الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: ما ينفع الناس
أ- الحياة على الأرض قبل الإنسان:
شاءت إرادة الله أن يستقل كوكب الأرض وأن يبرد سطحه في قشرة يغطي معظمها مساحات من الماء، وأن تبرز باقي القشرة أعلى من سطح الماء وتعرف باليابسة.
ثم شاءت إرادة الله أن تكون هناك "حياة" على ظهر هذا الكوكب، حياة كما ندركها ونفهمها ونحسها نحن البشر، وتهيأت ظروف مواتية لظهور الحياة، أهمها آشعة الشمس، والماء، والهواء، وعناصر مستمدة من تربة الأرض، ودرجات حرارة مناسبة.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .
والحياة من الأسرار الإلهية، لا ندرك كنهها، ولكننا نبحث في ظواهرها وفي كيفية أداء وظائفها، وأيا كانت الحياة: نباتية أو حيوانية، بدائية أو راقية، فهناك دائمًا صفات مشتركة بينها:
- التغذية.
- النمو.
- التكاثر.
- الموت.
نشأت الكائنات الحية في أبسط صورها من خلية حية واحدة، وتكونت الطحالب والفطر والبكتريا، وتميز النبات بوجود جسيمات اليخضور "الكلوروفيل" في خلاياه، وعن طريق الكلوروفيل يستطيع النبات في وجود أشعة الشمس إحداث التخليق الضوئي Photosynthesis، فمن الماء وثاني أكسيد الكربون، وبعض العناصر والأملاح الذائبة في الماء يبني النبات مركبات عضوية، كربومائيات وزيوت وأحماض أمينية، ويقول علماء النبات: إن الضوء الذي يقع على 100 سنتيمتر مربع من سطح ورق النبات يكفي في الظروف المواتية لكي يصنع 10-15 مليجرام من السكر في الساعة الواحدة، فالنبات يستطيع أن يختزن الطاقة في صورة مركبات عضوية.
ويقول علماء النبات وعلماء الحفريات النباتية: إن أول ظهور الحياة النباتية كان في الماء قبل أن يوجد على اليابسة، وما زالت مياه المحيطات والبحار تعج بأنواع لا حد لها من النباتات وبكميات هائلة، وهي غذاء الأحياء المائية من أسماك وغيرها، فعند ظهور الحيوانات على سطح هذا الكوكب كان غذاؤه النباتي حاضرًا.
من خلال دراسة الحفريات النباتية والحفريات الحيوانية، ودراسة الصخور المحيطة بتلك الحفريات، أمكن للعلماء المتخصصين في الصخور والنبات والحيوان أن يعطوا للبشرية تاريخًا لظهور أنواع من النبات والحيوان، وتاريخها لازدهارها، وتاريخًا لانقراضها، أو استمرارها أو تطور تركيبها التشريحي.
خلال حقب الحياة القديمة "الباليوزوي" كانت البحار واليابسة مرتعًا لأنواع من
الحياة تختلف كل الاختلاف عن الكائنات الحية التي تعمر وجه الأرض حاليًا، فمن الحيوانات البدائية التي عاشت واندثرت قبل انقضاء ذلك الحقب، حيوان الجرابتوليت وحيوان التريليوبيت، وهي حيوانات بحرية دقيقة الحجم، وظهرت من أنواع وأجناس الشعاب المرجانية، والحيوانات المحارية ما انقرض قبل انقضاء ذلك الحقب، وظهرت أولى الحيوانات الفقارية، وهي أسماك لم تكن هياكلها العظمية قد تعظمت تمامًا، فكانت لها درقة خارجية تعاون في وقايتها وتقوية هيكلها، وقرب نهاية الحقب، ظهرت الحيوانات البرمائية Amphibia التي لها القدرة على الجمع بين الحياة البرية والحياة البحرية.
وظهرت من المملكة النباتية أنواع بحرية دنيئة في بداية هذا الحقب، ولم تظهر الأنواع البرية إلا بعد مرور فترة جيولوجية طويلة من هذا الحقب، وكانت تلك النباتات البرية من الأنواع البدائية الخفية التوالد Cryptogams وانتشرت انتشارًا كبيرًا في مناطق من اليابسة، ومنها ما تحول إلى طبقات من الفحم تحت ظروف ملائمة في السهول، والمستنقعات ودلتات الأنهار التي كانت موجودة وقتئذ، ومن أشهر الأشجار التي تكونت منها طبقات الفحم نباتات السرخسيات واللبيدردندرن والسجيلاريا.
وانتهى حقب الحياة القديمة الذي لم يكن فيه استقرار، بل تعرض لحركات أرضية عنيفة وأنشطة بركانية، وهذا ما عجل بانتهاء هذا الحقب وعلى انقراض عدد من أحيائه الحيوانية والنباتية.
وكانت فترة دوام حقب الحياة الوسطى "الميزوزوي" فترة هدوء نسبي من الناحية الجيولوجية.. ومن الحيوانات البحرية المحارية الرخوة التي ازدهرت خلال هذا الحقب
واندثرت قبل انتهائه حيوان الأمونيت وحيوان البلمنيت، وظهور أنواع من الشعاب المرجانية لم تكن معروفة من قبل، وكثرت القنافد البحرية وأنواع من الحيوانات المحارية الرخوة وظهرت أسماك عمودها الفقري كامل التعظم، ويغطي أجسامها قشور قابلة للإنثناء لا تعوق حرية الحركة، وكثرت أعداد الحشرات وتعددت أنواعها.
وظهرت الزواحف reptiles وانتشرت، وبلغ بعضها أحجامًا عظيمة كما يؤكدها ما يعثر عليه من بقايا هياكلها العظيمة المتحجرة، حتى يقال: إنه كان لها السيادة على الأرض فترة من الزمن، ومن الزواحف ما كان يعيش في الماء، ومنها ما كان يعيش على اليابسة ومنها برمائيات، ومن الزواحف ما كان يستطيع الطيران.
من الزواحف المائية حيوان الإكثيوسور الذي كان يجمع بين صفات الأسماك والزواحف، وحيوان البليزيوسور الذي كان يشبه السحالي، أما الزواحف الأرضية فقد بلغ بعضها أحجامًا كبيرة، منها حيوان الأجيوانودون الذي كان يشبه حيوان الكانجارو القنغر الحالي، والذي كان طوله يصل إلى عشرة أمتار وطول ذيله وحده حوالي خمسة أمتار، وحيوان البرنتوسور الذي كان طوله يصل إلى نحو 16 مترًا، وحيوان الديبلودوكس الذي كان طوله يصل إلى ثلاثين مترًا، وارتفاعه يصل إلى ستة أمتار، أما البرمائيات الطائرة فكانت في تركيبها أشبه بالخفاش المعروف حاليًا، وكانت تستطيع الطيران بواسطة غشاء جلدي يمتد ما بين أصابع اليد إلى جسم الحيوان، فكان بذلك يشبه الجناح.
وفي أواخر الحقب الأوسط ظهرت أنواع من الطيور ذات أسنان حادة، وبدأ كذلك ظهور أول صور الثدييات، وكان يشبه حيوان الكانجارو في كونه يحمل صغاره في كيس متدل من البطن.
وفي مجال المملكة النباتية، قل انتشار النباتات غير المزهرة التي كانت سائدة خلال الحقب السابق، وكان الانتشار للأشجار العملاقة من نوع المخروطيات، وفي أواخر هذا الحقب بدأ ظهور النباتات الزهرية في أبسط صورها، ومنها أنواع النخيل.
ويأتي حقب الحياة الحديثة "الكاينوزوي"، وخلاله توالى ظهور فصائل وأسر وأجناس من المملكتين النباتية، والحيوانية تقترب أكثر فأكثر في صفاتها مما نعهده ونعايشه حاليًا من نبات وحيوان، أما رخويات الأمونيت والبلمينت فقد انقرضت، وانقرضت أيضًا الزواحف الكبرى الهائلة الأحجام التي كانت متفوقة خلال الحقب السابق على كل ما عداها من حيوانات.
من الحيوانات البحرية التي انتشرت خلال الجزء الأول من حقب الحياة الحديثة رخويات ذات هيكل جيري أهمها حيوان النيوميوليت، وتعددت أنواع الرخويات الأخرى ذات المحارات المزدوجة والمحارات الملتوية، وتعددت أنواع الأسماك وانتشرت الحشرات انتشارًا كبيرًا، ومن بينها النمل والنحل والبعوض والفراش، ومن أسباب انتشار تلك الحشرات، انتشار النباتات الزهرية في كافة الظروف المناخية على اليابسة، وأصبحت البرمائيات والزواحف قريبة الشبه بما نراه حاليًا من الساحلي، والثعابين والسلاحف والتماسيح، وانتشرت الطيور الخالية من الأسنان بعد اندثار الطيور ذات الأسنان.
