المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في رد قول العراقي - كذبا وبهتانا -: (صرح الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات كراهة تنزيه على وجه مخصوص: وهو طلبها بالكتابة ودس الورق في أنقاب القبر) - الرد على شبهات المستعينين بغير الله

[أحمد بن عيسى]

الفصل: ‌فصل: في رد قول العراقي - كذبا وبهتانا -: (صرح الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات كراهة تنزيه على وجه مخصوص: وهو طلبها بالكتابة ودس الورق في أنقاب القبر)

‌فصل: في رد قول العراقي - كذبا وبهتانا -: (صرح الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات كراهة تنزيه على وجه مخصوص: وهو طلبها بالكتابة ودس الورق في أنقاب القبر)

فصل:

قال العراقي: (نعم، صرح فقهاء الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات كراهة تنزيه على وجه مخصوص. وهو طلبها بالكتابة ودس الورق في أنقاب القبر. قال: وقد ذكر ذلك ابن مفلح في "الفروع" وفسرها بما ذكرته، ونص عبارته عن الفنون، قال - يعني ابن عقيل -: ويكره استعمال النيران، والتبخير بالعود، والأبنية الشاهقة القباب، سموا ذلك مشهدا، واستشفوا بالتربة من الأسقام، وكتبوا إلى التربة الرقاع، ودسوها في الأنقاب، فهذا يقول: جمالي قد جربت. وهذا يقول: أرضي قد أجدبت، كأنهم يخاطبون حيا، ويدعون إلها. انتهى.

قال العراقي: فانظر إلى حكمه في هذه الأشياء بالكراهة التنزيهية مع قوله1: كأنهم يخاطبون حيا، ويدعون إلها) .

أقول: سبحان مقلب القلوب. فهاهنا تسكب العبرات، انظر إلى تلبيس هذا الضال، واجتهاده في الدعوة إلى الشرك بالواحد المتعال، ولنذكر كلام ابن عقيل في "الفنون" على وجهه الذي نقله

1 في الطبعة الثانية: (قولهم) .

ص: 55

عنه صاحب الفروع، قال في الفروع: وفي الفنون: "لا تخلق القبور بالخلوق، والتزويق، والتقبيل لها،

والطواف1 بها، والتوسل بهم إلى الله" قال: "ولا يكفيهم ذلك حتى يقولوا بالسر الذي بينك وبين الله، وأي شيء2 يسمى سرا بينه وبين خلقه، قال: ويكره استعمال النيران.. إلى آخر ما ذكره العراقي.

فانظر كيف ترك أول الكلام لمصادمته لغرضه، وسقوطه على علته ومرضه، وانظر إلى كلام ابن عقيل، وتصريحه بالنهي عن التوسل، إلى آخر كلامه، يتبين لك أن الله قد أضل هذا3 وأعماه وأقماه4 في هوة هواه، وليس هذا بأول قارورة كسرت في الإسلام منه، ومن أمثاله.

ولابن عقيل رحمه الله كلام أصرح من هذا الذي ذكره صاحب الفروع عنه، قال أبو الوفاء ابن عقيل:

لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع: مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، وإيقاد5 السرج،

1 في الطبعة الثانية: (الطواف) .

2 في طبعة نصيف: (وأي شيء من الله يسمى..) .

3 في الطبعة الثانية: (أو) .

4 أي أذله أو قمعه. انظر مادة "قمأ" في القاموس.

5 5 في طبعة نصيف: (من إيقاد) .

ص: 56

وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر الصديق، أو محمد أو علي، أولم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى كلامه.

فانظر إلى تصريحه بكفر فاعل هذه الأمور. وهذا الملبس يقول: إنه مكروه عنده كراهة تنزيه إذا كان طلب الحوائج من الأموات بالكتابة ونحوها، فأما طلب الحوائج من الأموات باللسان فمستحب عنده، فسبحان من مسخ عقله، وأظهر تلبيسه وجهله.

ويشبه هذا ما ذكر أن رجلا اجتمع بامرأة ليزني بها، فلما جامعها قال لها: استري وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام.

قوله: (صرح فقهاء الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات والغائبين، إلى آخره) .

جوابه أن يقال: بل صرح فقهاء الحنابلة وغيرهم بإنكاره والنهي عنه، وأن ذلك هو الشرك الأكبر، وأنه كفعل عابدي الأصنام، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.

