الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمرة أموالهم وتكسباتهم بأعمالهم، حتى لو فرضنا خصاً خالياً من المال والتكسب لم يكن إلا حاذاً مكدياً، وعلى قدر احتياج الناس إلى نوع ذلك المال ونوع ذلك التكسب يكون نفاقه بينهم، وبقدر نفاقه تعظم ثروة صاحبه وغناه، فلذلك لا تعظم ثروة أصحاب منصب القضاء والفتوى والتدريس غالباً وذلك لعدم احتياج جمهور الناس إلى ما بأيديهم احتياجاً لازماً لا مندوحة عنه، لما أن الأمور المفتقرة إلى القضاء تنفصل بغير قضاء تارة لرجوع المبطل عن عناده لوازع دين أو عار أو خوف مترقب أو نحوها، وتنفصل
بالسياسة وبوجوه الناس تارة أخرى، ولما أن العلوم مباينة لطبائع البعض ومهجورة عند البعض ومستثقلة على البعض.
الفصل السادس
في مصير العلوم كمالات نفسانية وطاعة من الطاعات
ليس إلا بعد كونها صناعة من جملة الصناعات وحرفة من الحرف
هذه الدعوة مركبة من ثلاثة أمور: (الأمر الأول) أن العلوم كانت حرفة من الحرف وصناعة من الصنائع. (الأمر الثاني) أن العلوم الآن خرجت عن كونها صناعة وزال منها معنى الاحتراف والصنعة. (الأمر الثالث) كونها كمالات وطاعات.
وبيان ذلك يفتقر إلى مقدمتين:
(المقدمة الأولى) أن هذه الريعة ناسخة لجميع الرائع وأحكامها باقية بقاء الدهر. ثم أن الأحكام كلها متلقاة من الله تعالى ولا مدخل للعقل في إيجاب ولا تحريم ولا غيرهما، ولذلك قيل في حد الحكم الشرعي خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، فقيل (خطاب الله) لأن السنة والإجماع والقياس ترجع إليه بالآخرة. والكتاب والسنة والحكم الرعي مفتقر إلى العلوم بأسرها. وبيانه إنه بالنظر إلى المفرد الذي يستدل به وصحته في حالة إفراده يفتقر إلى علم الصرف، وأن النظر في صحة التركيب يفتقر إلى علم النحو، وفي تطبيق اللفظ على مدلوله يفتقر إلى علم اللغة، وفي إظهاره وإضماره والتفاته وتقديمه وتأخيره ونحوها مما يرجع إلى مطابقة اللفظ لمقتضى الحال إلى علم المعاني، وفي حقيقته ومجازه وكنايته واستعارته ونحوها مما يرجع إلى إيراد
العلمين إلى علم البديع، وبالنظر في خاصه وعامه ومطلقه ومقيده ومجمله ونحو ذلك إلى المعنى الواحد في طرق مختلفة في وضوح الدلالة إلى علم البيان، وبالنظر إلى توابع هذين طائفة من علم أصول الفقه، وفي مواقع القرآن إلى أسباب النزول، وفي استيضاح معانيه إلى علم التفسير، وفي نزوله على حروف متعددة إلى علم القراءات، وفي الاستدلال به وترتيب الأدلة إلى علم المنطق والجدل وآداب البحث، وفي الأحكام المستفادة منه وبواسطته إلى الفقه، وفي استنباط الفقه إلى أصول الفقه، وان النظر في السنة يستلزم علم رواية السنة وحفظها وعلم الحديث والناسخ والمنسوخ وأسماء الرواة وكناهم وألقابهم ومشتبه أنسابهم وجرحهم وتعديلهم ووفاتهم والأخبار والقصص. وإن النظر في الشارع يفتقر إلى علم الكلام.
