الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الظاهر والمؤول
قوله: "الظاهر، والمؤول، الظاهر: ما دل دلالة ظنية، والتأويل حملُ الظاهر على المحتمل المرجوح".
أقول: الظاهر - لغة -: الواضح، ومنه ظهر الشيء لظهوره (1).
واصطلاحًا: اللفظ الدال دلالة ظنية (2)، فيخرج النص لكون دلالته قطعية، وكذلك المجمل لتساوي الدلالة فيه، والمؤول لكونه مرجوحًا.
ثم تلك الدلالة إما وضعًا نحو: الأسد، أو عرفًا نحو: الغائط في الخارج المستقذر، فإنه ظاهر فيه، مع كونه في اللغة، هو المكان المطمئن.
وقد يفسر الظاهر بما يدل دلالة واضحة، فيكون النص قسمًا من الظاهر لكون الواضحة أعم من القطعي، والظني، وكذا المبين يكون أخص منه لأن الدلالة الواضحة لا تقتضي الاحتياج إلى سابق بيان.
(1) راجع: معجم مقاييس اللغة: 3/ 471، والمصباح المنير: 2/ 387، ولسان العرب: 6/ 192.
(2)
راجع الإشارات للباجي ص/ 8، والحدود له: ص/ 43، واللمع: ص/ 27، والبرهان: 1/ 416، وأصول السرخسي: 1/ 163، والعدة: 1/ 140، والمستصفى: 1/ 384، وروضة الناظر: ص/ 157، وفتح الغفار: 1/ 112، وكشف الأسرار: 1/ 46، والتلويح على التوضيح: 1/ 124، فواتح الرحموت: 2/ 19، وتيسر التحرير: 1/ 136، وأدب القاضي للماوردي: 1/ 616، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 37.
والتأويل: من آل يؤول، إذا رجع، ومآل الأمر، مرجعه (1).
واصطلاحًا: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، بدليل يصير به راجحًا (2): لأنه بلا دليل، أو بدليل مساو، أو مرجوح [لعب](3)، واللعب لا ينافي الفساد، فلا يحتاج إلى إفراده بالذكر (4).
ثم التأويل ينقسم ثلاثة أقسام: لأنه إما قريب يكفيه أدنى مرجح، أو بعيد يحتاج إلى مرجح أقوى، أو لا يقبله اللفظ، فيتعذر العمل به، فيحكم ببطلانه.
(1) ومنه قوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] أي: طلب ما يؤول إليه معناه، وهو مصدر أولت الشيء إذا فسرته، وأرجعته من الظاهر إلى ذلك الذي آل إليه في دلالته، قال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أي: ما يؤول إليه بعثهم ونشورهم.
راجع: معجم مقاييس اللغة: 1/ 159 - 162، والمصباح المنير: 1/ 29، ولسان العرب: 13/ 33.
(2)
راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 198، وشرح العضد على المختصر: 2/ 169، وتيسير التحرير: 1/ 144، وتشنيف المسامع: ق (72/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (73/ ب) والآيات البينات: 3/ 99، وإرشاد الفحول: ص/ 176.
(3)
زدتها على ما في (أ، ب) ليصح الكلام.
(4)
لأن البعض: اعتبر التأويل لما يظن دليلًا، وليس بدليل في الواقع بأن يكون مساويًا، أو مرجوحًا فاسدًا. وأما إن كان التأويل بلا دليل، فلعب ففرق بين هذا، والذي قبله. أما الشارح، فلا يرى الفرق بينهما؛ لأنه لا تنافي في ذلك، وهو متبع في هذا للعضد في شرحه.
راجع: شرح العضد على المختصر: 2/ 169، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 53، وهمع الهوامع: ص/ 217.
فالقريب نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أي: إذا أردتم القيام: لأن غسل الأعضاء يعقب إرادة القيام، لا القيام، ولما كان القرب والبعد أمرين نسبيين (1)، / ق (78/ ب من أ) ولم يكن ضبط القرب والبعد بضابط، كثر الأمثلة من البعيد ليعلم بها حال القريب.
منها: ما ورد أن غيلان بن سلمة أسلم عن عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"امسك أربعًا، وفارق سائرهن".
أولت الحنفية (أمسك) بابتداء نكاح الأربع إن كان نكاحهن وقع جملة، أو الأوائل إن كان مرتبًا.
