المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة … بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد: خلق الله الإنسان مزودًا بالعقل، ومزودا بالقدرة - القرآن وعلوم الأرض

[محمد سميح عافية]

الفصل: ‌ ‌مقدمة … بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد: خلق الله الإنسان مزودًا بالعقل، ومزودا بالقدرة

‌مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

خلق الله الإنسان مزودًا بالعقل، ومزودا بالقدرة على الاختيار في تصرفاته، فحمل الأمانة، أمانة التفكير وأمانة الإرادة، وهي مناط التكليف والمسئولية، دون الكثير من سائر مخلوقات الله {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] .

وشاءت إرادة الله أن يعمر الإنسان الأرض التي خلق منها، وجعلت له مستقرا في هذه الحياة، ومستودعا إلى يوم القيامة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] .

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] .

ولقد خلق الله الإنسان لكي يعبده ويسبح بحمده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] .

ولقد خلق الله الإنسان فريدًا في ملكاته، متميزًا عن كثير من مخلوقاته {وَلَقَد

ص: 7

كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] .

وكان العلم هو أول فضل أتاه الله للإنسان {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31-33] .

ويكتسب الإنسان العلم بالرؤية والممارسة والتجربة والتفكر {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191] .

{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .

ومن نعم الله على العباد قدرتهم على الكتابة، فإن الكتابة هي التي حفظت العلم، ونقلته من جيل إلى جيل من البشر، وبالكتابة تمكنت البشرية من إضافة المزيد من علم الله؛ بما يتراكم لديها من المعرفة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] .

{نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] .

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] .

وقد هدى الله الإنسان إلى النظر فيما حوله من أشياء ومن أحياء، وهداه إلى

ص: 8

النظر في نفسه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] .

{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20- 21] .

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3] .

وحينما أنزل الله القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كانت البشرية قد حصلت وقتئذ على قدر معين من العلم بطبيعة الأشياء، وطبيعة الكائنات، وطبيعة الظواهر الطبيعية.

ففي مجال العلم بالفلزات، على سبيل المثال، كانت البشرية قد عرفت الذهب والفضة والنحاس والحديد، وبرغم قدم المعرفة بهذه الفلزات، إلا أن هذ القدم هو قدم نسبي فإن اكتشاف كيفية صهر خامات الحديد للحصول على فلز الحديد، كان أكثرها حداثة بين تلك الفلزات الأربعة، فلم تكن البشرية قد توصلت إليه إلا منذ حوالي ألف ومائتي عام، قبل مولد المسيح عليه السلام لذلك فقد جاء ذكر الحديد في القرآن الكريم مباشرًا صريحًا، حيث ألفه الناس في حياتهم اليومية، وصنعوا منه أدوات سلمهم وحربهم.

ومع الحث الدائب على الرؤية والتفكر، فقد اشتمل القرآن الكريم على ذكر عدد وافر من الظواهر الطبيعية: ظواهر ما في السموات من نجوم، وكواكب، وبخاصة الشمس والقمر، وظواهر مرتبطة بالأرض التي يعيش على سطحها بنو

ص: 9

الإنسان، من هواء "رياح" وماء ويابسة كما اشتمل القرآن الكريم على ذكر عدد وافر من ظواهر الحياة على سطح الأرض: الحياة النباتية، والحياة الحيوانية، والحياة البشرية نفسها، ودعا الله البشر إلى التأمل في هذه الظواهر، لتعميق الإحساس بوجود الخالق وبقدرته ووحدانيته، حتى تكون عبادته مقترنة بالإقرار بالعبودية وبالخشية:

{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] .

{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] .

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] .

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] .

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] .

{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75- 76] .

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19] .

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] .

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] .

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27-28] .

سبحان الله رب العالمين، له الثناء في ذاته وصفاته، هو كما أثنى على نفسه،

ص: 10

وله الأسماء الحسنى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] .

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] .

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] .

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24] .

فالله لا إله إلا هو، الخالق، العظيم، الكبير، القوي، المبدئ، المعيد، الواحد، المقتدر، مالك الملك، الباقي، وكما نردد في ركوعنا وسجودنا أثناء الصلاة، فالله أكبر، وسبحان ربي الأعلى، فهو الأكبر وهو الأعلى.

