمعونية من اليهود، كما أنكرت وقوعه سمعًا لا عقلًا العنانية منهم، وقد نسب هذا إلى أبي مسلم الأصفهاني من المعتزلة، والتحقيق - في مذهبه -: أنه مع جمهور أهل السنة القائلين بجواز النسخ عقلًا، وشرعًا، غاية الأمر أن أبا مسلم سماه: تخصيصًا: لأنه قصر للحكم على بعض الأزمان، فهو تخصيص في الأزمان كالتخصيص في الأشخاص، فالخلاف لفظي كما قال المصنف، والشارح، والزركشي، والمحلي، والأشموني، والعراقي، وغيرهم.

راجع: التبصرة: ص/ 251، والمعتمد: 1/ 370، والمفصل في الملل والأهواء والنحل: 1/ 99، والملل والنحل: 1/ 215، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 440، وروضة الناظر: ص/ 69، والإحكام للآمدي: 2/ 245، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 303، والمختصر مع شرح العضد: 2/ 188، والإبهاج: 2/ 227، ورفع الحاجب:(2/ 132/ ب)، وكشف الأسرار: 3/ 157، وفواتح الرحموت: 2/ 55، وتشنيف المسامع: ق (78/ أ)، والغيث الهامع: ق (79/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 239، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 89، والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 27، وفتح المنان في نسخ القرآن لعلي حسن العريض: ص/ 143.

(2)

يعني إذا ورد النسخ على أصل مقيس عليه ارتفع القياس عليه بالتبعية عند الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وجمهور الحنفية، وغيرهم ونسب خلاف ذلك إلى بعض الحنفية، ويرى صاحب فواتح الرحموت أن هذه النسبة لا تثبت عن الأحناف. =

ص: 493

وإذا قلنا: لا يبقى هل يسمى نسخًا له، أم يقال: زال بزوال علته، وليس بنسخ، إليه جنح الشيخ ابن الحاجب، وتبعه المصنف، والأمر فيه سهل لأنه نزاع لفظي.

لنا - على المختار - أن حكم الأصل إنما نسخ لعدم اعتبار علة الأصل في نظر الشارع، وعلة حكم الأصل هي علة ثبوت الحكم في الفرع، والمعلول لا بقاء له بدون علته.

قالوا: الدلالة باقية، وإنما زال حكم الأصل، وحكم الفرع مبني على الدلالة، كما ذكرتم في نسخ المنطوق مع بقاء الفحوى بعينه.

الجواب: أن الزائل شيئان حكم الأصل مع الحكمة المعتبرة، ولا وجود للحكم في الفرع بدون تلك الحكمة، ولا كذلك المنطوق مع

= وقد مثلوا لهذه المسألة بنسخ التوضؤ بالنبيذ النيء، فيتبعه المطبوخ خلافًا للحنفية، وكذا صوم عاشوراء كان واجبًا - عند الأحناف - وقد أجزأ بنية من النهار، فكذلك كل صوم معيّن مستحق، ثم نسخ وجوبه، وبقي حكمه في غيره.

وقال المجد بن تيمية: "وعندي إن كانت العلة منصوصًا عليها لم يتبعه الفرع إلا أن يعلل في نسخه بعلة، فيثبت النسخ حيث وجدت العلة". المسودة: ص/ 220.

وراجع: اللمع: ص/ 33، والتبصرة: ص/ 275، والبرهان للجويني: 2/ 1313، وأصول السرخسي: 2/ 84، والعدة: 3/ 820، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 537، وروضة الناظر: ص/ 80، والإحكام للآمدي: 2/ 282، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 316، وشرح العضد على المختصر: 2/ 200، ونهاية السول: 2/ 597، وكشف الأسرار: 3/ 174، وفواتح الرحموت: 2/ 86، والآيات البينات: 3/ 149، وهمع الهوامع: ص/ 240، وإرشاد الفحول: ص/ 193.

ص: 494

الفحوى، إذ لا يشك أحد في أن رفع تحريم التأفيف لا يقتضي رفع تحريم الضرب، إذ الأضعف لا يستتبع الأقوى، وما نحن فيه ليس كذلك، لمساواة الفرع والأصل في العلة المعتبرة.

قوله: "وأن كل شرعي يقبل النسخ".