وجه بعده: أن غيلان كان قريب عهد بالكفر لا يعلم شرائط النكاح، بل أكثر الشرائع، فهو بعيد عن هذا التفصيل، مع أنه لم ينقل [تجديد](2) لا منه، ولا من غيره.
(1) آخر الورقة (78/ ب من أ).
(2)
سقط من (أ) وأثبت هامشها، والمعني أنه لم ينقل عن غيلان، ولا عن غيره ممن أسلم على أكثر من أربع نسوة أنه جدد النكاح، وبناء على هذا يحمل الإمساك المذكور في الحديث - عند الجمهور - على الاستدامة: لأن السؤال وقع عنه، لا على الابتداء على التفصيل الذي ذكره الأحناف.
راجع: المستصفى: 1/ 390، والبرهان: 1/ 531، والإحكام للآمدي: 2/ 199، ومختصر الطوفي: ص/ 42، وفواتح الرحموت: 2/ 53، وتيسير التحرير: 1/ 145، وشرح العضد: 2/ 169، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 53، والآيات البينات: 3/ 100.
ومنها: تأويلهم قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] بإطعام طعام (1) ستين مسكينًا، إذ المقصود دفع الحاجة، ودفع حاجة مسكين واحد في ستين يومًا بمثابة دفع حاجة ستين شخصًا.
ووجه البعد فيه: أن الكفارة يطلب فيها التقرب إلى الله، ومن الراجح الجلي أن الواحد ليس كالجماعة لاشتمالهم على تقي وأتقى يتبرك بدعائهم بخلاف الشخص الواحد.
ومنها: حملهم قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل، باطل". - على الصغيرة، والأمة، والمكاتبة (2).
(1) فجعلوا المعدوم، وهو (طعام) مذكورًا، مفعولًا به، والمذكور، وهو قوله:(ستين) معدومًا، ولم يجعلوه مفعولًا به، مع ظهور قصد العدد، وهو ما ذكره الشارح في وجه البعد.
راجع: البرهان: 1/ 555، والمستصفى: 1/ 400، والإحكام للآمدي: 2/ 201، وشرط الكوكب المنير: 3/ 464، وهمع الهوامع: ص/ 218، والغيث الهامع: ق (73/ ب).
(2)
ووجه بعد هذا التأويل: أن الصغيرة ليست بامرأة في لسان العرب: ، لكنهم ألزموا بسقوط هذا التأويل بمذهبهم، أن الصغيرة لو زوجت نفسها كان العقد صحيحًا عندهم لا يتوقف على إجازة الولي، فلما ألزموا بذلك، فروا إلى حمله على الأمة، فألزموا ببطلانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"فلها المهر"، ومهر الأمة إنما هو لسيدها، ففروا من ذلك إلى حمله على المكاتبة، فرد عليهم بما ذكره الشارح.
راجع: البرهان: 1/ 517، والمستصفى: 1/ 402، والإحكام للآمدي: 2/ 202، وفواتح الرحموت: 2/ 25، وتيسير التحرير: 1/ 147، وشرح العضد 2/ 170، ومختصر الطوفي: ص/ 43، وتشنيف المسامع: ق (72/ ب) والغيث الهامع: ق (73/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 54، وهمع الهوامع: ص/ 218، وشرح فتح القدير: 3/ 255 وما بعدها.
واعترض: بأن هذا التأويل يبطل قصد الشارع في إتيانه باللفظ العام فإن "أي" من صيغ العموم، وأرباب الصناعات إذا ذكروا قاعدة، وإن لم يكن اللفظ عامًا، يحمل على العموم ضبطًا للقواعد، فكيف بالشارع، وقد أتى بلفظ صريح في العموم؟ لا سيما، وقد أكد العموم بـ "ما"، فحمله على الصغيرة، والأمة، والمكاتبة، وتأويل قوله: باطل، بأنه يصير إلى البطلان باعتراض الولي بعده واضح.
ولهذا لو قال سيد - لعبده -: أيما امرأة لقيت (1) / ق (79/ ب من ب) أكرمها، ثم قال: أردت الأمة، أو الصغيرة، يعد قوله ذلك من الألغاز.
هذا، وقد انضم إلى عموم اللفظ مجرى العادة، فإن استقلال المرأة بنكاح نفسها يعد وقاحة، وقلة حياء، ومروءة.
ومنها: حمل الحنفية - أيضًا - قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام من لم يبيت الصيام من الليل"(2) على قضاء الصوم، ونذره (3).
(1) آخر الورقة (79/ ب من ب).
