الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في خلق الأعمال وما يتعلق به
أما مذهب إمام الحرمين وجمهور الفلاسفة وأبي الحسين البصري من المعتزلة فهو أن الله تعالى يوجد للعبد القدرة والإرادة، ثم تلك القدرة والإرادة يوجبان وجود المقدور.
ومذهب أكثر المعتزلة أن القدرة الحادثة موجبة الحدوث مقدورها، وإنه لا تأثير للقدرة القديمة فيه.
ومذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه والقاضي أبي بكر الباقلاني في أحد أقواله والبخاري من المعتزلة إنه لا تأثير للقدرة الحادثة في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاته وإن أجرى الله العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله إبداعاً وأحداثاً وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته.
واختلف في تفسير الكسب على قولين: (أحدهما) أن ذات الفعل تحصل بقدرة الله تعالى وكونه طاعة ومعصية، كما في لطم اليتيم تأديباً وإيذاء صفات له تابعة لوجوده يحصل بقدرة العبد، لأن مفهوم الفعل أعم من خصوص كونه قياماً وقعوداً وما به التمايز غير ما به الاتحاد، فما به التمايز هو الكسب. صرح بذلك الأبهري في شرح المواقف وبعض شراح الطوال، ولكن المشهور إيراده مذهباً للقاضي أبي بكر الباقلاني وأخذاً من أقواله.
(القول الثاني) وهو المشهور في تفسير الكسب إنه تصميم العزم على الفعل، على معنى أن الله تعالى أجرى عادته بأن العبد إذا صمم العزم على المعصية يخلق الله تعالى فعل المعصية فيه، فالعبد وإن لم يكن موجداً إلا إنه كالموجد. واستدلت الأشاعرة على مطلوبهم بمسالك كثيرة ضعفها الآمدي في أبكار الأفكار، ولم يرتض منها إلا مسلكين أخصرهما لو كان العبد خالقا لأفعال نفسه للزم وجود خالق غير الله، ووجود خالق غير الله محال، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
وأما المعتزلة فاستدلوا على مذهبهم بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد، وهو إنه لولا استقلال العبد بالفعل لبطل مدح العباد وذمهم على الطاعات والمعاصي، إذ لا يمدح زيد ولا يذم بما يفعله عمرو من طاعة أو معصية، وإلا ارتفع الثواب والعقاب لأن العبد إذا لم يكن موجداً لفعله لم يستحق ثوابا ولا عقاباً، وكان الله
مبتدئا بالثواب والعقاب من غير استحقاق من العبد لذلك، ولو
كان كذلك لجاز عقاب الأنبياء وثواب الكفرة الأغبياء، ولم يبق لأحد وثوق بعمله. ولا يخفى ما في ذلك من تشويش الدين والخبط في الشريعة.
وأيضاً لولا الاستقلال لبطل التكليف بالأوامر والنواهي والتأديب، لأنه إذا لم يكن العبد موجداً لأفعاله فكيف يصح عقلا أن يقال: ائت بفعل الإيمان والصلاة والزكاة ولا تأت بالكفر وشرب الخمر والزنا، لأنه تكليف بما لا يطاق، وليطل أيضاً فائدة بعث الأنبياء، وهي دعوة المكلفين إلى فعل الطاعات وزجرهم عن المعاصي إذا لم يصدر منهم عمل فيلزم التكليف بما لا يطاق.
والجواب بمنع الملازمات: أما في المدح والذم فلأنهما باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية، إذ لا يجوز أن يمدح الشيء لحسنه وسلامته ويذم لقبحه وعاهته، فتمدح الجوهرة لحسنها وصفائها ونقائها من العيوب. وأما الثواب والعقاب فلأن عادة الله جارية على خلق الثواب عقيب خلق الطاعات وعلى خلق العقاب عقيب خلق المعاصي، لا أن العبد يوجد الطاعة والمعصية وهما يوجبانهما، كما يخلق الشبع عقيب خلق الأكل والاحتراق عقيب مسيس النار وإن قدر على أن يخلقها ابتداء.