أقول: (1) / ق (85/ ب من أ) المختار جواز نسخ جميع التكاليف، خلافًا للغزالي رحمه الله وللمعتزلة.

لنا: أن أصل التكليف غير واجب عقلًا، فيجوز رفع كله، كما يجوز رفع بعضه.

الغزالي: رفع جميع التكاليف مستلزم لنقيضه، لأن رفع الجميع يستلزم وجوب معرفة النسخ والناسخ، وهو تكليف، وكل ما استلزم نقيضه فهو باطل، وإلا يلزم اجتماع النقيضين (2).

الجواب: يعرف الناسخ والنسخ ابتداء، ثم يعلم أن لا تكليف عليه، وبه/ ق (87/ أمن ب) يتم مطلوبنا: لأن وجوب معرفة النسخ والناسخ مطلق لم يقيد بدوام، والمطلق يصدق وقوعه مرة، كما إذا قلت: زيد ضاحك بالفعل، فإنه يصدق بوقوع الضحك منه مرة.

(1) آخر الورقة (85/ ب من أ).

(2)

راجع: المستصفى: 1/ 122.

ص: 495

والمعتزلة: لما كان حسن الفعل، وقبحه ذاتيين عندهم، فمثل معرفة الله تعالى لا يجوز نسخه (1)، وقد أبطلنا ذلك الأصل في بحث الأحكام (2).

قوله: "والمختار أن الناسخ قبل تبليغه".

أقول: الحكم الذي بلغه جبريل، ولم يبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يكون ناسخًا في حق الأمة قبل علمهم، فيه خلاف، والمختار عدم (3) ثبوته.

(1) الخلاف المذكور في المسألة في الجواز العقلي أما الوقوع، فهم مجمعون على أنه لم يحصل.

راجع: الإحكام لابن حزم: 4/ 451، والإحكام للآمدي: 2/ 292، وشرح العضد: 2/ 203، ونهاية السول: 2/ 616، وكشف الأسرار: 3/ 163، وفواتح الرحموت: 2/ 67، والمسودة: ص/ 200، وتشنيف المسامع: ق (78/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (79/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 90، وهمع الهوامع: ص/ 241، والآيات البينات: 3/ 159، وإرشاد الفحول: ص/ 186.

(2)

تقدم بيان ذلك في أول الكتاب: 1/ 228.

(3)

اتفق الجميع على أنه لا حكم للناسخ، مع جبريل عليه السلام قبل أن يبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغه للنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت حكمه قي حق من يبلغه عند الجمهور لأنهم أخذوا بقصة أهل قباء في القبلة، وذلك أن أهل قباء صلوا ركعة إلى بيت المقدس، ثم استداروا في الصلاة، ولو كان النسخ ثبت في حقهم لأمروا بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء دل على أن النسخ لم يكن ثبت في حقهم.

وقيل: يثبت في الذمة، وهو مذهب بعض الشافعية قياسًا على النائم وقت الصلاة.

راجع: اللمع: ص/ 35، والرهان: 2/ 1312، والتبصرة: ص/ 282، والعدة: 3/ 824، والمستصفى: 1/ 120، وروضة الناظر: ص/ 77، ومختصر الطوفي: ص/ 79، والمسودة: ص/ 223، والإحكام للآمدي: 2/ 283، والقواعد لابن اللحام: ص/ 156.

ص: 496

لنا: لو ثبت لأدى إلى وجوب وحرمة في محل واحد.

بيانه: أن الحكم المنسوخ إذا كان وجوبًا، والناسخ حرمة، فلو ترك العمل بالأول أثم؛ لأنه ترك الواجب. والفرض أن العمل به حرام.

وأيضًا: لو عمل بالثاني، وهو واجب قبل العلم به، وهو معتقد عدم شرعيته أثم.

وأيضًا: لو ثبت حكمه قبل تبليغ الرسول لثبت قبل تبليغ جبريل، إذ هما سواء في عدم علم المكلف بوجود الناسخ.

قالوا: علم المكلف ليس بشرط، كما إذا بلغه إلى مكلف واحد، فإنه ثبت في حق جميع المكلفين.

