المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أين وإلى أين - السبيل إلى منهج أهل السنة والجماعة

[عدنان العرعور]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌من أين وإلى أين

- ‌قواعد النجاة من منهج الطائفة المنصورة

- ‌أولاً: التمسك بالإسلام جميعه:

- ‌ثانيًا: الدعوة للتوحيد والأخلاق والتمسك بهما معًا وقبل كل شيء:

- ‌ثالثًا: الاتباع لا الابتداع:

- ‌رابعًا: السمع والطاعة:

- ‌الأولى: إذا ورد النقل بطل العقل

- ‌القاعدة الثانية: إذا ورد النقل حكم العقل:

- ‌من صفات الطائفة الناجية:

- ‌أولى هذه الصفات: الاستمرارية:

- ‌الصفة الثانية: الاجتماع على التوحيد والمنهاج والمفارقة عليهما:

- ‌الصفة الثالثة: الشمولية في دعوة الناس الدعوة الصحيحة:

- ‌من مفاهيم الطائفة الناجية في منهاجهم

- ‌المفهوم الأول: كل ما أصابنا بما كسبت أيدينا:

- ‌المفهوم الثاني: التغيير إنما يكون بما في النفوس قبل كل شيء:

- ‌المفهوم الثالث: توحيد الصف قبل قتال العدو:

- ‌مراحل طلب العلم

- ‌المرحلة الأولى:وهي مرحلة بناء وتربية، وتوجيه وتصفية

- ‌المرحلة الثانية:ويتميز صاحبها بالتعقل والمحاكاة، والمناقشة، والمنافسة

- ‌المرحلة الثالثة:وهي مرحلة التوغل والتعمق والتخصص، والفهم الصحيح لقواعد هذا الدين وأصوله

- ‌منهاج طلب العلم

- ‌تقسيم المواد التي يربى عليها المسلم إلى قسمين:

- ‌تفصيل المواد الأساس:

- ‌المواد المساعدة الثانوية المكملة:

- ‌ عقائد الفرق الضالة المنتسبة للإسلام:

- ‌ أخطاء مناهج بعض الجماعات:

- ‌ التاريخ الإسلامي وما حصل فيه، دراسة وتحليل:

- ‌ أعداء الإسلام وما يكيدون له:

- ‌ طرق المناقشة وأساليب المناظرات:

الفصل: ‌من أين وإلى أين

‌من أين وإلى أين

؟

لا يخفى على العاقل ما يعانيه عالمنا الإسلامي من فوضى فكرية .. واضطراب منهجي .. وتخلف في كافة مجالات الحياة .. حتى غدا بمن يمثله مهزلة على رؤوس الأشهاد، ودمية يحركها الأوغاد، وكرة يتقاذفها المتلاعبون كيف شاؤوا وأنَّى شاؤوا، كل ذلك على حين غفلة من المسلمين، وعجز من المصلحين.

وصدق فينا تشبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم:

"يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، قيل وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ"[أخرجه أبو داود وأحمد في مسنده]

ومما زاد الطينة بلة، والأمر تعقيدًا، ما يعانيه المسلمون المتمسكون أنفسهم من تفرق بين جماعاتهم، واضطراب في مناهجهم، بل وتمزق وتناحر في صفوفهم حتى غدوا يتقاذفون التهم، ويتبادلون التخطئة، الأمر الذي أشغلهم عن كيد أعدائهم .. وما يحاك لهذه الأمة من مكر وخديعة لكي تكون شر الأمم في الدنيا وأذلها.

أقول: لم يعد هذا خافيًا على أحد استقر في رأسه عقل، أو سكن في صدره قلب، أو بقي في نفسه ضمير.

ص: 6

ولكن الذي ما زال خافيًا هو: سبيل الخلاص، وطريق النجاة .. فهؤلاء العلمانيون من شيوعيين واشتراكيين وما شابههم، بدأوا ينكسون رؤوسهم خزيًا مما فعلوه بشعوبهم من ذل مهين، وفقر مدقع، بما أحدثوه في أفكار خبيثة، ومبادئ هدَّامة، جرَّت الويل على مجتمعاتهم، والدمار على شعوبهم، فالشجاع منهم من أعلن هذا على الملأ، والخبيث من غطى وجهه من الذل مما أصابهم، كالنعامة تغطي وجهها تظن إن لم تر أحدًا فإن أحدًا لن يراها.

ولا أعتقد أن مراقبًا للأحداث العالمية يعتقد أن يمر عقد إلى والشيوعية وأترابها قد فروا من الواقع، ولم يعد لهم وجود يذكر بإذن الله تعالى (1).

