المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا ـ ادعاء التعارض والاستشكال على الأحاديث: - السنة المطهرة والتحديات

[نور الدين عتر]

فهرس الكتاب

- ‌هَدَفُ هَذَا البَحْثِ:

- ‌تَلَقِّي الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ:

- ‌الصَّحَابَةُ وَرِوَايَةِ السُنَّةِ:

- ‌تَحَدِّي الفَرَاغَ العِلْمِيَّ فِي الرِّوَايَةِ:

- ‌أُصَولُ المَنْهَجِ العِلْمِيِّ لِلْرِّوَايَةِ فِي القُرْآنِ:

- ‌أَوَّلاً: تَحْرِيمُ الكَذِبِ:

- ‌ثَانِيًا: رَفْضُ خَبَرِ الفَاسِقِ:

- ‌ثَالِثًا: اشْتِرَاطُ العَدَالَةِ لِقَبُولِ خَبَرَ الرَّاوِي:

- ‌رَابِعًا: التَّثَبُّتُ مِنْ كُلِّ قَضِيَّةٍ:

- ‌خَامِسًا: تَحْرِيمُ نَقْلِ الخَبَرِ المَكْذُوبِ:

- ‌تَطْبِيقُ الصَّحَابَةِ لأُصُولِ القُرْآنِ فِي الرِّوَايَةِ:

- ‌عَدَالَةُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِدَلَالَةِ الوَثَائِقِ العِلْمِيَّةِ:

- ‌قَوَانِينُ الرِّوَايَةِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ:

- ‌أَوَّلاً: تَقْلِيلُ الرِّوَايَةِ:

- ‌ثَانِيًا: التَثَبُّتُ مِنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ تَحَمُّلِهَا وَعِنْدَ أَدَائِهَا:

- ‌ثَالِثًا: نَقْدُ الرِّوَايَاتِ:

- ‌الصَّحَابَةُ وَتَحَدِّيَاتُ الفِتْنَةِ:

- ‌تَحَدِّيَاتُ الثَّقَافَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ فِي القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ:

- ‌السُنَّةُ وَالاحْتِكَاكُ بِالثَّقَافَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ المُعَاصَرَةِ:

- ‌أَوَّلاً: الشَكْلُ وَالمَضْمُونُ:

- ‌ثَانِيًا: التَّنَاقُضُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ:

- ‌ثَالِثًا: فِي تَطْبِيقِ المُحَدِّثِينَ لِمَنْهَجِ النَّقْدِ:

- ‌مُوَاجَهَتُنَا لِهَذَا التَّحَدِّي بَيَانُ التَّكَامُلِ وَالشُّمُولِ فِي مَنْهَجِ المُحَدِّثِينَ:

- ‌مناقشات وردود حاسمة:

- ‌أولاً ـ مسألة الشكل والمضمون في نقد الرواية:

- ‌ثَانِيًا ـ ادِّعَاءُ التَّعَارُضِ وَالاسْتِشْكَالِ عَلَى الأَحَادِيثِ:

- ‌ثَالِثًا ـ تَطْبِيقُ المُحَدِّثِينَ لِنَهْجِهِمْ النَّقْدِيِّ:

- ‌الخَاتِمَةُ:نَتَائِجَ وَمُقْتَرَحَاتٍ:

- ‌ثبت المراجع:

الفصل: ‌ثانيا ـ ادعاء التعارض والاستشكال على الأحاديث:

ميزان النقد، وهو الخصوصية التي اختص اللهُ بها النقد الإسلامي على مناهج النقد في الدنيا، في قديم عصورنا وفي حديثها فإن هذا السند لا ينقل كَلَامًا عَادِيًّا عن شخص عادي، بل ينقل عن صاحب الوحي الذي يُبَلِّغُ عن اللهِ تعالى، فَأَمْرُهُ هُوَ أَمْرُ اللهِ، وَنَهْيُهُ هُوَ نَهْيُ اللهِ، فمن البَدَهِيِّ أن نقول لمن يروي شَيْئًا من الحديث، مَا سَنَدُكَ فِي نَقْلِ هَذَا الكَلَامِ.

