الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي أُمَّتِي يَوْمًا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَيَكُونُ سِرَاجُ أُمَّتِي»، ولم يجهدوا مُطْلَقًا فِي أنْ يجعلوا الناس يُصَدِّقُونَ بأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد ذكر فِعْلاً اسم العالم العراقي كذا قال جولدتسهير وتابعه ليون بورشيه.
هكذا تَكَلَّفَ هؤلاء الخوض في هذا العَلَمِ العظيم ثم راحوا يَتَطَفَّلُونَ على علم الحديث ينقدونه، وعلى المُحَدِّثِينَ يقترحون عليهم.
وَأَوَدُّ أَوَّلاً أَنْ أُنَبِّهَ إخواني إلى رأي في جملة مزاعم الناقدين لِلْمُحَدِّثِينَ ببيان تصنيفها العلمي، وذلك أنها بصورة إجمالية ليست أكثر من تخيلات أو أباطيل أو أوهام، إنها ليست من النوع الذي يرقى إلى ما يسميه العلماء في بحوثهم ومناقشاتهم «شُبْهَةٌ» لأنها ليست من نوع ما يشتبه على العقل الباحث الجاد، بأن يقع له دليل ضعيف يخلط فيه الناظر فيظنه قَوِيًّا، إنما هي تخيلات أو أوهام وبعضها مزاعم مُلَفَّقَةٌ فقد فضح تلفيقها أصحابها وغشاهم بِالخِزْيِ وَالخَيْبَةِ.
لكننا نتساءل هل نشأت هذه الأفكارعند هؤلاء لأنهم لم يفهموا منهج المُحَدِّثِينَ، أو أنهم فهموا ذلك فأرادوا أَنْ ينتهزوا غفلة الناس عن تكاسل بنيان علم الحديث وإحكام خِطَّتِهِ النقدية؟.
مُوَاجَهَتُنَا لِهَذَا التَّحَدِّي بَيَانُ التَّكَامُلِ وَالشُّمُولِ فِي مَنْهَجِ المُحَدِّثِينَ:
ومن هنا فإنا رأينا أنه لِزَامًا علينا في مواجهة هذا التحدي أَنْ نُبَيِّنَ أَوَّلاً هذا الأصل الجوهري البالغ الأهمية في عمل المُحَدِّثِينَ، أعني مزية التكامل والدقة والإحاطة فَإِنَّ هذا البيان مُهِمٌّ جِدًّا بسبب ما يلحظه الناظر في كُتُبِ
المُصْطَلَحِ من إعواز لبيان هذا الأمر، وَإِنْ كان السبب اعتماد علمائنا السابقين - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى - على تحصيل العلم في الصدور وتكوين المَلَكَةِ، ولكن هذا البيان يزيد الردود والمناقشة وُضُوحًا وَجَلَاءً، وَقَدْ عَلَّمَنَا الإسلام الحنيف أَنْ نقيم أمورنا على الحُجَّةِ الواضحة والبرهان الساطع حتى صار ذلك غاية أُمْنِيَّةَ العَالِمِ، بَلْ مُتْعَةَ البَاحِثِ، كما قيل لبعض العلماء الكبار: فِيمَ لَذَّتُكَ؟ فَقَالَ: «فِي شُبْهَةٍ تَتَضَاءَلُ افْتِضَاحًا، وَحُجَّةٍ تَتَبَخْتَرُ اتِّضَاحًا» .
وقد توصلنا بفضل الله تعالى وتوفيقه إلى صياغة مبتكرة لهذا العلم علم المصطلح، تبرز وتظهر بجلاء تكامل هذا العلم وَدِقَّتِهِ وَشُمُولِهِ، وأنه في الواقع يشكل ما يسمى بلغة عصرنا هذا (نِظَامًا) أَوْ (نَظَرِيَّةً) نَقْدِيَّةً مُتَكَامِلَةٍ، تتآلف فيها أنواع علوم الحديث كلها، لتبدو في مجموعها منطلقة بتسديد وإحكام نحو الغاية المنشودة، فواجهنا هذا التحدي ببادرة جديدة تَعْتَمِدُ عَلَى الرَدِّ العِلْمِيِّ وَالتَّطْبِيقِ الفِعْلِيِّ في جلاء نظرية النقد عند المُحَدِّثِينَ بقالب جديد ليبرز هذا التكامل، وليس بمجرد الحوار والجدال.
وتقوم هذه النظرية على أساس بسيط جِدًّا وسهل الفهم مقتبس من نص الحديث المتواتر: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ» . فَإِنَّ هذا اللفظ يدل على أنه لَا بُدَّ لكي يكون الحديث مقبولاً أَنْ يكون راويه قد أداه كما سمعه، وهذا بلا شك أمر واضح لا جدال فيه، وهو يوجب علينا أَوَّلاً أَنْ نَخْبُرَ أَحْوَالَ الرُّوَاةِ، وقد استوعب المُحَدِّثُونَ ذلك بأصول عديدة شاملة تُبَيِّنُ كل ما يتصل بالراوي جَرْحًا وَتَعْدِيلاً، وَتِبْيَانًا لاسمه ونسبه وتمييزه عمن قد يشابه اسمه حتى أحصوا ذلك إحصاء عَجِيبًا وَبِتَمْيِيزٍ دَقِيقٍ، مثل تمييزهم بين من يتفق اسمه مع غيره في الرسم، ويختلف في النطق مثل هذه الأسماء (يزيد،
بريد، تزيد) أو يتماثل اسمه مع اسم غيره أو غير ذلك، في جملة علوم تبلغ ثلاثين نَوْعًا (1).
ثم إِنَّ أَخْذَ الراوي عن أساتذته له أحوال وأحكام، وكذلك تبليغه يعتريه أحكام أَيْضًا، فكانت دراسة علوم الرواية مُكْمِلَةً لما سبق وَمُتَمِّمَةٌ لَهُ، وهي خمسة علوم من علوم الحديث (2).
ولما أنَّ الأحاديث وصلت إلينا بنقل رجال السند وَاحِدًا عن الأخر حتى يبلغوا قائلها كان من الواجب أَنْ ندرس شروط القبول في السند والمتن وذلك في تعريف «الحديث الصحيح» و «الحديث الحسن» وقد توصلنا ببحث خاص وتحقيق جديد إلى بيان كفاية شروط الحديث المقبول لإثبات سلامة الحديث وأدائه كما سُمِعَ من قائله وكيف أَنَّ قواعد هذا الفن البالغة ثمانين قاعدة تعمل كلها لتحقيق هذه الغاية بواسطة شروط الحديث الصحيح والحسن، التي تستجمع في الحقيقة كل قواعد الحديث وقوانينه (3)، والتي متى اختل شيء منها كان الحديث ضعيفًا، لما فيه من فقد المعيار الذي يثبت سلامة النص المروي.
ثم ننتقل في ضوء ما سبق إلى السير والدرس لكل جوانب الحديث ونوضح احتمالات الضعف والقوة فيها، ابتداء بأحوال المتن، ثم بأحوال السند وما يعرض له من اتصال أو انقطاع أو غير ذلك.
ثم نتتبع الأنواع والأحوال المشتركة بين السند والمتن كالشاذ
(1) انظر دراستها مفصلة في كتاب " منهج النقد في علوم الحديث " الباب الثاني في علوم الرواة: ص 73 - 187.
(2)
انظر دراستها في المرجع السابق، الباب الثالث في علوم الرواية: ص 188 - 239.
(3)
وذلك في بحث " الاتجاهات العامة للاجتهاد ومكانة الحديث الصحيح فيها "، تحت الطبع.