الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع
في أن التملق والخضوع وبسط أعذار الناس
والمبالغة في الاعتذار إليهم وإظهار حبهم ومناصحتهم من أحسن أحوال المفلوكين وأليق الصفات بهم وأفضاها إلى مقاصدهم وبيان الدليل على ذلك.
اعلم أن الناس لا يبذلون منافعهم وأموالهم سدى بغير غرض ولا علة لأن المتعالي عن وجوب تعليل أفعاله بالأغراض والمصالح إنما هو الله تعالى وان خالفت المعتزلة في ذلك، فلا بد للاحسان أعم من أن يكون نفعاً أو مالا قولا أو فعلا من غرض وحظ هو عند الباذل أوفى بما بذله وتحصيله عنده أحب إليه من ذلك المبذول، فكما أن الشخص لا يلقى ماله في البحر إذ لا غرض له فيه كذلك لا يضع ماله في يد إنسان ولا غرض له فيه وذلك الغرض إما آجل وهو جزيل
الثواب في الآخرة قال صلى الله عليه وسلم: {أيما امرئ اشتهى شهوة ر شهرته وآثر على نفسه غفر الله له} ، وأما عاجل في الدنيا وهو إما ترقب المكافأة بإحسان مثله نوعاً أو جنساً، أو المنة والترفع، أو الثناء والصيت والاشتهار بالسخاء والكرم، أو جذب القلوب إلى طاعته ومحبته واستسخارهم. أو إزالة مذمة البخل وخبثه والنقرة الحاصلة للبخلاء واستقباحهم عنه، أو إزاحة حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة عن قلبه، أو إزاحة رقة الجنسية ورحمة النوعية عن قلبه ودفع الألم الحاصل له من الرقة بسبب سوء حال من يحسن إليه، أو دفع ألم خوف حاضر أو مترقب. والاستقراء يدل على الحصر.
ثم أن بعض هذه الأغراض أقوى من بعض وبعضها أدوم وأشد بياناً من بعض، فالإحسان بالوارد الأخروي قليل الثبوت والاستمرار إلا من وفقه الله تعالى.
وأيضا فأعمال الخير تتقارض وينوب بعضها عن بعض، والأعمال البنية أسهل على النفوس في تحصيل مطلوب الآخرة من الأعمال المالية، وبتقدير ثبوتها فإنما يثبت جنسها، وأما انحصارها في مفلوك بعينه فأقل ثبوتا بل لو قيل بعدم ثبوتها في مفلوك بعينه البتة لم يكن بعيداً، فلا يفيد المفلوك التعويل عليها.
وأما حب المنة والترفع فليس شاملا لعامة الخلق ولا لمعظمهم، لأن النفوس المستشرقة للمكارم والمعالي تأباه وتنفر عنه، وإنما
ذلك غالباً ممن يصدر عنه الإحسان تكرماً وتطبعاً وتكلفاً لا طبعاً، فهو من فساد جوهر الإنسانية.
وقولنا (لا يكون غالباً) لأن الكلام فيمن يصدر منه الإحسان لا في مطلق الإنسان، فلا يجمل بالمفلوك جعله رأس ماله، لأنه حينئذ يكون قد رضي بأقل الناس عدداً وأفسدهم جوهراً.
وأما حب الثناء والصيت والاشتهار بالسخاء والكرم فلذلك يقتضي وضع المكارم في الناس على البدل والنوبة وتعميم العطاء للنظير والأعلى والأدنى، ويكتفي من
الواحد بالشخص بالمرة والمرتين والثلاثة، لأن الغرض إقامة الحجة وبسط المعذرة، فلا يحسن أيضاً بمفلوك التعلق بمحسن هذا عرضه، لأنه ماذا عسى أن يحصل من المرة والمرتين، ولأن العطاء العام قد لا يصادفه، لأن الاستدلال بالأعم على الأخص ممتنع.
وأما جذب القلوب إلى الطاعة والمحبة والإستخسار فهو أيضاً مما لا يوصل مفلوكاً إلى غاية ولا إلى مطلب يؤبه له، وقصاراه أن يوصله إلى مبادئ الخير، لان الغرض إقامة الحجة عليه واستعباده، وذلك يحصل بأدنى مرتبة يمكن استبعاد مثله بها.