ثم أن العلوم بعضها مربوط ببعض ومتعلق به إما على سبيل الاستلزام أو على سبيل الاستمداد، وهذه العلوم المذكورة تستلزم جملة من علوم الحكماء والأوائل ولو بواسطة أو وسائط، كاستلزام الفقه بواسطة الفرائض والإقرارات المجهولة علم الحساب وهو الارتماطيقي وعلم الجبر والمقابلة، وبواسطة اختلاف أحكام الوصية وما في معناها بالمرض المخوف وغيره وإباحة التيمم بالمرض ونحوه إلى علم الطب، وكاستلزام علم الكلام للطبيعة والرياضة والمنطق، وكاستلزام تعيين معرفة القبلة على كل واحد في رأي الرافعي أو على مريد السفر في رأي النووي وهو من الفقه معرفة طائفة من الهيئة، وكذلك معرفة دخول الوقت، واستلزام الاستشهاد بالشعر في النحو والتفسير علم العروض، وعلى هذا القياس قس تجد العلوم مرتبطة بعضها ببعض بالاستلزام أو الاستمداد.
(المقدمة الثانية) أن الحفاظ للقرآن بكماله في عصره صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبو زيد سعيد بن عمر الأنصاري وأبو الدرداء عويمر وزيد بن ثابت، وفي قول وعثمان بن عفان وتميم الداري وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري.
وأصحاب الإفتاء في عصره صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن حوف وأبي بن كعب وعبد الله ابن مسعود ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة وزيد بن ثابت وسلمان وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري.
ثم انتهت أصول العلم إلى عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله ابن عباس، فأخذ عن ابن مسعود ستة علقمة
والأسود وعبيدة والحرث ابن قيس ومسروق وعمرو بن شرحبيل، وأخذ عن زيد بن ثابت أحد عشر رجلا ممن كان يتبع رأيه ويقتدى بقوله قبيصة بن ذؤيب وخارجة ابن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث والقاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله وسعيد بن المسيب وأبان بن عثمان وسليمان بن يسار، وأخذ عن ابن عباس ستة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد وجابر بن زيد وطاووس - هكذا رواه أبو بكر الخطيب بإسناده عن علي المديني، وروى الحاكم أبو عبد الله عن ابن العباس الأصم عن العباس الدوري قال: انتهى علم الصحابة إلى ستة عمر وعلي وابن مسعود وأبي ابن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت - انتهى.
وانتهت أصول الرواية إلى ستة أبي هريرة وأنس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وعائشة، وانتهت أصول الأخبار والقصص إلى ستة عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه وطاووس اليماني ومحمد بن اسحق ومحمد بن عمر الواقدي، وانتهت صناعة التفسير إلى ستة عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك والسدى هكذا ذكر هذا كله جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي في كتابه المسمى تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير.
ثم صار الأمر من بعده صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الصديق واسمه عبد الله بن عثمان، بويع له في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، ثم بويع له البيعة العامة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وتوفي لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة، فكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال.
ثم استخلف عمر بن الخطاب يوم وفاة أبي بكر بنصه عليه، ثم قتل لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام.
ثم استخلف عثمان بن عفان أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وأياماً.
ثم استخلف علي بن أبي طالب، وقتل في رمضان سنة أربعين في يوم الجمعة، وكانت خلافته
أربع سنين وتسعة أشهر وأياماً.
ثم بايع الناس الحسن بن علي يوم موته، فوليها سبعة أشهر وأحد عشر يوماً ويقال أربعة أشهر، ثم كره سفك الدماء فتخلى عن الأمر لمعاوية وانخلع وبايعه في جمادي الأولى سنة إحدى وأربعين، فانتقل الأمر إلى بني أمية وخلص لهم ثنتين وثمانين سنة ألف شهر، وعدتهم أربعة عشر رجلا أولهم معاوية وخلافته سبع عشرة سنة وثلاثة أشهر وآخرهم مروان بن محمد ابن مروان بن الحكم ومدة ولايته نحو من ثمان سنين.
