المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب المطلق والمقيد - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ٢

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

الفصل: ‌باب المطلق والمقيد

‌باب المطلق والمقيد

قوله: "المطلق، والمقيد: المطلق الدال على الماهية بلا قيد".

أقول: عرف المطلق: بأنه اللفظ الدال على الماهية، بلا قيد (1)، وأخذ هذا التعريف من ظاهر عبارة القوم، فإن بعضهم قال: المطلق ما دل على المسمى بلا قيد، وبعضهم: المطلق (2): / ق (77/ ب من ب) ما يراد به الحقيقة من حيث هي (3).

ولما لم تستقم هذه التعاريف عدل عنه الشيخ ابن الحاجب، وعرفه:"بما دل على شائع في جنسه"(4) وهو الفرد المنتشر نحو رقبة في قوله تعالى:

(1) لأنه - لغة - مأخوذ من مادة تدور على معنى الانفكاك من القيد، وأطلقه: أرسله، وخلى سبيله.

راجع: معجم مقاييس اللغة: 3/ 420، والمصباح المنير: 2/ 376.

(2)

آخر الورقة (77/ ب من ب).

(3)

راجع تعريف الأصوليين للمطلق: البرهان: 1/ 356، والحدود للباجي: ص/ 47، والمحصول: 1/ ق/ 2/ 520 - 522، والإحكام للآمدي: 2/ 162، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 266، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 155، ونهاية السول: 2/ 319، والتوضيح لمتن التنقيح: 1/ 63، وفواتح الرحموت: 1/ 360، وكشف الأسرار: 2/ 286، والمسودة: ص/ 147، ونشر البنود على مراقي السعود: 1/ 264، والإبهاج: 2/ 92، والتعريفات: ص/ 218، وإرشاد الفحول: ص/ 164.

(4)

راجع: المختصر: 2/ 155.

ص: 407

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وإنما عدل عنه: لأن مناط الأحكام الشرعية، هي الأفراد الموجودة لا الماهيات المعقولة.

ولا شك: أن من عرف بتلك التعاريف مراده ما ذكره الشيخ ابن الحاجب، يُعْرَف ذلك من إيراد الأمثلة، ثم بني على ما فهمه مسألة أخرى، وهي ما اشتهر بين الأصوليين من أن الأمر بالماهية المطلقة أمر بفرد أي جزئي لا على التعيين: لأن طلب الماهية من حيث هي غير معقول.

فقال المصنف: هذا الكلام ليس بشيء: لأنه مبني على أن المراد بالمطلق هو الفرد المنتشر/ ق (77/ أمن أ)، وليس كذلك: لأن المراد مطلق الماهية من حيث هي، والماهية من حيث هي لا كلية، ولا جزئية، وإذا لم تكن لا كلية، ولا جزئية - وهي موجودة في ضمن الجزئيات الموجودة: لأن جزء الموجود موجود - فيكون الأمر بالماهية المطلقة أمرًا بها؛ لأنها موجودة في ذلك الجزئي الموجود (1).

هذا خلاصة كلامه، وهو فاسد من وجوه:

الأول: أن كون الماهية من حيث هي موجودة في الجزئيات الموجودة باطل، بل لا وجود لها من حيث هي إلا في العقل.

(1) وقد ذكر العراقي أن من قال: الأمر لمطلق الماهية أمر بواحد من جزئياتها، فالمطلق عنده عبارة عن جزئي ممكن مطابق للماهية لا عين الماهية.

ومن قال: إنه أمر بالماهية من حيث هي. فالمطلق عنده عبارة عن الماهية من حيث هي.

راجع: الغيث الهامع: ق (72/ أ - ب).

ص: 408

الثاني: لو فرضنا أن المطلق عبارة عن الماهية على ما ذهب إليه، فعند اقتران الأمر بإيقاعها في الخارج لا بد وأن يكون في ضمن الأفراد، وحيث لا تكون قرينة الكل، أو البعض المعين على ما هو المفروض، فإرادة فرد ما ضرورية.

الثالث: أنا لو سلمنا أن الماهية من حيث هي موجودة في الجزئيات لا يقدح في قولهم: الأمر بمطلق الماهية أمر بجزئي: لأن مرادهم أن قرينة الكل، والبعض - إذ انتفت إرادة الفرد الغير المعين - ضرورية سواء كانت الماهية موجودة في ذلك الجزئي، أو لم تكن.

