المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحريف الشيخ لكلام العلماء واتهامه إياي بمخالفتهم - الرد على التعقيب الحثيث للشيخ عبد الله الحبشي - جـ ١

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌توطئة:

- ‌موضع الخلاف بيني وبين الشيخ:

- ‌الأصول التي بني عليها الشيخ تضعيف الحديث فقط: [

- ‌الجواب عن هذه الأصول:

- ‌1 - هذا الأصل صحيح وهو غير وارد علي

- ‌2 - خطأ الشيخ في قوله: "إنه لا يحكم على الحديث بالوضع "لكذب الراوي

- ‌3 - خروجه عن المحدثين: في قوله أن الحديث الشديد الضعف هو ما تفرد به كذاب

- ‌4 - تحقيق القول في القرائن التي يدرك بها الموضوع:

- ‌سقوط انتقاد الشيخ لحكمي على الحديث بالوضع:

- ‌بدعة السبحة ومخالفتها للسنة

- ‌ضعف الحديث الأول وقصور الشيخ في تخريج الثاني

- ‌إبطال قول الشيخ: "إن الصحابة كانوا لا يعرفون (المئذنة)

- ‌رد قول الشيخ أن لا مخالفة للسنة في التسبح بالسبحة

- ‌قرينة ثالثة على بطلان حديث السبحة:

- ‌تعيين واضع الحديث:

- ‌الأصول التي بني الشيخ عليها صحة حديثي الحصى

- ‌الجواب عن هذه الأصول

- ‌جواز تضعيف الحديث مقيدًا أو مطلقًا

- ‌منهجي في تضعيف الأحاديث:

- ‌توثيق ابن حبان للمجهول غير مقبول:

- ‌الغرابة عند الترمذي لا تجامع الصحة إذا صرح بالتضعيف:

- ‌مقابلة الأصول الثلاثة بكلام الشيخ والرد عليه مفعلا

- ‌شبهات الشيخ في تصحيح حديث سعد وردها

- ‌تحريف الشيخ لكلام العلماء واتهامه إياي بمخالفتهم

- ‌الحديث الثالث

- ‌نسبة الشيخ إلى الحافظ ما لم يقله

- ‌جهل الشيخ بتراجم الرواة:

- ‌قلة انصاف الشيخ:

- ‌جهل الشيخ بآثار الصحابة:

- ‌الرد على الشيخ في تجويزه تقييد النصوص المطلقة برأيه

- ‌أمثلة من البدع يلزم الشيخ القول بمشروعيتها خلافًا للعلماء:

- ‌ضعف الحديث السابق:

- ‌التزام بعض المشايخ السبحة بدل العقد بالأنامل

- ‌الخاتمة فيمن يجوز له التصحيح والتضعيف:

- ‌خاتمة الرد:

الفصل: ‌تحريف الشيخ لكلام العلماء واتهامه إياي بمخالفتهم

"والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ عنهم بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده".

ثم قال (ص 412):

"اعلم أن من كان من هذا القبيل محتجًا بروايته في الصحيحين أو أحدهما فإنا نعرف على الجملة أن ذلك مما تميز وكان مأخوذًا قبل الاختلاط".

ونقله عنه الحافظ برهان الدين الحلبي في مقدمة رسالته "الاغتباط بمعرفة من رمي بالاختلاط" ثم قال (ص 3).

"وهذا من باب إحسان الظن بها".

ففي كلام هذين الإمامين ما يبين أن في رجال الصحيحين جماعة من المختلطين، فلا يجوز تنزيههم عن الاختلاط لمجرد كونهم من رجالهما، كما لا يجوز الاحتجاج بحديثهم إلا بعد التبين أنه من حديثهم قبل الاختلاط.

فانظر أيها القارئ الكريم ما أبعد كلام حضرة الشيخ عن الصواب إنه يرد دعواي اختلاط ابن أبي هلال لمجرد كونه من رجال الشيخين، والعلماء يقولون إن في رجالهم غير واحد من المختلطين!

وبعد ثبوت اختلاط ابن أبي هلال هذا وعدم تبين كونه روى هذا الحديث قبل الاختلاط يظل إعلالي به لهذا الحديث قائمًا، ورد الشيخ له واهيًا بل باطلًا.