وبعد معاوية يزيد بن معاوية، وكانت ولايته ثلاث سنين وشهرين ثم بويع لابنه معاوية بن يزيد، فمكث أربعين ليلة ثم مات، وقيل خلع نفسه لصعوبة الأمر عليه.
ثم بويع لعبد الله بن الزبير بمكة لسبع خلون من رجب سنة أربع وستين، ثم قام
مروان بن الحكم بالشام بعد بيعة ابن الزبير بأشهر فبايعه جماعة من أهل الشام، وذلك في المنتصف من ذي القعدة سنة أربع وستين ثم مات في رمضان سنة 65 فكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً.
فقام مقامه عبد الملك ابنه وجهز العساكر مع الحجاج بن يوسف لقتال ابن الزبير، وقتل ابن الزبير في المسجد الحرام بمكة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وكانت ولايته تسعة أعوام وشهرين ونصفاً.
ثم ولي الوليد بن عبد الملك وتوفي سنة 96 فكانت ولايته تسع سنين وخمسة أشهر، ثم استخلف أخوه سليمان بن عبد الملك وتوفي سنة 99 فكانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر، ثم استخلف عمر بن العزيز وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، ثم استخلف يزيد بن عبد الملك وكانت خلافته أربع سنين وشهراً، ثم استخلف أخاه هشام بن عبد الملك وكانت ولايته تسعة عشر عاماً وسبعة أشهر وعشرة أيام، ثم استخلف الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكانت خلافته سنة وشهرين، ثم استخلف يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكانت خلافته أربع سنين وشهراً، ثم استخلف أخاه هشام بن عبد الملك وكانت ولايته تسعة عشر عاماً وسبعة أشهر وعشرة أيام، ثم استخلف الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكانت خلافته سنة وشهرين، ثم استخلف يزيد بن الوليد بن عبد الملك، ثم بويع أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الملك، ثم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وقتل سنة 132 هجرية.
ثم انتقل الأمر إلى بني العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فتولى أبو العباس السفاح واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في ربيع الأول وقيل لآخر سنة 132 وتوفي في ذي الحجة سنة 136، فكانت خلافته أربع سنين وعشرة
أشهر.
ثم تولى بعده أخوه المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد، وكان اكبر سناً منه وحج فتوفي لسبع خلون من ذي الحجة سنة 158، فكانت ولايته اثنين وعشرين سنة إلا شهراً.
ثم ولي المهدي بن محمد بن عبد الله بمكة وتوفي لثمان بقين من المحرم سنة 169، وكانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوماً.
ثم ولى ابنه الهادي موسى بن محمد، وكانت خلافته أربعة عشر شهراً وإحدى وعشرين يوماً.
ثم ولى بعده أخوه الرشيد أبو جعفر هارون بن محمد، فكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستة عشر يوماً.
ثم ولى بعده ابنه الأمين أبو عبد الله محمد بن هارون وقتل في المحرم سنة 198، وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وأربعة وعشرين يوماً.
ثم ولى أخوه المأمون عبد الله بن هارون في المحرم ومات ببلاد الروم لثمان خلون من رجب سنة 218، فكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوماً.
ثم تتابع العباسيون واحداً واحدا إلى أن ختموا بالمستعصم أبي أحمد عبد الله بن المنتصر بالله أبي جعفر منصور، وكانت عدة خلفاء بني العباس سبعة وثلاثين خليفة وجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جمع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فقد خرج عن بني العباس بلاد المغرب.
وإنما ذكرت هذه المقدمة بطولها لتعرف ترتيب الدول، فإن تغير الأحوال إنما هو بتغيير الملوك وتتجدد العوائد بحسب أحوال الملوك وسيتضح لك ذلك بإذن الله تعالى.