وقولهم: (لو لم يكن الثواب جزاء فعل العبد لجاز عقاب الأنبياء وثواب الكفرة) قلنا: مسلم ولكن جوازاً تحيله العادة أو لا تحيله العادة الأول مسلم والثاني ممنوع، فلا يشك في انتفاء ما ذكروه وان كان جائزاً عقلا، وأما حديث التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فلأنها قد تكون دواعي الفعل وأجرى الله العادة بترتيب آثارها عليها.
وتخليصه أن الأشاعرة لما وردت عليهم هذه الشبهة ورأوا أيضاً تفرقة بديهية بين ما نزاوله من الأفعال الاختيارية ومن حركة المسحور على وجهه والمرتعش، وذادهم ومنعهم البرهان الدال على أن الله خالق كل شيء عن أضافه الفعل إلى
اختيار العبد مطلقاً جمعوا بين الأمرين واثبتوا الكسب على التفسيرين السابقين، فإما أن يقال كون خصوص الفعل من كونه طاعة ومعصية واقعاً بقدرة العبد كاف في تكليفه وتأديبه ودعوته، وأما أن يقال العبد إذا صمم على الطاعة يخلق الله فعل المعصية فيه وإذا صمم على الطاعة يخلق الله فعل الطاعة فيه. وعلى هذا يكون العبد كالموجد لفعله وان لم يكن موجداً، وهذا القدر كاف في التكليف والتأديب والدعوة.
وهذا أيضاً مشكل، لأن الدواعي والتصميم على فعل من الأفعال مخلوق لله تعالى، فلا مدخل للعبد أصلا. ووجه الاعتذار عن هذا الإشكال كما
قرره الأصفهاني أن الله تعالى يوجد القدرة والإرادة في العبد ويجعلهما بحيث لهما مدخل في الفعل لا بأن تكون القدرة والإرادة لذاتهما اقتضت أن لهما مدخلا في الفعل، بل كونهما بحيث لهما مدخل بخلق الله إياهما على هذا الوجه ثم يقع الفعل بهما، فإنه جميع المخلوقات يخلق الله بعضها بلا واسطة وبعضها بوساطة أسباب، لا بأن تكون تلك الوسائط والأسباب لذاتها اقتضت أن يكون لها مدخل في وجود المسببات. بل بأن خلقها الله تعالى بحيث لها مدخل، فتكون الأفعال الاختيارية المنسوبة إلى العبد مخلوقة لله تعالى، أو مقدورة للعبد بقدرة خلقها الله تعالى في العبد وجعلها بحيث لها مدخل في الفعل.
والغرض من هذا الفصل إقامة الحجة على المفلوكين وقطع معاذيرهم وإلجامهم عن التعلق بالقضاء والقدر، وإنه متى نعيت إليهم فلاكتهم أو نودى عليهم بها كان ذلك متجهاً مخيلاً، لأنهم إما فاعلوها استقلالا أو مشاركة وأما بالمحلية والمدخلية على ما سبق تحقيقه.
ولو سلم أن ذلك من باب القضاء والقدر الصرف أو فرضت فلاكة سماوية صرفة، فكلمات العلماء في مجاري أبحاثهم طافحة بأن القضاء والقدر لا يحتج
به، وذلك لما روى مسلم في صحيحه {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتمع آدم مع موسى فقال له موسى: يا آدم أنت خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة. قال صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى}.
قال النووي في شرحه: فإن قلت: فإن العاصي منا لو قال هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك وان كان صادقاً فيما قاله. فالجواب أن هذا العاصي باق في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومة وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل، وهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يكن في القول المذكور له فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل - انتهى.
فانظر كيف اعترف بحجية السؤال واعتذر في الجواب بأن الحديث ليس منه، والقضاء والقدر وإن لم يحتج به في الدنيا فجائز أن يحتج به الأنبياء في الآخرة لعلو مقامهم عن الإيذاء والتخجيل، وإذا ثبت أن القضاء والقدر لا يحتج به في المعاصي فغيرها كذلك، إذ لا قائل بالفرق أو المقايسة، لأن العلة التي اقتضت المنع من الإحتجاج بالقدر في المعاصي مطردة في غيرها من أقداره تعالى بالمناسبة والاخالة.