الجواب: أن العلم، وإن لم يكن شرطًا، لكن التمكن من العلم شرط، وهو شرط التكليف (1). ولما كان الامتثال مع عدم التمكن من العلم محالًا، ذهب بعضهم إلى أنه يثبت بمعنى الاستقرار في الذمة مثل وجوب الصلاة على النائم، والفرق ظاهر.

قوله: "أما الزيادة على النص".

(1) راجع: شرح العضد: 2/ 201، ونهاية السول: 2/ 611، وفواتح الرحموت: 2/ 89، وتشنيف المسامع: ق (78/ ب)، والغيث الهامع: ق (79/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 90، والآيات البينات: 3/ 159، وهمع الهوامع: ص/ 241.

ص: 497

أقول: زيادة عبادة مستقلة مثل: صلاة سادسة ليس بنسخ عند من يعتد به (1)

وقيل: نسخ لأنه يبطل اسم الوسطى، مع وجوب المحافظة عليها.

قلنا: يبطل الاسم، فالمحافظة على المسمى، وهو الحكم الشرعي باق.

وأما زيادة جزء لعبادة، أو شرط هل هو نسخ؟ ذكر المصنف أنه ليس بنسخ خلافًا للحنفية (2).

(1) زيادة العبادة المستقلة نوعان: إما أن تكون من غير الجنس كزيادة وجوب الزكاة، أو وجوب الصوم على وجوب الصلاة، أو على وجوب الحج، فليست نسخًا إجماعًا وإما أن تكون من الجنس كما مثل الشارح، ففيه خلاف، فذهب الأئمة الأربعة، ومن تبعهم إلى أنها ليست بنسخ. وقال بعض أهل العراق يكون نسخًا، بزيادة صلاة سادسة، فتخرج الوسطى عن كونها وسطى، فيبطل وجوب المحافظة عليها الثابت في قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وهو حكم شرعي، فيكون نسخًا، وذكر العلامة الشوكاني أنه قول باطل لا دليل عليه، ولا شبهة دليل، إذ المراد بالوسطى الفاضلة لا المتوسطة في العدد، ولو سلم ذلك لم تكن تلك الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليها.

راجع: المحصول: 1/ ق/ 3/ 541، والإحكام للآمدي: 2/ 285، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 317، وشرح العضد: 2/ 201، وكشف الأسرار: 3/ 191، ونهاية السول: 2/ 600، ومناهج العقول: 2/ 189، وإرشاد الفحول: ص/ 195.

(2)

ذهب جمهور المالكية، والشافعية، والحنابلة، والجبائية إلى أنها ليست بنسخ وذهبت الحنفية إلى أنها نسخ إذا وردت متاخرة عن المزيد عليها، ونقل هذا عن الشافعي، وفي المسألة أقوال أخرى أوصلها البعض إلى سبعة أقوال. =

ص: 498

قال: ومثار الخلاف شيء واحد، وهو أن الزيادة هل ترفع حكمًا شرعيًا، أو لا؟

عند القائلين: نسخ لصدق حده عليه، وعند المانعين لا رفع، فلا نسخ، وعليه تبتنى الفروع عند الفريقين (1).

ثم التحقيق في هذا المقام أن العلة لكونه نسخًا، لما كان رفع الحكم الشرعي، فالحكم بأن الزيادة مطلقًا عند الشافعية ليست بنسخ غير مستقيم؛ لأن الشافعي لما قال: إن مفهوم المخالفة حجة، ونفى الزكاة عن المعلوفة، فلو جاء نص بوجوب الزكاة على المعلوفة كان ناسخًا لذلك الوجوب قطعًا، والزيادة على الركعتين في صلاة الفجر، لما كانت محرمة، فلو جاء نص بزيادة ركعة أخرى فيها كان نسخًا لتلك الحرمة، وهى حكم شرعي قطعًا.

= راجع: اللمع: ص/ 35، والتبصرة: ص/ 276، وأصول السرخسي: 2/ 82، والبرهان: 2/ 1309، والمعتمد: 1/ 405، والمستصفى: / 117، والمسودة: ص/ 207، ومختصر الطوفي: ص/ 77، وروضة الناظر: ص/ 73، والعدة: 3/ 814، والزيادة على النص لشيخنا الدكتور عمر عبد العزيز حفظه الله: ص/ 27.