إذا تقرر ذلك فاعلم أن العلوم الإسلامية لم تكن مدونة ولكن اقتضتها الشريعة اقتضاء واستلزمتها لزوماً وأفاضتها إفاضة كما تقرر في المقدمة الأولى وتلقت الصحابة أصولها من حضرته صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم الوحي وتفقههم بأسباب النزول وما أفاضته عليهم أنوار النبوة، ثم ثابروا على الحق وتساءلوا وتناظروا واجتهدوا وتراجعوا عند اختلافهم إلى من عنده مزيد علم بالمختلف فيه، وتواصوا وتعاونوا على إمضاء الشريعة وتشييعها وإلزام الناس بها وإكرام حملتها وملوك الناس علماؤهم والعلماء الكبار قليلون كما مر في المقدمة الثانية، على ما هو العادة في الأمور المبتدئة كيف تكون في مبدئها وأولها قليلة، وما ظنك بالشيء المحتاج إليه مع قلته. ويلزم من ذلك كله وفور الداعية في تحصيل العلم ومزيد الاعتناء به
والرغبة فيه، ولذلك كانت الفضائل والكمالات والعلوم تأخذ في الازدياد والنمو لتفاق أصحابها ولبقاء أنوار النبوة غضة طرية بين الناس، وكلما ازدادت الشريعة تمهيداً ونشراً ازدادت الصحابة وحاشاهم من تعلق هممهم بالدنيا سيادة ويسراً، فلقد كثر المال في خلافة عثمان بن عفان كثرة بالغة لم يكثر قبلها في خلافة من تقدمه حتى جاء نصيب الفارس في غزوة افريقية ثلاثة آلاف دينار أو عشرين ألف دينار، فأطلقها كلها عثمان رضي الله عنه في يوم واحد لآل الحكم ويقال لآل مروان.
ثم صارت الخلافة من الخلفاء الأربعة والحسن رضي الله عنهم إلى الأمويين فالعباسيين على ما تقدم في المقدمة الثانية، وهم ما بين صحابي وتابعي ومدل بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم والشريعة التي العلوم خدمتها شريعة قريبهم وصاحبهم وسيادتهم وفخرهم، واستيلاؤهم على الممالك به صلى الله عليه وسلم وبشريعته المستلزمة للعلوم على ما مر في المقدمة الأولى فكيف لا تأخذ العلوم في الانتشار والملوك والأمراء والأعيان والقضاة والوزراء هم أهل العلم والفضل
والعقل أو الممدحين الكمل، وشهرتهم وذكر أسمائهم في غالب خطب كتب الأقدمين تغمى عن عدهم بالأسماء، فقل أن يخلو كتاب من كتب العلماء الأقدمين خصوصاً في العلوم العقلية والأدبية إلا ويذكر فيه أن الباعث على تدوينه وزير أو قاض أو أمير أو من في معناهم، ويلزم من ذلك قوة داعية التعلم وتوفر الإرادة له، لما أن المجانسة واتحاد المقاصد والتعاون على مقصد واحد واستمداد العلماء بعضهم من بعض وزيادة العلم ورسوخه بالبحث فيه والمذاكرة له كل ذلك مقتض للألفة والمحبة والاختلاط والعناية، وألفة الملوك والأعيان ومحبتهم والاختلاط بهم يقتضي تأليفهم ومن يحبونه إلى مقاصده ومآربه، ولذلك بنيت المدارس بألوف الدنانير لجنس العلماء أو لواحد منهم بالقصد الأول ولجنسهم بالقصد الثاني واتسع الحال بالعلماء أنفسهم حتى بنواهم لبني نوعهم مدارس كثيرة وكتب التاريخ طافحة بهذا.