(2)
الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والدارقطني، والبيهقي عن حفصة، وعائشة، وابن عمر بألفاظ مختلفة، كما أنه روي بطرق متعددة، وذكر الحافظ أن سنده صحيح لكنهم اختلفوا في رفعه، ووقفه، وصوب النسائي وقفه.
راجع: مسند أحمد: 6/ 287، وسنن أبي داود: 1/ 571، وتحفة الأحوذي: 3/ 426، وبذل المجهود: 11/ 330، وعارضة الأحوذي: 3/ 263، وسنن النسائي: 4/ 196، وسنن ابن ماجه: 1/ 520، وسنن الدارمي: 2/ 7، وسنن الدارقطني: 2/ 173، والسنن الكبرى للبيهقي: 4/ 213، وتلخيص الحبير: 2/ 188، وفيض القدير: 6/ 222.
(3)
راجع: فواتح الرحموت: 2/ 26، وتيسير التحرير: 1/ 148، والمستصفى: 1/ 409، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 55، والآيات البينات: 3/ 102، وهمع الهوامع: ص/ 218.
وإنما كان بعيدًا: لأن هذا الحصر لا يوافق اللغة، والعقل.
فإن قيل: إنما حملوا على هذا؛ لأنه ثبت بالدليل صحة الصوم بنية النهار، فيجب ذلك التأويل.
قلنا: يحمل على نفي الفضيلة الذي هو معنى قريب: لأن لا النافية ترد كثيرًا لنفي الفضيلة، كما ذكروه في قوله:"لا صلاة من لم يقرأ بأم القرآن".
ومنها: ما جاء في الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"(1)، حمله الشافعي على ما يوجد في بطنها ميتًا: لأن سبب ورود الحديث أنهم سألوه عما يجدونه في بطن الذبيحة هل يحل أكله، أو لا؟
ولا شك: أن المراد الميت، وإلا لو كان حيًا يذبح، فلا حاجة إلى السؤال عنه: لأنه كسائر الحيوانات المأكولة.
فقولهم: معنى الحديث: ذكاة الجنين كذكاة أمه على التشبيه بعيد جدًا عن المراد (2).
(1) رواه الإمام أحمد، وابن حبان من حديث أبي سعيد مرفوعًا، وعند البيهقي عن ابن عمر موقوفًا:"إذا نحرت الناقة، فذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا كان قد تم خلقه، ونبت شعره، وإذا خرج من بطنها حيًا ذبح حتى يخرج الدم من جوفه".
راجع: المسند: 3/ 31، 39، 45، 53، وموارد الظمآن: ص/ 265، والسنن الكبرى: 9/ 335.
(2)
راجع: المحلي على جمع الجوامع: 2/ 55، والغيث الهامع: ق (74/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 219.
ومنها: حمل قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] على بيان المصرف لا على الاستحقاق حتى جوزوا الصرف على صنف واحد، مع وجود سائر الأصناف (1).
وإنما عد بعيدًا: لأن اللام ظاهرة في الملك، وإذا كان ملكًا للمذكورين في الآية لا يجوز تخصيص طائفة به دون البواقي.
هذا الذي ذكره المصنف من وجه البعد، ذكره إمام الحرمين، ومن تبعه (2).
وقال الغزالي: "ليس كذلك، بل قوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} منظم إلى قوله/ ق (79/ أمن أ){وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]،
(1) وهو قول عمر، وحذيفة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والحسن، والنخعي، وعطاء، والثوري، وأبو عبيد، وأصحاب الرأى، وهو مذهب جمهور الحنابلة.
وروي عن النخعي أنه قال: إن كان المال كثيرًا يحتمل الأصناف قسمه عليهم، وإن كان قليلًا جاز وضعه في صنف واحد.
وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولى، فالأولى.
وقال عكرمة، والشافعي: يجب أن يقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجود من الأصناف الستة الذين سهامهم ثابته قسمة على السواء، ثم حصة كل صنف منهم لا تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم، إن وجد منهم ثلاثة، أو أكثر، فإن لم يوجد إلا واحد صرف حصة ذلك الصنف إليه، وهي رواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه.
راجع: شرح فتح القدير: 2/ 265، وأحكام القرآن لابن العربي: 2/ 959، والمجموع للنووي: 6/ 185 - 187، والمغني لابن قدامة: 2/ 668، وتشنيف المسامع: ق (73/ أ).
(2)
راجع: البرهان له: 1/ 551 - 553.
