الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والعشرون: القناعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فمن الصفات المحمودة التي حث الله ورسوله عليها: صفة القناعة.
قال الراغب: القناعة هي الاجتزاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها
(1)
.
قال تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32] وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] الآية.
قال علي وابن عباس رضي الله عنهما: الحياة الطيبة هي القناعة
(2)
.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»
(3)
.
وروى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث
(1)
معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص: 429).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 352).
(3)
صحيح البخاري برقم (6446)، وصحيح مسلم برقم (1051).
أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا ذَر، أَتَرى كَثْرَة المَالِ هُو الغِنى؟ » ، قُلتُ: نَعَم يَا رَسولَ الله. قَالَ: «فَتَرَى قِلَّةَ المَالِ هُوَ الفَقرَ» ، قُلتُ: نَعَم يَا رَسُولَ الله، قَالَ:«إِنَّمَا الغِنَى غِنَى القَلبِ والفَقرُ فَقرُ القَلبِ»
(1)
.
والعرض هو متاع الدنيا، ومعنى الحديث السابق: الغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة، لأن من كان طالبًا للزيادة لم يستغن بما عنده فليس له غنى.
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ»
(2)
.
وروى الترمذي في سننه من حديث عبيدالله بن محصن الخَطَمي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ
(3)
لَهُ الدُّنْيَا»
(4)
.
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن إلى أن ينظر إلى من هو أسفل منه حتى يشعر بكثرة نعم الله عليه.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ»
(5)
.
(1)
جزء من حديث في صحيح ابن حبان برقم (684) ومستدرك الحاكم (5/ 466) برقم (7999)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه بهذه السياقة، وإنما أخرجاه من طريق الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي ذر مختصراً.
(2)
صحيح مسلم برقم (1054).
(3)
معنى حيزت: أي جُمعت.
(4)
سنن الترمذي برقم (2346)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2/ 274) برقم (1913).
(5)
صحيح البخاري برقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963).
قال ابن جرير وغيره: هَذَا حَدِيْثٌ جَامِعٌ لأَنْوَاعٍ مِنَ الخَيْرِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَن فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَت نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِن نِعْمَةِ اللهِ، وَحَرَصَ عَلَى الازْدِيَادِ لِيَلحَقَ بِذَلِكَ، أَو يُقَارِبَهُ. هَذَا هُوَ المَوْجُوْدُ فِي غَالِبِ النَّاسِ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُوْرِ الدُّنْيَا إِلَى مَن هُوَ دُوْنَهُ فِيْهَا، ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللِه تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ فِيْهِ الخَيْرَ. اهـ
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس قناعة وزهدًا في الدنيا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لعروة ابن أختها: «إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ. فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَاّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبْيَاتِهِمْ، فَيَسْقِينَاهُ»
(2)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك: أن فاطمة نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ فَقَالَ: «هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»
(3)
.
وفي الصحيحين من حديث أبي حازم قال: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ مِرَارًا يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ مَا شَبِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا
(4)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يجعل رزقه كفافًا، أي مقدار حاجته فقط.
(1)
صحيح مسلم شرح النووي (6/ 97).
(2)
صحيح البخاري برقم (6459)، وصحيح مسلم برقم (2972).
(3)
مسند الإمام أحمد (20/ 440) برقم (13223)، وقال محققوه: حديث حسن.
(4)
صحيح البخاري برقم (5374)، وصحيح مسلم برقم (2976) واللفظ له.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا»
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالقناعة وعيشة الكفاف، روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ»
(2)
.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم؛ فعن أنس بن مالك قال: «اشْتَكَى سَلْمَانُ فَعَادَهُ سَعْدٌ، فَرَأَىهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا يُبْكِيكَ؟ أَلَيْسَ قَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَيْسَ؟ أَلَيْسَ؟ قَالَ سَلْمَانُ: مَا أَبْكِي وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ مَا أَبْكِي ضنًّا لِلدُّنْيَا وَلَا كَرَاهِيَةً لِلآخِرَةِ، وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيّ عَهدًا فَمَا أُرَانِي إِلَاّ قَدْ تَعَدَّيْتُ. قَالَ: وَمَا عَهِدَ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ يَكْفِي أَحَدَكُمْ مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ. وَلَا أُرَانِي إِلَاّ قَد تَعَدَّيت. قَالَ ثَابِتٌ: فَأَحْصَوْا مَا تَرَكَهُ سَلْمَانُ، فَإِذَا هُوَ بِضْعَة وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا»
(3)
.
وقال عمر رضي الله عنه: «إِنَّ الطَّمَعَ فَقرٌ، وَإِنَّ اليَأسَ غِنَى، إِنَّهُ مَن يَيأَسْ عَمَّا فِي أَيدِي النَّاسِ استَغنَى عَنهُم»
(4)
.
والقناعة كنز عظيم، وعلامة من علامات التقوى كما قيل:«القناعة كنز لا يفنى» .
(1)
صحيح البخاري برقم (6460)، وصحيح مسلم برقم (1055).
(2)
سنن ابن ماجه برقم (4217)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 412) برقم (3398).
(3)
مسند الإمام أحمد (5/ 438)، وابن ماجه برقم (4104) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 392) برقم (3312).
(4)
إحياء علوم الدين (3/ 239).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «التَّقوَى: الخَوفُ مِنَ الجَلِيلِ، وَالعَمَلُ بِالتَّنزِيلِ، وَالقَنَاعَةُ بِالقَلِيلِ، وَالاِستِعدَادُ لِيَومِ الرَّحِيلِ» .
وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني قنعت
(1)
.
وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك.
قال الشاعر:
خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاكَ وَارْضَ بِهَا
…
لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَاّ رَاحَةُ البَدَن
وَانْظُر لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا
…
هَل رَاحَ مِنْهَا بِغَيرِ القُطْنِ وَالكَفَن
وقال آخر:
وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا
…
وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
وقال آخر:
إِنَّ الغِنَيَّ هُوَ الغَنِيُّ بِنَفْسِهِ
…
وَلَو أَنَّهُ عَارِي المَنَاكِبِ حَاف
مَا كُلُّ مَا فَوقَ البَسِيطة كَافِيًا
…
فَإِذَا قَنِعْتَ فَكُلُّّ شَيْءٍ كَاف
قال الغزالي رحمه الله كان محمد بن واسع يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل، ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد
(2)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
إحياء علوم الدين (3/ 239).
(2)
إحياء علوم الدين (3/ 239).