ولذلك أيضاً بذلت الألوف في الإرشاد إلى تصحيح كلمة أو مساعدة على مقصد علمي، كحكاية النضر بن شميل مع المأمون وإنه أمر له بخمسين ألف درهم يقبضها من الفضل بن سهل على أن أرشده إلى أن السداد الذي بمعنى البلغة وسد الثلمة بكسر السين لا بفتحها، وان الفضل زاده من عند نفسه لذلك ثلاثين ألف درهم فتم له ثمانون
ألف درهم. وكحكاية أبي عثمان المازني وإحضار الواثق إياه من البصرة ليسأله عن نصب رجل أو رفعه في قول العرجي:
أظلوم أن مصابكم رجلا
…
أهدى السلام تحية ظلم
وأمره على توجيهه إياه بألف دينار. وكحكاية أحمد بن دعلج أبو محمد السجزي الفقيه المعدل المحدث الرئيس صاحب الأموال الجزيلة التي أنفق أكثرها في العلم وأهله المتوفى عن ثلاثمائة ألف دينار سنة 351، حيث بعث بمسنده إلى ابن عقدة لينظر فيه وجعل في الأجزاء بين كل ورقتين ديناراً. وكحكاية عبد الله بن طاهر
حيث رتب للقاسم بن سلام أبي عبيد في كل شهر عشرة ألف درهم لما وضع كتابه في غريب الحديث وقال له: أن عقلاً يعين صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق أن لا يحوج لطلب المعاش. وكحكاية علي بن محمد بن الفرات من إنه كان ينفق على خمسة آلاف من العلماء والعباد ويجرى عليهم نفقات كل شهر، وكغير ذلك من أخبار المدح والكلمات العلمية مما يغني تواتره المعنوي عن الإطالة به.
ولذلك أيضاً كان التقريب والتبعيد والضعة والشرف على حسب الاستعداد والاستحقاق، وذلك كله يستلزم كون العلوم والكمالات صنعة من الصنائع وحرفة من الحرف، لما لن الناس كانوا يرون احتياجهم إلى العلماء فوق احتياجهم إلى الحاكة والباعة والصناع وباقي الحرف أضعافاً مضاعفة.
وكان العلماء يسترزقون بعلومهم ومعارفهم ويتخذونها ذرائع ووسائل إلى مقاصدهم فوق استرزاق الحاكة والخاطة أضعافاً مضاعفة، فلذلك اتسع نطاق العلم ودونت الدواوين وصنفت الكتب وهذبت ورتبت وبسطت واختصرت واستبحر العلم استبحاراً وذخرت أمواجه وأخذ إلى أبعد مسافة من أقطار الأرض شرقاً وغرباً، حتى أن علوم الشريعة كلها من التفسير والنحو والأصول والمعاني والحديث أكثر أصحابها العجم على بعد قطرهم، مع أن صاحب الشريعة عربي وكتابه عربي والمتلقون عنه وهم الصحابة عرب.
ولذلك سبب اذكره استطراداً، وهو أن الشريعة لما استلزمت العلم على ما مر وكان العلماء هم الملوك والأعيان وكان نفاق العلماء والاحتياج إليهم فوق نفاق الخياط والحداد والحائك والاحتياج إليه
واسترزاق العلماء بعلمهم فوق استرزاق هؤلاء بحرفتهم صار العلم حرفة من الحرف على ما تقدم، وقاعدة الحرف أن موجوديتها وكثرتها ومهارة أهلها يدور مع التمدن والحضارة، فكلما ازداد القطر تمدناً وحضارة ازدادت الحرف إحكاماً ومهارة، فلذلك لا تجد في القرى من
المصنوعات ما يوجد في المدن ولا في صغير المدن ما يوجد في كبيرها، لما أن رواج الحرف ونفاقها هو سر موجوديتها وإحكامها، لأن الناس لا يضعون سلعهم حيث لا تقبل أو لا تنفق، وكبر المدينة وكثرة أهلها يستلزم النفاق لاحتياج الناس واختلاف أغراضهم وهممهم احتياجاً على البدل والتناوب إلى المصنوعات، واستلزام ذلك الحكم البدلية والنوبة عدم الشعور والخلو واقتضائه للنفاق، لأن توزيع المجموع على المجموع مع الكثرة على البدل والنوبة مستلزم لذلك لا محالة. ومملكة فارس والعجم كانت أكثر تمدناً وحضارة، فلذلك انتشرت العلوم فيها وأحكمت إحكاماً بليغاً إلى حد لا يوجد في غيرها لكثرة ناسها وعظم مملكتها. هذا كله في تبيين أن العلوم كانت صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف.
