الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لا علمَ لنا إلا ما علَّمتَنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتَنا، وزدنا علماً.
اللهم لا سهل إلا ما جعلتَه سهلاً، وأنت تجعلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سهلاً، فيسِّر لنا أمورَنا، واختم لنا بالسعادة، إنك على كل شيء قدير.
أما بعد:
فقد جعل الله تعالى معجزةَ النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم الوحيَ، ذلك أن الله تعالى أعطى كلَّ نبيٍّ من أنبيائه عليهم السلام آيةً يُعرف بها، وتدل على نبوته، وصدقه، ولكن كل تلك الآيات أو المعجزات كانت وقتيَّةً، زال أثرها بزوال وقتها، وبموت من حضرها، وقد أَعطى الله تعالى نبيَّه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم من تلكم المعجزات والخوارق
…
الشيءَ الكثير، فهو أكثر واحد فيهم أُعطي، ولكن معجزتَه صلى الله عليه وسلم التي بقيت بعده، واستمر عطاؤها إلى زماننا، وستبقى إلى قيام الساعة: هي الوحي.
ولهذا طلب الله تعالى منه صلى الله عليه وسلم أن ينذر به.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} [سورة الأنبياء: 45]
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما مِن
الأنبياء نبي إلا أُعطي مِن الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُتيتُه وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرَهم تابعاً يوم القيامة " متفق عليه (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله تعالى عنه-: "ألا إني أُعطيتُ القرآنَ ومثلَه معه،
…
" رواه أحمد وأبو داود والطحاوي والآجري والدارقطني والبغوي وابن حبان في آخرين (2) . ورواه آخرون بلفظ قريب.
ومن خلال الآية الكريمة والحديثين الشريفين يتضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أعطاه الله جل شأنه وحيين، هما: وحي القرآن الكريم، ووحي السنة النبوية الشريفة. لكن القرآن الكريم: وحيٌّ متلُوٌّ معجِزٌ متعبَّدٌ بتلاوته،
…
وأما السنة النبوية: فهي وحيٌ غيرُ متلُوٍّ ولا معجز ولا متعبَّد بتلاوته،
…
إلخ الفوارق (3) .
والقرآنُ الكريمُ خاتمةُ الكتب، وهو وحي من الله تعالى، لأنه كلامه جل شأنه؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد تكفَّل الله سبحانه
(1) صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن: باب كيف نزل الوحي، وفي غيرهما. وصحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد (إلى جميع الناس، رقم (239)
(2)
مسند أحمد (4: 130- 131) وسنن أبي داود: كتاب السنة: باب في لزوم السنة، رقم (4604) وسنن الدارقطني (4: 287) وصحيح ابن حبان (1: 189 رقم 12) وشرح معاني الآثار (4: 209) والشريعة (1: 415-416) وشرح السنة (1: 201) والمعجم الكبير (20: 283) ومسند الشاميين (2: 137)(3: 103) والتمهيد (1: 149- 150) وذم الكلام (2: 134 - 135) والسنن الكبرى للبيهقي (9: 332) ودلائل النبوة (6: 549) والفقيه والمتفقه (1: 89) .
(3)
انظر: (السنة النبوية وحي) و (نشأة علوم الحديث) حيث ذكرت أنواع الوحي وأقسامه ومظاهره، والفرق بين نوعَي الوحي؛ وحي القرآن، ووحي السنة.
وتعالى بذلك. والنبيُّ المصطفى الكريمُ صلى الله عليه وسلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم (- والرسولُ من مرسِله، لأنه يبلِّغ عنه ما يريد - والرسالةُ قد تكون مختومةً ليس له إلا تبليغها بعبارتها ولفظها، وقد تكون شفاهاً يبلغها بعبارته، لأنه مؤتمن. لذا فما كان من القسم الأول فهو: وحيُ القرآن، وما كان من القسم الثاني فهو: وحيُ السنة. والله تعالى أعلم.
وهذا ما دلت عليه الآياتُ القرآنيةُ الكريمةُ، والأحاديثُ النبويةُ الشريفةُ، ودلائلُ النبوة، واتفقت كلمةُ العلماء رحمهم الله تعالى عليه. وهو أن ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو وحيٌ - لكنه غيرُ مَتْلُوٍّ ولا مُعجِز - أوحاه الله سبحانه وتعالى إليه.
قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى (1) - وقد سئل عن الوحي -: «الوحيُ ما يُوحي الله إلى نبي من الأنبياء، فيثبتُه في قلبه، فيتكلم به، ويكتبه، وهو كلام الله، ومنه ما لا يتكلم به، ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، لكنه يحدِّث به الناسَ حديثاً، ويبين لهم أن الله أمره أن يبيِّنه للناس، ويبلغهم إياه» .اهـ.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (2) : ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم (شيئاً قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يُتلى، ومنه ما يكون وحياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيستن به - ثم ذكر حديثَ المطلب بن حنطب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما تركتُ شيئاً مما أمركم الله به: إلا وقد أمرتُكم به، ولا شيئاً مما نهاكم عنه: إلا وقد نهيتُكم عنه، وإن الروحَ الأمينَ قد أَلقى في رُوعي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستوفي رزقَها، فأجملوا في الطلب".
قال الإمام الشافعي: وقد قيل: ما لم يُتْلَ قرآناً، إنما ألقاه جبريل في رُوعه
(1) انظر: الإتقان (1: 44) .
(2)
الأم (7:271) وجماع العلم بحاشية الأم (7:251) وانظر الرسالة (88 - 105) .
- صلى الله عليه وسلم بأمر الله، فكان وحياً إليه.