أما الحيوانات الثديية Mammals فقد توالى منها ظهور أنواع تلو الأخرى، الواحد أكثر تقدمًا من الناحية التشريحية عما سبق ظهوره، فظهرت الأبقاء والحمير والخيل، وظهرت القردة التي أودع فيها من الصفات التشريحية، والعقلية ما يفوق سائر تلك الثدييات.
ووصلت المملكة النباتية إلى قمة الرقي بانتشار النباتات الزهرية، وتنوعت النباتات الحولية والأشجار المعمرة، وتنوعت الثمار والفاكهة.
ب- سكنى الإنسان للأرض:
حينما أمر الله أن يسكن الإنسان الأرض، كانت الأرض عامرة بالحياة النباتية والحياة الحيوانية.
وقد وصف الله المملكة الحيوانية بأنها أمم.
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] .
ووصف الخالق المملكة النباتية بالتوازن، وبأن النبات أزواج، وبأن الثمرات صنوان وغير صنوان:
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19] .
تلك كانت حالة الأرض بسكانها ومواردها المتاحة حين عمرها الإنسان.
وهناك نقاش كثير وجدل حاد حول ظهور الإنسان على ظهر هذا الكوكب، يدور هذا النقاش وهذا الجدل منذ ما يزيد على قرن من الزمان، وتصل بعض الآراء
التي يتقدم بها أصحابها في هذا المجال إلى حد الإسفاف، واللا معقول والتخمين غير المنطقي، ويرجع هذا إلى عدم توافر شواهد ومعلومات لإلقاء ضوء كاف يهدي ويزيل الشبهات.
ونحن هنا، ننحي هذا الحديث جانبًا ولا نخوض فيه، متى جاء الإنسان؟ وأين استقر على ظهر هذا الكوكب؟ وكيف كان مظهره؟
كلها أسئلة، إجابتها غير معروفة يقينًا من وجهة نظر البحث العلمي لبني آدم الذين يعيشون في الوقت الحاضر.
كل ما يهمنا تأكيده هو أن آدم وحواء والإنسان عامة مخلوق عاقل، ومكلف وحامل للأمانة، وشاءت إرادة الله أن ينتشر بنو آدم في أنحاء الأرض، ويصيروا شعوبًا وقبائل.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] .
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} [الفرقان: 54] .
جـ- خلق الإنسان:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] .
{إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 28] .
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] .
والتراب والطين والصلصال والحمأ المسنون، كلها مادة الأرض.
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح: 17] .
والصلصال كل ما جف من الطين، ولم يحرق لجعله خزفًا وفخارًا والحمأ المسنون هو الطين الأسود المنتن.
فما هو تركيب تربة الأرض التي منها يخلق الله البشر؟
هناك اجتهادات لإعطاء تحليل متوسط لما يمكن أن يطلق عليه تربة الأرض، والجدول التالي يعطي أحد تلك الاجتهادات.
العنصر
…
%
…
العنصر
…
%
أكسجين
سليكون
ألومنيوم
حديد
كالسيوم
صوديوم
…
47.
00
28.
00
7.
90
4.
50
3.
50
2.
50
…
بوتاسيوم
ماغنسيوم
تيتانيوم
هيدروجين
كربون
عناصر أخرى
…
2.
50
2.
20
0.
46
0.
22
0.
19
0.
13
ومن العناصر الموجودة في التربة الأرضية يدخل 24 عنصرًا في تركيب الجسم
البشري بصفة أساسية، ويقسم علماء وظائف الأعضاء هذه العناصر إلى ثلاث مجموعات.
- المجموعة الأولى تضم 6 عناصر تكون 99.55% من تركيب بروتوبلازم خلية الجسم البشري:
العنصر
…
%
…
العنصر
…
%
…
العنصر
…
%
هيدروجين
اكسجين
…
62.
90
25.
48
…
كربون
نيتروجين
…
9.
50
1.
40
…
فوسفور
كبريت
…
0.
22
0.
05
- المجموعة الثانية تضم 5 عناصر توجد بنسب منخفضة، ولكنها هامة جدًّا في الخلية البشرية.
العنصر
…
%
…
العنصر
…
%
…
العنصر
…
%
كالسيوم
…
0.
31
…
بوتاسيوم
صوديوم
…
0.
06
0.
03
…
كلور
ماغنسيوم
…
0.
03
0.
01
- المجموعة الثالثة تضم 13 عنصرًا موجودة بنسبة طفيفة لا تتجاوز في مجموعها 0.01% من وزن الخلية البشرية، ولكنها عناصر حيوية لأداء وظائف أعضاء الجسم البشري، وهذه العناصر هي: الحديد، النحاس، الزنك، الكوبلت، الكروميوم، السيلينيوم، الموليبدينم، السليكون، القصدير، الفاناديوم، الفلورين، اليود.
حقًّا إن الله قد أنبت الإنسان من الأرض نباتًا.
ومن طريف ما ذكره أحد الأطباء، أنه لو جئنا بإنسان وزنه حوالي 65 كيلو جرامًا
لوجدنا بدنه يحتوي على قدر من المواد تكفي لصناعة بعض المنتجات على النحو التالي:
- دهن يكفي لصنع 7 قطع من الصابون.
- كربون يكفي لصنع 7 أقلام رصاص.
- فوسفور يكفي لصنع رءوس 120 عود ثقاب.
- ملح الماغنيسوم يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات.
- حديد يكفي لعمل مسمار متوسط الحجم.
- جير يكفي لتبييض بيت للدجاج.
- كبريت يطهر جلد جواد واحد من البراغيث التي تسكن شعره.
- ماء يملأ برميلًا سعته عشرة جالونات.
وتلك هي قيمة الجسم البشري المادية!!.
وبحكم التركيب العضوي للآدمي فهو يحتاج إلى مقومات أساسية لحياته، يحتاج إلى الهواء لتنفسه، ويحتاج إلى الماء وإلى الطعام، وهو لا يستطيع أن يعيش إلا في ظروف مناخية معينة، فهو لا يستطيع أن يعيش في مناخ بالغ الحرارة أو بالغ البرودة، إلا إذا اتخذ وسائل يصطنعها ليحجب بدنه عن درجات الحرارة البالغة الارتفاع أو البالغة البرودة، فالملبس مثلًا وقاية له من غائلة التطرف الحراري ارتفاعًا أو انخفاضًا.
وحينما ينعم الله على عباده فهو يهبهم: المشرب والمأكل والملبس والجو المناسب، وفوق كل هذا يهبهم الأمان من غائلة الخوف.
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4] .
والله يعد المؤمنين بكل هذا في نعيم الآخرة، وينذر العاصين عكس ذلك عذابًا في الآخرة:
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: 118-119] .
فلن يصيبك في الجنة جوع ولا عري، ولا عطش ولن تتعرض فيها لحرّ لافح من الشمس.
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 13] .
فالحرارة الشديدة والبرودة الشديدة هما ما يعاني منهما الإنسان في الحياة الدنيا ويتوقاهما، وإلا هلك:
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] .
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] .
أما العاصون، فهم في الآخرة يعانون من الحرارة وشرب الماء الحار:
{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة: 43-44] .
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً، إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ: 24-25] .
د- الإنسان والنمو الحضاري:
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] .
بعد أن مررنا عبر الأزمان الجيولوجية، وحسبناها بمئات وعشرات الملايين من السنين، نتمهل ونبطئ الخطى لنمر عبر الحضارة البشرية منذ أن عمر الإنسان كوكب الأرض، فهنا تحسب الأزمان بآلاف السنين وبمئات السنين.
يقسم علماء الحضارة البشرية سجلهم بزمنين رئيسين هما: ما قبل التاريخ، وما بعد التاريخ، ويضع هذا التقسيم فاصلا هامًّا لحضارة البشرية حينما استطاع الإنسان أن يعبر عن نفسه بالكتابة، فيحفظ تاريخه لكل من يستطيع قراءته ممن يجيئون بعد ذلك من البشر.
وتترواح الأمم في القديم، في السبق صعودًا لدرجات الحضارة، فبعضها قد سبق بآلاف السنين، ومن أقدم ما عرفه الإنسان من حضارات، تلك التي نشأت على ضفاف الأنهار في مصر والعراق والهند والصين.
قسم علماء الحضارة البشرية أزمان ما قبل التاريخ إلى ثلاث مراحل حضارية متدرجة في رقيها:
- حضارة العصر الحجري القديم "الباليوليثي" التي استغرقت زمنًا طويلًا يختلف في تحديده الباحثون اختلافًا بيِّنًا، وأشد ما يكون الاختلاف هو في تقدير متى بدأ هذا العصر، أما متى انتهى هذا العصر فهناك اتفاق على أنه انتهى منذ حوالي 10 آلاف عام قبل الميلاد.
- حضارة العصر الحجري المتوسط "الميزوليثي"، ومدتها قصيرة نسبيًا تنحصر في الفترة ما بين عامي 10000-8000 قبل الميلاد.
- حضارة العصر الحجري الحديث "النيوليثي" التي ترجع للفترة ما بين عامي 8000-5000 قبل الميلاد.