والبشر بما أودع الله فيهم من حواس محدودة الطاقة، يتفاوتون تفاوتا كبيرا في إدراك عظمة الله في صفاته، وفي قدرته، وفي خلقه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] .

{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74] .

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 76] .

وشاءت رحمة الله بعباده أن يقرب لهم فهم آياته، وفي كلماته وفي خلقه، فضرب لهم الأمثال لعلهم يرشدون: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا

ص: 11

فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] .

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27] .

{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .

ويتلو المسلمون في صلواتهم سورة الفاتحة مع كل ركعة فيرددون قول الحق {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} و"العالمين" جمع عالم، أريد به جميع الكائنات في السماوات والأرض، من كل ما سوى الله عز وجل، وهى تذكرة دائبة بقدرة الله وبديع صنعه، ودعوة للاشتغال بفهم أسرار هذا الكون.

ثم يرددون قول الحق: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهى تذكرة دائبة بيوم القيامة، وهو يوم الحساب وتقترن بهذا اليوم ظواهر كونية تسبقه، وظواهر تتزامن معه، وقد أوضح القرآن الكريم أحوال يوم القيامة في مواضع كثيرة، ففيها أحداث فلكية، وفيها ما يصيب الأرض نفسها من تغيير وتبديل، وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى بعض تلك الأحداث بالوصف المباشر، وأوضح بعضها بالتشبيه ببعض ما يألفه الإنسان في حياته الدنيا:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] .

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] .

{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 8-9] .

الإعجاز العلمي للقرآن:

كانت البشرية حين أنزل الله القرآن على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، قد نالت حظًّا

ص: 12

محدودًا من العلوم المادية، مثل علم الفلك والعلوم التجريبية والتطبيقية، فقد سبق ظهور الإسلام وجود حضارات اهتمت بتلك العلوم، واستمر اهتمام الحضارات المتعاقبة بعد ظهور الإسلام بكل تلك العلوم، وكانت الحضارة الإسلامية سباقة في هذا المضمار، وكان القرآن الكريم حافزًا لأن تتألق هذه الحضارة، لما تضمنته الآيات من الحث على العلم والتعلم، فكان من المسلمين علماء أفاضل في مختلف فروع العلم.

ويعتبر جابر بن حيان1 [161 هـ: 778م] أول كيميائي تجريبي في التاريخ الإسلامي، وكان يقول: إنا نثبت في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط، دون ما سمعناه أو قيل لنا، أو قرأناه، بعد أن امتحناه وجربناه، وكان يقول أيضا: عملته بيدي وبعقلي، وبحثته حتى صح، وامتحنته فما كذب.

وكان الكندي2 [175-252 هـ: 801-878م] عالمًا موسوعيًّا متفقهًا في علوم الدين، خاض في علوم الهندسة والطبيعة والفلك والكيمياء، كما كان فيلسوفا وكان يستند إلى آيات القرآن الكريم في الاستقراء والاستنباط، ومن أمثلة ما كان يستشهد به من الآيات:

{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] .

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] .

1 عبد الحليم الجندي: القرآن والمنهج العلمي المعاصر، ص 130.

2 عبد الحليم الجندي: القرآن والمنهج العلمي المعاصر، ص 134.

ص: 13

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] .

{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 17/ 18] .

وكان المسعودي [346هـ: 956م] عالما في الفلك والجيولوجيا، كما كان مؤرخا جغرافيا.

وكان ابن سينا1 [375-438هـ] عالما تجريبا شاملًا، بعد أن برز في شبابه في الفقه وألف فيه.

وكان التيفاشي2 [651هـ: 125م] عالما في الجيولوجيا ومن دلائل أمانته العلمية قوله: مع ذلك فمعظم الخواص المذكورة فيه مما خبرته بنفسي، أو وثقت بصحة النقل فيه عن غيري من المتقدمين فأحلت عليه، وقوله: مما اختبرته ووقفت عليه بالعمل، وقوله: وقد وقفت على ذلك بالتجربة.

وكان القزويني3 [605-682هـ: 1208: 1283م] فقيها ومفسرا للقرآن والحديث، وجغرافيا وعالما طبيعيًّا وكان يتمثل دائما بآيات القرآن، ومنها قوله تعالى:

1 عبد الحليم الجندي: القرآن والمنهج العلمي المعاصر، ص 144.