‌تحريف الشيخ لكلام العلماء واتهامه إياي بمخالفتهم

!

ثم إن فضيلة الشيخ -حفظه الله تعالى- أراد أن يمدنا من علومه فقال في رسالته (ص 21) ما نصه:

"ثم إني أزيدك في شأن حديث سعد على تحسين الترمذي لصحيح غيره له، وهو الحافظ ابن حجر (الأصل بن حجر -بدون ألف الوصل- وما أكثر الأخطاء فيه على صغر حجمه! ).

ص: 26

في "أمالي الأذكار" وذكر أن ابن حبان ذكر خزيمة في "الثقات" قال كما في شرح ابن علان الصديقي بعد أن ذكر مخرجيه: حديث صحيح".

قلت: ويؤسفني جدًا أن أقول: إن في هذا النقل عن الحافظ ابن حجر كثيرًا من التصرف والاختصار المخل؛ الذي يشبه التدليس المسقط لفاعله من رتبة المحتج يهم فيما يروونه وينقلونه، ذلك لأن كل من يقف على هذا الكلام المنقول عن الحافظ لا يتبادر إلى ذهنه إلا أن حديث سعد الذي فيه ذكر النوى أو الحصى هو عند الحافظ:

1 -

صحيح لذاته.

2 -

صحيح بتمامه وفيه التسبيح بالحصى أو النوى.

3 -

وان خزيمة الذي في سنده ثقة عنده.

وكل هذا مما لا يفيده كلام الحافظ البتة عندما يقف القارئ الكريم عليه بنصه التام كما أورده ابن علان المذكور فقال في "شرحه عن الأذكار" ما نصه: "وقال الحافظ بعد أن ذكر من ذُكر ممن خرجه: حديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا خزيمة، فلا يعرف نسبه ولا حاله، ولا روى عنه إلا سعيد يعني ابن أبي هلال، وذكره ابن حبان في "الثقات" كعادته فيمن لم يجرح ولم يأت بمنكر، وصحه الحاكم، وللحديث شاهد من حديث أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يحرك شفتيه. فقال: ماذا تقول يا أبا أمامة؟ فقال: أذكر ربي، فقال: ألا أخبرك بأكثر وبأفضل من ذلك الليل مع النهار، والنهار مع الليل؟ تقول: سبحان الله عدد ما خلق الله، سبحان الله ملء ما خلق الله، سبحان الله عدد ما في الأرض وما في السماء، سبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدد كل شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول: الحمد لله مثل ذلك. هذا حديث حسن، أخرجه النسائي في "الكبرى".

ص: 27

وابن حبان "الدعاء" من الطبراني في ن من وجهين آخرين عن أبي أمامة اهـ" (1).

هذا هو نص كلام الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى الذي أخل فضيلة الشيخ في اختصاره فأوهم القارىء ما لا يقصده الحافظ من المسائل الثلاثة التي سبق ذكرها قريبًا، وإنما الذي يفيده كلامه رحمه الله تعالى خلافها. وهي:

1 -

أن الحديث إنما هو صحيح لغيره لا لذاته، والفرق بين الأمرين واضح لأن الحديث الصحيح لذاته إنما هو ما رواه عدل ضابط عن مثله والصل إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون شاذًا ولا معللًا، وأما الحديث الصحيح لغيره فلا يشترط فيه ذلك بل هو الذي في سنده ضعف غير شديد، وله شاهد مثله أو أكثر لم يشتد ضعفه وقد يكون حسنًا لذاته فيرتقي إلى درجة الصحيح بشاهد معتبر، وحديث سعد هذا إنما هو صحيح لغيره عند ابن حجر كما يفيده كلامه السابق، ذلك لأنه بعد أن ذكر أنه حديث صحيح وأن رجاله رجال الصحيح استثنى منهم خزيمة ووصفه بأنه لا يعرف حاله، ولا روى عنه إلا سعيد بن أبي هلال" وهذا هو عين ما قلته في مقالي السابق في بيان ضعف هذا الحديث نقلًا عن الذهبي في "الميزان":