ونحن نذكر من كلامهم قليلا من كثير، وغيضا من فيض، وقد تقدم بعض ذلك من كلام الله وكلام رسوله، ولا بد من ذكر ما تيسر من كلام العلماء.

ص: 57

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم كفر إجماعا". نقل عنه ذلك أئمة الحنابلة: كصاحب الفروع، وصاحب الإنصاف، وصاحب الإقناع.

وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته السنية لما تكلم على حديث الخوارج: "فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور، منها:

الغلو الذي ذمه الله كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح.

فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، وأنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.

فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة والمسيح وعزير، والصالحين أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق أو ترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة1، انتهى.

1 انظر الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 58

وقال ابن القيم رحمه الله: ومن أنواعه – أي الشرك1 – طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به، وسأله أن يشفع له، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه.

قال بعض المحققين: لو جاز طلب الشفاعة من الميت والغائب لما صار لنفي الشفاعة في القرآن معنى، كقوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة - 254]{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام - 51]{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة - 123] فلا يظهر الفرق بين الشفاعة المنفية في هذه الآيات ونحوها، والمثبتة كما في قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة - 255]{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء – 28]{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه - 109] فلا يظهر الفرق إلا أن المنفية هي التي تطلب من غير الله، ويرغب فيها إلى غيره، والمثبتة هي التي لا تطلب إلا من الله وحده، وهو الإخلاص الذي لا يرضى من العبد سواه، كما تقرر في كلام العلماء.

قال ابن القيم: والله تعالى لم يجعل استغاثتة بغيره، وسؤاله لغيره

1 في طبعة نصيف: (ومن أنواع الشرك) .

ص: 59

سببا للإذن في الشفاعة، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعادات1 أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، وظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم.

وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه ومعبوده، فجرد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وأخلص قصده لله، متبعا لأمره، متطلبا لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله، وبالله، ومع الله، انتهى كلامه.

وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة2:

1 في طبعة نصيف: (ومعاداة) .

2 اسم الكتاب: (سيف الله على من كذب على أولياء الله) مازال مخطوطا وعندي منه نسخة مصورة.

ص: 60

هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفا في حياتهم1 وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهمتهم2 تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادوهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات.. وقالوا: فيهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور. قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادرة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء - 115] .

ثم قال:

فأما قولهم إن للأولياء تصرفا في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل - 60]{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف - 54]{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المائدة - 120] ونحوه من الآيات الدالات على أنه المنفرد بالخلق

1 في طبعة نصيف: (تصرفات بحياتهم) وفي الطبعة الثانية: (تصرفا بحياتهم) والمثبت من النسخة الخطية للشيخ صنع الله الحنفي.

2 في النسخة الخطية من كتاب الشيخ صنع الله (وبهمهم) .

ص: 61

والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شركة1 لغيره في شيء بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره: تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة، وخلقا.... وتمدح الرب تعالى بملكه في آيات من كتابه كقوله:{هََلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر - 3]{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر - 13]- وذكر آيات في هذا المعنى - ثم قال:

فقوله في الآيات كلها: {مِنْ دُونِهِ} أي من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه فكيف يمد2 غيره، إن هذا القول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال:

وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول في التصرف في الحياة، قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر - 30] وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر -42] الآية، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران - 185] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر - 38] وفي الحديث:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله" الحديث3.

1 في المطبوعتين: (شيء) والمثبت من كتاب (سيف الله) .

2 سقطت (يمد) من المطبوعتين. وأضفتها من كتاب (سيف الله) .

3 أخرجه مسلم في صحيحه – كتاب الوصية – 3/1255 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 62

فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره.. فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره، فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} .

قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من المكرمات فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحدي، ولا علم، كما في قصة مريم ابنة عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.

قال: وأما قولهم: "فيستغاث بهم في الشدائد

" فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادرته قوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل - 62]{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}

[الأنعام - 63] وذكر آيات في هذا المعنى. ثم قال:

فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه القادر على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي، قال:

والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية من قتال أو إدراك عدو، أو سبع، ونحوه، كقولهم:

يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة

ص: 63

بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد والمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق، ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره. قال:

وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال، وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات

فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة، أو قضاء حاجة تأثيرا1، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير.

وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كما2 أخبر الرحمن:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس - 18]{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر - 3]{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس - 23] فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه: إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.