(وأما الأمر الثاني) وهو أن العلوم الآن خرجت عن كونها صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف فذلك أن الحرف والدول لها شباب وهرم ولها عمر طبيعي كأعمار الحيوانات والأمور المعنوية تتراجع وتتناقص عند التناهي كالأمور الحسية، وكنا قد قدمنا أن العلوم اقتضتها الشريعة اقتضاءاً وإن الصدر الأول تشايعوا على إظهار الشريعة ولوازمها وتوابعها فراج العلم والعلماء لذلك، ولا شك أن الدول بعد الخلفاء الأربعة وان كانت فوق عصرنا هذا في الانتظام والسداد أضعافاً مضاعفة لكنها دون عصره صلى الله عليه وسلم، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية علي بن الجعد عن حماد عن سعيد بن جمهان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: {الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا} .
وخرج البيهقي في دلائل النبوة عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر
نبوة ورحمة وكانتا ملكا عضوضاً
وكانتا عتواً وجبرية وفساداً في الأمة يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبداً حتى يلقوا الله عز وجل} وخرجه أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة بنحوه مختصراً.
ولسر هذه الأحاديث تجدد في الدول بعده صلى الله عليه وسلم ما لم يكن في عصره صلى الله عليه وسلم واستعجم الملك، وتجددت فيه أحوال فارس والعجم من الملابس الفاخرة والمساكن الأنيقة والحجاب ومضاعفة الحجاب ومن الوزراء والجاويشية والجوندارية وأصناف أمراء ووظائف وأسماء لم تكن في عصره صلى الله عليه وسلم، وحدث تخطي الحدود والتعاويز وتشنيع القتل وإيقاعه بغير موجب شرعي، وزالت أحوال البداوة من خوف المذمة وشدة الحياء والكرم والتبذل في المأكل والملبس والمركب ومن اتخاذ التواضع خلقاً، وحدثت الحوادث وكثرت الخوارج والمتغلبون على العباسيين الذين يدلون بنسبهم إليه صلى الله عليه وسلم، ونزلت سيادتهم بشريعته المستلزمة للعلوم كما تقدم، فخرجت حصة من مملكة الشرق من أيدي العباسيين في دولة بني بويه على يد يحكم وغيره، ثم زالت أيديهم عن العراق كله، وخرج الحكم عنهم فيه أصلا سنة وشهوراً في أيام ارسلان البساسيري في حدود الخمسين والأربعمائة، ثم عاد إلى أن أخرجه عنهم مطلقاً واستأصلهم هلاكو بن طولى خان بني جنكيز خان.
وكان الصدر الأول يدبرون أفعالهم على محض الشريعة، ثم جاء من بعدهم فأدخلوا فيها بالاستدلال والتمحل جملة من السياسة، ثم فعلوا أموراً سياسية وهونوها على الناس بالاعتذار، ثم اتسع نطاق السياسة وأدار الملوك أحوالهم على عقولهم واحدث جنكيز. خان الياساق الذي وضعه وجعل الناس يتحاكمون إليه ويطلع إلى جبل ويزعم إنه يوحى إليه به، وأكثره مخالف لشرائع الله وكتبه وإنما هو شيء اقترحه من عند نفسه بعد الستمائة وأوحاه إليه شيطانه، وكان يكتب
ابساقه في مجلدين بخط غليظ ويحمل على بعير ويبالغ في تعظيمه، وكثرت الحوادث السياسية والأمور العقلية المخالفة للشريعة واستغناء الحكام بعقولهم مما يقتضي علي بسط العلم ويقضي إلى عدم الاحتياج إليه، فإن النفوس حكوية من شأنها المحاكاة في الشر، ومهما صدر شيء وزال بقي منه أثر في النفوس، وزواله الظاهر لا يستلزم زواله من النفوس وزوال الاستدلال به وروايته على سبيل الاستحلاء والاستحسان.
