المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في رد قول العراقي الذي مضمونه: "أن نداء الصالحين والأنبياء وسؤالهم ليس بعبادة - الرد على شبهات المستعينين بغير الله

[أحمد بن عيسى]

الفصل: ‌فصل: في رد قول العراقي الذي مضمونه: "أن نداء الصالحين والأنبياء وسؤالهم ليس بعبادة

‌فصل: في رد قول العراقي الذي مضمونه: "أن نداء الصالحين والأنبياء وسؤالهم ليس بعبادة

"

فصل:

قال العراقي: (إن المانع من نداء الأنبياء والصالحين، وسؤالهم بعد موتهم وفي غيبتهم يستدل على المنع: بأن النداء والطلب عبادة، والعبادة لغير الله شرك، قال: فإذا جاز هذا في حقه صلى الله عليه وسلم دل على أنه ليس كما يزعمه الخوارج من أن ذلك عبادة، ودل على أنه إذا جاز في حقه صلى الله عليه وسلم جاز في غيره) .

والجواب أن يقال: هذا الضال لا يعرف العبادة، ولا ما ذكره العلماء في تعريف العبادة، بل هو لا يعرف ما أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه من توحيد الإلهية، ووجوب إفراده تعالى بالعبادة، بل نشأ على الشرك، وسيط بلحمه ودمه، فلا يعرف غيره، ولا يفهم سواه.

قوله: (إن المانع من نداء الأنبياء والصالحين وسؤالهم بعد موتهم إلخ..) .

أقول: انظر إلى شدة جهالته، وعظمة ضلالته، لما رأى شناعة إطلاق القول بجواز دعاء غير الله تعالى عدل إلى لفظ النداء تلبيسا وتمويها على الجهال والطغام، فكأنه لم يسمع ما ذكره الله تعالى في كتابه من أن مدلول النداء والدعاء واحد.

ص: 33

قال الله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم - 3] فقوله: {رَبِّ} هذا هو الدعاء، سماه نداء ثم قال:{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} فتبين أن النداء في هذه الآية هو الدعاء لا غير.

وقال في سورة آل عمران: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ} [آل عمران - 48] فقوله: {رَبِّ} هو الدعاء في قوله: {هُنَالِكَ دَعَا} .

ففي سورة مريم قال: {إِذْ نَادَى} وفي سورة آل عمران قال: {دَعَا} والصيغة واحدة، ثم قال:{إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} .

وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء - 87] وفي الحديث مرفوعا: "دعوة أخي ذي النون، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله" 1

وقال تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} . [الأنبياء - 76] .

وقال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر - 10] . فمدلول الدعاء والنداء واحد.

1 أخرج الترمذي 5/529 نحوه وصححه والحاكم في مستدركه 1/505 وهو من

حديث سعد بن أبي وقاص.

وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 134 ولفظه: "إني لأعلم كلمة لا

يقولها مكروب إلا فرج الله عنه".

ص: 34

وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء - 83] وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء - 89] الآية.

وفي الحديث عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده: "أن أعرابيا قال يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا} [البقرة - 186] إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني أستجيب لهم". رواه ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن حميد عن جرير1 به2.

1في طبعة نصيف: كذا به.

2 أخرجه – أيضا – ابن أبي حاتم – كما في تفسير ابنكثير (1/414 – ط المنار) حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن عبدة بن أبي برزة السختياني عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أن أعرابيا قال يا رسول الله: أقريب ربنا فنناديه أو بعيد فنناجيه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله

إلخ. قال ابن كثير عقبه: رواه ابن جرير (2/158 ط الحلبي) عن محمد بن حميد الرازي عن جرير.. به.

ورواه ابن مردويه، وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن أبي حميد عن جرير.. به. اهـ وأخرجه البغوي في معجمه كما في الدر المنثور للسيوطي.

وابن أبي خيثمة في جزء جمعه في من روى عن أبيه عن جده، عن محمد بن حميد، والعلائي في كتاب الوشي. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في اللسان.

وأخرجه الدارقطني في المؤتلف والمختلف 3/1435 – 1436، والخطيب البغدادي في "تلخيص المتشابه" 1/462 جميعهم من حديث الصلب بن حكيم.. به.=

ص: 35

والأدلة على هذا من الكتاب والسنة كثيرة، وكذا كلام العرب، قال كعب بن أسد الغنوي:

وداع دعا يا من يجيب إلى النداء

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة

لعل أبا1 المغوار منك قريب

وقال آخر:

فخير نحن عند الناس منكم

إذا الداعي المثوب قال يالا

وقال آخر:

فقلت ادعي وأدعو فإن انـ

ـدى لصوت أن ينادي داعيان

وفسر قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت - 33] بالمؤذن، وهو الذي ينادي بالصلاة.

