الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففي هذا الحديث الشريف برواياته إشارة إلى خمس حقائق علمية، هي:
أ -كون النطفة لا تكون في الرحم قبل استقرارها فيه.
ب-كون النطفة تكون متحركةً قبل استقرارها في الرحم.
ج-استقرار النطفة في الرحم، لكن لم يُحدِّد الحديث مدة الحركة قبل الاستقرار.
د-التخلق المخفي يكون بعد مضي أربعين ليلة - أو خمس وأربعين - من استقرار النطفة في جدار الرحم.
وأعني بالتخلق المخفي: وضع خارطة للجنين، وهي أشبه بوضع مخطط للبيت، ثم يتم تنفيذه فيما بعد. والله تعالى أعلم.
هـ-الإشارة إلى منع دخول أي شيء على النطفة قبل هذه المدة، وهذا هو الواقع حيث إن الرحم يقفل - تقريباً - بما يكون فيه من موانع-بعد نزول البويضة وانغراسها في جدار الرحم. كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد جاء العلم الحديث ليقرر هذه الحقائق العلمية كلها، والتي لم تُعرف إلا مؤخَّراً (1) .
(1) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث، ومع الطب في القرآن الكريم، ودورة الأرحام، وخلق الإنسان بين الطب والقرآن.
4-
اختراق الأسوار لتصوير الجنين، وحصول التشوه الخِلقي فيه:
عن حذيفة بن أَسيد الغفاريِّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُذنَيَّ هاتين يقول: "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلةً، ثم يتصوَّر عليها الملَكُ، فيقول: يا ربّ أذكرٌ أو أنثى؟ فيجعله الله ذكراً أو أنثى. ثم يقول:
(1) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث، ومع الطب في القرآن الكريم، ودورة الأرحام، وخلق الإنسان بين الطب والقرآن.
ياربِّ أسويٌّ أو غيرُ سويٍّ؟ فيجعله الله سويّاً أو غيرَ سويٍّ. ثم يقول: يا ربِّ ما رزقه؟ ما أجله؟ ما خُلُقُه؟ ثم يجعله شقيّاً أو سعيداً" رواه مسلم (1)
في هذا الحديث الشريف عدة أمور علمية دقيقة، لم تُعرف إلا في هذا العصر، أقتصر على ذكر بعضها.
أولاً - قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يتصوَّر عليها الملَك" التصوُّر: هو النزول من الأعلى، يقال: تصوَّر الدار، وتسوَّر الجدار، أي نزل من أعلاه (2) .
إن البويضةَ بعد تلقيحها في الثلث الأعلى من القناة الرحمية (فالوب) تنتقل منها إلى أعلى الرحم، فتغرس الخلايا المغذيةُ المحيطةُ بها استطالاتِها في مخاطية الرحم، وهي مرحلة العلوق، ثم تبدأ هذه الخلية بالانقسام والتخلق، فتصير علقة، ثم مضغة، ثم يتكوّن الغشاء المشيمي، الذي يتكون من ثلاث طبقات (3) فإذا أضيف إلى هذه الأغشية جدارُ المشيمة وجدارُ الرحم: صارت بمنزلة الجدر المحيطة بالنطفة، والأسوار القوية المنيعة الحامية لها بإذن الله تعالى، التي تمنع من وصول أي شيء إلى النطفة.
يضاف إلى ذلك أيضاً: أن الغدةَ النخاميةَ بإصدارها الأوامر لحدوث:
أ - ما يحيط بالنطفة من الأغشية السابقة التي تمنع وصول أي شيء إليها، وتكون جدرانها قوية صلبة.
ب - ما يحيط بالنطفة من دماء سميكة وسوائل تمنع وصول أي حيوان أو غيره إليها أيضاً.
(1) صحيح مسلم: في الكتاب والباب السابقين، رقم (4) .
(2)
الذي تفيده كتب اللغة أن التصوّر بمعنى السقوط، من قولهم: ضربته ضربة فتصوّر منها، أي: سقط. انظر النهاية لابن الأثير: 3/60، والقاموس، والتاج (صور) .
(3)
انظر: الوجيز في علم الأجنة وخلق الإنسان (201 ـ وما بعد) وعامة كتب الأجنة.
