الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: قد أوجدنا لك ذلك عن غير واحد من السلف على خلاف ما كنت ترجوه فهل في ذلك ما يقنعك؟
ثم هب أنني لا أعلم أحدًا من السلف عادي السبحة، فما قيمة ذلك إِذَا كنت أنا إنَّما أعاديها لمخالفتها للسنة، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي محدثة اتفاقا، وهل يشترط عند أَهْلِ العِلْمِ والعقل في إنكار مفردات البدع أن يكون عندنا نقل (بإسناد صحيح) عن أحد من السلف بإنكارها بدعة بدعة؟ هذا مما لا يقوله من شم رائحة العلم!
فسقط بنك آخر جملة من كلامك المتعلق بالسبحة في رسالتك. وإلى الله المشتكي من إضاعة الوقت وتسويد الورق حولها، والشيخ متفق معنا على أنَّ الأفضل التسبيح بالأنامل كما سبق مرارًا، فتعال يا فضيلة الشيخ ندْعُ النّاس إِلَى ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، شريطة أن يكون غاية الجميع الحرص على إحياء السنة وإماتة البدعة، ورحم الله من قَال:
وخير أمور الدين ما كان سنة
…
وشر الأمور المحدثات البدائع
الخاتمة فيمن يجوز له التصحيح والتضعيف:
ثم إن فضيلة الشيخ عقد "خاتمة" في "من له حق التصحيح والتضعيف في الحديث، ومن ليس له ذلك؛ ومن هو الحافظ" وادعى أن "التصحيح والتضعيف من وظيفة الحافظ واختصاصه لا غير" .. ثم تقل بعض الكلمات في تعريف الحافظ، ومع أن هذه الكلمات مختلفة لا تعطي تعريفًا جامعًا مانعًا لـ "الحافظ" بل إن اختلافها يدل على أنَّ الأمر فيه واسع، وما نقله الشيخ عن الحافظ المزمي يؤيد ذلك، إنه قَال: إنه يرجع في ذلك إِلَى أهل العرف، فلو كان هناك تعريف متَّفقٌ عليه بينهم لما أحال الحافظ على أهل العرف، لا سيما وهم قليلون باعترافه، ومثله قول ابن سيد النّاس:
"وأمَّا ما يحكي عن بعض المتقدمين من قولهم: "كنا لا نعد صاحب حَدِيث من لم يكتب عشرين ألف حَدِيث في الإملاء" فذلك بحسب زمنهم"
ففيه إشارة إِلَى أن هذه التعاريف خاصة بأزمانهم وأنها لا يلزم من بعدهم التمسكُ بها، ومهما كان الأمر فإن تلك الكلمات متفقة في الجملة على أنَّ درجة "الحافظ" من أسمى الدرجات الخاصة بالمحدث، ولذلك ندر في المتأخرين من بلغها، قَالَ الشيخ أحمد مُحَمَّد شاكر في "الباعث الحثيث" (ص 179):
"وأمَّا الحفظ فإنه انقطع أثره وختم بالحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، ثم قارب السخاوي والسيوطي أن يكونا حافظين، ثم لم يبق بعدهما أحد، ومن يدري: فلعل الأمم الإسلامية تستعيد مجدها، وترجع إِلَى دينها وعلومها، وَلَا يعلم الغيب إلَّا الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ".
قلت: ولكن هذا لا يمنع المتخصصين في علم السنة من سد هذا النقص بالاستعانه بمؤلفات الحفاظ أنفسهم ودواوينهم، لا سيما إِذَا جمع أقوالهم وبحوثهم حول الحديث الواحد وما ذكروه له من الطرق، فإنه بذلك يستعيض ما فاته من الحفظ الذي كان يساعد الأولين من الحفّاظ على التحقيق والإتقان، بل إنه ربما استدرك بذلك على بعضهم. كما نراه في بحوث بعض محققي العصر الحاضر كالشيخ أحمد شاكر المصري وغيره مثل علماء الهند بارك الله فيهم
…
ولكن ليس في تلك الكلمات ما يدل على أنَّ التصحيح والتضعيف من وظيفة الحافظ فقط، وأمَّا استدلال الشيخ على ذلك بما نقله (ص 36) عن البلقيني أَنَّهُ قَالَ:
"الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر، كان شيئًا يتقدح في نفس الحافظ .. " قَالَ الشيخ: "ففيه كما ترى اشتراط الحفظ في التحسين وأنه من خصائص الحافظ".