= وإسناده ضعيف، علته: الصلب – بالباء "الموحدة" هذا هو الصحيح في اسمه، كمارجحه الخطيب واعتمده الدارقطني وحققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على تفسيرابن جرير 3/480، 481 – بن حكيم وهو مجهول قاله ابن حجر في اللسان3/195. ونقل عن العلائي قوله: لم أر للصلت ذكرا في كتب الرجال اهـ وتعقبه بأن الدارقطني قد ذكره في المؤتلف والمختلف.

وللحديث علة ثانية وهي الاضطراب، فتارة يرويه الصلب عن أبيه عن جده. وتارة يرويه عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جده.. كم عند الدارقطني والخطيب وغيرهما. تنبيه: ذكر الشيخ الفاضل محمد رشيد رضا في تعليقه على تفسير ابن كثير أن الذهبي قال في الميزان عن الصلت: مجهول.. اهـ قلت: هذا من كلام الحافظ في اللسان. ولم أر الذهبي ترجم للصلت في الميزان. لذا تعقبه ابن حجر فأورده في اللسان.

وقال رحمه الله أيضا: ".. وزاد الحافظ في لسان الميزان: إنه ليس للصلت ولا لأبيه ولا لجده ذكر في كتب الرجال.." قلت: صواب عبارة ابن حجر: "في كتب الرواة".

1 في الطبعتين: "أبي".

ص: 36

والمقصود أن الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام العرب دل1 على أن النداء الذي هو السؤال والطلب هو مسمى الدعاء، ومعناهما واحد، ويأتي في هذا ما يكفي ويشفي إن شاء الله تعالى كقوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف - 5] الآيات.

وهذا صريح في أن المراد بهذا الدعاء السؤال والطلب من غير الله، وهذه حال الميت والغائب لا يستجيب للداعي، وهو أيضا غافل عنه.

وهذا الدعاء الذي نهى الله عنه أن يقصد به غيره يجمع من أنواع العبادة كثيرا: منها أن الداعي يتوجه بوجهه وقلبه ولسانه إلى غير الله ويتضمن رجاءه والرغبة إليه والاعتماد عليه، ولذلك وصفه الله تعالى بغاية الضلال، وأخبر ان ذلك يعود عليه بالخيبة والوبال في مقام الحشر، فيخونه ذلك الدعاء أحوج ما يكون إليه.

إذا تبين هذا فالتحقيق أن بين الدعاء والنداء عموما وخصوصا مطلقا2، فيجتمعان في السؤال والطلب إذا كان عن رغبة أو رهبة، وينفرد الدعاء إذا كان عبادة كالتسبيح والتحميد والتكبير وغير ذلك.

1 في الطبعة الثانية: "دل".

2 في الطبعة الثانية: "عموم وخصوص مطلق".

ص: 37

إذا عرفت هذا فإن أشكل عليك كون الدعاء عبادة فاطلب الأدلة على ذلك من القرآن الكريم1، فإن لم يكفك – لا كفاك الله – فاطلبها من السنة، فإن لم تكفك فقد تم خسرانك.

قال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام - 56] في سورة الأنعام والمؤمن، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد - 14] الآية. وهذه الآية في دعاء المسألة دلت على أنه مختص بالله دون من سواه، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، ثم قال:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد - 14] بين أن دعاء غيره لا يحصل لداعيه غرضه، وهذا جنس الشرك في الإلهية.

وفي حديث أنس الذي في السنن والمسانيد مرفوعا: "الدعاء مخ العبادة "2 وفي السنن مرفوعا في حديث النعمان بن بشير: "الدعاء هو العبادة" ثم تلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .

وتقرير هذا في كتاب الله تعالى: فإن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بدعائه ورغبهم فيه، ووعدهم الإجابة فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

1 سقطت: "الكريم" من الطبعة الثانية.

2 حديث أنس رواه الترمذي في سننه، وسنده ضعيف، ويغني عنه حديث النعمان بن بشير بعده، وهو حديث صحيح الإسناد، وقد تقدم الكلام عليهما.

ص: 38

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة - 186] . وأمرهم بدعائه في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف - 55] إلى قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الأعراف - 56] وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر - 14] وقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر - 65] فأوجب على عباده أن يخلصوا له الدعاء بنوعيه: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، وكل منهما يتضمن الآخر.

وقد تقدم أن الله تعالى قد اختص به في قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد - 14] وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن - 18] . وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن – 20] .

وهذه الآيات مع ما تقدم فيها الدلالة على أن دعوة غير الله شرك وضلال، كما قال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف - 5] .

وفي الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار له عينان يبصران، وأذنا يسمعان، ولسان ينطق، يقول إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين" حديث حسن صحيح غريب1.