بل أننا لنعتز بعناية علمائنا بنقد الأسانيد، بل بتقديم نقد الأسانيد على المتون في كثير من المواضع، وذلك لأن المتن في كثير من الأحيان ربما لا يشتمل على دلائل توحي بشيء يستدل به على صحة النص أو سقمه مِمَّا يجعل نقد السند متعينا وَمُقَدَّمًا لا محالة، على حين تبقى أفكار الناقد غير المسلم في مثل هذا الوضع حائرة في احتمالات الحدس والتخمين، أو ضالة في المتاهات واتجاهات الظنون والتخيلات.

‌ثَانِيًا ـ ادِّعَاءُ التَّعَارُضِ وَالاسْتِشْكَالِ عَلَى الأَحَادِيثِ:

لقد سبق أن واجه المُحَدِّثُونَ منذ القدم هذا الزعم، وعالجوه بالقواعد والقوانين الكافلة بوضع الأمر في نصابه مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ ادِّعَاءَ التعارض بالقواعد والقوانين إنما يأتي من عدم الفهم، أو من قلة التدبر في حقيقة المراد من النص، بل قد وجدنا أكثر من واحد يُورِدُونَ التعارض بين أحاديث لا أصل لها البتة، أو يعارضون حديثًا صحيحًا بحديث مختلق مصنوع.

وَنُفَضِّلُ الجَوَابَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَلِي:

1 -

إن ادِّعَاءَ التعارض أو الاستشكال على النصوص ليس بالأمر الصعب مهما بلغت من الدقة والإحكام ما دام فيها ما ليس منه بُدٌّ، من عام

ص: 165

وَخَاصٌّ مُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمُطْلَقٌ وَمُقُيِّدٌ يُقَيِّدُهُ، وَمُجْمَلٌ وَمُفَسِّرٌ يُفَسِّرُهُ. فهل يقبل هؤلاء المعترضون أن يطبق عليهم حكمهم ونترك كلامهم اللجلج، وَهَلَاّ وسعتهم الأحاديث الضخمة المحكمة التي لا إشكال فيها ولا سؤال، إذن لوجدوا ما يملأ ساحة التشريع والفكر.

2 -

إِنَّ المُحَدِّثِينَ قد تبعوا قواعد وشروطًا لعلاج مشكلة ما يظن فيه تعارض مع نص آخر أو إشكال، وهذه القواعد والشروط هي من صميم نهج نقدهم، تتصل اتصالاً وثيقًا بشروط قبول الحديث ذاتها ويتفرع عليها أنواع من علوم الحديث، مثل الشاذ، المحفوظ، المنكر، المعروف، الناسخ، المنسوخ، المضطرب، المُعَلَّلُ، ومختلف الحديث.

تفصيل ذلك:

إن الحديث المقبول إذا عارضه حديث ضعيف طرح الحديث الضعيف وحكم عليه بالإنكار، كما بَيَّنُوا في الحديث المنكر (1).

أما إذا عارضه حديث من رواية الثقات، ولا نسميه الآن صَحِيحًا فإننا ننظر في طبيعة النَصَّيْنِ وفي مدلوليهما فإن وجد وجه للتوفيق والجمع بينهما عمل به، وتبين زوال التعارض، وأنه نشأ من قلة التمعن.

وكذلك إذا دَلَّ البحث على أن أحد النَصَّيْنِ جاء بعد الآخر وحل محله فلا تعارض هنا، لأن الشارع نسخ الحكم المتقدم بالحكم الآخر.

أما إذا لم يظهر هذا ولا ذاك فإننا نأخذ بالراجح والأقوى، ويكون هو «الصَحِيحُ» وَيُسَمَّى أَيْضًا المحفوظ ويكون المرجوح «شَاذًّا» أو «مُعَلَّلاً»

وهو مردود

(1) انظر " نخبة الفكر " و " شرحها " لعلي القاري: ص 85 - 89 و " تدريب الراوي ": ص 152.

ص: 166

وقد عُنِيَ العلماء بأوجه الترجيح وأنواعها وَتَقَصَّوْهَا بجزئياتها وكلياتها حتى زادت جزئياتها على مائة وجه من أوجه الترجيح، وضبطت كلياتها في سبعة أقسام كلية ترجع كلها إليها (1).