قلت: فبم الشرطية من هذه العبارة ما لا نغبط الشيخ عليه؛ لأنَّ ذكر "الحافظ" فيها ليس قيدًا إحترازيًا، بدليل أَنَّهُ قد يتقدح ذلك في نفس من
هو دون الحافظ كـ "المحدث" مثلًا، وهو ممن له حق التكلم في العلل والوفيات والأسانيد كما قال السُّبكي، (1) ويؤيده أن أحدًا من العلماء لم يصرح بشرطية "الحافظ" في "التصحيح" كما زعم الشيخ، وكل ما اشترطوه في ذلك هو المعرفة والأهلية، وهو ما نقله الشيخ نفسه عن النووي رحمه الله أنه قال في "التصحيح":
"والأظهر عندي جوازه، لمن تمكن وقويت معرفته" ومثله قول السيوطي في رسالة "التنقيح في مسألة التصحيح":
"ذكر الشيخ ابن الصلاح أن باب التصحيح انسَدَّ في هذه الأزمان، وخالفه النووي وكل من جاء بعده من الحفاظ إلى الحافظ ابن حجر، فاعترضوا على ابن الصلاح في مقالته، وجوّزوا التصحيح وأنه لا ينقطع ذلك ولا يمتنع ممن له أهلية ذلك، ثم منهم من رد كلام ابن الصلاح بأنه لا سلف له فيما قاله، ومنهم من رده بأنه مبني على القول بجواز خلو العصر عن مجتهد، وهو قول ساقط مردود، ومنهم من رده بأن أهل الحديث في عصر ابن الصلاح ومن بعده لم يزالوا مستمرين على التصحيح، فصححوا أحاديث لم يتقدم إلى تصحيحها أحد كأبي الحسن بن القَطَّان والضياء المقدسي وابن الموَّاق والمنُذري والدِّميْاطي والمِزيَ والنقي السُّبكي وغيرهم، وأطال ابن حجر في نُكَته المناقشة مع ابن الصلاح في ذلك".
وقال الحافظ ابن كثير في "اختصار علوم الحديث"(ص 29) ما خلاصته: "ويجوز للمتبحر في هذا الشأن الإقدام على الحكم بصحة كثير مما جاء في المسانيد والمعاجم والفوائد والأجزاء من الحديث وإن لم ينص على صحته حافظ قبله، موافقة للشيخ النووي وخلافًا للشيخ أبي عمر"(يعني ابن الصلاح). وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر. بقوله:
(1) انظر التدريب (ص 6) ويؤيده قول ابن الجوزي فيه (ص 99).
"وقد رد العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا وأجازوا لمن تمكن وقويت معرفته أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث بعد الفحص عن إسناده وعلله وهو الصواب، والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه، أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث وهيهات، فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل، لا برهان عليه من كتاب ولا سنة، ولا تجد له شبه دليل".
أقول: فقد اتفقت كلمات هؤلاء الأئمة جميعًا على أن الشرط الوحيد لمن يصحح ويضعف أن يكون متمكنًا في علم الحديث عارفًا بعلله ورجاله، ولم يتعرض أحد منهم -ولو تلميحًا- للشرط الذي ادعاه الشيخ، فدل ذلك على أنه شرط ساقط الاعتبار، وأن الشيخ يدعي أشياء ليست من "المصطلح" في شيء، وليته اكتفى بذلك بل هو يلصقها بعلم المصطلح، ويرمي مخالفه بالجهل".
ومما يدل العاقل على بطلان هذا الشرط وأنه لم يقل به أحد قبل الشيخ جريان العمل على خلافه من العلماء في سائر البلاد الإسلامية، كابن عراق صاحب كتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" وعبد الرؤوف المناوي صاحب "فيض القدير شرح الجامع الصغير" وأبي الحسنات اللكنوي الهندي صاحب الكتب الكثيرة النافعة، والشيخ أنور الكشميري مؤلف "فيض الباري على صحيح البخاري" والصنعاني، والشوكاني، وغير هؤلاء كثيرون في كل قطر ومصر ممن لا يشملهم عد ولا حصر، وقد صرح بما ذهبنا إليه الإمام الصنعاني في رسالته "إرشاد العباد إلى تيسير الإجتهاد" فقال (ص 21):
"فقد تقرر لك بما سقناه واتضح لك مما حققناه أن للناظر في هذه الأعمار أن يصحح ويضعف ويحسن، كما فعله من قبله الأئمة الكبار، فإن عطاء ربك لم يكن محظورًا، وإفضاله الممدود ليس على السابق مقصورًا
…
".
والصنعاني هذا من علماء القرن الثاني عشر، وما أظن أن الشيخ يعتقد الحفظ بأحد
بعد الحافظ ابن حجر إلا أن يكون تلميذه السخاوي أو السيوطي، فإذا أجاز الصنعاني لمن كان في عصره التصحيح والتضعيف ولا حافظ فيه باعتراف الجميع فكلامة دليل واضح على بطلان شرط الشيخ، فثبت المراد. فرحم الله من ترك الجدال والإصرار.
هذا وإذا ثبت جواز التصحيح للمتمكن جاز له بالتالي التضعيف أيضًا ولا فرق بل لعلي هذا أولى، فإن التصحيح يستلزم العلم بانتقاء كل العلل المبينة في المصطلح بينما التضعيف يكفي فيه الوقوف على علة قادحة، ولهذا أجازه من منع التصحيح ألا وهو أبو عمر بن الصلاح، فقال في "المقدمة" (ص 18) بعد أن ذ كر تساهل الحاكم في مستدركه:
"فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به، ويعمل به إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه".
قال الحافظ العراقي في شرحه:
"وقد تعقبه بدر الدين ابن جماعة فقال: "إنه يتتبع ويحكم عليه بما يليق له من الحسن أو الصحة أو الضعف"، وهذا هو الصواب".
