الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نوراً وإضاءة أن القمر لما كان نوره مستفاداً من الشمس كان تشبيه العالم الذي نوره مستفاد من شمس الرسالة بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس.
وأيضاً فنور القمر يتفاوت الليالي نقصاناً وتماماً، والشمس نورها في كل الأيام على السواء، والعلماء يتفاوتون في العلم تفاوتاً كثيراً، فتشبيههم بالقمر أنسب لحالهم.
وأما تشبيه العلماء بالنجوم في قوله صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم) فمن وجه آخر وله حكمة أخرى، فإن النجوم يقتدى بها في ظلمات البر والبحر وتكون رجوماً للشياطين، والعلماء كذلك يقتدى بهم في ظلمات الجهل والكفر وترجم بهم الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم زخرف القول غروراً.
الفصل السابع
في السبب في غلبة الفلاكة والإهمال والإملاق
على نوع الإنسان وبيان ذلك
اعلم أن المفلوكية والإهمال والإملاق غالب على جنس البشر، والسبب في أن غالب البشر يرمقون العيش ترميقا ويدافعون إخفاق المساعي مدافعة ويتسكعون في طرق الإملاق أو فوقه بقليل تسكعاً أن السيادة والمجد والثروة والغنى وأشباهها إما مكتسبة وأما موروثة، فأما المكتسبة فما سوى الإمارة من المعاش الطبيعي أما تجارة أو فلاحة أو صناعة، فالتجارة مفتقرة إلى مادة متسعة ورأس مال كبير يدار في وجوه الأرباح والتثمير ويوزع على أنواع المتاجر لينجبر كساد بعضها
بنفاق الآخر وليستعان بالنافق على ادخار الكاسد ارتقاباً لحوالة الأسواق واستداراراً للنفاق ولكيلا يباع الكاسد في حال كساده وذهاب ربحه وفساده، وأيدي الناس خالية عن الأموال المقنعة القابلة لمثل ذلك غالباً.
وأيضاً فهي محتاجة إلى بصيرة تامة ودراية وافية وتجربة كاملة ليؤمن بها غش الباعة وخلابتهم وترويج السماسرة كواسدهم، ومفتقرة أيضاً إلى فراسة صادقة وحدس صحيح ليضع كل سلعة في حاق موضعها زبوناً وسوماً وترخيصاً واغلاءاً وحلولا وتأجيلا وادخارا وتعجيلا، ونفوس الناس غالباً ظلمانية لخلوها عن العلوم العقلية والأعمال الرياضية، فهي بعيدة عن البصيرة.
وأيضاً فالأيدي الغاصبة الخاطفة مستولية
على التجار لمقهوريتهم مع الدولة وحامية الملك وخاصته المخادعين بالاستدانة والأرباح الكاذبة والمواعيد الباطلة والرهون الغير المملوكة والالتجاء إلى الاعسارات والحيل الشرعية والاستعانة بشهود الزور ووكلاء السوء، وربما ذلك على التاجر الماهر فعاقه وأقعده عن أمثاله حتى على رأس ماله.
وأما الفلاحة فعوارضها السماوية أكثر من أن تعد من البرد والهواء المفرطين وانقطاع المطر وكثرته في غير وقته ونزول كبار الحصى والبرد وثقيل الثلج وشدة الحر ومجيء الجراد المنتشر، وكذلك العوارض الأرضية من سوء النبت وسباخة الأرض وخبث طينها ووضع الأشياء متأخرة عن أوانها وعدم استكمالها بحرثها وشروطها ونبات الأشياء المضرة خلال الأشياء المطلوبة، ومن الجرذ والفار واليربوع، ومن رخص البقول والخضراوات وما في معناها مما لا يقل الادخار مع غلاء بذورها، ومن عدم نصيحة الملعونين فيها وخبائتهم واختلاسهم وتفويت الأعمال الكمالية المصلحية وتسليط الظلمة عليهم واستعبادهم وتوسيع شروط مقاسمتهم وفرض الفرائض والتفنن في وجوه الجبايات وأنواع الظلامات
وإلجائهم إلى بيع زراعاتهم في حال كسادها وعدم رواجها مع ما يختص به أهل البدو من رداءة العيش وخشونته والبعد عن أحوال الحضارة من الرفاهية والترف وموجودية المطالب والتحلي بالعلوم، ثم مع ذلك كله ما هم عليه من دخول المهانة في قلوبهم وظهورها في أحوالهم وعلى شمائلهم، وناهيك قوله صلى الله عليه وسلم:{ما دخلت السكة دار قوم إلا دخلها الذل} .