"خزيمة لا يعرف، تفرد عنه سعيد بن أبي هلال" ثم أيدته بقول الحافظ نفسه في "التقريب": "لا يعرف" فحديث فيه من لا يعرف ضعيف حتمًا، ولا يتصور أن يصحح سنده لذاته مبتدىء في هذا العلم فضلًا عن إمام فيه كالحافظ ابن حجر، فتبين أن الحديث عنده ضعيف السند، فإذا عرف هذا فقوله، إن الحديث صحيح، إنما يريد به صحيح لغيره، وذلك للشاهد الذي ساقه من حديث أبي أمامة، وهو شاهد قوي لا شك فيه، ولكن هل فيه ما يشهد التسبيح بالحصى الذي هو موضع الخلاف بيني وبين الشيخ؟ هذا ما ستراه مبينًا في المسألة الثانية وهي:

1 قلت: وقد وقلت أنا على طريقين له، أخرج أحدهما الجرجاني في "الفوائد""ق 166/ 1"، وأخرج الآخر أبو منصور السواق الثقة في جزء من "حديثه"(ق 2/ 1) ، وليس فيهما أيضًا ذكر للعد بالحصى أو النوى!

ص: 28

2 -

ليس صحيحًا بتمامه، فقد علمت مما سبق أن الحديث ليس إسناده صحيحًا عند الحافظ، فالحديث بالتالي ضعيف، إلا إذا وجد له شاهد يشهد له من جميع ما فيه من المعاني والأحكام، وإذا أنت أعدت النظر في الشاهد الذي به قوى الحافظ الحديث، لم تجد فيه التسبيح بالحصى أو النوى، ألا وهو حديث أبي أمامة، وحينئذ يتبين لك أن الحديث صحيح من ناحية ما فيه من تضعيف الثواب بمثل هذه الكلمات الواردة فيه، وهذا شيء لا أنكره، بل أشرت إلى الاعتراف به حين أوردت في المقال المشار إليه آنفًا حديث جويرية الصحيح وفيه: "سبحان الله وبحمده عدد خلقه

" (1) ولذلك لم أورد أصل حديث سعد وكذا حديث صفية في "الأحاديث الضعيفة" لإيماني بالثواب المذكور فيها في الجملة، وإنما أوردتها بمناسبة الكلام على الحديث الموضوع: "لعم المذكر السبحة" والصلة القائمة بينه وبينهما من حيث ما فيهما من ذكر الحصى فقط، فنبهت بهذه المناسبة على ضعف سنديهما والنكارة التي في أحدهما لكي لا يحتج بهما أحد كما فعل الشيخ، ولم يكن القصد التوجه إلى بيان صحة ما فيهما من الثواب المذكور لا سيما وقد ذكرنا هناك ما يغني عنهما من هذه الحيثية ألا وهو حديث جويرية.

وجملة القول في هذه المسألة أنه ليس في حديث أبي أمامة التسبيح بالحصى، أو النوى، كما هو الواقع في حديث سعد الضعيف، وبناء على ذلك ينبغي أن يظل على ضعفه في هذه الناحية لخلوه من شاهد يجبر به ضعفه المذكور، وهذا بين لا يخفى على ذي عينين!

3 -

وأفاد كلام الحافظ السابق أن خزيمة الذي في سند حديث سعد ليس ثقة عنده، بل مجهول لا يعرف؛ وإن وثقه ابن حبان، وقد ذكرت آنفًا في المسألة الأولى ما يؤيده من كلام الذهبي، بل ومن كلام الحافظ نفسه في مصدر آخر من كتبه وهو كتابه الذي ذكر فيه أنه يحكم فيه على الراوي بأصح ما قيل فيه

(1) ولعل هذا هو المراد بتحسين الحديث من الترمذي، وبتصحيحه من الحاكم وغيره أي تحسين ما جاء به من التضعيف المذكور، وحينئذ فلا خلاف بيني وبينهم، فلا يصح حينئذ أن يعترض علي بكلامهم، فتأمل منصفًا.