ومتعلق به، يعني لما كان طعنهم في رسول الله حين لم يعطهم من الزكاة دالًا على أنهم فهموا أن الاعطاء والمنع مفوضان إليه، اقتضى ذلك بيان المصرف ليندفع ذلك اللمز والطعن" (1).
وإنما لم يحتج الشافعي إلى هذا الاحتمال لكونه بعيدًا لا يصلح دليلًا.
قال الآمدي: "وإن سلمنا أنه لبيان المصرف، فليكن الاستحقاق بصفة التشريك أيضًا مقصودًا عملًا بظاهر اللفظ لعدم التنافي بين المرادين"(2).
ومنها: حمل بعض الشافعية قوله: "من ملك ذا [رحم] (3) محرم فهو حر"(4) على الأصول، والفروع.
(1) راجع: المستصفى: 1/ 399 - 400.
(2)
راجع: الإحكام له: 2/ 201.
(3)
سقط من (أ، ب) وأثبت بهامش (أ).
(4)
وفي لفظ الترمذي "من ملك ذا رحم محرم، فهو حر"، وعند أحمد:"من ملك ذا رحم محرم، فهو عتيق"، ورواه ابن ماجه، والبيهقي، وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مسندًا إلا من حديث حماد بن سلمة، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن عن عمر شيئًا من هذا، ورواه شعبة عن قتادة عن الحسن مرسلًا، وشعبة أحفظ من حماد، وقال علي بن المديني: هو حديث منكر، وقال البخاري: لا يصح، وقد صحح الحديث ابن حزم، وعبد الحق، وابن القطان.
راجع: المسند: 5/ 15، 18، 20، وسنن أبي داود: 2/ 351، وتحفة الأحوذي: 4/ 603، وسنن ابن ماجه: 2/ 107، والسنن الكبرى: 10/ 289 - 290، وتلخيص الحبير: 4/ 212.
وإنما كان بعيدًا: لصرفه اللفظ العام عن بعض مدلولاته من غير دليل (1).
فإن قلت: فما وجه ما ذهب إليه الشافعي إذا لم يكن هذا التأويل صحيحًا عندكم؟
قلت: لما دل الدليل على أن الرق لا يزول إلا بالعتق، قاس عتق الأصول والفروع على وجوب النفقة، إذ لا تجب النفقة عنده إلا للأصول، والفروع.
أو بالحديث الصحيح الوارد في مسلم (2): "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده عبدًا، فيشتريه، فيعتقه"(3) أي: بنفس الشراء، وقد وافقه الخصم على هذا.
(1) والشارح لم يرتضِ هذا الحمل تبعًا للجويني، والغزالي، والآمدي وغيرهم.
راجع: البرهان: 1/ 539، والمستصفى: 1/ 405، والإحكام للآمدي: 2/ 204، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 57، وتشنيف المسامع: ق (72/ أ)، والغيث الهامع: ق (74/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 219، والآيات البينات: 3/ 106.
(2)
هو مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري الإمام الحافظ صاحب الصحيح المشهور الذي صنفه من ثلاث مئة ألف حديث، وله المسند الكبير على أسماء الرجال، والعلل، والكنى، والجامع الكبير، وأوهام المحدثين، وتوفي سنة (261 هـ).
راجع: تذكرة الحفاظ: 2/ 588، وطبقات الحنابلة: 1/ 337، والمنهج الأحمد: 1/ 147، والخلاصة: ص/ 375، وطبقات الحفاظ: ص/ 260.
(3)
راجع: صحيح مسلم: 4/ 218، والمسند: 2/ 263، 5/ 29، من حديث أبي هريرة.
وبالآية / ق (80/ أمن ب) الكريمة في عتق الولد، وهي قوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
وجه الدلالة: أنه تعالى أبطل إثبات الولدية، بإثبات العبودية فعلم أنهما لا يجتمعان.
ومنها: تأويل بعض العلماء البيضة، والحبل في الحديث ببيضة الحديد، وهي المغفر، وحبل السفينة (1)، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لعن الله السارق، يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل، فتقطع يده"(2).
وإنما أولوه ذلك التأويل البعيد: لما ورد في الحديث: "أن لا قطع في دون ربع الدينار"(3).
والجواب: أن مراده بيض الدجاج، ونحوه، وسائر الحبال، وهي وإن تكن ربع دينار، ولكن إذا اعتاد سرقة القليل يجره إلى الكثير، فتقطع يده.