قال: وأما ما قالوه: "إن منهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس" فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي3 في

1 في المطبوعتين وكتاب "سيف الله": تأثير.

2 في المطبوعتين: (كذا) والمثبت من مخطوطة "سيف الله".

3 سقطت: "ابن العربي" من المطبوعتين.

ص: 64

"سراج المريدين" وابن الجوزي، وابن تيمية. انتهى باختصار. وقال ابن عطية في قوله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} الآيات [يونس - 106] : معناه قيل لي: ولا تدع، فهو عطف على {أَقِمْ} وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان هكذا فأحرى أن يتخذ من ذلك غيره، والخطاب خرج مخرج الخصوص، وهو عام للأمة.

وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا. يعني بذلك الآلهة، يقول: تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر، فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله فإنك إذا من الظالمين، يقول: من المشركين بالله، انتهى.

وهذه الآية لها نظائر كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء - 213] وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص - 88] ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلها، والإلهية حق لله، لا يصلح منها شيء لغيره، ولهذا قال:{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان - 30] .

وقال الشيخ قاسم الحنفي في "شرح درر البحار": النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون لإنسان

ص: 65

غائب، أو مريض، أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة أو من الطعام كذا، أو من المال كذا، أو من الشمع والزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه:

منها أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق.

ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك.

ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد

ذلك كفر، إلى أن قال:

فإذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين، نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه1، وزاد:"وقد ابتلي الناس بهما لا سيما في مولد البدوي" انتهى.

وقال العلامة أحمد الرومي الحنفي في كتابه المسمى "مجالس الأبرار" بعد كلام سبق في الكلام على زيارة القبور:

فإذا كان كذلك فاللائق بالزائر أن يتبع السنة، ويقف عند ما شرع له، ولا يتعداه، ليكون الزائر إلى نفسه، وإلى أهل القبور، لأن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.

1 في المطبوعتين: (عن) .

ص: 66

أما الزيارة الشرعية التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمقصود منها شيئان:

أحدهما: راجع إلى الزائر، وهو الاتعاظ والاعتبار.

والثاني: راجع إلى أصحاب القبور وهو أن يسلم الزائر عليهم، ويدعو له. وأما الزيارة البدعية فهي زيارة القبور لأجل الصلاة عندها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، والولد، وقضاء الدين وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأصنام يسألونها من أصنامهم، فإن أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذ منهم، وليس شيء من ذلك مشروعا باتفاق المسلمين، إذ لم يفعله رسول رب العالمين، ولا أحد من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدين، بل قد أنكر الصحابة ما هو دون ذلك بكثير، كما روي عن المعرور بن سويد أن عمر صلى صلاة الصبح في طريق مكة ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثارأنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصلها فيها، ومن لا فليمض لا يتعمدها1.

1 أخرجه سعيد بن منصور في سننه – كما في الاقتضاء لشيخ الإسلام ص 744 – =

ص: 67

وكذلك لما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي عليه الصلاة والسلام أرسل إليها فقطعها.

فإذا كان عمر فعل هذا بالشجرة التي بايع الصحابة تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرها الله تعالى في القرآن حيث قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح - 18] فماذا يكون حكمه فيما عداها!

ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كانت الصحابة والتابعون حيث كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد - إلى زمن الوليد ابن عبد الملك - لا يدخل فيها أحد لا لصلاة، ولا لدعاء ولا لشيء آخر مما هو من جنس العبادة، بل كانوا يفعلون جميع ذلك في المسجد.

وكان أحدهم إذا سلم على النبي عليه السلام وأراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جوار القبر ثم دعا وهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء، وإنما نزاعهم في وقت السلام عليه.

=حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر. قال: خرجنا معهفي حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المساجد، فقال: ماهذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله. فقال: هكذا أهل الكتاب قبلكم: اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض.

وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1/118، 119) وغيره. وقال الحافظ ابن حجر فيالفتح 1/569: يثبت – أي عن عمر – اهـ.

ص: 68

قال أبو حنيفة: يستقبل القبلة عند السلام أيضا ولا يستقبل القبر. وقال غيره: لا يستقبل القبر عند الدعاء، بل قالوا إنه يستقبل القبلة وقت الدعاء ولا يستقبل القبر، حتى لا يكون الدعاء عند القبر، فإن الدعاء عبادة كما ثبت بالحديث المرفوع:"إن الدعاء هو العبادة".