وهكذا نجد البحث في موضوع التعارض قد شمل كل جوانبه وعالج المشكلة عِلَاجًا يزيل كل توهم حول الحديث الصحيح والحسن. .

3 -

عني العلماء بدراسة ما أشكل من الأحاديث دراسة تفصيلية تتناول كل حديث منهما، فأجابوا عنه عند شرحهم للحديث في الشروح الحافلة التي صَنَّفُوهَا على كُتُبِ السُنَّةِ، ولم يكتفوا بذلك بل أفردوا هذا اللون العلمي بالدراسة في كتب خاصة كثيرة، نذكر منها:

" اختلاف الحديث "، للإمام الشافعي.

" تأويل مختلف الحديث "، لابن قتيبة.

" مشكل الآثار "، للطحطاوي.

" مشكل الحديث "، لأبي بكر بن فورك.

" مشكل الحديث "، للقصري.

فَمَثَلاً: الحديث الذي أوردناه، والذي استشكله بعضهم في محاضرة عِلْمِيَّةٍ في إحدى قاعات جامعة كبيرة مشهورة، هذا الحديث صحيح متفق عليه، أخرجه الشيخان بأسانيدهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ:" أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ! "، قَالَ: " فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ.

(1) أورد الإمام الحازمي من أوجه التوفيق التفصيلية خمسين وَجْهًا في كتابه " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ": ص 11 - 27 وأوصلها العراقي في " نكته على ابن الصلاح " إلى أكثر من مائة، ثم جاء السيوطي فضبطها بسبع قواعد كلية في كتابه " تدريب الراوي ": ص 388 - 391.

ص: 167

قَالَ: «أَىْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ؟» .

قَالَ: «ثُمَّ الْمَوْتُ» .

قَالَ: «فَالآنَ» ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» (1) وقد أجاب عنه العلماء منذ أزمان بأجوبة كثيرة نذكر منها.

أنَّ الملائكة مخلوقات نورانية ليست مادية، لكن الله أعطاها قُدْرَةً على التشكل بالصور المادية، أَلَا ترى أنَّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي، وَمَرَّةً في صورة أعرابي، فلما جاء الملك موسى عليه السلام وجاذبه، لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل لا تمثيل، وليست عَيْنًا حقيقية للملك، ولم يضر الملك بشيء.

وقال: الإمام أبو بكر بن فورك (2): «وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إَِِّن مَعْنَى قَوْلِهِ لَطَمَ مُوسَى عليه السلام عَيْنَ مَلَكَ المَوْتِ تَوَسَّعَ فِي الكَلَام وَهُوَ نَحْوَ مَا يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنه قَالَ: " أَنَا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَة " يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلْزَامَ مُوسَى مَلَكَ المَوْتِ الحُجَّةَ حِينَ رَادَهُ فِي قَبْضِ رُوحِهِ

».

4 -

الأحاديث الواردة في أمور من علوم الكون والطبيعة وأخص بالذكر هنا الأحاديث المتعلَّقة بالطب.

(1)" البخاري ": في الجنائز (باب من أحب أنْ يُدْفَنَ في الأرض المقدسة) ج 2 ص 90 والأنبياء (باب وفاة موسى) ج 4 ص 157. و " مسلم " واللفظ له: ج 7 ص 100.

(2)

في كتابه " مشكل الحديث ": ص 113، وانظر " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة: ص 277 - 278.

ص: 168

لقد عُنِيَ أسلافنا بهذه الأحاديث، وَصَنَّفُوا فيها مجموعات عرفت باسم الطب النبوي، ورأى العلم فيها دلائل من دلائل نُبُوَّتِهِ وَبَرَاهِينَ رِسَالَتِهِ عليه الصلاة والسلام، لما اشتملت عليه من فوائد عرفها الطب وأفاد بها، كما أبرزت ذلك دراسات معاصرة كثيرة مثل الدراسات التي أجريت على الحَبَّةِ السَّوْدَاءَ، والدراسات التي أجريت على العسل وفوائده واستطباباته وهو طب القرآن وطب الحديث النبوي، حتى حازت بعض هذه البحوث على جوائز عالمية، ومع ذلك فالعلم يُقَرِّرُ أنه لا زال المجال مفتوحًا للمزيد من الدرس المفيد حول العسل.