وأما المجتمعات الغربية، فليس لديها مبدأ يناقش اللهم إلا الدرهم والفرج .. وحسك هذين المبدأين دينًا لهم، وأساس لمجتمعهم، وسيأتهيم ما أتى إخوانهم من الشيويعيين من قبلهم، ذاقوا وبال أمرهم وكان عاقبتهم خسرانًا وذلاً.

ونحن إذ نقول هذا، لا ننكر أنهم حققوا تقدمًا علميًّا ملموسًا، ونالوا قسطًا من الرفاهية المادية لا تنكر، وتخلقوا بكثير من أخلاق المسلمين التي فقدها أهلها .. ومن هم أولى بها.

ولكنهم في الوقت نفسه، فقدوا الكثير والكثير من متع الحياة الحقيقية، فقد فقدوا المتعة الروحية، والحياة الأسرية،

(1) لم يمضى على كتابة ما تقدم سوى شهور، وإذا بعروش الشيوعية تنهار واحدًا تلو الآخر، وإذا بكبرائهم يقتل الواحد منهم تلو الآخر، فسبحان الله.

ص: 7

والتراحم بينهم، وانتشرت الجريمة في صفوفهم حتى أصبحت بلادهم غابات لوحوش كاسرة، القوي فيها هو صاحب الحق، والضعيف هو الظالم .. يقصفون مدنًا كاملة بأهلها .. ويمدون دولاً ظالمة لتعتدي على دول مستضعفة مظلومة .. ثم إذا ما أصاب أحد افراد شعوبهم مكروه، أقاموا الدنيا وأقعدوها باسم الإنسانية .. وبعدوى حقوق الإنسان.

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر

وقتل شعب آمن قضية فيها نظر

وغدت مجتمعاتهم بؤرًا للفساد، ومرتعًا لانتشار الأمراض الوبائية الفتاكة، وملعبًا للعصابات المنظمة .. يخطفون الأطفال الأبرياء، فيفعلون بهم الفاحشة، ثم يقتلونهم، أو يبيعونهم، وأمست تجارة الأطفال من أربح التجارات .. بعد تجارة المخدرات.

وأصبح الرجل يجامع أخته، والأب يزني ببنته .. بل والولد يضاجع أمه، والذكر يتزوج الذكر .. فأي فساد بعد هذا، وأي حضيض بعد هذا الحضيض.

لقد ظنا أول أمرهم أن المتعة الحقيقية في الدرهم والطعام والخمر والزنى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]

حتى عضتهم أمراض الزنى واللواط، فلا يكاد ينجو

ص: 8

منها أحد، وتفشت فيهم الأمراض النفسية، وحل بهم القلق، فتوغل في أعماق نفوسهم، فلجأوا إلى الكهان، يستمدون منهم العون، ويطلبون منهم النجاة، فشاع فيهم الانتحار، وقتل الذرية والزوجات، وما تخفي لهم الأيام أدهى وأمر.

وصدق فيهم قول الله تعالى:

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126]

وقوله {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]

ولا أنسى ذلك السؤال من فتاة أمريكية ـ عقب محاضرة عن الإسلام في إحدى الجامعات الأمريكية ـ إذ سألت: إذا كان هذا هو الإسلام فلماذا لم تبلغوه لنا؟

هكذا سألت .. وهكذا أحرجت، وايم الله .. ما أحرجت في حياتي بسؤال مثل هذا.

وإنه ـ والله ـ لسؤال محرج لكل مسلم مهما كان .. وحيثما كان، وإنها الأمانة .. التي نأت عن حملها السماوات، وأعرضت عن قبولها الأرض والجبال {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72]

ص: 9

ظلومًا في أدائها .. جهولاً بالخير الذي فيها.

قصر في تبليغها فظلم نفسه وغيره، وجهل فيها فخالف أحكامها ولم يخضع لسننها.

وكان الجواب وقتئذٍ: نبلغكم الإسلام حين يصبح المسلمون مسلمين! !

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ويلح على إيجاد جواب عملي وواقعي: متى يصبح المسلمون مسلمين؟ بل، كيف يصبح المسلمون مسلمين؟ متى يدرك المسلمون إسلامهم؟ ويعملوا به، بخاصة بعدما تزلزلت عروش الشيوعيين والاشتراكيين، وأمثالهم .. وأعلنوا هم أنفسهم على الملأ فشلهم.

ومتى يصبح المسلمون صادقين مع دينهم؟ بخاصة بعدما أعلن العالم الغربي إفلاسه من الأخلاق والروح.

