الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: فهذا نص من الحافظ ابن حجر رحمه الله يبطل ما نسبه إليه فضيلة الشيخ من تغاير الحديثين، إذ لو كان الأمر كما حكى الشيخ عنه لجزم الحافظ بأن المراة المبهمة في حديث سعد إنما هي صفية كما هو مصرح به في حدثيهما -كما سبق في أول هذا الرد- وذلك لتشابه حديثيهما، وتقوية الحافظ إياهما، وورود ذكر النوي فيهما، ولما ذكر احتمال كونها جورية؛ لأن حديثها ليس فيه ذكر النوي، وهو مغاير لحديث صفية في رأي الشيخ وفيها نسبه إلى الحافظ بسوء فهمه!
والحق أن قول الحافظ بالاحتمال المذكور يؤيد تأيدًا قويًا ما ذهبت إليه في المقال السابق أنه لا يلزم من تحسين الحافظ لحديث صفية تحسين كل ما ورد فيه من الجمل والألفاظ، وكذلك يقال في تصحيحه لحديث سعد، ألا ترى أنه لو كان الأمر على خلاف ما ذهبت إليه وعلى وفق ما توهمه حضرة الشيخ لكان الحافظ جزم أو رجح على الأقل أن المرأة هي صفية وليست جويرية، لأن الحديث الذي حسنه الحافظ فيه التصريح بأنها صفية، فعدول الحافظ عن الجزم بهذا إلى ذكر احتمال كونها جويرية دليل واضح منه على أنه لا يمتد بكل عبارة أو لفظة وردت في حديث حسن لغيره، والسبب في هذا سبق ذكره في المقال السابق، فمن شاء فليراجعه إن كان ناسيًا.
وخلاصة القول أنه إذا جاز للحافظ أن لا يحتج بعض ما جاء في حديث صفية الذي حسن هو إسناده، أفلا يجوز لي أن لا أثق بي آخر ورد فيه لا يوجد في غيره ما يقويه؟ لا سيما وفي السنة الصحيحة ما يخالفه، وفي أثر ابن مسعود ما يرده كما سبق بيانه.
جهل الشيخ بتراجم الرواة:
الظاهر أن فضيلة الشيخ لم يرد أن يجعل رده علي فيما يتعلق بالحديث فقط، بل أحب أن يتعداه إلى الرد عليَّ فيما يتعلق بأثر ابن مسعود المشار إليه آنفًا، وأنا أعتبر ذلك من
تدبيرات الله تعالى اللطيفة، لكي تظهر حقائق النفوس وقيمها العلمية! فقال حضرته (ص 13):
"وكيف استدل على ذلك بأثر ابن مسعود؛ بإسناد فيه الصلت وهو مجهول".
قلت: الصلت هذا هو ابن بهرام كما جاء مصرحًا به في سند الأثر نفسه ونقله الشيخ ذاته عني في رسالته (ص 12)، فحكم الشيخ عليه بالجهالة من العجائب التي لا تنقضي! ذلك لأنه قول لم يسبقه إليه أحد مطلقًا، فالرجل ثقة اتفاقًا، فقد ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(2/ 1/ 438) وروي توثيقه عن أحمد وابن معين، وعن ابن عينية أنه قال فيه:"أصدق أهل الكوفة". ووثقه غير هؤلاء أيضًا كالبخاري وغيره، فمن شاء الوقوف على ذلك فليراجع "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر (3/ 194).
وهذا الخطأ من فضيلة الشيخ مثال من الأمثلة الكثيرة على أن فضيلته لا يوثق بعلمه مطلقًا في علم الحديث وتراجم الرجال، ولا يكفي فيه الصلاح والتقوى كما قد يظن بعض المغفلين! بل لا بد مع ذلك من اليقظة والنباهة وعدم الغفلة، فإن كل مشتغل بهذا العلم الشريف على علم بما قاله المحدثون في بعض الصالحين! فقال ابن عدي:"سمعت أحمد بن خالد يقول: كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلم أحدًا (! ) قال أبو عروبة: كان يكذب كذبًا فاحشًا. وعن يحيى بن سعيد القطان قال: "ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد" (1).
قلت: وذلك لكثرة غفلتهم وحسن ظنهم بكل من يحدثهم أو ينقل لهم من الكتب، وأنا أخشى أن يكون الشيخ وقع في مثل هذا، فقد علمت أنه يكلف بعض الطلبة ممن لا علم لهم بالحديث والتراجم أن يراجعوا له بعض الكتب في المكاتب
(1) اللآلي المصنوعة للسيوطي (2/ 470).