1 أخرجه الترمذي في كتاب صفة جهنم من سننه 4/701 حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان".. إلخ.

قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد. هذا حديث حسن غريب صحيح، وقد=

ص: 39

أما علمت أن الله تعالى أمر نبيه بإخلاص العبادة له، كما نهاه أن يدعو غيره فقال:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر - 3] وقال في آخر السورة: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر - 64] .

وقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى إخلاص جميع أنواع العبادة لله، وخلع الأنداد التي كانت تعبدها أهل الجاهلية من صنم وغيره، وجاهدهم على ذلك حق الجهاد، وناظر النصارى في عبادتهم المسيح بن مريم عليهما السلام، وأنزل الله تعالى النهي عن دعوة الأنبياء والصالحين والملائكة فقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء - 56] والآيات بعدها نزلت فيمن يدعو المسيح وأمه والعزير والملائكة في قول أكثر المفسرين من السلف.

فمن بلغته هذه الأدلة وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضيه الإعراض عن سؤال ربه والرغبة إليه ورجائه1 والاعتماد عليه: فقد ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه، كما برأه الله تعالى بقوله:

=رواه بعضهم عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا. وروى أشعث بن سوار عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. اهـ. وقد روى الإمام أحمد 2/336 حديث أبي هريرة باللفظ الذي ذكره المصنف "يخرج عنق من النار يوم القيامة له..إلخ" من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة

به وسنده جيد، والأعمش إذا عنعن عن مثل أبي صالح قبل حديثه.

1 في طبعة نصيف: "رجاؤه".

ص: 40

{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن - 20] وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف - 5] .

ففي هذه الآية من الأدلة على بطلان دعوة غير الله فوائد:

منها أن الله حكم على من دعا غيره بغاية الضلال، وبين أن المدعو لا يستجيب له، وأنه غافل عن دعائه، تكذيبا لمن ادعى غير ذلك من المشركين، وأنه يوم القيامة يكون عدوا لمن دعاه في دار الدنيا، وأنه ينكر عبادته له ويبرأ إلى الله منها، كما أخبر عن المسيح عليه السلام أنه قال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة - 117] فخان المشرك دعاؤه لغير الله أحوج ما يكون إليه، وعامله الله بنقيض قصده.

ويشبه هذه الآية قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر - 13] ففي هذه الآية ست جمل تقطع عرق الشرك، وتبطل دعوة غير الله كائنا من كان:

الجملة الأولى قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} فهو المختص بالملك، كما هو المختص بالعبادة.

وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} دليل على أن غيره لا يملك شيئا، فإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يدعى غيره.

ص: 41

وقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} وهذا نقيض ما عند المشركين أن المدعو الميت يسمع ممن دعاه، والله تعالى يقول:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} آمنا بالله، وكذبنا من أشرك بالله.

وقوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} يدل على أن الاستجابة ممتنعة في حق من دعا غير الله، فخاب أمله، وضل سعيه.

وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فيه أن دعوة غير الله شرك بالنص، وأن المدعو يكفر بها يوم القيامة، أي ينكرها ويبرأ إلى الله من ذلك الشرك.

{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ففيه وجوب الإيمان بما دلت عليه هذه الآية، وتصديقه فيما أخبر.

وتضمنت هذه الآية أن الدعاء الذي نهى الله عنه في هذه الآية1 أنه دعاء المسألة بدليل قوله: {لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} .

والأدوات التي تستعمل في الدعاء كثيرة معروفة، وأكثر ما يستعمل منها في الكتاب والسنة وغيرها "يا" الممدودة، كقوله:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة - 201] وقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران - 147]{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة - 286] التقدير: يا ربنا.

1 سقطت "الآية" من الطبعة الثانية.

ص: 42

وتستعمل في الدعاء مذكورة كما جاء في كثير من الأحاديث كقوله: "يا حي يا قيوم"1.

1 قال الترمذي في سننه 5/539 – كتاب الدعوات – حدثنا محمد بن حاتم المكتب، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد عن الرحيل بن معاوية أخي زهير بن معاوية عن الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.

وهو كما قال، فإن الرقاشي ضعيف عندهم. وهو يزيد بن أبان، كما صرح بذلك ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 90 ط الهند) .

قال النسائي: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال أحمد: كان يزيد منكر الحديث. وقال ابن معين: في حديثه ضعف ليس بالقوي. وأفحش فيه القول شعبة فقال: لأن أزني أحب إلي من أحدث عن يزيد الرقاشي. لكن قال أحمد بن حنبل: إنما بلغنا هذا في أبان. انظر هذه الأقوال في الميزان والتهذيب. وللحديث شواهد كثيرة منها ما أخرجه الترمذي أيضا في سننه 5/495 حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي وغير واحد قالوا: حدثنا ابن أبي فديك عن إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الله العظيم، وإذا اجتهد في الدعاء قال: يا حي يا قيوم. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. اهـ قال الحافظ – كما في شرح الأذكار لابن علان 4/6 – ورجاله ثقات إلا إبراهيم بن الفضل مولى بني مخزوم فإنهم اتفقوا على ضعفه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقد قال: من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه اهـ ورمز السيوطي لضعفه في الجامع الصغير (5/111 من نسخة الشرح) .