2 عبد الحليم الجندي: القرآن والمنهج العلمي المعاصر، ص 150.

3 عبد الحليم الجندي: القرآن والمنهج العلمي المعاصر، ص 153.

ص: 14

{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] .

ومن ملاحظاته تقسيم المعادن أقسامًا ثلاثة: فمنها ما ينطبع كالذهب والفضة والحديد والرصاص، ومنها ما لا ينطبع كالياقوت والفيروز والزبرجد، ومنها معادن الأرض كالنفط والكبريت.

ومنذ القرن السادس عشر الميلادي، تغلبت النزعة العلمية التي تعتمد على التجربة والقياس [كما نعرفها في المناهج العلمية الحالية] بدلًا من النظريات الفلسفية، وانتقل ميزان تلك النهضة العلمية إلى دول أوروبا، وبجانب علم الفلك، فقد قسمت العلوم التجريبية الأخرى إلى مسميات محدودة المفهوم والأداء؛ فكان علم الكيمياء وعلم الطبيعة وعلم النبات، وعلم الحيوان وعلم الرياضة.

كما تحددت معالم علوم الطب بفروعه المتعددة، وأصحبت الجغرافيا علما يعتمد على المشاهدة والتجرية والإحصاء، ولامست أطرافه فروعا أخرى للعلم.

ثم نشأ علم قائم بذاته يبحث في أمور الأرض سمي بعلم الأرض، أو الجيولوجيا Geology واشتقت تسميته من اللغة اللاتينية [علم Logus، الأرض Gro] ثم تعددت فروع علم الجيولوجيا، فصارت علوم الأرض.

وشارك علماء الشعوب الإسلامية في كافة فروع العلم التجريبية، وانتشرت المختبرات العلمية، والمكتبات العلمية مع العلماء المسلمين في معظم الدول الإسلامية، وقرأ فريق من العلماء التجريبيين المسلمين كتاب الله بإيمان كامل، وتمعن في كلمات الله وما تحمله من معان، ووجدوا أن هناك أشياء يمكن أن يضيفوها مما أفاء

ص: 15

الله عليهم من العلم الحديث، مما يلقي المزيد من الأضواء على بعض الجوانب في تفسير بعض الآيات، تلك الجوانب التي لم يلق المفسرون السابقون إليها بالا، ورأى هؤلاء العلماء التجريبيون في إعلان هذه المعاني التي استنبطوها، والتي ترتكز على آخر ما توصل إليه العلم الحديث، توضيحا لعدد من القضايا القرآنية وتثبيتًا للإيمان العميق، كما وجدوا فيه جانبا من الإعجاز أسموه: الإعجاز العلمى للقرآن، فهم يرون أن ثمة إشارات علمية عديدة وردت في ثنايا القرآن الكريم، لها صفة الإعجاز الذي يضع العلماء أنفسهم بمختلف تخصصاتهم موضع الانبهار إزاء تلك الإشارات التي تبين أنها حقائق علمية ساطعة، لم يمض على كشف كنهها سوى بضعة عقود من السنين، ولم يعد هذا الانبهار شعورا فرديا لبعض العلماء في هذا القطر الإسلامي أو ذاك، فقد انتظمت مجموعات من هؤلاء العلماء في تآلف، غرضه التعاون في أبحاث الإعجاز العلمي للقرآن، وعرضه على عامة المسلمين في ندوات ومؤتمرات، ونشره بوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.

وقد شهدت الشعوب الإسلامية خلال العقد الأخير عدة ندوات على الصعيدين الوطني، والإقليمي في موضوع الإعجاز العلمى للقرآن، وصدرت مؤلفات كثيرة في هذا الشأن تتناول مختلف التخصصات العلمية.

ونظرا لأهمية الموضوع، فقد اتخذت المؤتمرات طابعا دوليا، فانعقد المؤتمر الدولي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، خلال الفترة من 24 إلى 27 صفر عام 1408هـ[من 18 إلى 21 أكتوبر عام 1987م] في مدينة إسلام أباد عاصمة باكستان، نظمت المؤتمر رابطة العالم الإسلامي، وهيئة الإعجاز العلمي في القرآن

ص: 16

والسنة بمكة المكرمة، بالتعاون مع الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد، وتأكد في هذا المؤتمر وما تبعه من مؤتمرات مماثلة، أن قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم تقوم على حقيقتين:

أولاهما: أن الإعجاز العلمي ليس هدفا في ذاته.