(1) راجع من قال بهذا التفسير للحديث المذكور: فتح الباري: 15/ 88 وما بعدها.
(2)
رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة.
راجع: صحيح البخاري: 8/ 198، وصحيح مسلم: 5/ 113، وسنن النسائي: 8/ 65، وسنن ابن ماجه: 2/ 123.
(3)
روى البخاري، ومسلم، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا".
راجع: صحيح البخاري: 8/ 199، وصحيح مسلم: 5/ 112، وسنن النسائي: 8/ 78، وسنن ابن ماجه: 2/ 124.
أو كان هذا في بدء الإسلام، ثم نسخ بربع الدينار (1).
ومنها شفع الأذان الوارد في الحديث: "أمر بلال (2) بأن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة"(3).
قالت الحنفية: معناه أن يشفعه بأذان ابن أم مكتوم (4).
(1) راجع: فتح الباري: 15/ 88 - 89.
(2)
هو بلال بن أبي رباح الحبشي مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ومؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو عبد الله، أسلم في أول الدعوة، وأظهر إسلامه، وكان سيده أمية بن خلف يعذبه كثيرًا على إسلامه، فيصبر على العذاب، فاشتراه منه أبو بكر، وأعتقه في سبيل الله، وهاجر إلى المدينة، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وهو أول من أذن في الإسلام، وكان يؤذن للرسول صلى الله عليه وسلم سفرًا، وحضرًا، ولما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الشام للجهاد، وأقام بها حتى توفي سنة (20 هـ، وقيل غير ذلك).
روى عنه جماعات من الصحابة، والتابعين، وفضائله كثيرة مشهورة، وأخرج أحاديثه أصحاب الكتب الستة.
راجع: أسد الغابة: 1/ 243، والاستيعاب: 1/ 141، والإصابة: 1/ 165، وحلية الأولياء: 1/ 147، ومشاهير علماء الأمصار: ص/ 50.
(3)
رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي.
راجع: صحيح البخاري: 1/ 148، وصحيح مسلم: 2/ 2 - 3، ومسند أحمد: 3/ 103، 189، وسنن أبي داود: 1/ 121، وتحفة الأحوذي: 1/ 576، وسنن النسائي: 2/ 3، وسنن ابن ماجه: 1/ 248، والسنن الكبرى: 1/ 412.
(4)
هو عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة العامري، وقيل: اسمه عمرو، وأمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر المخزومية يعتبر من السابقين المهاجرين، مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، مع بلال، وسعد القرظي، وأبي محذورة مؤذن مكة، =
وإنما كان بعيدًا لصرفه اللفظ عن العموم: لأن ابن أم مكتوم أذانه قبل بلال كان في صلاة الصبح (1) لا غير.
* * *
= هاجر بعد بدر بقليل، وقد عوتب الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله لما جاءه طالبًا منه التعليم، فاشتغل بغيره، فنزل قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1 - 2] إلى آخر الآيات، استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة لما غاب عنها في غزوة من الغزوات. ولما نزل قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] شكا ضرارته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يستطيع الجهاد، فنزل بعدها {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، فكان بعد يغزو، ويقول: ادفعوا إليَّ اللواء، فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفوف، وشهد القادسية، ومعه الراية واستشهد فيها سنة (15 هـ)، وقيل: رجع إلى المدينة ومات بها في نفس السنة.
راجع: أسد الغابة: 4/ 63، والاستيعاب: 7/ 41، والإصابة: 7/ 83، وطبقات ابن سعد: 4/ 205، والمعارف: ص/ 290، ومشاهير علماء الأمصار؛ ص/ 53، وحلية الأولياء: 2/ 4، وسير أعلام النبلاء: 1/ 360، والعبر: 1/ 19، وشذرات الذهب: 1/ 28.
(1)
لما رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، ثم قال وكان رجلًا أعمى لا ينادي، حتى يقال له أصبحت، أصبحت.
راجع: صحيح البخاري: 1/ 151، وصحيح مسلم: 2/ 3، وسنن أبي داود: 1/ 127، وتحفة الأحوذي: 1/ 603، وسنن النسائي: 2/ 11، والسنن الكبرى: 1/ 380، 382، 385، 429، 4/ 278، فأذانه كان بعد بلال لا قبله كما ذكر الشارح.
وراجع: تشنيف المسامع: ق (73/ أ)، والغيث الهامع: ق (74/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 57 - 58، وهمع الهوامع: ص/ 220.