وأما الصناعات فلقلة الماهر الحاذق فيها. وعلى الجملة فالصنائع شاغلة لأصحابها عن الدعة والراحة والرفاهية ويطرقها الكساد كثيراً ونفاقها لا جدوى له ولا يحظى صاحبه بطائل، وأصحاب الصنائع باذلون رقهم وعبوديتهم بأقل قليل للفقير والغني والمسلم والذمي، فهم بمراحل عن الشهامة وعلو الهمة والأنفة.
ثم جهات المعاش الثلاثة مفتقرة إلى التعاون والتناصح، وقد انقطعا من كافة البشر أو عامتهم لاتساع موجبات التباغض والتماقت لكثرة مقتضيات التحاسد ولحيلولة كل واحد الآخر عن مراده الناشئة من الكبر والعجب والعداوة وخوف الازدحام على مطلوب واحد، ولفوات بعض المقاصد بكثرة الشركاء وحب المباهاة والإنفراد بالمجد وخبث النفس وفساد
جوهرها ونقص إنسانيتها.
وأيضاً يقال على وجوه المعاش الثلاث إنه كلما تجدد للإنسان دخل جدد له صرفاً، إما للمباهاة والترفع على أمثاله أو إفراطاً في الشهوات وانهماكاً في اللذات، أو خوفاً من سوء القالة والأحدوثة بتنقيص ما يقتضيه حاله، أو بإكراه مبغض لتلك النعمة عليه، أو لان الحالات المتجددة في دخله يلزمها تجدد أمور في صرفه فلا يزل الشخص مفلوكاً مهملاً غير قادر على المكارم.
وأيضاً فوجوه المجد والسيادة الكسيبة لا تصير دفعة وإنما تكون بالتدريج والترقي ومكابدة تنميتها ومعالجة زوال موانعها مع كثرة الصادين عنها والعوارض العائقة لها أمر عسير بطيء السير، فيقضي الإنسان شطر عمره أو معظمه في فلاكة
وإديار.
هذا حكم المعاش الطبيعي، وأما غير الطبيعي كالاسترزاق بالكيمياء والتنجيم والدلالة وقلم الشهادة لغير المعروف وسائر الأرزاق الهوائية الخطفية الصدفية فهي ارسخ قدماً في الفلاكة والإدبار، لأنها بمنزلة اللقطة والعثور على دفائن الأرض، لعدم انتظامها ووفاء محصولها لخمولها، فأصحابه - لاسيما غير المشهور منهم - أئمة الفلاكة وهبولاها وينابيعها ومأواها، أعاذنا الله من ذلك ومن الاختلاط بأهله آمين.
وأما الإمارة فلا ينكر أن مبادئها مشتملة على نصيب وافر من الفلاكة والإدبار، وبيانه: أن الإمرة لا تتم إلا بالمعصية والتغلب والشوكة، وفي قمع المعاند والجاحد وتأليف القلوب المتفرقة وتمهيد المسالك والقيام بحقوق لا تحصى وكثرة معاناة شدائد ومكابدة مكائد ومشاق وتعريض النفس للهلاك وكبراء الجند مستعبدون مع ملكيهم مشغولون به عن أنفسهم مقدمون لمراده على مرادهم، ولو سلم أن السلطنة خالية من الفلاكة فهي من القسم النادر والدعوى أن الفلاكة غالبة على نوع الإنسان لا أنها لازمة لكل أنواع الإنسان هذا كله من المكتسب، أما الموروث فيطرقه أنواع من الفلاكة:
(منها) امتداد أبدي الولاة والحكام إليه.
(ومنها) مذلة اليتيم وخضوعه وفقده نصيحة أبيه
(ومنها) سهولة صرف ماله عليه لعدم تحمله مشاق جمعه وتجشمه نصب الحبائل في تحصيله، فيسرع فيه بالسرف والتبذير والسفه لعدم حنكته وبصره بعواقب الأمور، ويعود يتكفف الناس.
(ومنها) عجزه لعدم مهارته ودربته عن الوفاء بمقاصد ماله والقيام بشروط تنميته وتثميره، فيذوب قليلاً قليلا إلى أن يضمحل ويتلاشى ولا يحصل