(1)

بني على هذا الاختلاف فروع كثيرة كالاختلاف في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، واشتراط الإيمان في الرقبة المعتقة، وإيجاب النية في الوضوء، وغيرها كثير.

راجع: فتح الغفار: 2/ 135، وكشف الأسرار: 3/ 191، والتلويح على التوضيح: 2/ 36، وفواتح الرحموت: 2/ 92 - 93، وتشنيف المسامع: ق (78/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 91، والغيث الهامع: ق (80/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 243.

ص: 499

وحيث لا يرفع حكمًا شرعيًا مثل قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282]، ثم جاء/ ق (86/ أمن أ) النص بالشاهد، واليمين (1)، فلا نسخ.

فإن قيل: مفهوم الآية أن الاستشهاد منحصر في رجلين، ورجل وامرأتين، ويلزم منه نفي الغير بمعنى أنه غير مطلوب.

وأما أنه غير صحيح، فلا، ولو كان مفهومًا من الآية ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين، هذا حكم الزيادة.

وأما النقص في العبادة مثل إسقاط ركعة الفجر، أو (2) اشتراط الطهارة في الصلاة، حكم المصنف بأن الخلاف فيه كالخلاف في (3) / ق (87/ ب من ب) الزيادة، يريد أن الصحيح أنه ليس بنسخ (4)، وقد

(1) روى مسلم، ومالك، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم:"قضى بيمين، وشاهد".

راجع: صحيح مسلم: 5/ 128، والموطأ: ص/ 449، وسنن أبي داود: 2/ 277، وتحفة الأحوذي: 4/ 572، وسنن ابن ماجه: 2/ 66، وسنن الدارقطني: 4/ 212، وجامع الأصول: 10/ 184، والأحناف لا يقولون بذلك بناء على قولهم: إن أخبار الآحاد لا يعمل بها في زيادتها على القرآن.

راجع: فواتح الرحموت: 2/ 92، وهمع الهوامع: ص/ 242.

(2)

يعني أو إسقاط اشتراط الطهارة في الصلاة.

(3)

آخر الورقة (87/ ب من ب).

(4)

أي: لا ينسخ أصل العبادة، وهذا مذهب أكثر الشافعية، ومذهب الحنابلة وبه قال الكرخي، وأبو الحسين البصري. =

ص: 500

علمت الجواب هناك، وهنا - أيضًا - كذلك، إلا أن في النقصان لم يرفع حكم شرعي ليكون نسخًا.

فإن قلت: إذا نسخ الركعتان من الظهر مثلًا يحرم فعلهما، فقد ارتفع الوجوب إلى الحرمة، فيكون نسخًا.

قلت: نسخ، ولكن للجزء، وهما الركعتان اللتان نقصا، لا الباقيتان، فإن وجوبهما هو الوجوب الثابت بالدليل الأول.

وقيل: نقص الجزء نسخ لتلك العبادة دون الشرط.

وقيل: الشرط المنفصل نسخ دون المتصل، والحق ما قدمناه.

قوله: "خاتمة يتعين الناسخ بتأخره".

أقول: لمعرفة الناسخ طرق بعضها صحيحة، وبعضها فاسدة، فمن الأول: نص الشارع عليه بأن يقول: هذا ناسخ لذاك إما صريحًا كالمثال

= وذهب الغزالي، وبعض المتكلمين، وحكى عن الحنفية أنه نسخ لأصل العبادة.

وقال القاضي عبد الجبار: إن نسخ الجزء نسخ للكل، ونسخ الشرط ليس نسخًا للمشروط سواء كان متصلًا كالاستقبال، أم منفصلًا كالوضوء، وقيل: إن المنفصل ليس نسخًا إجماعًا.

راجع: التبصرة: ص/ 281، واللمع: ص/ 34، والإشارات: ص/ 62، والعدة: 3/ 837، والمعتمد: 1/ 414، والمستصفى: 1/ 116، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 556، وروضة الناظر: ص/ 75، والإحكام للآمدي: 2/ 290، وشرت تنقيح الفصول: ص/ 220، والمسودة: ص/ 212 - 213، وكشف الأسرار: 3/ 179، وفواتح الرحموت: 2/ 94، وشرح العضد: 2/ 203، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 93، وهمع الهوامع: ص/ 243، وإرشاد الفحول: ص/ 196.