هذا تحقيق المقام، وما عداه خبالات، وأوهام (1).

قوله: "مسألة: المطلق والمقيد كالعام والخاص، وزيادة أنهما" إلى آخره.

أقول: المطلق والمقيد قريبان من العام والخاص (2) باعتبار الشيوع، وعدمه، فكل ما جاز هناك جائز هنا (3)، فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب

(1) قلت: أبطل الشارح اعتراض المصنف على ابن الحاجب، والآمدي - في تعريفهما للمطلق - من ثلاثة وجوه كما ترى، لكن العبادي تصدى للرد على الشارح مثبتًا أن ما قاله المصنف صوابًا، غير أن الزركشي، والعراقي، والأشموني والمحلي خالفوا المصنف في اعتراضه عليهما، مثبتين صحة تعريفهما على نحو ما ذكره الشارح.

راجع: تشنيف المسامع: ق (71/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 47، والدرر اللوامع للكمال: ق (172/ ب - 173/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 213، والآيات البينات: 3/ 76 - 79.

(2)

ولهذا ناسب ذكرهما بعد العام والخاص، راجع الغيث الهامع: ق (72/ أ) وهمع الهوامع: ص/ 212.

(3)

يعني من متفق عليه، ومختلف فيه، ومختار من الخلاف.

ص: 409

وبالسنة، والسنة بالسنة وبالكتاب، وتقييد كل منهما بالقياس، والمفهومين، وفعل النبي، وتقريره، ويزيد المطلق والمقيد بأنهما إن اتحدا حكمهما كتحرير الرقبة مطلقة، ومقيدة بالايمان، واتحد السبب كالقتل مثلًا - وكان المطلق، والمقيد مثبتين، وتأخر المقيد عن العمل بالمطلق، فإذا وجدت الشروط الأربعة - نسخ المقيد المطلق (1)

قوله: "وإلا". استثناء عن تأخر المقيد عن العمل، أي: إن لم يتأخر عن العمل بأن تأخر عن الخطاب بالمطلق، أو تأخر المطلق، أو تقارنا، أو جهل التأريخ، حُمل المطلق على المقيد (2).

وقيل: المقيد ناسخ في هذه الصورة أيضًا.

وقيل: بل المقيد محمول على المطلق.

(1) راجع: الإشارات للباجي ص/ 41، والتبصرة ص/ 212، واللمع: ص/ 24، وفواتح الرحموت: 1/ 361، وتشنيف المسامع: ق (71/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 51، والآيات البينات: 3/ 93، وإرشاد الفحول: ص/ 166.

(2)

جمعًا بين الدليلين، ويكون المقيد بيانًا للمطلق، أي: يبين أنه المراد منه. وقد حكى الآمدي وغيره الاتفاق على هذا، لكن الخلاف فيه واقع، كما ذكره المصنف وغيره على نحو ما ذكر الشارح.

راجع: العدة: 2/ 628، المعتمد: 1/ 288، والمستصفى: 2/ 185، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 215، والحكام للآمدي: 2/ 163، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 266، والتوضيح 1/ 63، وكشف الأسرار: 2/ 287، والمسودة: ص/ 146، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 156، والتمهيد: ص/ 419، والقواعد لابن اللحام: ص/ 281.

ص: 410

واحترز باتحاد الحكم عن الاختلاف مثل: أطعم زيدًا، واكس [رجلًا فاضلًا](1)، فلا يحمل أحدهما على الآخر / ق (78/ أمن ب) اتفاقًا (2).

وبالمثبتين عن المنفي، والمثبت مثل: اعتق رقبة إن ظاهرت، ولا تملك رقبة كافرة، فإن المطلق هنا يحمل على المقيد، وإن كان الحكم في أحدهما الإعتاق، وفي الآخر الملك: لأن إعتاق الكافرة بدون الملك محال (3). وإن كان منفيين يأتي الكلام عليه.

لنا - على المختار، وهو الحمل عند اجتماع الشرائط -: في الحمل إعمال الدليلين، وفي عدمه إبطال المقيد لوجود المطلق في ضمن غير المقيد.

وأيضًا: في الحمل خروج عن العهدة يقينًا سواء كان مكلفًا بالمقيد، أو بالمطلق؛ لوجود المطلق بدونه، ولو لم يحمل لم يحصل يقين البراءة إذ لا يوجد ذلك المقدر في ضمن سائر الأفراد.