ولكن بعض الناس مِمَّنْ لم يتمعنوا في هذه الأحاديث استشكل ما وجده من بعض الأحاديث الطبية أو الصحية واشتهر الإشكال حتى لزم البحث فيه، وكشف اللثام عن حقيقة الأمر فيها.

ونجيب عن الإشكال حول بعض الأحاديث إجابات إجمالية وإجابات تفصيلية فيما يلي:

(أ) أما الإجابة الإجمالية:

فإننا نؤمن بالله تعالى رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولاً فمهما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وصح عنه في هذه القضايا فإننا نقبله ولا يضرنا بعد التثبت والتحري لثبوت صحة الحديث، عدم اكتشاف العلم لما أخبر به الحديث لأن العلم كما يقول خُبَرَاؤُهُ وَأَرْبَابُهُ مازال على حافة اكتشاف الكون.

وقد زلق بسبب هذا الوهم كثيرون حتى أن بعضهم وهو موريس بوكاي، تناول بعض هذه الأحاديث بالنقد ليؤكد بذلك إعجاز القرآن، لأن أخبار القرآن عن الكون أخبار علمية قاطعة ومعجزة، فرأى أنه لو كان القرآن كلام مُحَمَّدٍ لوقع فيه مثل ما وقع في بعض الأحاديث.

ص: 169

وهذا خطأ فادح ناشيء من الغفلة عَنْ أَنَّ السُنَّةَ هي وحي أَيْضًا، ولكنها وحي غَيْرَ مَتْلُوٍّ، كما قال عز وجل:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (1).

لكن هذا لا يعني أن نعمل بكل حديث في الطب من تلقاء أنفسنا بل يجب أن نرجع في كيفية ذلك إلى الأطباء أهل الخبرة بكيفية استعمال تلك الوصفات كما هو الشأن في أي علاج طبي مهما كان.

وقد أقر كبار الأطباء الذين أطلعوا على أحاديث «الطب النبوي» بما أتت به هذه الأحاديث بل قال لي استاذ في كلية الطب بجامعة دمشق:

«إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْتِ بِوَصْفَاتٍ طِبِيَّةٍ سَابِقَةٍ لِعَصْرِهَا فَحَسْبَ بَلْ إِنَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ جَاءَ مُقَنِّنًا لِلْطِبِّ وَالأَطِبَّاءِ» .

وقال لي زميل آخر من كبار أساتذه كلية الطب في جامعة دمشق (الدكتور محمود الجزيري): «كَيْفَ نَقْبَلُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الأَجَانِبِ وَلَا نَقْبَلُ كَلَامَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟.

ذكر الدكتور الجزيري قِصَّةً من واقع حياته العلمية فيها كل العبرة لمن عقل وتدبر فقال:

«قَدْ كُنْتُ أَوَّلَ مَا عُيِّنْتُ مُدَرِّسًا فِي كُلِيَّةِ الطِبِّ أُقَرِّرُ فَائِدَةَ شُرْبِ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ، أَخْذًا بِالحَدِيثِ الصَّحِيحِ:" فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ .. وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ .. وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ " وَقَدْ لَاحَظْتُ فَائِدَةَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى مَرْضَايَ الذِينَ أَصْبَحَ عَدَدُهُمْ يَزِيْدُ الآنَ عَنْ نِصْفِ مِليُونٍ وَكَانَ الطَّلَبَةُ آنَذَاكَ يُعَارِضُونَنِي لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي الكُتُبِ التِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَالمَأْخُوْذَةِ عَنْ الأَجَانِبِ ضِدَّ ذَلِكَ وَكُنْتُ أَصَرُّ عَلَىَ رَأْيِي وَأُخَالِفُ تِلْكَ الكُتُب وَأَخِيرًا جَاءَ الطِبُّ يُقَرِّرُ مَا ذَكَرَهُ الحَدِيثُ

(1)[سورة النجم، الآيتان: 3، 4].