واستخدم الإنسان الحجر في صناعة أدوات سلمه وأدوات حربه، فكان ينتقي الأحجار الشديدة الصلابة، وكان الصوان أكثر أنواع الأحجار ملائمة لاستخدماته، فالصوان واسع الانتشار، يوجد في الطبيعة في كتل ذات أحجام مناسبة، وهو حجر متماسك شديد المقاومة، وهو يمكن تشظيته وجعله مسننًا حسب الأغراض المطلوب لها هذه التشظية.
وتطورت الأدوات الحجرية من كتل في حجم قبضة اليد قليلة التشكيل إلى أدوات متخصصة أصغر حجمًا، وأدق صنعًا وأكثر تخصصًا.
وكان الإنسان في الأزمنة الأولى هائمًا في الأرض خلف صيده، ثم تعلم الاستقرار مع قدرته على استئناس بعض الحيوانات، ومع قدرته على الزراعة، وعرف النار واستأنسها وسخرها لطهو طعامه وللحصول على الدفء، واستخدم الجلود ملبسًا، ثم غزل من شعر الحيوان وصنع منه ملبسًا، ثم حصل على خيوط من بعض النبات وصنع منها ملبسًا.
وسكن الإنسان البدائي الكهف واحتمى بأكوام غير منتظمة من الأحجار، ثم تعلم أن يبني من الأحجار بعد أن يقتطعها ويذهبها، ثم تعلم أن يبني بالطوب الذي يصنعه من تراب الأرض.
وفي أواخر العصر الحجري الحديث اكتشف الذهب، والنحاس الموجودين في الطبيعة في صورتهما الفلزية، واستخدمهما باعتزاز كبير لندرتهما، ولقيمتهما الجمالية.
ثم عرف الإنسان في نهاية العصر الحجري الحديث كيف يحصل على فلز النحاس باستخدام النار في صهر أملاح النحاس الخضراء والزرقاء، فكان هذا أول ممارسة عملية لعلم "الميتاليرجي Metallurgy" وقد عرفت هذه المرحلة الحضارية بالمرحلة الكالكوليثية chalcolithic وهي التي جمع فيها الإنسان بين استخدامه للأدوات الحجرية، واستخدامه للأدوات النحاسية التي استخلصها من خاماتها.
ثم دخلت البشرية أزمان الحضارات المسجلة بالكتابة، وهي لذلك تسمى الحضارات التاريخية، فتعددت الخامات التي استخدمها الإنسان من أحجار الأرض ومعادنها، وتعددت منتجاته الزراعية وتحسنت طرق الزراعة والري.
وصارت على الأرض أمم، لكل واحدة كيان اجتماعي واقتصادي، وصفات مترابطة في اللغة والعادات والدين، وأصبح داخل كل أمة تخصص في إنتاج السلع وفي تبادلها، وكان التبادل التجاري مقتصرًا على تبادل السلع، سلعة بسلعة، ثم اتفق على جعل المال وسيلة للتبادل التجاري، وهنا ازدادت أهمية الذهب والفضة، وإلى حد ما النحاس، وهي المواد التي وجدت الأكثر صلاحية للاستخدام كنقود.
وما أن عرف الإنسان استخلاص فلز النحاس من خاماته بالصهر حتى بحث عن معادن أخرى ليعالجها بمقدار ما حصل عليه من معرفة، وهكذا استطاع أن يستخلص الرصاص والفضة من معادنهما، واستلخص القصدير منذ حوالي 3 آلاف عام قبل
الميلاد، وكان هذا إيذانًا بمعرفة سبيكة البرونز، ثم استطاع تحسين أفران الصهر للوصول إلى درجات حرارة أعلى مما كان عليه سابقًا، وبذلك استطاع استخلاص فلز الحديد منذ حوالي 2700 عام قبل الميلاد، واستطاع أن يصب الفلز وهو في حالة سائلة في قوالب تتلائم مع احتياجاته، وحفز انتاج الفلز نشاط الاستكشاف والبحث عن مصادر الخامات المعدنية، ونتج عن هذا ازدهار تجارة متخصصة في الخامات المعدنية، أو كتل الفلزات غير المصنعة أو أدوات مصنعة من الفلزات، وأفاضت هذه الصناعة والتجارة المتعلقة بها رخاء على مراكز الإنتاج وعلى مراكز تجارتها، وكان إنتاج الفلزات وتصنيعها قوة ومنعة للدول التي تقوم بها.
وحينما جاء الإسلام على يد رسول النور والهدى، كان العالم قد نال قسطًا من الحضارة، وقطع شوطًا في طريق المعرفة والتقنية، وحينما خاطب القرآن الكريم أهل الأرض وقتئذ ذكر لهم أشياء يعرفونها، ويرونها أو يسمعون بها ويعقلونها، وضرب الله في قرآنه المجيد أمثالًا للناس ليقرب إلى إدراكهم أشياء من الغيبيات مما يصعب على عامتهم استيعابها إلا بهذه الوسيلة.
والقرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، فمنذ نزوله على العباد، لم تتوقف مسيرة المعرفة، وظلت هذه المسيرة بطيئة الخطى طوال الألف عام التي تلت نزول القرآن الكريم، ثم أسرعت خطى العلم التجريبي بدرجات مضاعفة إلى أن أصبحت تلك الخطى عدوًّا يأخذ بالأنفاس خلال القرن العشرين بعد الميلاد، وفي كل ما توصل إليه العلم الحديث من نتائج مبهرة، يبقى ما ورد في القرآن الكريم شاهدًا ومصدقًا، وداعيًا إلى الإيمان من خلال ما أفاء الله به على عباده من علم، وما يدعو إليه الحق من المزيد من العلم.
لقد كانت مشيئة الله أن يعمر بنو آدم الأرض، وأن تكون لهم السيادة على سائر مخلوقات الله التي تسكن الأرض، تلك التي تسكن على سطحها والتي توجد تحت سطحها، تلك المخلوقات الحية وغير الحية مما يراه الإنسان أو تعيه حواسه، أما غير ذلك من مخلوقات الله مما لا يراها الإنسان أو تعيها حواسها فعلمها عند ربها، وتخرج عن دائرة سيادة الإنسان عليها.
هـ- الماء في خدمة البشر:
تأتي أهمية الماء لحياة البشر لعدة أسباب:
- الماؤ حيوي لبناء جسمه واستمراره في الحياة.
- استخدام الماء لنظافته ونظافة بيئته ولأغراضه الصناعية.
- استخدام الماء في الزراعة.
- مياه البحار والأنهار والبحيرات مصدر للأسماك وغيرها من الأحياء، ومصدر لبعض المواد غير الحية، تلك المصادر التي يتخذ منها البشر غذاء، ودواء، وحلية.
- المراكب فوق الرقع المائية وسيلة لنقل العباد والبضائع.
إن الحصول على الماء السائغ شرابه هو هدف حيوي للبشر، فما هي مواصفات الماء السائغ شرابه؟
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] .
إن ماء المطر هو أنقى صورة من صوره في الطبيعة، وأثناء نزول المطر، أحيانًا ما
تجلب حبات المطر ما يكون متعلقًا في الهواء من ذرات ترابية أو رماد بركاني، وقد تجلب أيضًا بعض ما في الجو من غازات مثل ثاني أكسيد الكربون، أو أي غازات أخرى حمضية، وكلها يجلبها المطر بنسب طفيفة لا تكاد تذكر، ولا يكاد يحس بها البشر، إذ يمكن القول بصفة عامة أن ماء المطر يكون سائغًا للشراب قبل أن يجري فوق أو تحت سطح الأرض.
هناك شروط صحية تضعها الدول، وتسن بها قوانين لصلاحية الماء للشرب من الناحية "البكتريولوجية"، وتلزم بها الجهات المسئولة عن إمداد الناس بمياه الشرب، وتقوم الدول بالرقابة على سلامة مياه الشرب وخلوها من المواد العضوية الضارة، من خلال التحاليل الكيميائية في معامل متخصصة.
قد يتوقف جريان الماء أو يضعف هذا الجريان، فإذا ألقيت في هذا الماء بقايا مواد نباتية أو حيوانية، تعفنت هذه المواد العضوية وتوالدت الفطريات، والباكتريا ومختلف الكائنات الدقيقة، ويصبح هذا الماء آنسا، والماء الآسن ماء نتن الرائحة لا يصلح للشرب.
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] .
هذا من الناحية العضوية، أما من ناحية وجود أملاح غير عضوية ذائبة في الماء، فهناك مواصفات صحية لصلاحية الماء للشرب، فهناك حدود قصوى لوجود الأملاح، على ذلك قسمت صلاحية الماء للشرب إلى:
- ماء يحتوي على أملاح ذائبة أقل من 150 جزء في المليون، وهو ماء سائغ قليل الملوحة.