إنه لم يعد سوى الإسلام لإنقاذ البشرية من حمأتها، وإنقاذ الناس من كفرهم.

وفي الوقت الذي نعتقد أن الإسلام هو الطريق الوحيد للخلاص والنجاة، فلا لأنه يؤمن لنا العيش الرغيد، والحياة المطمئنة الهانئة فحسب .. لا: بل لأنه دين رب العالمين .. أمر به عباده، ودعا إليه خلفه، فلا مفر من الإيمان به، والتمسك بأحكامه.

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران: 19]،

ص: 10

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]

فلا خيار لنا في غيره، مهما ظننا أننا نفلح بغيره، ولا خيار لنا في أحكامه، مهما ظننا أن في غيره رشدًا ومصلحة {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ} [الأحزاب: 36]

فإذا قال قائل: سلّمنا أن لا مناص من الإسلام، وأنه الدين الذي فرضه الله على العباد، وآمنا وأيقنا بأحكامه، صغيرها وكبيرها، عامها وخاصها، وصدقنا أن به الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، كل هذا سلّمنا به عن قناعة وإيمان، ولكن! كيف يصبح المسلمون مسلمين؟

ومتى يصبح المسلمون مسلمين؟

والمسلمون أنفسهم مختلفون في المنهج والسلوك، وهم أنفسهم متنازعون في الأصول والفروع، ولا يكادون يستقرون على حال.

يتجاذبون الناس كل إلى جماعته، وكل حزب بما لديهم فرحون.

وكل يدَّعي وصلاً بليلى

وليلى لا تقر لهم بذاك

فما هو السبيل؟ وكيف تكون النجاة؟ وهل يمكن الاعتصام؟ وكيف يكون؟ وما هو الضابط لهذه الخلافات؟

ص: 11

وهل يمكن الانتهاء منها؟ وهل تضمن لنا صحة هذا الضابط وعدم الاختلاف فيه؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة نحب أن نقول:

أرأيت لو أن أمام قوم أكثر من سبعين طريقًا، ليس فيه طريق سالك مأمون إلا واحدًا، فعبرت كل فرقة من طريق، فهلكوا جميعًا إلا طائفة نجت من الطريق الأول، فهل من رجل في رأسه ذرة من عقل، أو مُسكَة من تفكير، يسلك غير الطريق الأول؟

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن أمة الإسلام تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كل هذه الفرق مخطئة بل وضالة، إلا طائفة واحدة، هي الصحابة رضوان الله عليهم، ومن سار على دربهم، وسلك سبيلهم.

"وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلَاّ مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِى"[رواه الترمذي ـ واللفظ له ـ والحاكم وابن عساكر]

فحريٌّ بالمسلم أن لا يهدأ له بال، ولا يكتحل بنوم، ولا يهنأ بطعام ولا شراب حتى يتيقن أنه من الطائفة الناجية.

إن وجود شيخه الصالح في نظره في جماعة ما لا ينجيه، ووراثته دينه عن أبويه لا تفيده، بل إن الصادق ليزداد خوفه عندما يبلغه قول الله يوم القيامة لآدم: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ،

ص: 12

فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] " [متفق عليه عن أبي سعيد]

واعلم يا عبد الله أن حسن نيتك لا يغني عنك شيئًا إن كنت في غير الطائفة الناجية.

قال تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]

وفي الآية إشارة إلى أن خسران المرء رغم الإقرار بحسن نيته {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} إذ لم يصب في عمله.

إذن فما النجاة .. ؟ النجاة إنما تكون بحسن النية مع إصابة الطريق.

والطريق هو طريق الطائفة الناجية، طريق الصحابة .. ولكن كيف نعرفه؟ وكيف نعتم به جميعًا؟

لا شك أن الله يحب الهداية للعباد، فمحال إذن أن يبين لنا أحكام الطهارة والنجاسة ولا يبين لنا سبيل الاتفاق، وطريق الاعتصام، وقد أمرنا به {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، ولا يأمر الله سبحانه إلا بالمستطاع.

وما كان الله ليحفظ كتابه، وسنة نبيه، ثم يذر الناس

ص: 13

يفهمون مقاصدها حسب أفهامهم، ونزعات عقولهم، وما كان الله ليترك العباد في منازعاتهم، واختلافاتهم، ثم يأمرهم بالاعتصام، ولا يرشدهم إلى الحق، ولا يبين لهم طريق الرشد.