ثانيتهما: أن القرآن الكريم كتاب هداية، ومن وسائل هذه الهداية ما تتضمنه آيات الكتاب العزيز من دلائل علمية ذات بال.

القرآن وعلوم الأرض:

نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وهو لغة الفصاحة والدقة في التعبير، ولا بد لمن يريد أن يتفهم معني الآيات الكريمة، أن يكون على إلمام مقبول بمعاني الألفاظ، واستخداماتها وقت نزول القرآن في صدر الإسلام، وتعيننا المعاجم اللغوية المعروفة في هذا الفهم عونا لا غناء عنه.

وقد استحدثت في العلوم التجريبية الحديثة تعبيرات واصطلاحات جديدة، لم تكن موجودة في صدر الإسلام، ولا بد من الإلمام بالفروق في المعني بين العديد من التسميات القديمة والتسميات المستخدمة حاليا.

فقد جاء في الأثر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اقتطع "معدن" القبلية لبلال بن الحارث المزني، وكان لفظ "المعدن"، وجمعه "معادن" يطلق على ما نسميه بتعبيراتنا المعاصرة "منجم" وجمعه "مناجم".

وإذا ذكر لفظ "الركاز" كما كان مستخدما زمن الرسول الكريم، فعلينا أن

ص: 17

نحدد المعني المقصود منه، ولا نخلط بين هذا المعني ومعنى كلمة "الركاز" في اللغة التقنية الحالية.

وقد وضع هذا الكتاب "القرآن وعلوم الأرض" ليتناول الآيات والألفاظ الواردة في الكتاب الكريم، مما لا علاقة بعلوم الأرض بمفهومنا الحالي، ويعطي هذا التناول شرحا للجوانب العلمية الحديثة بتبسيط يتلاءم مع قدرة استيعاب المسلم المثقف، غير المتخصص في علوم الأرض، فالهدف هو تزويد القارئ المسلم الحريص على تعميق إيمانه بما توصل إليه العلم الحديث في علوم الأرض بما يزيده إدراكا لقدرة الخالق، ويزيد من خشيته ليوم الحساب.

وتتسع علوم الأرض لنوعين من الموضوعات، فهي إما موضوعات لها دلالة أكاديمية خالصة للعلم، وإما موضوعات لها استخدامات تطبيقية مباشرة وغير مباشرة.

ودون الدخول في تفاصيل تقنية، فإنه يمكن إعطاء تعريف مختصر لكل موضوع من موضوعات علم الأرض:

"أ" تحديد نوعيات الصخور التي تتكون منها قشرة الأرض، تحديد النوعيات تفصيلًا ضمن التقسيمين الكبيرين إلى روسوبية ونارية؛ والتقسيم الثالث إلى صخور متحولة بفعل الحرارة والضغط، ويستعان في تحديد نوعيات الصخور، بجانب الرؤية العامة بالنظر، استخدام المجهر "الميكروسكوب" والتحاليل الكيمائية والفيزيائية وبالأشعة السينية وبالامتصاص الذري وغيرها من وسائل معملية، وترسم خرائط جيولوجية بمقاييس رسم متعددة، لتوزيع نوعيات الصخور وتأثير الحركات الأرضية عليها.

"ب" تحدي أعمار الصخور بوسائل متعددة، منها وسيلة التتابع الطبقي للصخور

ص: 18

الرسوبية، ويستفاد بوجود حفريات [أحافير] من بقايا حيوانية ومن بقايا نباتية في تحديد الأعمار النسبية في طبقة من الصخر الرسوبي بالنسبة لطبقة أخرى، وقد استخدمت وسائل لتقدير الأعمار المطلقة في بعض الصخور، ومنها وسيلة الإشعاع الذري لعنصر اليورانيوم وبعض العناصر الأخرى.