- ماء يحتوي على أملاح ذائبة تتراوح ما بين 150-500 جزء في المليون، وهو ماء سائغ متوسط الملوحة، يمكن استخدامه في الشرب، والطهي بشرط خلوه من أملاح العناصر الفلزية الثقيلة، ومن أملاح المنجنيز وأمثالها من الأملاح السامة، وأن لا تتجاوز نسبة الحديد 1.5 جزء في المليون.
- ماء يحتوي على أملاح ذائبة تتراوح ما بين 500-2000 جزء في المليون، وهو ماء كثير الملوحة ولا يصلح للشرب الآدمي إلا في لحظات الاضطرار، ولفترة قصيرة وإلا أصابت أجهزة الجسم البشري أضرار وظيفية.
- ماء يحتوي على أملاح ذائبة تزيد عن 2000 جزء في المليون، ويصنف بأنه غير صالح للشرب.
وهناك حدود قصوى لصلاحية الماء للشرب من ناحية حموضته وقلويته، وحيث إن الماء خالي من أي شوائب هو ماء متعادل وله رقم7، فإن أقصى قلوية لماء صالح للشرب هو رقم 8.5، كذلك فإن أقصى حامضية لماء صالح للشرب هو رقم6.
فمن أين يحصل البشر على الماء السائغ للشراب؟.
يحصلون على هذا الماء من النهر ومن الغدير ومن الوادي عندما يسيل عقب هطول الأمطار، وكلها مياه جارية، ويحصل عليها من البحيرة التي يتجدد ماءها ولا تتراكم فيها الأملاح الذائبة، ومن أمثلتها بحيرة فكتوريا، وبعض البحيرات المحيطة بها في أواسط أفريقيا.
وفي القرآن الكريم ذكر الماء الذي يخرج من بين ثنايا الحجر:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] .
وكل ما ذكرنا من مصادر للمياه هي مصادر متجددة موسميًّا، وهناك ماء جوفي قد انحبس في طبقات من الصخور خلال زمن أو آخر من الأعمار الجيولوجية، ويبقى هذا الماء حبيسًا إلى أن يعرف وجوده بالوسائل الجيوفيزيقية، فإذا ثبت صلاحيته للاستخدام سواء لأغراض الشرب أو للأغراض الزراعية أو الصناعية، وأريد استخراج جزء منه فإنه يؤخذ في الحسبان أن هذا الماء غير متجدد، وهنا يلزم الحذر في حساب سحب هذا الماء حتى لا يستنزف، وحتى تكون فائدته في نطاق الاستخدام الأمثل.
وقد عنّ لبعض رجال الأعمال من ذوي الخيال الواسع أن يقيموا مشروعًا مبتكرًا للحصول على ماء عذب من مصدر غير تقليدي. ذلك مع الأزمة العالمية التي بدأت تظهر خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين في مصادر المياه العذبة اللازمة لمناطق من اليابسة تعاني من الجفاف، وتحتاج إلى الماء احتياجًا ملحًّا يزيد إلحاحه مع الزيادة في تعداد السكان في تلك المناطق، فقد وضع رجال الأعمال هؤلاء مشروعًا لسحب كتل مناسبة من الجبال الجليدية الهائمة في المنطقتين القطبيتين، إلى سواحل المناطق المراد نقل الماء إليها، ودرست النواحي الفنية: وسائل جذب كتل الجليد، وكيفية تغليفها لتقليل الفاقد منها أثناء النقل، وكيفية تحويل الجليد إلى ماء سائل في أماكن الوصول، وكيفية ضخه إلى اليابسة، ودرست النواحي الاقتصادية للتكاليف والعائد، وتبين أن هناك عقبات فنية عويصة، وظهرت شكوك في الجدوى
الاقتصادية، كما عارض المشروع علماء متخصصون في الدراسات البيئية، وأعلنوا مخاوفهم من إحداث حالة من "عدم التوازن" في كمية الجليد المختزنة في القطبين بما لا يمكن التكهن بعواقبه، فتوقف المشروع.
ويلجأ العلم الحديث للحصول على مياه سائغة، إلى تقطير مياه البحار Distillation، وهي عملية تعرف بتحلية مياه البحار.
وتستخدم هذه الوسيلة على نطاق واسع على الشواطئ المحيطة بشبه الجزيرة العربية، وفي غيرها من مناطق لها ظروف مماثلة.
و النبات في خدمة البشر:
النبات طعام البشر وطعام الأنعام، فالنبات طعام للبشر بصورة مباشرة، وبصورة غير مباشرة حينما يأكل ما أحل الله له من حيوان البر وحيوان البحر.
جعل الله في النبات جمالًا وبهجة يشعر بها البشر، وجعلها الله زخرفًا وزينة.
ومن وجهة نظر علوم الأرض، فيهمنا أن نبرز حقيقة احتياج النبات إلى التربة المناسبة، وإلى ماء الري المناسب "بجانب ماء المطر".
فما هي التربة المناسبة لنمو النبات؟
إن الصخر الأصم لا يصلح للإنبات.
وفي كل مرة يذكر النبات والزرع، والثمر في القرآن الكريم يذكر معها لفظ "الأرض" بمعنى أنها مجال نمو النبات، أما لفظ "التراب"، فقد ذكر في القرآن الكريم بمعنى المادة التي خلق منها الإنسان، والمادة التي يرجع إليها رفات الإنسان بعد موته وتحلله.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] .
{قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] .
وفي آية واحدة فقط جاء ذكر "تراب" في القرآن الكريم في غير هذا المعنى:
والصفوان هو الحجر الأملس الذي أزيلت من عليه التربة، فهو لا يصلح للزراعة.
والإنسان المعاصر يستخدم لفظ "التربة soil" في مجال الزراعة بمفهوم محدد، فالتربة الزراعية هي المادة الأرضية المفككة إلى حبيبات غير متماسكة التي يستطيع النبات أن ينمو فيها بأن تتخللها جذوره حيث يحصل منها على غذائه ومائه.
أما التركيب المعدني للتربة فيعتمد على تركيب الصخور التي تفتتت عنها، وقد
يصيب هذا الفتات تغير طبيعي أو كيميائي، وقد يفقد جزءًا من مكوناته نتيجة التعرية والإذابة، وقد يضاف إلى هذا الفتات مكونات داخلية أضيفت بالوسائل الكيميائية كترسيب أملاح نقلتها مياه، أو ترسيب أتربة أو رمال نقلتها الرياح أو غيرها من الوسائل الميكانيكية.
أما الترتيب الصخري الأساسي الذي تفتتت منه التربة، فقد يغلب عليه واحد من التركيبات التالية:
- صخور جيرية "كلسية".
- صخور سيليسية "رملية".
- صخور طينية من مختلفات الصخور النارية والمتحولة.
وتعتبر التربة ذات الأصل الطيني أجود هذه الأنواع الثلاثة لاحتوائها على مجموعات كبيرة من المركبات الكيميائية التي تعطي كل احتياجات النبات.
ويقسم العلماء التربة ميكانيكيًّا حسب أحجام حبيباتها إلى: تربة رملية خشنة، رملية، طفيلية، طينية.
ويقسم العلماء التربة أيضًا إلى تربة حامضية، وتربة قاعدية، ويميزون بعض أنواع التربة بأنها غنية بالمواد العضوية humus.
ويحتاج إنتاج طن واحد من الثمار إلى كمية من الماء لسقيا الأرض، قدرها علماء الزراعة، بما يترواح ما بين 300-500 طن.
وتختلف مياه الري المناسبة لأنواع النبات في ملوحتها من نوع لآخر، فالقمح يتحمل ملوحة تصل إلى 2500 جزء في المليون، والزيتون يتحمل ملوحة تصل إلى
7000 جزء في المليون: والنخيل يتحمل ملوحة تصل إلى 9000 جزء في المليون، وتستطيع بعض النبات الصحراوية، ومنها أنواع الصبار تحمل ملوحة تتجاوز هذا القدر.
ومن آيات الله جلّ وعلا في إعجازه في خلقه أن تختلف محاصيل الأرض الزراعية نوعًا، وطمعًا بينما هي تسقى من ماء واحد.
حقًا إن هذه القدرة الربانية لتدعو أهل التفكر إلى الزيادة في الإيمان، وتقديس الخالق المبدع.
ز- الأحجار ومواد البناء في خدمة البشر:
لا شك في أن الإنسان في حالة البداوة، وعدم الاستقرار التي مرّ بها في مستهل عماره للأرض كان في حاجة إلى مسكن يأوي إليه، اتقاء للبرد القارس، واتقاء للحر اللافح، واتقاء للأمطار والعواصف التي تؤذيه وتؤذي مخزونه من الطعام، واتقاء لهجمات الكواسر التي لا بد كانت تروعه، وخاصة مع ظلمة الليل.