ص: 29

وهو "التقريب" أي فيما إذا كان موصوفًا بعبارات مختلفة المراتب عند أئمة الجرح والتعديل، ولم ينظر فيه لذكر ابن حبان في "الثقات"، هكذا قال فضيلة الشيخ في رسالته (ص 20) في صدد تضعيف رجل آخر لعلنا نتعرض للكلام عنه عندما تأتي المناسبة إن شاء الله تعالى، ثم هو تجاهل هذا كله في حق خزيمة هذا ولم يلتفت لتجهيل ابن حجر إياه في الكتاب المذكور:"التقريب" لغاية في نفسه لا تخفى على القارئ اللبيب، فهو يحتج بحكم ابن حجر على الراوي إذا كان موافقًا لرأيه، ولا يحتج به إذا كان مخالفًا له! وليت ذلك كان باجتهاد منه واتباع القواعد الحديثية إذًا لعذرناه، ولقلنا بأنه مأجور على كل حال، ولكنه إنما يفعل ذلك اتباعًا للهوى وتعصبًا لرأيه كما يشهد عليه بذلك غير ما موطن من هذه الرسالة، ومن ذلك قوله فيها (ص 23):

"فإن قيل: فما توجيه تصحيح الحافظ ابن حجر لحديث سعد في التخريج؟ قلت: كأنه لتوثيق ابن حبان لخزيمة مع إخراجه حديثه في صحيحه ارتفع عنه عنده جهالة العين وجهالة الحال".

أقول: وهذا التوجيه باطل، ولا يخفى بطلانه على الشيخ نفسه إن كان عنده ذرة من علم، إذ كيف يجوز لعارف أن يوجه كلام العالم توجيهًا يناقض صريح كلامه، فإن التوجيه المذكور معناه: أن خزيمة ثقة عند الحافظ، مع أنه صرح بأنه لا يعرف كما نقلته عنه مرارًا، ولو أن الشيخ لا يعلم قول الحافظ هذا لربما عذرناه أيضًا ولكن ماذا يقول المنصف فيه إذا علم أن الشيخ قد اطلع على هذا القول بدليل أنه حكاه عني في رسالته (ص 18 سطر 1) ولكنه لم يتعرض له بجواب مطلقًا كما هو شأنه في كل قول هو حجة عليه! ومثله في ذلك مثل بعض من يدعي الإصلاح في هذا العصر من المتفقهة الذين ينظرون إلى المذاهب (ولا أقول الأربعة فقط) كشرائع متعددة، ويأخذون منها ما يناسب أهواءهم المختلفة، أو ما يقضون به على مشاكلهم الكثيرة بزعمهم، دون أن ينظروا إلى القول الذي اختاروه منها بمنظار الدليل الشرعي، بل بمنظار المصلحة المزعومة فقط! وأنى لهم أن يعرفوا

ص: 30

المصلحة ويقدروها قدرها اللائق بها إِذا كانوا لا يستطيعون التمييز بين صحيح الأقوال وضعيفها، ولذلك تراهم يوافقون السنة تارة، ويخالفونها تارة أخري، حَتَّى إنهم ليقررون أحيانًا ما لم يقله أحد من المسلمين قبلهم! فكذلك نرى فضيلة الشيخ ينتقي من أقوال العلماء بل العالم الواحد ما يحقق له غرضه ألا وهو الرد علي! . فإذا رأى في بعض أقوال هذا العالم ما فيه حجة لي، وردّ عليه (أعرض عنه ونآي بجانبه)! أما أن ينظر إِلَى هذه الأقوال بمنظار القواعد المقررة عند العلماء فيأخذ منها ما يوافقها، ويدع منها ما يخالفها سواء كانت له أو عليه فهذا ما لا يفعله؛ لأنه لا يستطيُعه، هذا هو الظن به، وهو أهون الأمرين! ، وإلا فاخبرني بربك كيف يقبل الشيخ قول الحافظ في تضعيف رجل وَلَا يقبله في لضعيف رجل آخر، لولا الهوى أو الجهل أعاذنا الله منهما كليهما!

وقد حضرني الآن بيت من الشعر يناسب المقام، ولكني رأيت أن الأنسب أن لا أذكره محافظة على الأسلوب العلمي في ردي على الشيخ، وعلى التأدب معه، وإن كان هو قد خرج على هذا الأسلوب في أكثر من موضع من هذه الرسالة وغيرها (! ) كما في يخفى ذلك على من طالعها.