محال هذا والله هو الرؤوف بعباده {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]

إي وربي إنه لأرأف بعباده من أنفسهم، ولأرحم بهم من أن يدعهم حيارى مختلفين، كل فرقة منهم تفهم الإسلام فهمًا يناقض فهم الأخرى، وكلهم يدعون أنهم على الحق اليقين، معاذ الله أن يكون هذا!

إذن فالاعتصام والنجاة من الخلاف ممكن، لأن الله أمر به ولا يأمر الله إلا بالممكن، والاختلاف محرم، والنجاة منه ممكن لأن الله تعالى نهى عنه ولا ينهى الله عن أمر إلا وبالإمكان الانتهاء عنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]

فأين هذا الضابط الذي يضبط الفهم؟

وأين هذا المرجح الذي يبين الحق؟

مما لا شك فيه أن الإسلام عقيدة ومنهاج، وشريعة وأخلاق، وأن الخلاف واقع بين طوائف الإسلام في الجميع.

ونبين ههنا على هذه العجالة هذا الضابط باختصار فنقول: قال الله تعالى {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا

ص: 14

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137]

أي فإن آمن الناس من يهود ونصارى وغيرهم، بمثل ما آمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصابوا الطريق، واهتدوا المحجة.

وإن تولوا عن الإيمان بمثل ما آمن به الصحابة رضوان الله عليهم، فسوف يقعدون في حمأة الخلاف، والتفرق؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ والتفرق والشقاق.

ولحكمة عظيمة، لم يقل الله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنت به .. وذلك إشارة إلى صحة إيمان الصحابة رضوان الله عليهم، وأنهم الحكم الفصل في هذه القضية الهامة.

فهذا هو ضابط الإيمانيات والتوحيد والغيبيات وغير ذلك.

وهو الإيمان بمثل ما آمن به أصحاب النبي، والكف عما كفوا.

والإعراض عما أعرضوا، وترك البحث في قضايا ومسائل تركوا البحث فيها.

فبهذا تتحد كلمة المسلمين في العقيدة، وتنتهي الخلافات فيها.

وأما ضابط المنهاج، وهو الطريق والسبيل الذي تسير عليه الجماعة المسلمة، لتحقيق أمر العقيدة، وهو ـ المنهاج ـ محور الخلاف العصرين قال الله عز وجل {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ

ص: 15

جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]

فهذا بيان واضح، وحجة دامغة على العباد، بوجوب اتباع سبيل المؤمنين، ومن هم المؤمنون وقت نزول الآية غير الصحابة رضوان الله عليهم.

وهذا هو الضابط الثاني في مسألة المنهاج.

وقد توعد الله لمن خرج عن طريقهم، وسلك غير سبيلهم، أن يتخلى عنه في الدنيا، وأن يعذبه عذابًا أليمًا في الآخرة.

بعد هذا، يستطيع العاقل أن يجيب عن كافة الأسئلة السابقة.

ما النجاة؟

وما هو سبيل الخلاص من هذه الخلافات؟

وهل يمكن الاتفاق، وكيف يكون؟

وما هو الاعتصام، وكيف يكون؟

فالنجاة من ذلك كله، هي الرجوع إلى هذا الدين الحنيف، والتمسك به على طريقة الصحابة رضوان الله عليهم، ومن اتخذهم سلفًا له في العقيدة والمنهاج، والسلوك والفهم والعمل، بدءًا من لا إله إلا الله، وانتهاءً بإماطة الأذى عن الطريق، مرورًا بالامتثال لكل أمر، واجتناب كل نهي، بما في ذلك: فهم أصول أهل السنة والسير عليها، وإدراك معنى البدعة واجتنابها، واقتفاء آثار الصحابة الميامين، في كل خلق ودين، وقاعدة وسبيل، فمن ابتغى وراء ذلك، فأولئك هم الضالون والمنحرفون ولأمة الإسلام مفرقون {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه: 135]

ص: 16

فبهذا تعرف الفرقة الناجية من الفرق الأخرى المخطئة والمنحرفة.

فإذا رجعنا إليهم في أمر ديننا جميعه، لانتهى الخلاف واندثر الشقاق.

ولهذا كان الصحابة حكمًا وقاضيًا على طوائف الإسلام، كما كان الإسلام حكمًا ومهيمنًا على كافة الأديان.

وإن لم نحكمهم في خلافتنا، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نزل القرآن بلغتهم، ورأوا سيرة رسول الله بأم أعينهم، ثم أبلغنا الله أنهم نجوا في الآخرة بعد أن أفلحوا في الدنيا {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]

إن لم نحكم هؤلاء في خلافاتنا، فمن نحكم؟ !