لجأ ذلك الإنسان البدائي إلى الكهوف يحتمي بها، ويتخذها مسكنًا فهي مساكن نحتتها الطبيعة، والإنسان يستخدمها كما هي، ويترك لنا آثار أدواته وآثارًا من رسوماته ومن رفاته هو نفسه، وحيث لا توجد كهوف يلجأ إليها فهو مضطر إلى استحداث بيت من صنع يده، فلجأ إلى الأعواد القوية من الأشجار يقتطعها، ويجعل منها حاجزًا
يودي له بعض غرضه، ثم انتقى حجارة صلدة مما انفلت من الجبال وتناثر في سفوح تلك الجبال، وتعلم كيف يضعها بعضها فوق بعض فيبني بذلك حائطًا، ثم تعلم كيف يجعل من عدة حوائط حجرة أو بيتًا، ثم تعلم كيف يغطي تلك الحجرة، أو ذلك البيت بسقف من فروع الشجر وأعوادها وأوراقها.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} [النحل: 81] .
وقد استمر الإنسان، خلال مدنيات لاحقة، في سكنى الجبال ولكنه هنا قد استطاع أن يثقب الجبال بصنع يده، ويجعل فيها بيوتًا ذات راحة ورونق:
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9] .
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر: 92] .
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] .
والمقصود هم قوم النبي صالح، وكانت لهم مساكن منحوتة في الصخر "بالحجر" المعروفة بمدائن صالح، وتقع في وادي القرى بين الحجاز والشام، وما زالت آثار هذه المساكن قائمة إلى اليوم.
كذلك توجد آثار لبيوت منحوتة في الصخر ناحية البتراء في الأردن، وهي آثار ذات نقوش جميلة وما زالت إلى اليوم محتفظة برونقها لذلك فهي مزار سياحي.
واقتطع الإنسان الحجر في بناء مساكن، وقصور وفي بناء منشآت لخدمة أغراض أخرى، ومع ما استطاع إضافته من العلم فقد كان ينتقي الأحجار ذات الصفات الطبيعية، والصفات الميكانيكية التي تصلح للغرض الذي يريد الحجر من أجله، ويهذب
أركان الحجر ليتناسب شكلًا وحجمًا مع عملية البناء ويصلح لنقشه وزخرفته أو الكتابة عليه.
وقد وصف الله عز وجل بنيان بعض الأمم البائدة فقال:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 6-8] .
وعاد هم قوم النبي هود.
{وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [ص: 12] .
وفرعون هو صاحب الأبنية العظيمة الراسخة كالمسلات وأعمدة المعابد العالية:
{وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً} [الأعراف: 74] .
وآثار القصور والمعابد والقبور ما تزال باقية في كل أنحاء العالم مما بنتها من الأحجار الصلدة أمم قد توالت على مر العصور، وزالت هذه الأمم وبقيت آثارها.
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] .
والمقصود بهم قوم عاد الذين اتخذوا قصورًا مشيدة منيعة وحياضًا للماء، مؤملين الخلود في هذه الدنيا كأنهم لا يموتون، ولكن هيهات.
وعرف الإنسان أصول البناء فهو لا يبني على أرض غير ثابتة، فينهار البناء، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى المثل في ذلك الشأن:
وقد عرف الإنسان إرساء القواعد كأساس للبنيان حتى يتماسك ذلك البنيان:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] .
وقد أكد الحق جل وعلا أهمية القواعد حين ذكر ما يصيب الكافرين بكفرهم، حيث يقوِّض الله البنيان فوقهم من قواعده حتى لا تقوم له قائمة بعد ذلك:
كذلك عرف الإنسان الطين منذ قديم الزمان، عرف أنواع التراب الذي يصلح حين خلطه بالماء فيعطي طينًا يمكن تشكيله، فشكل الإنسان من الطين أواني وشكل من الطين قوالب للبناء، وأكثر أنواع الطين استجابة للتشكيل هو الصلصال، وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من محكم الكتاب كيف خلق الإنسان من نوعية خاصة من الطين هو الصلصال:
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] .
الصلصال من الطين: كل ما جف من طين فقد صل صليلا، وهو صلصال ما لم تصبه النار، فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار.
تعلم الإنسان أن يحرق ما قام بتشكيله من طين، فحصل على الأواني الفخارية، وحصل على الطوب المحروق الذي يفوق الطوب اللبن صلابة، ومقاومة للظروف الجوية
القاسية، وفي القرآن الكريم ذكر لذلك الطين المحروق الذي يمكن أن تبنى منه الصروح الشامخة، وذلك في قصة موسى عليه السلام حينما أمر فرعون هامان أن يبني له صرحًا:
وكان عرب الحجاز وعسير يستخدمون صخور الحرّات "ومعظمها بازلتية" كأحجار للرحى، وأحجار للمسنّ لقساوتها.
وقد عرفت البشرية حفر الأنفاق في مدنيات كثيرة سبقت ظهور الإسلام بقرون عديدة استخدمت هذه المدنيات حفر الأنفاق لأغراض شتى، منها غرض الوصول إلى مصادر للماء أو نقله من مكان لآخر، ومنها غرض توصيل مياه الري من مكان لآخر، ومنها غرض دفن الموتى، ومنها أغراض حربية متنوعة، ومنها غرض نقل الناس والمتاع، ونعاصر حاليًا إتمام أكبر نفق شهده التاريخ القديم والحديث، وهو النفق الذي يصل الساحلين الفرنسي والبريطاني، والذي حفر تحت صخور قاع البحر.
ومن أهم أغراض حفر الأنفاق: "التعدين" لاستخراج ما تحت السطح من خامات تعدينية.
وحفر الأنفاق من الأعمال الشاقة، وكان العمل يعتمد على الجهد اليدوي
فقط، واستمر حفر الأنفاق يدويًّا على مدى التاريخ إلى أن استخدم البارود، والمفرقعات منذ بضعة مئات من السنين، ثم استخدمت المعدات الميكانيكية بأنواعها.
وذُكر النفق في القرآن الكريم في مجال مخاطبة الحق سبحانه وتعالى لرسوله الكريم تخفيفًا عليه مما كان يشق عليه من انصراف الناس من الدعوة الإسلامية.
ح- خامات صناعية غير فلزية في خدمة البشر:
لم يكن العالم وقت نزول القرآن كثير الاستخدام للخامات الصناعية غير الفلزية، وكان أهل البداوة بصفة خاصة أقل كثيرًا من أهل الحضر في تلك الأوقات استخدامًا لتلك الخامات.
من بين كل ما عرفه الإنسان وقتئذ وبعد ذلك من تلك الخامات، رأينا أن نذكر على سبيل المثال أربع مواد هي: ملح الطعام، والطلق، والكبريت، والقطران، ثم نذكر الزجاج.
ملح الطعام: لا غنى للإنسان عنه منذ الخليقة، بل ولا غنى عنه لسائر الحيوان التي تسكن اليابسة، فتحصل عليه مباشرة كملح، أو تحصل عليه عن طريق غذاء غني بالملح، وجاء في القرآن الكريم وصف الماء المالح بأنه ملح أجاج:
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] .
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] .
وملح الطعام معروف وجوده في شبه الجزيرة العربية منذ ما قبل الإسلام بآماد طويلة، يستخرجه الناس ويتاجرون فيه وينقلونه مسافات طويلة، كان يستخرج من سبخات "ملاحات" على حواف البحار شرق وغرب وجنوب شبه الجزيرة العربية، وكان الملح الصخري يقتطع كما تقتطع الأحجار من المقالع، ومن مواضع الملح الصخري، جبل الملح بمنطقة مأرب شرق اليمن، وعدة مواقع على امتداد ساحل البحر الأحمر فيما بين جيزان والحديدة، وفي بعض الجزر المقابلة لهذا الساحل، وأهمها جزيرة فرسان وجزيرة قمران1.
وقيل: إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد أقطع "الأبيض بن جمال" جبل الملح في بلاد مأرب، وقيل: إنه ملح صاف كالبلّور2.
الطلق: ذكر رواة تاريخ العرب في الجاهلية أنه كانت هناك صناعة لنحت نوع خاص من الحجارة لإنتاج قدور للطبخ عرفت باسم "البُرمة"، ولعل البرمة قد نحتت من حجر الطلق أو من السرينتين الطلقي الذي نعرف له صفات خاصة في تحمل الحرارة العالية، وقد عرف هذا الحجر في أنحاء العالم العربي بحجر البرام، وما زال يُعرف بهذه التسمية إلى وقتنا هذا.
1 يمكن مراجعة مشورات المساحة الجيولوجية للمملكة العربية السعودية، ومنشورات المساحة الجيولوجية لجمهورية اليمن.
2 جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام -ص522.
الكبريت: عرف عرب شبه الجزيرة العربية الكبريت الطبيعي منذ القدم، واستغل الجاهليون بعض الحرات "الطفوح البركانية" لاستخراج الكبريت منها، وذكر أن أهل اليمن كانوا يستخرجون الكبريت من جبل يقع في شرقي ذمار، ويظهر أن هذا الجبل بركان قديم، وكان الكبريت يجلب من هذا المصدر إلى سائر أعمال اليمن، وذكر أنهم كانوا "يكبرتون" أباعرهم، يطلونها بالكبريت مخلوطًا بالدسم والخصخاض، وكانوا يستحمون في العيون التي يجري منها الماء مشوبًا به وله رائحة الكبريت.