"ج" الدراسات التفصيلية للحفريات الحيوانية، والحفريات النباتية في مختلف العصور الجيولوجية، وتحديد خواصها وظروف البيئة التي كانت تحيط بها، ومن ذلك تعرف مراحل ظهور واختفاء مختلف الحيوانات والنباتات، ومن توزيع الحفريات وتوزيع الصخور التي تضمنها، يعرف توزيع اليابسة والبحار "عميقها وضحلها" على سطح الأرض خلال الأعمار الجيولوجية المختلفة.

"د" سبر أغوار ما تحت السطح من صخور غير مرئية: ويستعان بتقنية معينة هي الجيوفيزياء وللجيوفيزياء وسائل متعددة، منها استخدام الأجهزة التي يقوم عملها على استخدام التأثيرات الكهربية، المغناطيسية، الكهربية -المغناطيسية، التثاقلية، الزالزالية، وتستخدم بعض الأجهزة محمولة بالطائرات، ويستعان أحيانًا بصور الفضاء لاستخدامها فيما يسمى بالاستشعار من البعد Remote Sensing.

"هـ" متابعة الحركات الأرضية من ارتفاع أو انخفاض لليابسة، وكذلك الزحزحة القارية الأفقية واستنتاج مدلولاته الحالية

، ومدلولاتها خلال الأزمان الجيولوجية السابقة، ومتابعة الحركات الأرضية السريعة العنيفة وهي الزلازل والبراكين، والتعرف على تلك الحركات خلال الأزمنة الجيولوجية السابقة.

ص: 19

"و" متابعة المياه في دورتها ما بين وجودها في السماء المحيطة بقشرة الأرض على شكل بخار، ثم سحاب، ثم سقوطها مطرا؛ ومتابعة تجمع مياه الأمطار في صورة جداول وأنهار وبحيرات، ثما انتهاؤها إلى البحار والمحيطات، وتتبع المياه التي تتغلغل في ثنايا الصخور، والتي قد تظهر في شكل عيون أو تختزن في أحواض تحت سطحية، أو تتسرب هي الأخرى إلى البحار والمحيطات.

"ز" متابعة تأثير المياه والرياح على نحت أو إذابة أجزاء من صخور القشرة، ونقلها وإعادة ترسيبها في أماكن أخرى.

"ح" الكشف عن مصادر الخامات التعدينية، سواء منها الخامات الصلبة أو الخامات السائلة [كالبترول وما إلى ذلك] ، ويستعان بوسائل جيوكيميائية وجيوفيزيائية في عمليات الكشف، كما يستعان بالحفر الآلي للوصول إلى الأعماق التي يراد التأكد من وجود الخامات التعدينية بها.

"ط" استخراج الخامات التعدينية وتنقيتها واستخلاص المفيد منها، وهناك فروع تخصصية في هذا المضمار، منها ما يتبع استخراج البترول وتكريره، واستخراج الغازات البترولية، ومنها ما يتبع استخراج خامات المعادن الفلزية، وتركيز الخامات واستخلاص الفلزات، ومنها ما يتبع استخراج الخامات غير الفلزية مثل خامات مواد البناء وتشكيلها للاستخدام المباشر.

وعلى أساس هذه التعريفات، فإن علوم الجيولوجيا [علوم الأرض] تقسم إلى المسميات التالية:

ص: 20

الجيولوجيا الطبيعية

Physical Geology

الجيولوجيا السطحية

Surface Geology

الجيولوجيات تحت السطحية

Sub - Surface Geology

الجيولوجيا الحقلية

Field Geology

الجيولوجيا البنائية

Structural Geology

الجيولوجيا التصويرية

Phtogeology

الجيولوجيا الديناميكية

Dynamic Geology

جيولوجيا الهندسية

Engineering Geology

جيولوجيا التطبيقية

Applied Geology

جيولوجيا التربة

Soil Geology

جيولوجيا زراعية

Agricaltural Geology

جيولوجيا عسكرية

Military Geology

جيولوجيا اقتصادية

Economic Geology

جيولوجيا المياه

Hydrogeology

جيولوجيا المناجم

Mining Geology

جيولوجيا الفحم

Coal Geology

جيولوجيا النفط

Petroleum Geology

ص: 21

هذا وأسأل الله عز وجل أن يكون لما جاء في هذا الكتاب من "علوم الأرض" أثر ملموس في زيادة إدراك القارئ الكريم لقدرة الخالق العظيم، ومدد جديد لتعميق إيمانه.

{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] .

ص: 22