فإن قلت: بين التقييد، والاطلاق تنافي لا يمكن اجتماعهما، فكيف يوجد المطلق، مع المقيد؟

(1) سقط ما بين المعكوفتين من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: اللمع: ص/ 24، والتبصرة: ص/ 212، والإشارات: ص/ 41، والعدة: 2/ 636، مختصر الطوفي: ص/ 115، وفواتح الرحموت: 1/ 361، وكشف الأسرار: 2/ 287، والتلويح على التوضيح: 1/ 63.

(3)

راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 163، والقواعد لابن اللحام: ص/ 280، وشرح العضد: 2/ 156، والآيات البينات: 3/ 95.

ص: 411

قلت: هذا قبيل اشتباه العارض بالمعروض، إذ التنافي إنما هو بين مفهوم المقيد والمطلق، لا بين ذاتيهما، والموجود في ضمن المقيد إنما هو ذات المطلق لا مفهومه.

وأما أنه بيان لا نسخ، فلأن البيان أهون من النسخ، ولأنه لو كان نسخًا، لكان التخصيص، أيضًا - نسخًا (1) / ق (77/ ب من أ) لأن كلًا منهما مجاز.

وأيضًا: لو كان نسخًا لكان تأخير المطلق نسخًا للمقيد لوجود التنافي من الطرفين.

ومن قال: إنه نسخ قاس تأخره عن الخطاب على تأخره عن العمل.

الجواب: أن ذلك ضروري لعدم إمكان البيان هناك، لكونه تبين عدم دخوله في قصد المتكلم، ومعلوم أنه لا يتصور هذا المعنى بعد العمل.

ونقل مذهبًا غريبًا، وهو حمل المقيد على المطلق، ووجهه - مع ظهور بطلانه - قياس المطلق على العام، فكما أن إفراد فرد من العام بالذكر لا يخصص العام، فكذلك المقيد مع المطلق.

الجواب: أنه قياس مع الفارق، لأن ذلك من قبيل مفهوم اللقب، وهذا من قبيل مفهوم الصفة.

قوله: "وإن كانا منفيين".

(1) آخر الورقة (77/ ب من أ)

ص: 412

أقول: ما تقدم كان فيما إذا لم يكن المطلق، والمقيد كلاهما منفيين، فأما إذا كان كل منهما منفيًا، فالذي يقول بمفهوم الصفة يلزمه القول بحمل المطلق على المقيد لاندرج القيد في الصفة.

مثاله: لا تعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة، إذ وصف الكفر حصر الحكم، وهو عدم جواز الإعتاق المطلق من النص الأول في الكافرة (1).

قوله: "وهو خاص، وعام". رد على الشيخ ابن الحاجب حيث جعل المنفيين من المطلق، والمقيد (2)، إذ النكرة في سياق النفي للعموم، وقد نبه عليه المولى المحقق (3) في شرحه، والأمر في ذلك سهل: لأن التقييد تخصيص في المعنى لرفعه شيوع المطلق، وإن لم يكن تخصيصًا اصطلاحًا.

(1) هذه هي الحالة الثانية، وهي كالتي قبلها في اتحاد الحكم والسبب، لكن هذه في حالة النفي، فيجوز إعتاق المكاتب المسلم، وهو مقتضى كلام الإمام في المحصول، وحكى عنه أنه صرح به في المنتخب، وأما من لا يقول بالمفهوم فإنه يعمل بالاطلاق، ويمنع إعتاق المكاتب مطلقًا، واختاره الآمدي، وابن الحاجب، وهذا مذهب الأحناف.

راجع: المعتمد: 1/ 289، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 217، والإحكام للآمدي: 2/ 163، والمسودة: ص/ 146، وكشف الأسرار: 2/ 187، والتوضيح: 1/ 64، وفواتح الرحموت: 1/ 361، والتمهيد: ص/ 420، والقواعد لابن اللحام: ص/ 282.

(2)

وقد ذكر العراقي أنه من باب الخاص والعام، لما ذكره الشارح، ولأن الأفعال في معنى النكرات، وليس من باب المطلق والمقيد، كما توهمه ابن الحاجب.

راجع: المختصر لابن الحاجب: 2/ 156، والغيث الهامع: ق (72/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 50، وتشنيف المسامع: ق (72/ ب) والدرر اللوامع للكمال: ق (173/ ب)، وهمع الهوامع: ص / 215، والآيات البينات: 3/ 95.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "عضد الملة والدين"، وراجع شرحه على المختصر: 2/ 156.