والسلف الصالح من الصحابة والتابعين جعلوا العبادة خالصة لله تعالى، ولم يفعلوا عند القبور شيئا منها، إلا ما أذن فيه النبي عليه الصلاة والسلام من السلام على أصحابها، وسؤال الرحمة والمغفرة والعافية من الله لهم.

وسبب ذلك أن الميت قد انقطع عمله، وهو يحتاج إلى من يدعو له، ويشفع لأجله1، ولهذا شرع في الصلاة عليه وجوبا أو ندبا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي، فإنا لما كنا إذا قمنا إلى جنازته ندعو له، ونشفع لأجله، فبعد الدفن أولى أن ندعو له ونشفع، لأنه في قبره بعد الدفن أشد احتياجا إلى الدعاء منه على نعشه، لأنه حينئذ معرض للسؤال وغيره، على ما روي عن عثمان بن عفان أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال:"استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل"2.وروي عن سفيان الثوري أنه قال: "إذا سئل الميت من ربك يتراءى

1 في طبعة نصيف: "له".

2 أخرجه أبو داود – كتاب الجنائز – من سننه 3/550، وصححه الحاكم في المستدرك وأقره الذهبي 1/370. وجود إسناده النووي في المجموع.

ص: 69

له الشيطان في صورة ويشير إلى نفسه – أي- أنا ربك" قال الترمذي: هذا فتنة عظيمة. وكانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقال: اللهم أعذه من الشيطان الرجيم.

فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعا وعشرين سنة. وهذه سنة الخلفاء الراشدين، وطريقة جميع الصحابة والتابعين، فبدل أهل البدع والضلال قولا غير الذي قيل لهم، فإنهم قصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانا إلى الميت وإلى الزائر سؤالهم الميت والاستغاثة به، وليس هذا إلا الفتنة التي قال فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كيف إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير تجري على الناس ويتخذونها سنة، إذا غيرت قيل غيرت السنة.

قال: وقال ابن القيم في إغاثته:

هذا يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا اعتبارولا التفات إليه، وقد جرى على خلاف السنة منذ زمن طويل، فإذاً لابد أن تكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليهالجمهور، فلا يغرنك إطباقهم على ما حدث بعد الصحابة، بل ينبغي لك أن تكون حريصا على التفتيش عن أحوالهم وأعمالهم، فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله أشبههم بهم، وأعلمهم بطريقتهم، إذ عنهم أخذ الدين وهم أصول في نقل الشريعة من صاحب الشرع، فلا بد لك أن لا تكترث بمخالفتك لأهل عصرك في موافقتك لأهل عصر النبي عليه السلام، إذ قد جاء في الحديث: "إذا اختلف

ص: 70

الناس فعليكم بالسواد الأعظم".

قال عبد الرحمن بن إسماعيل – المعروف بأبي شامة –: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وأتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف له كثيرا، إلا أن الحق ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة، ولا عبرة بكثرة الباطل بعدهم. وقد قال الفضيل بن عياض ما معناه:"إلزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين" انتهى كلامه.

وقال العلامة الرومي أيضا في المجلس السابع عشر في عدم جواز الصلاة عند القبور، والاستمداد من أهلها، واتخاذ السرج والشموع عليها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" هذا الحديث من صحاح المصابيح، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".

قال بعض المحققين: والصلاة في المواضع المتبرك1 بها من مقابر الصالحين داخلة في هذا النهي، لاسيما إذا كان الباعث عليها تعظيم هؤلاء لما فيه2 من الشرك، فإن مبتدأ عبادة الأصنام كان في قوم نوح النبي عليه السلام، من جهة عكوفهم على القبور، كما أخبر

1 في طبعة نصيف: (المتبركة من) .

2 في طبعة نصيف: (في ذلك) .

ص: 71

الله تعالى في كتابه بقوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً. وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً. وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح - 21] .

قال ابن عباس وغيره من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين من1 قوم نوح النبي عليه السلام فلما ماتوا عكف الناس على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وهذا هو مبتدأ عبادة الأصنام.

قال: وقال ابن القيم في إغاثته نقلا عن شيخه: إن هذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ القبور مساجد هي التي أوقعت كثيرا من الناس إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر.

ولهذا تجد كثيرا من الناس عند القبور يتضرعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلون مثلها في بيوت الله تعالى ولا في وقت السحر، ويرجون من بركة الصلاة عندها، والدعاء لديها ما لا يرجون في المساجد، فلحسم مادة هذه المفسدة نهى عليه السلام عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بصلاته فيها بركة البقعة، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس،

1 في طبعة نصيف: (في) .

