الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: الجواب عند استدلال العراقي على دعواه بحديث الأعمى وحديث ((ياعباد الله احبسوا))
…
فصل:
واستدل العراقي بما روى الطبراني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن انفلتت عليه دابته قال: "يا عباد الله احبسوا" وبحديث الأعمى.
والجواب أن يقال: سبحان الله! كيف يتعلق بهذا ونحوه المشركون، ويرومون به معارضة الحجج القاطعة من كلام من يقول للشيء كن فيكون، وكلام رسوله الصادق المأمون. ونحن بحول الله وقوته نتكلم على الحديثين، ونبين معناهما، ونوضح منطوقهما وفحواهما، ونقطع شغب كل مشرك وجداله، ونبين باطله ومحاله، فنقول وبالله التوفيق:
اعلم أن الله سبحانه بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الإشراك والتنديد، فحمى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، حتى إن رجلا قال له:"ما شاء الله وشئت" قال: "أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده" فكيف يأمر بدعاء الميت والغائب؟.
بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة
والتابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان هذا جائزا أو مشروعا لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه، ولا استغاث به، ولا استنصر به، ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الدواعي والهمم على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون دعاء الموتى أو الغائبين أو الدعاء عند قبورهم والتوسل بأصحابها أفضل أو لا. فإن كان أفضل فكيف يخفى علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علما وعملا.
وهذان الحديثان اللذان ذكرهما هذا العراقي إما أن يكون الصحابة الذين رووهما وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهلين بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون، وإما أن يكون الصحابة علموهما وزهدوا فيهما عملا مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وكلاهما محال، بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير، وهم الذين نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل فهموا من هذين الحديثين جواز دعاء الموتى والغائبين فضلا عن استحبابه، والأمر به؟؟.
ومعلوم أنهم عرضت لهم شدائد واضطرابات، ومحن وفتن
وسنون مجدبات، أفلا جاؤوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم شاكين، وله مخاطبين بكشفها عنهم وتفريج كرباتهم؟ والمضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا، لاسيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملا صالحا لفعلوه.
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين هل يمكن أحدا أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة، أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم؟.
فمن كان عنده في هذا أثر أو حرف واحد فليوقفنا عليه، نعم لهم أن يأتوا عن الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون بكثير من المختلقات، والحكايات المكذوبات، حتى لقد صنف في ذلك عدة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فيها التمويهات والحكايات المخترعات، والأحاديث المكذوبات، كقولهم:"إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه".
وفيها حكايات لهم عن تلك القبور بأن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلان نزل به ضر فأتى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، ونحو ذلك مما يعلم أنه مضاد لما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلم أنه حمى جانب التوحيد، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، فكيف
يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به!؟.
فأما حديث "إذا انفلتت دابة أحدكم" إلى آخره، فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله ابن عدي.
الوجه الثاني: أن يقال: على تقدير صحته، معناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته، وعجز عنها، فقد جعل الله عبادا من الملائكة، أو صالحي الجن، أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر-31] فإن هؤلاء عباد الله أحياء حاضرون، قد جعل الله لهم قدرة على ذلك كما جعل للإنس، فهذا كما إذا انفلتت دابة الإنسان فنادى أحد رفقته يا فلان رد الدابة، فلا بأس بهذا.
ويدل على هذا ما رواه البزار من حديث ابن عباس1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله في الأرض ملائكة سوى الحفظة، يكتبون ما سقط من ورق، فإذا أصاب أحدكم شيء بأرض فلاة، فليناد: أعينوني"، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور لو كانوا يعقلون.
وأما حديث الأعمى فنذكر بحول الله وقوته عنه من صواب الجواب، ما يتبين به الحق ويزول الارتياب، فنقول:
1 في المطبوعتين: (من حديث ابن علي) .
ذكر العلماء في معناه قولين: أحدهما أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له ولا استغاثة به، وإنما يسأل الله بجاهه.
وهذا ذكره الفقيه أبو محمد ابن عبد السلام، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، قال وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيجوز إن صح الحديث، يعني حديث الأعمى.
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى: وما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء هل جوز أحدهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد ابن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك.
وذكر القدوري في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يجوز أن يسأل الله إلا به. انتهى كلامه.
وذكر ابن القيم رحمه الله عن أبي الحسين القدوري نحو ذلك، فقال: قال القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، وأن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام.
قال أبو الحسين: أما المسألة بغير الله فمنكرة، لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه.
وأما قوله: بمعقد العز من عرشك. فكرهه أبو حنيفة، ورخص فيه أبو يوسف.
وقال ابن بلدجي في "شرح المختار": ويكره أن يدعو الله إلا به، ولا يقول: أسألك بملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو1 يقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه.
ومن قواعد الحنفية أن الكراهة حيث أطلقت فالمراد منها التحريم، وممن ذكر ذلك ابن نجيم في "البحر" حيث قال: وأفاد صحة إطلاق الحكم على المكروه تحريما. وذكر العلامة ابن عابدين في "رد المختار على الدر المختار" قال: وذكر محمد في المبسوط أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلت في شيء أكرهه، فما رأيك فيه؟ قال: التحريم.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم": لفظ "التوسل" بالشخص والتوجه به والتوسل به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، يراد التسبب به، لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو يكون الداعي محبا له مطيعا لأمره، مقتديا به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته. ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته. فهذا هو الذي كرهوه ونهوا عنه.