ص: 413

ثم قوله: "وإن كان أحدهما أمرًا، والآخر نهيًا، فالمطلق مقيد بضد الصفة". مستدرك: لأنه علم من مفهوم قوله: مثبتين. لأن عدم كونهما مثبتين يتناول المنفيين، والمثبت، والمنفي، وكأنه فهم من النفي ما هو ضد للنهي اصطلاحًا، وهذا وهم: لأن المراد هو السلب المقابل للإيجاب الشامل لهما: وقد مثلنا له في المقالة الأولى، فراجعه (1).

قوله: "وإن اختلف السبب".

أقول: ما تقدم كله كان مع اتحاد الحكم والسبب، أما إذا اختلف السبب، واتحد الحكم، ففيه مذاهب ثلاثة:

الأول: مذهب أبي حنيفة لا يحمل عليه بوجه (2).

الثاني: مذهب بعض أصحابنا أنه يحمل (3) / ق (78/ ب من ب) عليه لفظًا.

الثالث: وعليه إطباق الجمهور والمحققين، أنه إن وجد جامع يحمل عليه قياسًا، وإلا فلا، وهذا هو المختار (4).

(1) قد سبق الكلام على ذلك في ص/ 411 - 412.

(2)

وبه قال أكثر المالكية، كما ذكر ذلك الباجي، والقرافي، وصاحب نشر البنود.

راجع: التوضيح لمتن التنقيح: 1/ 63، وكشف الأسرار: 2/ 287، وفواتح الرحموت: 1/ 365، وإحكام الفصول: ص/ 281، والإشارات للباجي: ص/ 42، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 365، ونشر البنود: 1/ 268.

(3)

آخر الورقة (78/ ب من ب).

(4)

راجع: اللمع: ص/ 24، والتبصرة: ص/ 216، والعدة: 2/ 638، والإحكام للآمدي: 2/ 163، وروضة الناظر: ص/ 230 - 231، والمسودة: ص/ 145، والقواعد لابن اللحام: ص/ 283.

ص: 414

لنا - على هذا المختار -: أن التقييد كالتخصيص في كون كل منهما بيانًا.

وقد سبق أن العام يجوز تخصيصه بالقياس، فكذا تقييد المطلق، ويأتي هنا السؤال، والجواب المذكور هناك.

القائل: بأنه يحمل عليه لفظًا لا قياسًا، فلأن جميع كلام الشارع بمنزلة كلمة واحدة، فيكون بعضه مفسرًا لبعض.

قلنا: لو صح ما ذكرتم لصح تقييد كل مطلق لكل مقيد بلا اشتراط شيء، وهو بديهي البطلان.

قالوا: لما قيدت الشهادة بالعدالة في موضع (1)، قيدت في جميع صور الإطلاق (2).

قلنا: دليله الإجماع لا أنه حمل المطلق على المقيد.

الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وأصحابه، قالوا: لو حمل عليه، ولو قياسًا، يلزم عدم جواز العمل بالمطلق، فيكون منسوخًا بالقياس، والقياس لا ينسخ اتفاقًا.

الجواب: التقييد ليس بنسخ، بل بيان، فالتقييد بالإيمان كالتقييد بالسلامة، وقد قلتم به في العبد / ق (78/ أمن أ) المكفر به (3).

(1) يعني في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].

(2)

كمثل قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].

(3)

يعني أن الرقبة في آية الظهار، واليمين وردت مطلقة لم تقيد، وفي كفارة القتل قيدت بالإيمان، فحمل الجمهور المطلق على المقيد، والأحناف لم يقولوا بذلك، فألزمهم =

ص: 415

لا يقال: شرط القياس أن يكون حكمًا شرعيًا، وعدم إجزاء غير المؤمنة مثلًا في القتل، ليس حكمًا شرعيًا حتى يقاس عليه عدم الإجزاء في الظهار؛ لأن العدم الأصلي لا يكون حكمًا شرعيًا.

لأنا نقول: عدم إجزاء الكافرة في المقيد فهم من الوصف المذكور، وقد بينا أن المفهوم دليل شرعي.

قالوا: شرط القياس أن لا يبطل حكمًا شرعيًا ثابتًا بنص، وإجزاء الكافرة في المقيس قد ثبت بالنص المطلق.