القطران: عرفت أنحاء من شبه الجزيرة العربية النفط الخام يسيل في نزازات، وقيّارات من بعض شقوق الصخور مادة سوداء لزجة لها رائحة كبريتية نفاذة، وعرفها العرب "بالقطران"، وعرفت تلك الظاهرة في أنحاء من بلاد الرافدين، وفلسطين وعلى جانبي خليج السويس، وكان الرومان أيام نفوذهم في تلك المناطق يطلقون على الجبال التي تحدث فيها هذه الظاهرة اسم "جبل البترول Mons Petrolius"، وكانت تلك الظاهرة تسترعي الانتباه لطرافتها، بيد أنه لم تكن لها أهمية اقتصادية معروفة غير استخدام قطرات منها للتداوي، وعلاج الأمراض التي تصيب جلود الأنعام.
والقَطِران من الأشياء التي أنذر الله بها الكافرين ضمن عذاب جهنم.
{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] .
الزجاج: كانت منطقة الشرق الأوسط سباقة في صناعة الزجاج بين مختلف المناطق المأهولة من العالم القديم، والزجاج في مظهره المعروف بشفافيته، كان
حصيلة محاولات وتجارب استغرقت من الحضارة البشرية بضعة آلاف من السنين، استخدمت مادة السليكا الموجودة في الرمال البيضاء فصهرتها مع إضافات مختلفة من أملاح الكالسيوم، والصوديوم ومنها مادة النطرون، ومع إضافة بعض الأملاح التي تكسب العجينة اللون المطلوب، كانت العجائن ذات ألوان بهيجة ولكنها كانت معتمة، ومع اكتساب المزيد من الخبرة خلال التجارب على مدى قرون أمكن التوصل إلى إنتاج زجاج شفاف.
استقرت صناعة الزجاج خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد في منطقة الهلال الخصيب وفي مصر، ومن أقدم ما عثر عليه من أواني زجاجية تلك التي وجدت في مقبرة فرعون مصر، تحتمس الأول، الذي حكم مصر في الفترة ما بين عامي 1507-1497 قبل الميلاد.
حينما أصبح نبي الله سليمان ملكًا على بني إسرائيل كانت صناعة الزجاج في ازدهار كبير في أنحاء فلسطين، وكانت هناك صناعات عديدة قد ازدهرت هي الأخرى، ويرى بعض الباحثين في تاريخ الأديان أن مُلك سليمان استمر من حوالي عام 960 إلى حوالي عام 925 قبل الميلاد، وكان تحت إمرة سليمان حشد كبير من الصناع المهرة في كل الحرف، كما سخر الله له فريقًا من الجن في خدمته:
وقد روى لنا القرآن المجيد قصة النبي سليمان مع بلقيس ملكة سبأ، فروى لنا
حين قيل لها: ادخلي قصر سليمان، وكان صحنه من زجاج تحته ماء يسبح فيه السمك، فكشفت عن ساقيها تحسب ما تمر فيه ماء، فنبهها نبي الله إلى أن الصحن أملس مكون من زجاج؛ فراعها ذلك المنظر المادي وعلمت أن مُكلها لا يساوي شيئًا بجوار ملك سليمان النبي.
ومما ضربه الحق جل وعلا من الأمثال، وهو الذي لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، مثلًا لنوره سبحانه وتعالى، حتى يقرِّب المعنى إلى مفهوم عامة المسلمين، فيقرنه بشيء مرئي ملموس في حياتهم اليومية.
فالمصباح موضوع في قارورة زجاجية صافية لامعه لمعان كوكب مشرق يتلألأ كالدر.
والقوارير التي أحسنت صنعتها وشفت، وخلت من الشوائب هي دائمًا من الأشياء التي تهفو إلى اقتنائها، واستخدامها كل الأفئدة في الحياة الدنيا، فلا عجب أن كانت أمثال تلك القوارير مما يعد الله المؤمنين في الجنة.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} [الإنسان: 15-16] .
وقيل في تفسير القوارير من فضة بأنها من زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير.
ولا يفوتنا أن نذكر حديث النبي الكريم حين كان في قافلة، وكانت بعض النساء تركب ظهور الجمال، وكان حادي الجمال رجلًا اسمه "أنجشة"، فالرسول الكريم يخاطب أنجشة طالبًا منه أن يترفق في سيره رفقًا بالنساء، فيستعير تشبيها بليغًا للمرأة بالقوارير التي يلزم الحفاظ عليها من التهشم:"يا أنجشة رفقًا بالقوارير".
ط- خامات الفلزات في خدمة البشر:
ذكر القرآن الكريم أربعة فلزات، ذكرًا مباشرًا بالاسم، وهي: الذهب، والفضة، والنحاس، والحديد، وحتى وقتنا الحاضر لم يتغير اسم أي من هذه الفلزات، ولا مدلولها بالمفهوم العلمي.
الفلزات في القرآن الكريم:
الذهب: هو "ذهبن" في لغة المسند، والقطعة منه ذَهَبة، ويقال له:"التبر" إذا لم تضرب ولم تصنع، ومن أسمائه "العسجد"، وذهب "إيريز" بمعنى خالص، و"العقيان" ذهب خالص ينبت نباتًا ولا يستذاب من الحجارة، وتراب الذهب هو "السحالة"، ويقال: ذهب الرجل: إذا عثر الرجل داخل "المعدن" على ذهب كثير فزال عقله وبرق بصره من كثرة عظمه فلم يطرف.
وذُكر الذهب ثمان مرات في محكم الكتاب.
- فالذهب والفضة زينة من زينات الحياة الدنيا.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] .
والذهب والفضة ليست للاكتناز بل للتداول في خدمة العباد.
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
والذهب مظهر من مظاهر العظمة في الحياة الدنيا، وهذا ما رآه فرعون موسى حينما عاير موسى بما لا يتحلى به من الذهب.
أما في الآخرة فيعد الله أهل الجنة بأساور من ذهب.
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] .
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر: 33] .
وفي الآخرة لا يُقبل من الكافرين أي فداء حتى، ولو كان ملء الأرض ذهبًا،
وهذا لتحذير الكافرين، فالبشر يدركون أثناء الحياة الدنيا ضخامة قيمة قطعة واحدة من الذهب، فما بال ملء الأرض ذهبًا.
الفضة: جمعها فضض "واللجين" من أسماء الفضة "والوذيلة" القطعة من الفضة، وقيل: القطعة من الفضة المجلوة، وفي اللهجات العربية القديمة تسمى المرآة "الوذيلة، "والنقرة" القطعة المذابة من الفضة وجمعها نقار.
وذكرت الفضة ست مرات في محكم الكتاب.
ذكرت مرتين مع الذهب في الآيتين: آل عمران "14" والتوبة "34".
ذكرت في مجال أنه لولا كراهة أن يكفر الناس جميعًا إذا رأوا الكفار في سعة من الرزق لجعل الله لمن يكفر بالرحمن سقفًا، ومصاعد يرتقون عليها من الفضة، ولجعل الله لبيوتهم أبوابًا وسررًا من فضة ينعمون بها ويتكئون عليها؛ لهوان الدنيا.
وعد الله المؤمنين في الجنة أساور من فضة وآنية من فضة جزاء شكورًا.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 15] .
{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] .
النحاس: ذكر النحاس صريحًا في مجال تحذير الجن والإنس:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] .
وذكر النحاس باسم "القطر" وهو النحاس المذاب، مرتين، ذكر مرة في مجال ذكر ما أفاء الله على نبيه سليمان من العلم:
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] .
وذكر مرة أخرى في قصة ذي القرنين حينما كان يبني سدًّا.
{آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] .
الحديد: تحمل السورة رقم "57" في محكم الكتاب اسم سورة الحديد وهي سورة مدنية.
وقد ذكر الحديد خمس مرات في القرآن الكريم:
ذكرت منافعه في السلم وفي الحرب في حياتنا الدنيا:
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] .
وذكر في قصة ذي القرنين:
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96] .
وذكر للدلالة على بأس الحديد:
{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50-51] .
وذكر في رواية قصة النبي داود، وفضل الله عليه من علم وقدرة:
ومن الحديد تصنع المقامع التي تستخدم في الآخرة، في صدّ أهل النار عن الخروج منها:
{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21] .
استخراج الفلزات من مناجمها وتصنيعها:
حينما أوحى الله القرآن الكريم إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كان العالم قد وصل إلى مرحلة من المعرفة في كيفية استخراج عدد من خامات الفلزات ومعالجتها، واستخلاص المفيد منها وتصنيعها، وقد اصطلح قديمًا على تسمية مكان استخراج الخامات "بالمعدن"، وفي وقتنا الحاضر نستخدم لفظ "المنجم" و"المحجر".
كان هناك نشاط تعديني وقت الرسول الكريم، والأرجح أنه كان نشاطًا محدودًا.