وأخرج الحاكم في مستدركه 1/509 من طريق عبد الرحمن بن إسحاق ثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبسه عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل به هم أو غم قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه اهـ.

ص: 43

_________

=قلت: عبد الرحمن بن إسحاق هو: ابن سعد بن الحارث أبو شيبة الواسطي ضعيفعندهم، قال أحمد: ليس بشيء منكر الحديث، وقال ابن معين: ضعيف ليس بشيء. وقال ابن سعد ويعقوب بن سفيان وأبو داود والنسائي وابن حبان: ضعيف. وقال النسائي: ليس بذاك، وقال البخاري: فيه نظر. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي.

وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه. (انظر هذه الأقوال في التهذيب) .

وأخرج النسائي في عمل اليوم والليلة ص 397 أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب عن إسماعيل بن عون بن عبيد الله بن أبي رافع عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه محمد بن عمر بن علي عن علي قال: "لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما صنع، فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم.. إلخ.

وسنده ضعيف علته: الانقطاع: فإن محمد بن عمر لم يدرك جده عليا قال الحافظ ابن حجر في التقريب: روايته عن جده مرسلة. ومحمد هذا قال عنه ابن القطان – كما في التقريب – حاله مجهول. وزعم أنه محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن أبي طالب اهـ وقد وهمه الحافظ في هذا الزعم. وقال في التقريب: صدوق من السادسة اهـ وقد وثقه ابن حبان. وقال الذهبي في الميزان: ما علمت به بأسا، ولا رأيت لهم فيه كلاما، وقد روى له أصحاب السنن الأربعة فما استنكر له حديث اهـ.

وفي السند: عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، قال الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي اهـ. وإسماعيل بن عون بن عبيد الله بن أبي رافع، ويقال: إسماعيل بن عون بن علي بن عبد الله..

قال فيه الحافظ: مقبول اهـ من التقريب.

تنبيه: وقع في "عمل اليوم والليلة" للنسائي: ".. عن إسماعيل بن عون عن عبيد الله بن أبي رافع.." وهو خطأ، صوابه:"ابن عبيد الله" بدل "عن عبيد الله".

ص: 44

"يا ذا الجلال والإكرام" 1 " يا بديع السموات والأرض" 2، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، ونحو ذلك. وهذا كثير مطرد لا يقدر أحد على دفعه.

ويأتي الدعاء أيضا بصيغة الخبر ومعناه الدعاء كقولنا: صلى الله على النبي محمد، وقولهم: بارك الله فيك ونحو ذلك.

والعجب أن هذا خفي على من يدعي المعرفة، وسببه نسيان العلم، كما ذكره الله تعالى في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ

= وأخرج النسائي في عمل اليوم والليلة أيضا ص 397: أخبرنا محمد بن عبد الأعلىقال: حدثنا المعتمر عن أبيه عن أنس قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: أي حي أي قيوم.

وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقد أخرجه ابن حجر في النتائج من طريقين عن مهتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس "كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: يا حي يا قيوم ". قال: وهذا حديث صحيح أخرجه ابن خزيمة. اهـ من شرح الأذكار لابن علان4/5.

وفي الباب أحاديث أخرى ليس هذا موضع بسطها. والله تعالى أعلم.

1وردت أحاديث في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ذا الجلال والإكرام" منها ما رواه مسلم في صحيحه – كتاب المساجد – 1/414 عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.

وفي صحيح مسلم أيضا عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إذا سلم، لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام، وفيرواية له:"يا ذا الجلال والإكرام".

2 تقدم الكلام عليه في "الرد على القبوريين" لابن معمر.

ص: 45

مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَقَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان - 18] .

فنسيان الذكر من أعظم أسباب ضلال من ضل عن الهدى، وقد قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون - 117] فدلت هذه الآية الكريمة على أن من دعا مع الله إلها آخر أنه كافر بالله لأنه صرف هذا النوع الذي هو من خصائص الإلهية لمن لا 1يستحقه ووضع العبادة في غير موضعها.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام - 130] فلم ينفعهم ذلك الدعاء في الوقت الذي أملوا فيه نفعه، فوقعوا في نقيض قصدهم، وخاب أملهم وسعيهم، وشهدوا على أنفسهم بالكفر.

في طبعة نصيف:" إلى من لا ".

ص: 46