قلنا: المطلق لا يدل على عدم القيد، بل هو ساكت عنه، فلا ينافي قياسه بجامع (1).

= الجمهور بأنكم قيدتم الرقبة بأن لا تكون قد فات منها جنس المنفعة كالمجنون الذي لا يفيق، والأصم، ونحو ذلك، فكما قيدتم بالسلامة من هذه العيوب، وهي لم ترد في النص، فيلزمكم من باب أولى التقييد بالإيمان الذي ورد به النص.

راجع: فتح القدير مع شرحه لابن الهمام: 5/ 80.

(1)

لأن الذين قالوا: يحمل المطلق على المقيد قياسًا اشترطوا وجود جامع بينهما، وهو في القتل والظهار حرمة سببهما، وعلى هذا فلا حمل عندهم عند قيام الفارق كما في آية عدة الوفاة، وآية عدة الطلاق في المدخول بها، أو غير المدخول بها، وهي قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قيدت بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فإن آية عدة الوفاة - وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]- لا تقيد بالدخول قياسًا، لوجود الفارق، وهو بقاء أحكام الزوجية بعد الموت كإرثها منه، وكونها تغسله بخلاف المطلقة. =

ص: 416

والحق: أن الإمام أبا حنيفة لما جوز التخصيص بالقياس، فعدم جواز التقييد به مشكل يعسر التغضي عنه: لأن تقييد المطلق أهون من تخصيص العام لقلة الشيوع في المطلق، وإن كان كل منهما بيانًا، فتأمل!

قوله: "وإن اتحد الموجب، واختلف حكمهما، فعلى الخلاف".

أقول: إذا اتحد السبب مثل الحدث، واختلف الحكم مثل غسل الأيدي المقيد بإدخال المرافق، والمسح المطلق في آية التيمم (1).

فعلى الخلاف المذكور عند الحنفية لا يجوز.

وعند بعض الشافعية يجوز الحمل لفظًا لا قياسًا، والحق عندهم قياسًا (2).

= أما الذين قالوا: يحمل عليه لفظًا، أي بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع بين المطلق والمقيد، فلا يشترط ذلك عندهم.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 2/ 51، وهمع الهوامع: ص/ 216.

(1)

وهي قوله تعالى: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

(2)

راجع: تشنيف المسامع: ق (72/ أ)، والغيث الهامع: ق (73/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 51، وهمع الهوامع: ص/ 216.

ص: 417

فإن قلت: قد صرح الشيخ ابن الحاجب بأن في مثل قوله: أطعم رجلًا، واكس فاضلًا، لا يحمل اتفاقًا.

قلت: في المسألة خلاف، ويمكن حمل قول الشيخ على ما إذا اختلف السبب، وإلا يشكل بآية التيمم. هذا كله إذا كان المطلق مقيدًا بقيد واحد.

وإما إذا قيد بقيدين متنافيين، يبقى المطلق على إطلاقه، مثل الحديث الوارد في التعفير، إذ ورد:"فاغسلوه سبعًا أولاهن بالتراب"، وفي رواية:"أخراهن"، فرواية:"إحداهن"(1) باقية على الإطلاق.

هذا إذا لم يقتض القياس الإطلاق، والحمل على أحدهما.

وأما إذا اقتضاه حمل عليه، وهذا إنما/ ق (79/ أمن ب) يستقيم على رأي من يقول بالقياس وأما على رأي من يقول بحمل المطلق على المقيد لفظًا، فلا.

* * *

(1) رواه البخاري، ومسلم، ومالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والدارمي، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن - وفي رواية: إحداهن، وفي أخرى: أخراهن - بالتراب" لكن في رواية ابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة وعبد الله بن المغفل وفيه: "والثامنة عفروه في التراب"، كما رواه عنهما النسائي.

راجع: الموطأ: ص/ 47، وصحيح البخاري: 1/ 53، وصحيح مسلم: 1/ 161، وسنن أبي داود: 1/ 17، ومسند أحمد: 2/ 245، وتحفة الأحوذي: 1/ 300، وسنن النسائي: 1/ 53، وسنن ابن ماجه: 1/ 148 - 149، وسنن الدارمي: 1/ 188، وسنن الدارقطني: 1/ 63، والمستدرك: 1/ 160، ونيل الأوطار: 1/ 49.

ص: 418