فهذا يبين أن التضعيف أمر متفق عليه بين ابن الصلاح ومخالفيه في رأيه في "التصحيح"، فيجوز تضعيف الحديث بناء على ضعف السند، ولا يخالف هذا ما نقله الشيخ عن النووي وغيره (ص 37) من المنع أن يجزم بتضعيف الحديث اعتمادًا على ضعف إسناده، لاحتمال أن يكون له إسناد صحيح غيره
لأن هذا إنما يمنع من الجزم، للاحتمال المذكور، وأما إذا لم يجزم الباحث بالضعف وإنما قاله بناء على غلبة الظن، أو جزم به بعد دفع الاحتمال المذكور إما بنقل عن إمام حافظ بتفرد الضعيف به أو بعد إفراغ الجهد في استقصاءِ الطرق من كتب الحفاظ الجامعين فهذا مما لا اعتراض عليه، ولا أتصور عاقلًا شم رائحة
علم الحديث يقول بخلاف هذا، وبذلك يسقط قول الشيخ (ص 37) عقب قول النووي المذكور:
"فهذا. صريح في دفع ما صنع هذا الكاتب من الإقدام على التضعيف للأحاديث المذكورة من غير أن يكون له في ذلك سلف صرح بذلك .... ".
ثم إن هذا الكلام مبني على أمرين كلاهما ساقط:
الأول: فهم كلام النووي من المنع بالجزم على أنه أراد المنع ولو على غلبة الظن وهذا خطأ لأن الظن دون الجزم، الثاني: أنه قلد في ذلك ابن الصلاح. وقد أثبتنا خطأه في ذلك بالنقول الصريحة عن العلماء، وما بني على خطأ فهو خطأ. ومن غرائب الشيخ أنه ينقض كلامه بنفسه! فإنه قال عقب كلامه المذكور:
"إن الذي تعطية القواعد الحديثية أن حديث (نعم المذكر السبحة) ضعيف بهذا السند"، فقد ضعف الحديث دون أن يذكر له سلفًا فيه! فما الفرق بيني فيما أضعفه من الأحاديث وبينه في هذا لولا الشغب؟
وأما الحديثان الآخران اللذان يشير الشيخ إلى أنْ لا سلف لي في تضعيفهما فهو اتهام من جملة اتهاماته الكثيرة التي لا حقيقة لها، فأحدهما وهو حديث سعد بن أبي وقاص سبقني إلى تضعيفه الحافظ ابن حجر، وأما الآخر وهو حديث صفية فقد ضعفه الترمذي بقوله "غريب
…
وليس إسناده بمعروف" وسبق بيان ذلك كله، فلم أنفرد أنا بتضعيفهما، أقول هذا بيانًا للواقع، وإلا فإني لا أري هذا الشرط الذي يتكئ عليه الشيخ في رد تحقيقاتنا حول الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ألا وهو أن يكون لنا سلف في التضعيف، فإنه خلاف ما أفادته كلمات الأئمة السابقة، بل أرى أن هذا الشرط فيه تعطيل للعلم وتجميد للفكر، وإلا فما فائدة قراءة هذه العلوم كلها، ومنها علم مصطلح الحديث إذا كان العارف به لا يجوز له أن يحكم إلا بما سُبِق إليه من صحة أو ضعف، وهل هذا إلا خلاف ما جاء في نفس "المصطلح"؟ ! قال النووي رحمه الله في "التقريب" (ص 30):
"فصل: ولا ينبغي أن يقتصر على سماعه وكَتْبِه دون معرفته وفهمه، فليتعرف صحته وضعفه، وفقهه ومعانيه ولغته وإعرابه وأسماء رجاله محققًا كل ذلك
…
"
والحقيقة أن الغاية من علم الحديث في معرفة الصحيح من غيره، كما قال عز الدين ابن جماعة، ونص كلامه:"علم الحديث علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن، وموضوعه السند والمتن، وغايته معرفة الصحيح من غيره"(1).
والشرط الذي ابتدعه الشيخ يقضي على هذه الغاية العظمى، فإن الباحث في كتب السنة يقف على أحاديث كثيرة جدًا لا يجد من تكلم فيها تصحيحًا أو تضعيفًا، فالتوقف حينئذ عن التصحيح والتضعيف من عارف بهذا العلم الشريف مما يؤدي إلى تعطيل الغاية من علم الحديث كما هو بين لا يخفي.
وما مَثلُ من يقول بهذا إلا مَثَلُ من يزعم أنهُ لا يجوز للعارف بعلم أصول الفقه أن يفتي في نازلة حادثة بفتوى لا سلف له فيها! ففي هذا القول القضاء على غاية علم أصول الفقه، كما أن في قول الشيخ القضاء على الغاية من علم الحديث ولا فرق.
وخلاصة القول أن الشرط في "التصحيح والتضعيف" إنما هو الأهلية فقط، وأما الحفظ فشيء آخر، إن وجد فنور على نوره وإلا فليس بشرط كما أفادته كلمات الأئمة السابقة. والله الموفق لا رب سواه.
(1) قواعد التحديث القاسمي (51).