وجملة القول في هذه المسألة أن خُزَيْمَة الذي في سند حديث الحصي من رواية سعد مجهول عند العلماء، ومنهم الحافظ ابن حجر نفسه، وتوثيق ابن حَبَّان له مما لا يعتد به عندهم، ولذلك لم يعرج عليه الحافظ المذكور، وأمَّا السبب في عدم اعتداد العلماء بتوثيق ابن حَبَّان فقد فصلت فيه القول مرارًا آخرها في بعض المقالات السابقة من هذا الرد فليرجع إليه من شاء.

وههنا شيء آخر ينبغي التنبه عليه وهو أن توجيه الشيخ لتصحيح ابن حجر للحديث بالتوجيه الذي سبق نقله عنه، وبَيَّنَّا بطلانه دليل آخر من فضيلته على أنَّه فسد بنقله كلام الحافظ مختصرًا مخلًا إيهام القاريء بان الحافظ إنَّما صحح الحديث لذاته، وهو إنَّما صححه لغيره، وسبق بيان الفرق بين الأمرين في المسألة الأولي، كما أوضحت ثمرة هذا الفرق في المسألة الثانية، وهي أن ذكر الحصى والنوى في حديث سعد ضعيف.

ص: 31

وبذلك يتبين للقارئ الكريم أن كلام الحافظ هو لنا لا علينا، وأن حضرة الشيخ رجع منه بخفي حنين! والله الموفق لا إله غيره.

وبهذا التحقيق يتبين للقارئ اللبيب صدق الشيخ في الشطر الأول في حكمه، الذي أطلقه على نفسه بقوله (ص 21) بعد بحث لا طائل تحته:

"فهذا صريح في أَنَّهُ ليس لمثلي ومثلك وظيفة التصحيح والتضعيف"

لقد أصاب في حكمه على نفسه بأنه ليس أهلا للتصحيح والتضعيف، لأنَّ المرء أعرف بنفسه من غيره، وصدق الله العظيم إذ يقول {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} والواقع أن أبحاثه في هذه الرسالة وفي غيرها (! ) تدل دلالة واضحة على صحة هذا الحكم الذي أصدره على نفسه! وهذا وحده كاف للقضاء على ما ذهب إليه من صحة الحديث الذي فيه الذكر بالحصى أو النوى لأنه باعترافه ليس أهلًا للتصحيح، فلا يقبل ذلك منه، فإن احتج بتصحيح غيره له، فالجواب من وجهين:

الأول: أَنَّهُ لم نجد حَتَّى الآن من صحح سند أحد الحديثين، حَتَّى يصح الاحتجاج بجميع ما فيه من الأحكام.

الثاني: أن أحدًا لم يصرح بثبوت ذكر الحصى في الحديث ولو ثبوتًا غير ذاتي، أعني أَنَّهُ صحيح لغيره، فهذا ما لم نره منقولا عن أحد ممن يوثق بتصحيحهم.

وأمَّا حكمه على غيره بأنه ليس له وظيفة التصحيح والتضعيف، فهذا شيء لا يرجع بت الأمر فيه إليه، بل إِلَى أَهْلِ العِلْمِ المتخصصين في هذا العلم الشريف! فلا أهمية هذا الحكم إذن!

ومِمَّا سبق يظهر للعاقل مغالطة الشيخ في قولِه (ص 22):

"فبان مخالفتك لتحسين الترمذي، وتصحيح الحافظ ابن حجر له، وأن كلامك فيه لا محل له من الاعتبار بحكم قواعد علم الحديث".

وقد يحتاج الأمر إِلَى توضيح فأقول معتذرًا إِلَى القراء الأفاضل من الإطالة:

ص: 32

أما ادعاء الشيخ مخالفتي الحافظ ابن حجر في حَدِيث سعد، فهو ادعاء باطل، لأن ابن حجر لم يصحح إسناده بل ضَعَّفَه، وإنَّما صحح متن الحديث للشاهد الذي ذكره من حَدِيث أَبِي أمامة وليس فيه التسبيح بالحصى الذي يصححه الشيخ فبقي هذا القدر منه على ضعفه وقد سبق تفصيل القول في ذلك فلا داعي للاطالة فيه، والقصد التنبيه فقط، فأين مخالفتهم للحافظ ابن حجر المزعومة؟ ! .

وأمَّا مخالفتي لتحسين الترمذي فالجواب من وجهين:

الأول: أَنَّهُ لا بأس علي إِذَا خالفت الترمذي في شيء من تحسيناته بل في شيء من تصحيحاته، ذلك لأن الترمذي معروف عند العلماء. بتساهله في ذلك حَتَّى قَالَ الحافظ الذهبي:

"فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي".