روي عن ابن عباس أنه قال: أقطع النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها "المرتفع من الأرض" وغوريها، ومن معادن "مناجم" تلك المنطقة منجم الذهب، وهو المنجم الذي كان لبني سليم فعرف باسمهم، وقيل له:"معدن بن سليم" وهو ضمن ما أقطعه الرسول الكريم لبلال بن الحارث1.
وقد سبق ذكر جبل الملح في بلاد مأرب الذي أقطعه الرسول الكريم "الأبيض بن جمال".
إذن فقد عرف استخراج الخام من باطن الأرض بحفر الصخر بآبار عمودية وممرات أفقية تحت الأرض، وهي أعمال فيها من الخطورة ما فيها.
1 سيد سابق: فقه السنة: المجلد الثاني-ص173.
روي عن أبي هريرة "أوردها الإمام مالك في الموطأ" أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جُرْحُ العجماء جُبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". وجاء ضمن تفسير هذا الحديث "رواية محمد بن حسن الشيباني" أنه من استأجر رجلًا ليعمل في معدن، فهلك فلا ضمان على من استأجره.
ومهنة استخراج الخام من المهن الشاقة بجانب خطورتها، وهناك اجتهادات فقهية خاصة بجواز إباحة الإفطار لأهل مهنة التعدين، ففي الآية الكريمة:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] .
أفتى الإمام الشيخ محمد عبده قال: المراد بمن يطيقونه في الآية: الشيوخ الضعفاء والزَّمْنَى "المرضى مرضًا مزمنًا" ونحوهم كالفعلة الذي جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم الحجري من مناجمه.
ويعالج ما يخرج من باطن الأرض من خام الفلزات بالتركيز، فكان مُعَدِّنو الأزمان الغابرة حينما يستخرجون الأحجار الحاملة للذهب يطحنون ذلك الحجر، ويذرون تراب "المعدن" لاستخراج الذهب منه، وكما جاء في الكتابات القديمة كان يقال: ذريت تراب المعدن وطلبت ذهبه، وكانوا يضعون ما يحصلون عليه من الذهب "الذي أزيلت عنه معظم شوائبه" في "التنور"، ثم يجعلونه في "الكوج" لينقي الذهب عما تبقى من شوائبه ويصير خالصًا.
هذه هي أسس علم استخلاص الفلزات في أبسط صورها، ذلك العلم الذي نما مع الحضارات التالية، وأصبح حاليًا يتم على مرحلتين:
المرحلة الأولى: هي معالجة الخام Ore dressing بتركيزه وتهيئته بالمعالجة للخطوة التالية.
والمرحلة التالية: هي استخلاص الفلزات من مركباتها وأملاحها بعد تركيزها، باستخدام النار في معظم الأحيان، وتعرف بعلم الميتاليرجي Metallurgy.
وقد أنزل الله قرآنا في هذا الشأن، فضرب لنا مثلا بليغًا يخاطب العقل والمنطق، ويقابل بين أشياء ملموسة في حياة الناس ويستخلص منها العبرة.
فهناك زبد، والزبد في اللغة أصلًا زبد الجمل، وهو لُغَامُه الأبيض الذي تتلطخ به مشافره إذا هاج، وتستعار ظاهرة الزبد في وصف ما يحدث للبحر إذا هاج، وفي وصف ما يحتمله سيل الوادي على سطح مائه، وفي وصف ما يحتمله صهير الفلز على سطحه.
فبينما ينهمر المطر مدرارًا، يساعد على تعرية الصخر وعلى تجريده من فتاته، ويجرف ماء المطر الذي يجري سيولًا في الوديان جزءًا من فتات الصخر بمختلف أحجام حبيباته، وبما يحتويه أحيانًا من مركبات لفلزات مفيدة تكون موجودة في الصخر، وعادة ما تكون تلك المركبات المفيدة ثقيلة الوزن بعكس بقية المكونات الأخرى الصخرية التي لا يستطيع السيل جرف فتاتها بسهولة، ونقلها لمسافات بعيدة
وخاصة تلك المكونات الصخرية دقيقة الحبيبات التي تبقى معلقة في ماء السيول، وعلى سطحها وهي التي تعرف بزبد السيول.
فالسيول هكذا تكون عاملًا في فرز ما ينفع الناس من مركبات الفلزات التي تبقى بسبب ثقلها ساكنة على سطح الوادي، وبهذا يمكن جمعها والاستفادة منها، والعلم الحديث يسمى ما يمكن جمعه، واستغلاله من مثل تلك الخامات المفيدة بخامات الوديان alluvial deposits.
وحينما تدخل خامات الفلزات أفران الصهر لاستخلاص الفلز نقيًّا، تصل درجات الحرارة إلى ما يجعل هذه الخامات تنصهر مع ما يضاف إليها من مواد تساعد على الصهر وعلى الاستخلاص، ويبقى الفلز النقي في قاع الأفران، أما نواتج التفاعل مع ما أضيف من مواد، فتطفو على سطح صهير الفلز النقي كمادة زجاجية هي الزَّبد، ويطلق على هذا الزبد في العلم الحديث اسم الخبث Slag.
كذلك الحق مثله كمثل مركبات الفلزات المفيدة التي تبقى لثقلها على قاع الوادي، ومثله كمثل الفلزات النقية تبقى في قاع الأفران، وهي جميعًا تنفع الناس.
أما الباطل فهو كالزبد لا فائدة منه ويطفو على السطح، ويمكن إزالته والتخلص منه.
وقد عرف الناس الكير الذي يستخدم لتنقية الفلزات بالحرارة والطرق.
روي عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله -صلى اله عليه وسلم- قال:"تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينقيان الفقر والذنوب، كما ينقي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة".
وفي صحيح البخاري ما روي عن أبي بردة بن عبد الله قال: سمعت أبا بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثًا".
وقبل زمن محمد صلى الله عليه وسلم بزمن طويل، كان النبي داود قد أتاه الله فضلًا من عنده، فعلمه كيف يروض الجبال فيستخرج منها الخامات المعدنية، وعلمه كيف يروض خام الحديد الذي يستخرجه، فيستخلص منه فلز الحديد ذا البأس والقوة، وعلمه كيف يحوّل هذا الفلز إلى مصنوعات أهمها صناعة الدروع.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 79-80] .
ويظهر أن زمن النبي داود ومن بعده ابنه النبي سليمان، كان زمنا ازدهرت فيه صناعة استخراج، وتشغيل الفلزات الأساسية، فكما كانت نعمة الله على داود أنه ألان له الحديد، كذلك كانت نعمة الله على سليمان فيسَّر له استخراج خامات النحاس، وصهرها واستخلاص الفلز منها.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] .
وقد كشفت التقنيبات الأركيولوجية في منطقة وادي عربة على ما يؤيد استخراج خامات النحاس، وصهرها في مواقع تمناع وفنيان وخربة النحاس في أوقات زمنية متعددة منها وقت ينطبق على عصر داود وسليمان.
ومن قصص القرآن، ما رواه الحق سبحانه وتعالى عن ذي القرنين، وخبره مع القوم الذين لجأوا إليه ليحميهم من قوم يأجوج ومأجوج:
والقطر هو النحاس المذاب، والزُّبر هي قطع الحديد، ومفردها زُبَرَة.
وعلى القارئ أن يكون حريصًا في تشكيل اللفظ "زُبَر" عند نطقها حتى لا يخلط بينها وبين لفظ "زُبُر" التي لها معنى يختلف تمامًا.
الزُّبُر جميع زَبُور: هي المواعظ التي تهز القلوب، والتي جاء بها داود عليه السلام والتي جاء بها الرسل.
{وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [النساء: 163] .
{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ} [فاطر: 25] .
الفلزات في الفتاوى الشرعية:
لما للفلزات من ارتباط وثيق بحياة الناس، فقد كان لا بد من أن تكون هناك تشريعات تنظم تداولها، وتنظم علاقات الناس في شأنها، وتنظم جباية الزكاة عنها:
فمن آداب استخدام ما صنع من الفلزات النفيسة، يروى عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة".
ويروى عن معاوية أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النَّمار، وعن لُبس الذهب إلا مقطعًا، وقيل: إن المراد بالنهي الذهب الكثير لا المقطع قطعًا يسيرة منه تُجعَل حلقة، أو قرطًا أو خاتمًا للنساء أو في سيف رجل.
ومن آداب استخدام الذهب أيضًا ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب، وجعل فصّه مما يلي كفه ونقش فيه "محمد رسول الله" فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوه رمي به وقال: لا ألبسه أبدًا، ثم اتخذ خاتمًا من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة، قال ابن عمر: فلبس الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثم عمر ثم عثمان.
وروى الترمذي عن عرفجة بن أسعد الصحابي قال: أصيب أنفي يوم الكُلاب فاتخذت أنفًا من وَرِق "فضة" فأنتن علي، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذ أنفًا من ذهب.