ص: 72

ووقت غروبها ووقت استوائها: لأن أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها، فنهى أمته عن الصلاة فيها، وإن لم يقصدوا ما قصده المشركون.

وإذا قصد الرجل الصلاة عند المقبرة تبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى، فإن العبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الأهواء والابتداع. فإن المسلمين أجمعوا على ما علموا من دين نبيهم أن الصلاة عند المقبرة منهي عنها. لأن فتنة الشرك بالصلاة فيها، ومشابهة عبادة الأصنام أعظم كثيرا من مفسدة الصلاة عند طلوع الشمس، وحين غروبها، وحين استوائها، فإن النبي عليه السلام لما نهى عن تلك المفسدة سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك بدعاء الموتى، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل من الصلاة في المساجد، وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله تعالى ولرسوله؟.

قال: وقال ابن القيم في إغاثته: من جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وبين ما أمر به، ونهى عنه، وما كان عليه الصحابة والتابعون، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر، ومناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا. إلى أن قال:

وقد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك

ص: 73

كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد" تشبيها منه للقبور بالبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام.

فانظر إلى ما شرعه النبي عليه السلام في القبور من النهي، وبين ما شرعه هؤلاء وما قصدوه من التباين العظيم، ولا ريب أن في ذلك من الفساد ما يعجز الإنسان على حصره:

منها تعظيمها الموقع في الافتتان بها.

ومنها تفضيلها على المساجد التي هي خير البقاع، وأحبها إلى الله، فإنهم إذا قصدوا القبور يقصدونها مع التعظيم، والاحترام، والخشوع، ورقة القلب، وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره، ولا مثله.

ومنها اتخاذ المساجد والسرج عليها.

ومنها العكوف عندها، وتعليق الستور عليها، واتخاذ السدنة لها.

ومنها النذر لها، ولسدنتها.

ومنها زيارتها لأجل الصلاة عندها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، والولد، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم، وليس شيء منها مشروعا باتفاق أئمة المسلمين، إذ لم يفعل منه شيئا رسول رب العالمين، ولا أحد من

ص: 74

الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدين.

ومن المحال أن يكون شيء منها مشروعا، وعملا صالحا، ويصرف عنه القرون الثلاثة التي شهد فيهم النبي عليه السلام بالصدق والعدل، ويظفر به الخلوف الذين شهد فيهم النبي عليه السلام بالكذب والفسق، فمن شك في هذا فلينظر هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو ضعيف أنهم كانوا إذا بدت لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلا عن أن يصلوا عندها، أو يسألوا حوائجهم منها، كلا لا يمكنهم ذلك، بل إنما يمكنهم أن يأتوا بكثير من ذلك عن الخلوف التي خلفت من بعدهم، ثم كلما تأخر الزمان، وطال العهد، كان ذلك أكثر، حتى وجدت من ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن النبي عليه السلام ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن الصحابة والتابعين حرف واحد، بل فيها من خلاف ذلك كثير من الأحاديث المرفوعة التي من جملتها قوله عليه السلام:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا" 1 أي فحشا، وأي فحش أعظم من الشرك عندها قولا وفعلا. إلى أن قال:

فإن غلاة متخذيها عيدا إذا رأوها من مكان بعيد ينزلون عن دوابهم، ويكشفون رؤوسهم، ويضعون جباههم على الأرض، ويقبلون

1 أخرجه النسائي في سننه 4/89 عن بريدة.

وأخرجه مسلم في صحيحه – كتاب الجنائز – عن بريدة بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 2/672.

ص: 75

الأرض، ثم إنهم إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين، ثم ينتشرون حول القبر طائفين به تشبيها بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركا وهدى للأنام، ثم يأخذون في التقبيل والاستلام، كما يفعل الحجاج في المسجد الحرام، ثم يعفرون جباههم وخدودهم، ثم يكملون مناسك حج القبر بالحلق والتقصير، ثم يقربون لذلك الوثن القرابين، فلا يكون صلاتهم، ونسكهم، وقربانهم، وما يراق هناك من العبرات، ويرفع من الأصوات، ويطلب منه من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات لله تعالى بل للشيطان، فإن الشيطان لبني آدم عدو مبين، يصدهم بأنواع مكايده عن الطريق المستقيم.