وهذا الذي قَالَ الذهبي يلمسه الباحث في أقوال العلماء حول الأحاديث التي اختلفوا فيها، وقد سبق أن ذكرت في مقالاتي "الأحاديث الضعيفة والموضوعة" أحاديث كثيرة حسنها أو صححها الترمذي وهي عند العلماء ضعيفة لثبوت ما يخدج في ثبوتها عندهم وقد خفي ذلك على الترمذي {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .

فمخالفتي إياه إذن إن ثبتت لا شيء فيها إلَّا عند من يعرف الحق بالرجال! على خلاف ما هو مقرر عند العلماء أن الرجال أعرف بالحق، فاعرف الحق تعرف الرجال.

الثاني: أن اتهام الشيخ إياي بمخالفتي لتحسين الترمذي إنما يصح لو كان الترمذي يعني بقوله: "حَدِيث حسن" أن إسناده حسن لذاته، ودون إثبات هذا خرط القتاد، فإن الترمذي قد عرف الحديث الذي يقول فيه "حَدِيث حسن" في خاتمة كتابه "السنن" بما خلاصته أن إسناده غير حسن لذاته عنده، وإنَّما

ص: 33

حسن عنده بمجيئه من وجه آخر (1). ونص كلامه في ذلك قد نقله حضرة الشيخ من بعض تعليقاتي في الصفحة (19) من رسالته، فليعد النظر إليه حضرته إنّ شاء ليتأكد مِمَّا نقوله، وليظهر له جيدًا أَنَّهُ سريع الاتهام، جريء عليه بدون حق! .

فإذا تبين هذا للقارئ الكريم يظهر له أن الترمذي متفق معي على أن الحديث إسناده ضعيف، وإنَّما يبقى النظر في مراد الترمذي بقوله:"حَدِيث حسن" هل يريد أَنَّهُ حسن من جميع معانيه والأحكام التي وردت فيه في أم يريد بعض ذلك، فإن أراد هذا الثاني فلا اختلاف بيني وبينه أيضًا مطلقًا لأنني أقول بصحة الحديث فيما عدا التسبيح بالحصى كما سبق ذكره مرارًا، وهذا هو الراجح عندي؛ لأن الترمذي أورد الحديث في "باب في دعاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وتعوذه في دبر كلّ صلاة" ولو أَنَّهُ أراد الأول لعقد له بابا آخر، كما فعل بعض المتأخرين مثل "باب جواز عد التسبيح بالنوى ونحوه" أو على الأقل لأورده في "باب مَا جَاءَ في عقد التسبيح باليد" الذي عقده في سننه ولأشار إليه في الباب بقوله:

"وعده بالنوى ونحوه" كما فعل ذلك البعض المشار إليه آنفًا، ولكنه لم يفعل شيئًا من هذا مطلقًا، وإنَّما اقتصر على إيراده في الباب السابق وأنا غير مخالف له في ذلك كما تقدم، فمن زعم أن التسبيح بالحصى ثابت عند الترمذي فعليه الدليل، وَلَا يَجوز أن يتمسك بقوله:"حَدِيث حسن" عند النزاع، لاحتمال أَنَّهُ لا يريد بذلك

(1) قال السيوطي في "التدريب"(ص 50): "قال شيخ الإسلام (يعني ابن حجر): قد ميز الترمذي الحديث الحسن عن الصحيح بشيئين: أولها أن يكون راويه قاصرًا عن درجة راوي الصحيح، بل وراوي الحسن لذاته، وهو أن يكون غير منهم بالكذب، فيدخل فيه المستور والمجهول (قلت كحديث سعد هذا) ونحو ذلك، وراوي الصحيح لا بد وأن يكون ثقة، وراوي الحسن لذاته لا بد وأن يكون موصوفا بالضبط وَلَا يكفي كونه غير متهم. قال: ولم يعدل الترمذي عن قوله "ثقات" وهي كلمة واحدة إِلَى ما قاله إلَّا لإرادة قصور راويه عن وصف الثقة، كما هي عادة الثاني مجيئه البلغاء من غير وجه".

ص: 34