1 في المطبوعتين: (ويقول في دعائه) وهو خطأ والمثبت من "الإغاثة" ص 114 ط الميمنية.
وكذلك لفظ "السؤال بالشيء" قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب. وقد يراد به الإقسام، ومن الأول حديث الثلاثة الذين آووا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا: ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله، فدعوا الله بصالح أعمالهم، لأن الأعمال الصالحة التي هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح والتضرع، وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت:"اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك" وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك. وهذا كما قال المؤمنون:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران-193] الآيات، فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به. ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك،
وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك".
والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافاته من عقوبته، مع أنه لا يستعاذ بمخلوق، كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل بمخلوق.
ومن قال من العلماء لا يسأل الله إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، ومن حلف بغير الله فقد أشرك، ومع هذا فالحلف بعزة الله ولعمر الله ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله.
وأما قول بعض الناس: "أسألك بالله وبالرحم" وقراءة من قرأ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره توسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب بالتوسل بدعاء الأنبياء وطاعتهم. انتهىملخصا.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضا: وأما استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره.
وقول عمر رضي الله عنه: "كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" معناه: إنا نتوسل بدعائه
وشفاعته، ليس المراد به نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعض الناس:"أسألك بجاه فلان عندك" ويقولون: "إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه" ويروون حديثا موضوعا: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض". فإنه لو كان هذا التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كماذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس.
فعلم أن التوسل الذي ذكروه هو مما بفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره.
وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله فبول شفاعته، وأن قوله:" أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي بدعائه وشفاعته، كما قال عمر:"كنا نتوسل إليك بنبينا" فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال:" يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في" فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه، وقوله:"يا محمد يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.
واعلم رحمك الله ان العبادات مبناها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والتوسل الذي جاءت به السنة والأحاديث الصحيحة هو التوسل والتوجه إلى الله بأسمائه وصفاته، وبالأعمال الصالحة كالأدعية الواردة في السنة نحو:"اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلالوالإكرام، يا حي يا قيوم" وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وكقوله في الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" وكما حكاه الله سبحانه عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم، فقال تعالى حاكيا عنهم:{رَبَّنَا إِنَّنَاسَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران-193] الآية، وكذلك ما تقدم من قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم، كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وكذا توسلهم بالعباس، وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، فهذا من الأمور المشروعة ولا نزاع فيه.
وأما التوسل بالذوات فما الدليل على جوازه؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ وإذا وقع النزاع في مسألة وجب رد ذلك
إلى الله والرسول كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء-59] وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى-10] ومعلوم أن هذا لم يكن منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف، ولا ريب الأنبياء والصالحين لهم
الجاه عند الله لكن الذي لهم عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم.
ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم، ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل.
وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بدعائه أو بمحبته واتباعه فبأي شيء يتوسل؟؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان. فهذا جائز، وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام بمخلوق، كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين.
ويزيد المقام وضوحا ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد كلام سبق، قال:
لفظ التوسل والتوجه يراد به أن يتوسل إلى الله ويتوجه إليه بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ الصحابة من
السلف رضوان الله عليهم، كما في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا"فهذا إخبار من عمر رضي الله عنه بما كانوا يفعلونه، وتوسل منهم بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، قالوا: ويستحب أن يستسقى بالصالحين، وإن كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل. انتهى.
وقد أزحت بحمد الله الإشكال، وأوضحت فيه الحال، وقد قرر جمع من العلماء ما قرره شيخ الإسلام في معنى حديث الأعمى، وبينوا أنه ليس فيه إلا طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا دلالة فيه
على التوسل بالذات كالعلامة السويدي، وابنه، والشيخ نعمان بن العلامة محمود أفندي الآلوسي في رده على هذا العراقي، ونقل كلامهم يفضي إلى التطويل، وقد تقدم ما فيه كفاية لطالب الحق.
وقال السويدي رحمه الله في "شرح العقد الثمين" بعد كلام سبق:
وهذا التوسل الذي ذكره فيه الخلاف فيما إذا كان الداعي يتوجه إلى ربه متوسلا إليه بغيره، مثل أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك، أو بحرمته، أو بحقه، وأما إذا توجه إلى ذلك الغير، وطلب منه فهو شرك كما تحقق، انتهى.
وهذا عين التحقيق، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أكثر هذا العراقي من ذكر عبارات الفقهاء في باب الاستسقاء من قولهم: (ويباح التوسل بالصالحين) وأكثر من تكرير عباراتهم في ذلك للتهويل، وطول بذلك أشد التطويل، وظن أن في ذلك دليلا على ما يدعو إليه من الشرك بالله، وحاشا علماء الدين، وأهل الحق واليقين، أن يجوزوا الشرك بالله أو أن يحوموا حول حماه، وإنما معنى ذلك التوسل بدعائهم وابتهالهم لا غير، كما تقدم ذلك والله أعلم.