وقيل: جعل الله إليه لما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم، أن يسن.
وأيهما كان؛ فقد ألزمهما الله تعالى خلقَه، ولم يجعل لهم الخِِيَرَةَ من أمرهم، فيما سَنَّ لهم، وفرض عليهم اتباع سنته. اهـ.
وقال رحمه الله تعالى - في موطن آخر (1) في تعليقه على حديث اللعان، فيما نَقل عمَّن سبقه -: فأَمْرُ الله تعالى إياه وجهان:
أحدهما: وحيٌ ينزل، فيُتلى على الناس.
الثاني: رسالةٌ تأتيه عن الله تعالى، بأن افعل كذا فيفعله،
…
اهـ
وقال الإمامُ ابنُ حزم الظاهريُّ رحمه الله تعالى (2) : لما بيَّنّا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع؛ نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجابَ طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم (ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3– 4] فصح لنا أن الوحيَ ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين:
أحدهما: وحيٌ متلُوٌّ، مؤَلَّفٌ تأليفاً، معجزُ النظام، وهو القرآن.
والثاني: وحيٌ مرويٌّ، منقولٌ غيرُ مؤلَّفٍ، ولا معجز النظام، ولا متلُوٍّ، لكنه مقروء، وهو الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبيِّنُ عن الله عز وجل مرادَه منا، قال الله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
(1) انظر الأم (5: 113 - 114) وانظر: مناهل العرفان (1: 50) .
(2)
الإحكام في أصول الأحكام (1: 96 - 98) .
ثم قال: والقرآن والخبرُ الصحيح بعضُهما مضافٌ إلى بعض، وهما شيءٌ واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهما حكمٌ واحد،
…
ثم قال: أخبر تعالى - كما قدمنا - أن كلامَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم كلَّه وحيٌ، والوحيُ بلا خلاف ذِكْرٌ، والذكرُ محفوظٌ بنص القرآن،
…
إلخ
ونقل الإمام السيوطي رحمه الله تعالى عن الإمام الجويني رحمه الله تعالى قال: كلام الله المنزل قسمان:
قسم: قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسَلٌ إليه: إن الله تعالى يقول: (افعل كذا وكذا، وأمر بكذا) ففهم جبريل ما قاله ربُّه، ثم نزل على ذلك النبي، وقال له ما قاله ربُّه، ولم تكن تلك العبارةُ تلكَ العبارة.
كما يقول الملِكُ لمن يثق به: قل لفلانٍ يقول الملِك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندَك للقتال، فإن قال الرسول: يقول الملِك: لا تتهاون في خدمتي، ولاتترك الجند تتفرق، وحُثَّهم على المقاتَلة؛ لا يُنسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة.
وقسم آخر: قال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل جبريلُ بكلمةٍ من الله تعالى، من غير تغيير، كما يكتب الملِك كتاباً، يسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يُغَيِّرُ منه كلمةً ولا حرفاً. اهـ
قال الإمامُ السيوطي رحمه الله تعالى (1) - في تعليقه على هذا القول -: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة. كما ورد أن جبريل عليه السلام كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز روايةُ الحديث
(1) الإتقان (1: 44) .
بالمعنى، لأن جبريل أدّاه بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى، لأن جبريل أدّاه باللفظ، ولم يُبح له إيحاءَه بالمعنى.
والسر في ذلك: أن المقصودَ منه التعبدُ بلفظه، والإعجازُ به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه،
…
والتخفيفُ على الأمة، إذ جعل المنزَّلَ إليهم على قسمين؛ قسم: يروُونه بلفظه الموحَى به، وقسم: يروونه بالمعنى، ولو جعل كلُّه مما يُروى باللفظ لَشَقَّ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف، فتأمل. اهـ
قلت: لكن لم أر من ذكر أن جبريل عليه السلام كان ينقل نصَّ الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى، ويتصرف في العبارة، إلا أن يقال: فُهم أنه أُبيح له، مقارنةً بلفظ القرآن، وعدم تغيير حرف منه، والله تعالى أعلم.
وقد بدأت عنايتي بهذا الموضوع (السنة النبوية وحي) عندما كتبتُ (الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأثره في الحديث وعلومه) إذ بينت فيه أن السنة النبوية وحي. كما يراها الإمامُ الشافعي رحمه الله تعالى.
والأدلة على أن السنة وحي هي أربعة مصادر:
أولاً: من القرآن الكريم، ثانياً من السنة النبوية الشريفة، ثالثاً من دلائل النبوة، رابعاً: الإعجاز العلمي.
وقد جعلت هذا المختصر على شاكلة الأصل، من خمسة فصول:
أما الفصل الأول فيحوي: بين النبوة والوحي، وفيه تعريف الوحي، وأنواعه، والنبوة تثبت بالوحي لا بنزول الكتاب، وليس كل الوحي مكتوباً.
ويحوي الفصل الثاني: الأدلة من القرآن الكريم.
ويحوي الفصل الثالث: الأدلة من السنة النبوية.
ويحوي الفصل الرابع: الأدلة من دلائل النبوة.
ويحوي الفصل الخامس: الأدلة من الإعجاز العلمي.
وفي الخاتمة: نتائج البحث والتوصيات.
أسأله تعالى أن يجعل هذا البحث وغيره خالصاً لوجهه الكريم، ويجعله ذخيرة مدخرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ويرزقني فيه الصدقَ في القول، والإخلاصَ في العمل، ويسدد قلمي، ويحفظني فيما بقي من عمري في ديني وصحتي وعقلي وذريتي، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله وسلَّم على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.