وهذا كله
يستلزم طي بساط العلم وعدم الحاجة إليه، ولما أن العلوم من لوازم الشريعة وتوابعها كما قررناه واعدنا غير مرة، وإذا ضعف العمل بالملزوم وتسوهل فيه فأولى أن يضعف العمل باللازم ويتساهل فيه، ولذلك لم يبق من العلم سوى رسومه ومعاهده كالمدارس القديمة وسوى ما يوجبه ناموس الإسلام من الاعتراف بحقه ظاهراً.
فقد اتضح عندك خروج العلوم عن كونها مظنة الاستحقاق ومطية الاسترزاق، وكيف لا وقد صارت الوظائف الدينية تباع كما يباع الفرس والحمار، وهو الذي يسمونه نزولاً وإعراضاً ويوصى بها كما يوصى بالفرس والدار، وهو الذي يسمونه نزولاً أيضاً وتورث كما تورث الأموال يأخذها الصغار والأطفال.
وأنت إذا رجعت علمت أن كثرة الحوادث الخارجة عن الشريعة تحدث في النفوس محاكاة وأثراً واستدلالاً، وان الناس على دين ملكيهم وهم بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وان الملوك أسواق يحمل إليها ما ينفق فيها، وان الصنائع تدور مع النفاق وجوداً وعدماً، وان وثوق المحترف من الباعة والحاكة والخاطة بإفضاء حرفهم إلى ثمرتها أكثر من وثوق العلماء بإفضاء علمهم إلى ثمرته الدنيوية، وأن إهمال الصنعة والاستغناء عنها بغيرها يوجب اضمحلالها زوالها، وما نسب لذلك مما تجده وتشاهده من إهمال المنطق والحكمة بالشام واستعماله بالروم والعجم تحققت
أن العلوم خرجت عن كونها صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف. اللهم إلا أن يحييها الله تعالى وينشرها ويبثها في أيام الملك المؤيد وينشرها، فهو الذي عمر المدارس بمصر والشام بمعروفه وبره وبآرائه الموفقة وساطع أمره وقهره وإحياء معالم العلم شرعه وشعره، أبقى الله دولته بقاء الفرقدين وملكه ما بين المشرقين.
(وأما الأمر الثالث) وهو كون العلوم كمالات وطاعات فهو الإنسان إنما ينفصل عن الحيوان بالنطق، وليس المراد به الصوت المنضغط في المجرى على مقاطع الحروف وإلا لكان الأخرس غير إنسان، ولا الكلمات المنتظمة وإلا لكانت الببغاء والغراب إنساناً، وإنما المراد به النفس الناطقة وهي التي لها الفكر والروية ومحبة العلم والمعرفة، وهي التي تملك الطبائع القياسية وغير القياسية وتكون فلسفية وحكمية وتبحث عن العلوم النظرية، ولها الاستدلال بظواهر الأمور على بواطنها ومعرفة ترتيب الموجودات في الوجود، وهذه القوة كمالها وحياتها بالعلم والبيان، فتميز الإنسان بما هو إنسان بالعلم والبيان وإلا فغير الإنسان
من الدواب والسباع أكثر أكلاً منه وأقوى بطشاً وأكثر جماعاً وأولاداً وأطول عمراً، وإنما يتميز عن الدواب والحيوان بعلمه وبيانه فإذا عدم العلم بقي معه القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب وهي الحيوانية المحضة فلا يبقى فيه فضل عليهم بل قد يبقى شراً منهم كما قال الله تعالى:{إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} فهؤلاء هم الجهال {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} وقال تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} سواء كان المعنى مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع من الدواب، إن مثل الذين كفروا حين ينادون كمثل دواب الذي ينعق، فهؤلاء لم يحصل لهم حقيقة الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن سائر الحيوان.