وخلاصة الكلام أن من أراد لنفسه الهداية والنجاة هل يسلك طريقًا جديدًا مجهولاً؟ ويخوض مخاضة غير مأمومنة؟ وأمامه طريق مأمون، قد سلكته أمة من قبله، وأفلحوا في دنياهم، ونجوا في آخرتهم؟

عبر للمعتبرين:

ثم أمر آخر ما من فئة ولا طائفة عدلت عن هذا الطريق المسلوك، وانحرفت عن هذه المخاضة، إلا هلك أهلها، وغرق أفرادها، فهل من معتبر؟ !

ص: 17

ومسألة أخرى: وهي أن الذين عدلوا عن هذا الطريق، طريق الصحابة، كان عندهم من الأدلة الباطلة، ما أقنعهم بهذا العدول، ولديهم من الحجج ما حملهم على ترك اتباعهم، وفتحهم طريقًا جديدًا، فضلُّوا وأضلُّوا.

فلا يخدعنك الشيطان كما خدع مَن قبلك.

فإن الشيطان إذا أتى ابن آدم، لا يأتيه على حقيقته، ولا يصارحه بمأربه، ولا يكاشفه بنيته، إنما يأتيه كما أتى أباه آدم من قبل بثوب الناصح، ولباس الهادي {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]

ولم يكتف بهذا الخداع، بل راح يقسم لهما بالله إنه لمن الناصحين {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]

تمامًا كما يقسم كثير من الناس أنهم على الحق وهم في ضلال بعيد.

لقد جاء الشيطان فقال لهم: هل أدلكم على فلسفة أهدى من كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وهل أدلكم على فكر أقوم من تفكير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان؟

وهل أدلكم على سبيل التمكين في الأرض لتصبحوا ملوك الدنيا وسادتها؟

قالوا: بلى.

ص: 18

قال: فابتدعوا ولا تتبعوا، وجددوا ولا تتمسكوا، وتحزبوا ولا تجتمعوا، فزمانكم غير زمانهم، وظروفكم غير ظروفهم، فقد ولَّى زمانهم، وانقضى عهدهم، فهم أصحاب الفكر السطحي، وحملة الفقه البدوي، لا علم لهم بالمنطق ولا بعلم الكلام .. ولا يحملون الشهادات، بل قال لي أحدهم: نحن أعلم من الصحابة في كل شيء، قلت: حتى في العربية؟ ، قال: نعم، عندنا عشرات المعاجم، وماكان عندهم معجم واحد؟

وحلف لهم الشيطان: أنكم أعلم من الصحابة وأحكم، كيف وأنتم حملة الشهادات، وخريجوا الجامعات، ولما رأى الشيطان هول هذا عليهم، وخشي أن يفلتوا من زمامه، خفف عنهم، فقال للسابقين: طريقة الصحابة أسلم، وطريقتي التي أرشدكم إليها أعلم وأحكم.

فراح بعضهم ـ والعياذ بالله ـ يحرف صفات الله وينكرها.

وقال اللاحقين ـ بدعوى التجديد ـ ينقضون قواعد الأصول، ويهدمون أسس الدين، ولمّا يبنوا بيت العنكبوت بعد، ليحرموا ما أحل الله، ويُحلوا ما أحل الله.

وآخرون غرهم عقلهم، وخدعم أسلوبهم، ونفخهم نفاقهم وتزلفهم، فسبوا سلف هذه الأمة المشهود لها بالخيرية، وطعنوا بشباب هذه الصحوة، وحكموا عليهم بالعمالة والسوداوية، والسذاجة والسطحية، والعته والعمى، كل هذه الأوصاف في حق من؟ ! في حق أبي بكر وعمر وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

ص: 19

في حق عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك .. في حق ابن المبارك والأوزاعي وابن تيمية وابن القيم والنووي .. في حق ابن كثير والذهب والعسقلاني والشوكاني .. في حق محمد بن عبد الوهاب وابن باز والألباني وعلماء هذه الأمة المشهود لهم بالخير.

فوا أسفاه على هذه الأمة من ألسنة السوء، ومن المعاهد التي تكلف شذاذ الآفاق للنيل والطعن بهم من علماء هذه الأمة.

فاللهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]

فإن لم يكن الذين أنعم الله عليهم هم الصحابة، فلم ينعم الله على أحد قط.

فتعال معي إذن نتعرف على أصولهم، ونتعلم قواعدهم، ونتلمس طريقهم .. فهي ـ والله ـ بحق قواعد النجاة، وطريق الفائزين، وحكم المختلفين، وسبيل الخلاص من تفرق المسلمين، وطريق وحدة صفوفهم، وجمع كلمتهم.

ص: 20