ص: 170

الشَّرِيفُ وَيُوصِي بِشُرْبِ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ، لأَنَّهُ تَبَيَّنَ لِلأَطِبَّاءِ أَنَّ شُرْبَ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ يُفِيدُ مِنْ زِيَادَةِ إِفْرَازِ العُصَارَاتِ كُلِّهَا فِي المَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالأَمْعَاءِ، وَيُسَاعِدُ مُهِمَّةَ جِهَازِ الهَضْمِ بِتَلْيِينِ الطَّعَامِ وَصِيَاغَتِهِ كَعَجِينَةٍ تَنْفُذُ فِيهَا الْعُصَارَاتُ الهَاضِمَةُ، وَيَمْنَعُ القَبْضَ، وَكُنْتُ أُوْصِي بِالمَصابِينَ بِالْقَبْضِ (الإِمْسَاكُ) المُزْمِنِ بِكَثْرَةِ شُرْبِ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ وَكَانَتْ تَوْصِيَةً نَاجِحَةً مِائَةً بِالمِائَةِ

» إلى آخر ما ذكره الزميل الدكتور الكبير - حَفِظَهُ اللهُ -، مِمَّا يجعلنا نأخذ العبرة لذلك في هذه الأحاديث الشريفة.

(ب) وأما الإجابة التفصيلية:

فأذكر فيها هذين المثالين:

المثال الأول: حديث شرب لبن الناقة وبولها:

وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه " البخاري " و " مسلم " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاةِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،

إلى آخر ما ذكر الحديث من عقوبتهم الشديدة (1).

(1)" البخاري": في الطهارة (باب أبوال الإبل والغنم) ج 1 ص 52 ومواضع أخرى، و " مسلم ": في [كِتَابِ الْقَسَامَةِ](باب حكم المحاربين) ج 3 ص 1296 ـ 1297 واللفظ لمسلم.

وقد جاء في بعض الروايات: «عَلَيْكُمْ بِأَبْوَالِ الإِبِلِ فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ لِلذَّرِبَةِ (*) بُطُونِهِمْ» أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس مَرْفُوعًا كما في " فتح الباري ": ج 10 ص 120 كما ذكر داود الأنطاكي في " تذكرته ": ج 1 ص 279 أن لبن اللقاح مع بولها ينفع دَوَاءً للاستسقاء غير الريحي وهذا يشير إلى معرفة نفعها منذ القديم وقد ذهب المالكية إلى طهارة بول الإبل وبول ما يأكل لحمه استنادا لهذه الأحاديث. وقال الحنفية: هي نجسة لكنها نجاسة مخففة وأجابوا عن الأحاديث بأنها للضرورة.

--------------------

(*)[وَالذَّرِبَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، جَمْعُ ذَرِبٍ وَالذَّرَبُ بِفَتْحَتَيْنِ فَسَادُ الْمَعِدَةِ].

ص: 171

والجواب من ملاحظة ما ذكرنا في الإجابة الإجمالية أنه لا ينبغي الاستشكال على الحديث لعدم توصل العلم إلى ما وصفه الحديث وغير ذلك مِمَّا ذكرناه بل إنه موجب عند العقلاء لمتابعة البحث حَتَّى يَتَوَصَّلَ الطب إلى طريق الإفادة من هذا العلاج وقد وفق الله تعالى بعض اخواننا من أساتذة جامعة دمشق وأفاد من هذا الطب النبوي في علاج طفل له صغير أصيب باستسقاء في رأسه، وتضخم رأس الطفل جِدًّا، وأعيا الأطباء علاجه، فتذكر الوالد العالم المؤمن قِصَّةَ العُرَنِيِّينَ، وصار يذهب إلى مناطق نائية يأتي منها باللبن من النوق، وكانت النتيجة جيدة والفائدة ملحوظة جِدًّا على حين لم يفدهم عقار الأطباء، ولولا عقبات بُعْدِ المكان وَنُدْرَةِ الحليب وغير ذلك من معوقات لأمكن أن تُسْتَوْفَى التجربة وتتابع وها نحن نذكر هذه المحاولة عسى أن تثير عزائم الخبراء للإفادة من الحديث في علاج هذا الداء بالتجارب العلمية كما أننا نهيب بأطبائنا أن ينفضوا عن أنفسهم نعاس الركون إلى الأجانب فباب العلم مفتوح لطالبه. ولهم بأسلافهم القدوة الحسنة:

عِلْمًا أن تعليل نفع لبن الناقة وبولها للاستسقاء واضح وَمُيَسَّرٌ عِلْمِيًّا: وذلك لأن لبن الناقة يحتوي على كمية كبيرة من الكالسيوم مركزة فيه كما ذكر الدكتور الجزيري، يضاف لذلك ما ذكره الأنطاكي في " تذكرته ": ص 78 ج 1 أن الإبل ترعى النباتات الصحراوية كالشيح والقيصوم، وفيها مواد نافعة لفتح السدد، وهذا التوسيع أو الفتح للأوعية يساعد على تصريف السوائل المتجمعة في حالة الاستسقاء.

المثال الثاني: حَدِيثُ الذُّبَابِ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً» . وهو حديث صحيح أخرجه البخاري وغيره (1).

(1)" البخاري ": في آخر الطب و " أبو داود ": في الأطعمة، رقم 3844 كلاهما من حديث أبي هريرة وأخرجه " النسائي " من حديث أبي سعيد: ج 7 ص 178 - 179 وسنده حسن.

ص: 172

استشكل بعضهم هذا الحديث بأن الذباب ينقل الجراثيم وخصوصًا جراثيم حُمَّى التِيفُوئِيدْ فكيف نغمسه في الطعام أو الشراب ثم نطرحه بَدَلاً من أن نطرح الشراب الذي وقع فيه الذباب؟.

وقد أجيب عن ذلك بأجوبة نظرية وتطبيقية.

فمن الأجوبة النظرية: ما قاله طبيب إحدى الجامعات: «لَوْ لَمْ يَكُنْ الذُّبَابُ مُحَصَّنًا بِمُضَادَّاتِ تِلْكَ الجَرَاثِيمِ لَمَاتَتْ الذُّبَابَةُ بِعُلُوقِ الجَرَاثِيمِ بِهَا وَلَمَا بَقِيَ ذُبَابٌ فِي العَالَمِ» .

ومن الأجوبة التطبيقية ما لاحظه الأقدمون بالتجربة أَنَّ دَلْكَ مَوْضِعَ لَدْغِ الزُّنْبُورِ أَوِ العَقْرَبِ بِالذُّبَابِ يَنْفَعُ مِنْهُ نَفْعًا بَيِّنًا.

ومن التطبيقات الحديثة: ما لوحظ على جرحى الحرب العالمية من الجنود أن جراحهم أسرع شفاء وَالْتِئَامًا من الضباط الذين يعنى بهم مزيد عناية في المستشفيات لأن الجنود يتداوون في الميدان فيتعرضون لوقوع الذباب على جراحاتهم

ومنذ سَنَةِ 1922 نشر الدكتور ديريل بعد دِرَاسَةٍ مُسْبَقَةٍ لأسباب جائحات الهيضية (كُولِيرَا) في الهند وجود كائنات دقيقة تغزو الجراثيم وتلتهمها وتدعى مُلْتَهِمَاتِ الجَرَاثِيمِ (بَكْتِرْيُوفَاجْ) وأثبت ديريل أن البَكْتِرْيُوفَاجْ هو العامل الأساسي في إطفاء جوائح (الكُولِيرَا) وأنه يوجد في بُرَازِ الناقهين من المرض المذكور وأن الذباب ينقله من البُرَازِ إلى آبار ماء الشرب فيشربه الأهلون وتبدأ جذوة جائحة الهيضة بالانطفاء.

وقد تمكن الأستاذ ديريل من تكثير مُلْتَهِمَ الجَرَاثِيمِ وتنميته والاستفادة منه في المعالجة كما أنه تأكد من تأثيره في الجَرَاثِيمِ بإضافته إلى مزروعها وملاحظة إذابته لها تَمَامًا ثم اكتشف منذ ذلك الحين حتى الآن عدد كبير من مُلْتَهِمَاتِ الجَرَاثِيمِ كُلٌّ مِنْهَا يَلْتَهِمُ نَوْعًا مُعَيَّنًا أَوْ عِدَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الجَرَاثِيمِ.

ص: 173