وأيضاً فالجهل من أعظم الأدواء والأمراض، وقد سماه الله مرضاً في قوله تعالى
في حق المنافقين: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً} وقوله: {وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون} وفي قوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض} فإن المراد بمرض القلب فيها مرض الجهل والشبهة، وكذلك أمراض القلب جميعاً من الشهوة وغيرها كالرياء والعجب والحسد والفخر كلها ناشئة عن الجهل، فإنها مركبة من الشهوة والشبهة، فإن الكبر مثلاً مركب من تخيل عظمته وفضله وإرادة تعظيم الخلق له ومحملتهم إياه، ودواء هذه الأمراض كلها العلم، ولذلك أكثر الغزالي رحمه الله في المهلكات من ذكر دواء العلم في كل مرض من أمراض القلوب، ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاء لما في الصدور ولذلك أيضاً ترى داء الجهل متلفاً للأموال غالباً، فرب شخص يتحيل عليه بحلية شرعية يجعلها طريقاً إلى اخذ ماله، ولولا جهله بالشريعة لما تمت عليه.
وأيضاً ما روي عن ابن عمر يرفعه (أفضل العبادة الفقه) وقال عمر رضي الله عنه (موت ألف عابد أهون من نوت عالم بصير بحلاله وحرامه) وما رواه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه عن ابن عمر يرفعه (مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة) وما رواه أيضا من حديث عبد الرحمن بن عوف يرفعه (يسير الفقه خير من كثير العبادة) قال ابن قيم الجوزية في مفتاح دار السعادة: وفي رفعها نظر. وما رواه أيضاً من حديث انس يرفعه (فقيه عند الله أفضل من ألف عابد) وهو في الترمذي من حديث روح بن جناح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً. قال ابن القيم:
وفي ثبوتهما مرفوعين نظر. والظاهر أن هذا من كلام الصحابة فمن دونهم، وما رواه المخلص عن ابن صاعد حدثنا القاسم بن الفضل بن مريع حدثنا حجاج بن نصير حدثنا هلال بن عبد الرحمن الجعفي عن عطاء بن أبي ميمونة عن أبي هريرة وأبي ذر قالا: (باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من أل ركعة تطوعاً وباب من العلم تعلمه عمل به أو لم يعمل أحب إلينا من مائة ركعة
تطوعاً) وما رواه الخطيب أيضاً عن أبي الدرداء إنه قال: (مذاكرة العلم سلعة خير من قيام ليلة).
وما رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من سلك طريقا يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً إنما ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر} .
أما وضع الملائكة أجنحتها فتواضعاً وتوفيراً وإكراماً لما تحمله من ميراث النبوة، لأنه طالب لما فيه حياة العالم ونجاته ففيه شبه من الملائكة وبينه وبينهم مناسبة، لأن الملائكة يحرصون على منافع البشر يعينونهم على أعدائهم الشياطين ويستغفرون لمسيئهم.
قال الطبراني: سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي قال: كنا نمشي في بعض الأزقة إلى باب بعض المحدثين بالبصرة فأسرعنا المشي وكان معنا رجل تاجر منهم في دينه فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها كالمستهزئ، فما زال من موضعه حتى حفيت رجلاه وسقط.
وأما استغفار من في السموات ومن في الأرض له فإنه لما كان ساعياً في نجاة العباد جوزى من جنس عمله وجعل ما في السموات والأرض ساعياً في نجاته. وقيل سبب هذا الاستغفار أن العالم يعلم الخلق مراعاة هذه الحيوانات ويعرفهم كيفية تناولها واستخدامها وذبحها فاستحق أن يستغفر له البهائم.
وقوله: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) مطابق لحال
القمر والكواكب، فإن القمر يضيء الآفاق ويمتد نوره في أقطار العالم، وأما الكواكب فنوره لا يجاوز نفسه وما قرب عنه، وهذا حال العابد.
ووجه اختيار القمر على الشمس وان كان الشمس أكثر