ومن أعظم مكايده ما نصبه للناس من الأنصاب التي هي رجس من عمل الشيطان، وقد أمر الله المؤمنين باجتنابها، وعلق فلاحهم بذلك الاجتناب، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة - 90] فالأنصاب جمع نصب بضمتين، أو جمع نصب بالفتح والسكون، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله تعالى من شجر أو حجر أو قبر أو غير ذلك.

والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره، كما أن عمر لما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي عليه السلام أرسل إليها فقطعها. ثم ذكر حديث أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول

ص: 76

الله صلى الله عليه وسلم على حنين ونحن حدثاء عهد بكفر1، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم وأمتعتهم يقال لها ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" لتركبن سنن من كان قبلكم".

فإذا كان اتخاذ مثل هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها شيئا، فما الظن بغيرها مما يقصده الناس من شجر أو حجر أو قبر، ويعظمونه، ويرجون منه الشفاء ويقولون: إن هذا الشجر وهذا الحجر وهذا القبر يقبل النذر الذي هو عبادة وقربة، ويتمسحون بذلك النصب، ويستلمونه.

وهذا الشيطان في كل حين وزمان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله تعالى، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته وعن اتخاذه عيدا، وعن جعله وثنا فقد تنقصه، وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته، ويكفرونه، وما ذنبه إلا أنه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله، ونهى عما نهى الله تعالى عنه ورسوله.

والذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها أمور:

منها الجهل بحقيقة ما بعث الله تعالى به رسوله، من تحقيق

1 سقطت: "بكفر" من طبعة نصيف.

ص: 77

التوحيد وقطع أسباب الشرك، فالذين قل نصيبهم من ذلك إذا دعاهم الشيطان إلى الفتنة بها، ولم يكن لهم ما يبطل دعوته استجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا منه بقدر ما عندهم من العلم.

ومنها أحاديث مكذوبة وضعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشباه عباد الأصنام من المقابرية، وهي تناقض ما جاء به من دينه، كحديث:"إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أهل القبور" وحديث: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه" وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية، وراجت على الجهال والضلال، والله تعالى إنما بعث رسوله لقتال من حسن ظنه بالأحجار والأشجار، فإنه عليه السلام جنب أمته من الفتنة بالقبور بكل طريق.

ومنها حكايات حكيت عن أهل تلك القبور، أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان نزل به ضر فاستدعى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، وفلان دعاه في حاجة فقضيت حاجته، وعند السدنة والمقابرية شيء من ذلك يطول ذكره، وهم كمن أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ضروراتها، لاسيما من كان مضطرا يتشبث بكل سبب وإن كان فيه كراهة، فإذا سمع أحد أن قبر فلان ترياق مجرب، يميل إليه، فيذهب ويدعو عنده بحرقة وذلة وانكسار، فيجيب

ص: 78

الله تعالى دعوته لما قام بقلبه1 من الذلة والانكسار، لا لأجل القبر، فإنه لو دعا كذلك في الجبانة والحمامة والسوق لأجابه: فيظن الجاهل أن لقبر تأثيرا في إجابة تلك الدعوة، ولا يعلم أن الله تعالى يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرا، فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه، ولا محبا له، ولا راضيا بفعله، فإنه يجيب دعاء البر والفاجر، والمؤمن والكافر، يسر لنا الله تعالى من الدعاء والعمل ما يكون موافقا لرضائه بلطفه وكرمه. انتهى كلام العلامة الرومي رحمه الله تعالى ببعض اختصار.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والله تعالى لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية، مثل ما يتفرد به من الخلق والرزق، وإجابة الدعاء والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببا، أن يدعو ويشفع، والله تعالى قال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة - 255] وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم - 26] وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران – 80] .

فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، ولهذا كانوا

1 في طبعة نصيف: (به) .

ص: 79

في الشفاعة على ثلاثة أقسام:

فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله مشركون كفار، لأن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعوة الشافعين، ولهذا قال:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة-4] وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر-43] وقال عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس-23] .

وأما الخوارج والمعتزلة فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال، مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع خير القرون.

القسم الثالث أهل السنة والجماعة، وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث، وأما الشفاعة التي نفاها القرآن – كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة – فينفيها أهل العلم والإيمان: مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم،

ص: 80

ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك. انتهى.

ولو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال المقام جدا وفيما ذكرنا كفاية لطالب الهدى {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة-41] وبالله التوفيق.

ص: 81