ج - إن عنق الرحم يكون - في أثناء نزول البويضة من مبيضها - واسعاً، ليسمح بولوج ملايين النطف من المهبل إلى القناة، فإذا لقحت وانتقلت إلى الرحم وعلقت بجداره؛ فإن عنق الرحم يضيق جدّاً، بحيث لا يسمح بدخول إلا النادر من النطف.
د - إن السائل الجريبي الذي يكون عند مرحلة الإخصاب كثيراً ورقيقاً جدّاً؛ ليسهل انتقال النطف إلى القناة الرحمية بسهولة؛ فإنه بعد العلوق يصبح سميكاً جدّاً جدّاً، بحيث لا يسمح بدخول النطف، فيكون كالسدّادة التي تمنع دخول أي شيء، وإن كان العنق ليس مغلقاً حقيقة، بل هو متضيق جدّاً جدّاً، كما أخبرني الأستاذ الدكتور جمال مرسي، أستاذ واستشاري أمراض النساء والولادة.
لذا فإن الملَكَ يتسوَّر هذه الجدران، ويتجاوز هذه الأسوار السميكة المانعة الحارسة - التي جعلها الله تعالى حفاظاً على هذا الجنين الذي لا يملك ما يدافع به عن نفسه - ليصوِّر الجنين، ويخلق الله تعالى على يديه ما يشاء.
ثانياً - في هذا الحديث دلالة على أن التشوه الخِلقي لا يكون قبل الأربعين من التلقيح - التي هي فترة تنامي الجنين - وإنما يكون بعدها، وذلك في الفترة التي يكتب فيها الملَك جنس الجنين وعمرَه ورزقَه وخُلقَه،
…
إلخ
قال الدكتور محمود ناظم نسيمي رحمه الله تعالى (1) : لقد اكتشف أن هناك أوقاتاً خاصة من تنامي الجنين تكون فيها التشوهات محرَّضةً بعوامل خارجية، وأن هناك فترات خاصة - محددة بدقة - بالنسبة للتشوهات النوعية المختلفة:
(1) الطب النبوي والعلم الحديث (3: 344) وأخذه عن النشأة الأولى.
ففي الدور المبكر - من التكاثر الخلوي - يصعب أن تثير أيُّ عوامل حدوثَ التشوهات، وإذا ما قدِّر وأصيبت المضغةُ بعامل ماسخ لها، فربما تهلك. أما إذا نجت من أثر ذلك العامل، فإنها تتنامى مخلوقاً سويّاً باستبدال الخلايا المتأذية.
وكذلك في المراحل المتأخرة من التنامي؛ إذ يصعب أيضاً، ويندر أن تنشأ تشوهات، لأن العمليات المؤدية لنشأة الأعضاء تكون قد قطعت شوطاً بعيداً، وكادت أن تستكمل تماماً.
وبالنسبة للبشر: يفترض أن الفترة الحرجةَ أو الحسّاسة تمتد من الأسبوع الرابع للحمل وحتى الأسبوع السابع، وإن كانت التشوهات ممكنةَ الحدوث حتى في الشهر الثالث، ولكن بنسبة أقل بكثير.
فمصير الجنين - من حيث السواء، أو التشوه - يتحدد في الأسبوع السابع من التنامي بشكل عام.
قلت: إن حصل التشوه قبل الأربعين فله حالتان: إما أن تُستبدل بالخلايا التي شوِّهت أخرى سليمة، ويزول التشوه بإذن الله تعالى، وإما أن يسقط الجنين، إذا كان التشوه كاملا. وأما في المراحل المتأخرة من الحمل فيندر وقوع التشوه، لأن الجنين قد اكتملت صورته وأعضاؤه، وإن كان التشوه ممكناً كما هو الحال في الإنسان بعد ولادته وكبره.
إنما يتحدد مصير الجنين في فترة سؤال الملك، فإن كان الله تعالى قد قدَّر أن يكون مشوَّهاً كتبه الملك وكان كذلك، وبقي حتى يخرج إلى الدنيا وهو كذلك، وإن قدَّر تعالى أنه سليم كتبه الملك كذلك، وبقي كذلك حتى يخرج إلى الدنيا وهو كذلك، والله تعالى أعلم.