ص: 501

المذكور، وإما يلزم منه مثل: أن يقول: كنت نهيتكم عن الشيء الفلاني، فافعلوه.

وبالعلم بالتأريخ مثل: أن يكون أحد النصين مؤرخًا بغزوة بدر (1) والآخر بغزوة تبوك (2).

أو بالإجماع على تقدم أحدهما، وتأخر الآخر.

(1) بدر: موضع بالقرب من المدينة المنورة على مسافة خمسين ومئة كم في الطريق منها إلى جدة، ومكة المكرمة، وهو الموضع الذي شهد أول الوقائع الحربية الكبرى في الإسلام، وأهمها، وقد سماها الله تعالى بـ (يوم الفرقان)، وكانت وقعتها في سبعة عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وكان عدد المسلمين فيها أربعة عشر رجلًا وثلاث مئة، من المهاجرين ثلاثة وثمانون، ومن الأوس واحد وستون، ومن الخزرج سبعون ومئة رجل، وكان عدد المشركين فيها قرب الألف رجل إضافة إلى عدتهم المتفوقة، فكتب الله النصر لجنده، وانتهت المعركة بنصر المسلمين، وهزيمة الكافرين.

راجع: معجم البلدان: 1/ 357، ومعجم ما استعجم: 1/ 231، ومراصد الاطلاع: 1/ 170، وسيرة ابن هشام: 1/ 678 - 708، والروض الأنف: 5/ 253 - 346، والطبقات الكبرى لابن سعد: 3/ 5، وغزوة بدر الكبرى لأحمد باشميل.

(2)

تبوك: بالفتح، ثم الضم، وواو ساكنة، وكاف: قرية بين وادي القري، والشام بها عين ماء، ونخل، وكان لها حصن خرب، وإليها انتهى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته المنسوبة إليها كان قد بلغه أنه تجمع إليها الروم، ولخم، وجذام، فوجدهم قد تفرقوا، ولم يلق كيدًا، وأقام بها ثلاثة أيام، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة.

راجع: معجم ما استعجم: 1/ 303، ومراصد الاطلاع: 1/ 253، وسيرة ابن هشام: 2/ 515.

ص: 502

أو بقول الراوي العدل الثقة: هذا مقدم على ذاك (1).

ومن الطرق الفاسدة قول الراوي - صحابيًا كان، أو غيره - هذا ناسخ لذاك إذ ربما قاله اجتهادًا، ولا يجب على مجتهد آخر اقتفاءه.

ومنها: حداثة سن الراوي، لا يلزم أن يكون مرويه ناسخًا لمروي من هو أسن منه؛ لأنه ربما سمعه متأخرًا.

ومنها: تأخر إسلامه لما ذكرناه من جواز تأخر سماعه.

ومنها: موافقته للبراءة الأصلية بأن يقال: لو تقدم لم يفد إلا ما كان قبل، فيعرى عن الفائدة، وإنما كان فاسدًا لأن تأخره يوجب تغييرين، والأصل عدمهما.

وما يقال - أيضًا -: بأن تأخره يوجب نسخين، فليس بشيء؛ لأن البراءة الأصلية ليست حكمًا شرعيًا حتى يكون رفعهما نسخًا، ولا تأخره في المصحف إذ ترتيب المصحف ليس على وفق النزول (2).

(1) راجع: اللمع: ص/ 34، والإحكام لابن حزم: 4/ 459، والعدة: 3/ 831، والمعتمد: 1/ 416، والمستصفى: 1/ 128، وأدب القاضي للماوردي: 1/ 364، والاعتبار للحازمي: ص/ 10، وروضة الناظر: ص/ 81، والمسودة: ص/ 228، وفتح الغفار: 2/ 136، ومختصر الطوفي: ص/ 83، وشرح العضد: 2/ 196.

(2)

راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 292، وفواتح الرحموت: 2/ 95 - 96، ونهاية السول: 2/ 607، وتشنيف المسامع: ق (79/ أ)، والغيث الهامع: ق (80/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 93، والآيات البينات: 3/ 167، والدرر اللوامع للكمال: ق (185/ ب - 186/ أ)، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 321، وإرشاد الفحول: ص/ 197.

ص: 503