وأما إزالة مذمة البخل ووضره ونفرته فلا يختص بإضافة الإحسان على المفاليك، بل قد يحصل بتنعيم النفس وإظهار بزتها وزينتها وبالبسط على العيال وضيافة النظير أو المساوي في المنزلة.
وأما إزاحة رقة الجنسية فتستدعي حالا غير مرضية تستنزل بها الرحمة زيادة على الفلاكة، إذ الفلاكة الدائمة تعتاد وتؤلف فيضعف كونها طريقاً للرحمة، وتلك الحال الزائدة تربو على الإحسان مرارها أضعافاً مضاعفة.
ثم إن رقة الجنسية من أمور الآخرة، وفيه من البحث ما تقدم، ولذلك كانت إزالة حب الدنيا عن القلب من أمور الآخرة، وفيه من البحث ما تقدم.
وإذن تقرر أن الناس لا يبذلون منافعهم وأموالهم بغير غرض، بل لا بد لهم من غرض إما عاجل أو آجل، والمفلوك تمنعه الفلاكة عن المكافأة على الإحسان بإحسان مثله، وتمنعه أيضاً من الإحافة، والأمور التي مرجعها الآخرة لا تبقى ويكتفي ببعض أعمال الخير البدنية عنها وغيرها لا يخص مفلوكا بعينه ولا يوصله إلى غاية يؤبه لها.
ثم أن ما سوى رقة الجنسية أمور راجعة إلى الباذل وحده، فلا بد في المفلوك من
تحريك بواعث الناس بأمر يرجع نفعه إليهم ويكون وصفاً للمفلوك نفسه ويدخل تحت قدرته دائماً، لتبقى داعية الإنسان متحركة دائما لا تسكن
لقدرة على تحريكها كل وقت، فبخضوعه وتملقه تظهر سيادتهم وعزهم ويؤمن كبر المفلوك عليهم وتيهه وصلفه بإسعافهم بمراده، وببسط أعذارهم يأمنون حقده فيعاودون الإحسان إليه وإن سلقوه إساءة وأذى، لأن الإساءة طبيعية للبشر للقوة الغضبية، ولما أن في القلب ميلا للأخلاق السبعية، ولأن في النفوس محاكاة في الشر، ولأن دخول الشر تحت القدرة أكثر من دخول الخير كالصداقة والعداوة والبناء والهدم، والمفلوك مظنة للإساءة إليه لوجود المقتضى وانتفاء المانع، فلا بد أن تعمل الطبيعة فيه عملها، ولا دواء لهذا الداء إلا بسط الإعذار. قال أبو الحوائر الواسطي:
دع الناس طراً واصرف الود عنهم
…
إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح
فشيئان معدومان في الأرض درهم
…
حلال وخلّ في الحقيقة ناصح
وقال بشار بن برد:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
…
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وبالمبالغة في الاعتذار إليهم يتجاوز عن تقصيره وقصوره وعجزه اللوازم للفلاكة، لان للأغنياء شوافع من غناهم عن ذنوبهم قد تغنيهم عن الاعتذار بخلاف المفاليك، وبإظهار حبهم ومناصحتهم يجدون فيه روحاً ونفعاً راجعاً إليهم، فيكون إسعافهم له بمراده من لوازم سيادتهم راجع بالآخرة إليهم.
ولكون هذه الأمور أكثر إفضاءاً بالمفاليك إلى مقاصدهم تجد الأسافل ترتفع على الأعالي كثيراً، لأن نفوس الأدنياء لا تأنف من الخضوع والتملق بخلاف الأعالي، وقلما تخلو دولة من ذلك.
والسبب فيه أن الدولة إذا انقرضت وجاءت دولة أخرى فأصحاب الدولة الأولى يكونون في نهاية سعادتهم، ففيهم شمم وأنفة ومطالبة لصاحب الدولة الجديدة
بحقوق لم يعطوه عليها ثمناً بل هي مما أوجبها خدمتهم في الدولة الأولى، والوقت سيف والحكم للوقت، ولصاحب الدولة الجديدة نصحاء ومتملقون وان سفلت بهم المرتبة، وسياسة الملك تقتضي تقديم من في تقديمه نظامه وأبهته، لأجرم ترتفع الأسافل على الأعالي كثيراً.
اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، يا خالق الأسباب والمسببات والدواعي والبواعث والعزمات لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وأشهدنا عظيم رحمتك حتى لا نرجو أحداً سواك، وتجل علينا ببالغ قدرتك حتى