وروى الترمذي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدّوا أسنانهم بالذهب.
ولم يتواتر إلينا تشريع ينظم استخدام الناس النحاس في الصناعة أو ينظم تداوله بين الناس، وقد روي عن السيدة زينب بنت جحش -إحدى أمهات المسلمين- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ في مخضبٍ من صفر "النحاس".
العملة المعدنية:
حينما استيقظ أهل الكهف بعثوا بواحد منهم ليأتيهم بطعام يشتريه بما معهم من عملة فضية:
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] .
وجاء ذكر الدارهم كعملة للبيع، والشراء في قصة يوسف عليه السلام:
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] .
وجاء ذكر الدينار كوحدة نقدية في قول الله تعالى:
وقد سُكّت العملة المعدنية في أول عهدها في مدن الساحل الغربي لآسيا الصغرى، ويظن أن ذلك كان خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ويقال: إن العملات الأولى التي سكت هناك كانت من سبيكة الإليكترم electrum وهي خليط من الذهب والفضة. وخلال القرن الثاني قبل الميلاد ظهرت في روما عملة فضية هي ديناريوس denarius، ولعل اسم دينار مشتق من اسم العملة الرومانية القديمة، وظهرت في بلاد فارس عملة ذهبية أطلق عليها اسم داريك Darics منسوبة إلى داريوس ملك الفرس وقتئذ.
وفي زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم تداول الناس عملتين كانتا تُضربان إما في الإمبراطورية الفارسية وإما في الإمبراطورية الرومانية، تلك هي عملة الدينار الذهبية وعملة الدرهم الفضية، ولم تُضرب عملة إسلامية إلا زمن الدولة الأموية "في خلافة عبد الملك بن مروان".
وقد نظم الشرع زكاة النقد من الذهب والفضة، فقد روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس عليك شيء "يعني في الذهب" حتى يكون لك عشرون دينارًا، فإذا كانت لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليها الحول".
وقد روي أيضًا عن عليّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقة " الفضة " من كل أربعين درهمًا درهم، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم".
زكاة الركاز والمعدن:
لم يتفق أهل الفقه منذ القرون الهجرية الأولى على تعريف "الرِّكاز"، والتفريق بينه وبين "المعدن"، وكان الاختلاف على التعريف ومدلوله هو أساس الاختلاف في نسبة ما يستحق جبابيته من زكاة: هي الخمس "20%" أم هي ربع العشر "2.5%" من القيمة.
وسنعرض هنا لآراء عدد من الأئمة المجتهدين في هذا الموضوع.
رأي ابن حنبل: رأى أن ناتج المعدن هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها، مما له قيمة، مثل الذهب والفضة والحديد والنحاس
والرصاص والياقوت والزبرجد، والزمرد والفيروز والبللور والعقيق والكحل والزرنيخ، والقار "الزفت" والنفط "البترول"، والكبريت والزاج ونحو ذلك، واشترط فيه أن يبلغ الخارج نصابًا بنفسه أو بقيمته.
رأي أبي حنيفة:
رأى أن وجوب الزكاة على المعدن يتعلق بكل ما ينطبع، ويذوب بالنار مثل الذهب والفضة والحديد والنحاس، أما المائع كالقار؛ أو الجامد الذي لا يذوب بالنار مثل الياقوت فإن الوجوب لا يتعلق به، ولم يشترط فيها نصابًا، فأوجب الخمس في قليله وكثيره.
وقال أبو حنيفة عن الركاز: هو اسم لما ركزه الخالق أو المخلوق، وعمم الزكاة في المعدن وفي الكنز، ففي كل منهما الخمس.
رأي مالك والشافعي:
اتفقا على أن الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيره الخمس، إنما جعل في الركاز الخمس؛ لأنه مال كافر فأنزل واجده منزلة الغانم فكان له أربعة أخماسه، فالركاز دفن يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يطلب بمال، ولم يتكلف فيه بنفقة ولا كبير عمل ولا مئونة، فأما ما طلب بمال وتكلف فيه كبير عمل، فاصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز.
واتفقا على أن المعدن ليس بركاز، فيجب فيه ربع العشر لا الخمس؛ لأنه يحتاج إلى عمل ومعالجة واستخراج بخلاف الركاز، وقد جرت السُّنة أن ما غلظت مؤنته خفف عنه في قدر الزكاة، وما خفف زيد فيه.
رأي ابن القيم:
الأصل في وجوب الزكاة في الركاز والمعدن، ما رواه الجماعة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".
ففي قول الرسول صلى الله عليه وسلم المعدن جبار، معناه إذا استأجر من يحفر له معدنا، فسقط عليه فقتله فهو جبار، والمعدن لا زكاة فيه، يؤيد هذا القول اقترانه بقوله صلى الله عليه وسلم "وفي الركاز الخمس"، ففرق بين المعدن والركاز، فأوجب الخمس في الركاز؛ لأنه مال مجموع يؤخذ بغير كلفة ولا تعب، وأسقطها عن المعدن؛ لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه.
رأي الغزالي:
"في إحياء علوم الدين": الركاز هو مال مدفون "دفن في الجاهلية" وجد في أرض لم يجر عليها في الإسلام ملك، وهو المعدن الذي يوجد بغير عمل، فعلى واجده في الذهب والفضة أن يخرج منه الخمس ضريبة لبيت مال المسلمين، وقد أرجح الفقهاء على أن الزكاة من الذهب والفضة فيه الخمس، ولا يوجد نصاب في ذلك فالضريبة تستحق على الكثير منه والقليل، وفي ذلك تشبيه له بالغنيمة، ولذلك يجب فيه الخمس حتى ولو كان على الممول دين يستغرق هذا الركاز، أما المعادن فلا زكاة فيما استخرج منها سوى الذهب، والفضة ففيهما بعد الطحن والتخليص ربع العشر، وتخرج منه وعاء هذه الضريبة الحجارة مثل الياقوت والفيروزج والزئبق والكبريت، وإنما ذلك كله كما ذكر أبو يوسف بمنزلة الطين والتراب.
كيفية تحصيل زكاة المعدن:
أخذ عمر بن عبد العزيز من المعدن من كل مائتين خمسة، والمقصود فيما يستخرج من الذهب والفضة ففيهما بعد الطحن، والتخليص 2.5% ويضيف أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم "صاحب الإمام أبي حنيفة" إلى الذهب والفضة، الحديد والرصاص والنحاس.
وكان رأى الإمام ابن قدامة في كيفية تحصيل زكاة المعدن: لا يجوز إخراج زكاته إلا بعد سبكه وتصفيته، فإن أخرج ربع عشره لترابه قبل تصفيته وجب رده إن كان باقيا، أو قيمته إن كان تالفا، فإن صفاه الآخذ وكان قدر الزكاة أجزأ، وإن زاد رد الزيادة إلا أن يسمح له المخرج، وإن نقص فعلى المخرج، وما أنفقه الآخذ على تصفيته فهو من ماله لا يرجع به على المالك، ولا يحتسب المالك ما أنفقه على المعدن في استخراجه، ولا في تصفيته [أي أنه لا يخصم من وعاء زكاة الثروة المعدنية، أو البترول أية تكاليف أو نفقات أو مؤن لاستخراجها أو لتصفيتها] .
الآراء في ملكية الخامات التعدينية والبترول:
اجتهد عدد من علماء الاقتصاد الإسلامي المعاصرين، فخرجوا بآراء يمكن أن تنتسب في أساسها إلى الأئمة الأربعة في موضوع ملكية الخامات التعدينية والمواد البترولية:
رأي منسوب للمالكية:
تكون الثروة التعدينية والبترولية ملكا لبيت المال أي مملوكة ملكية عامة للدولة، ولو كانت في أرض
مملوكة ملكية فردية، وذلك أن مالك الأرض لا يملك إلا سطحها وظاهرها، أما الثروات التعدينية والبترولية التي في باطنها فليست منها، وأمرها لولي الأمر يتصرف فيها لمصالح المسلمين، يقطعها لمن يرى في إقطاعه إياها مصلحتهم، ولا يكون الإقطاع إقطاع تمليك بل إقطاع انتفاع لمدة معينة معلومة أو لمدة حياة من أقطعه؛ ولا فرق في ذلك بين خامات توجد في أرض مملوكة أو غير ملوكة.
رأي منسوب للحنابلة:
ما يخرج من المعادن "المناجم" تخرج من أرض مملوكة ملكية عامة للدولة تكون ملكا لبيت المال.
رأي منسوب للشافعية:
تتبع الخامات في ملكيتها ملكية الأرض التي توجد فيها.
رأي منسوب للحنفية:
الخامات ملكية فردية ولبيت المال فيها الخمس سواء أكانت في أرض مملوكة ملكية عامة كأرض الخراج، أو مملوكة ملكية فردية كأرض العشر.
"ي" خامات الطاقة في خدمة البشر:
احتاج الإنسان منذ عمارته للأرض إلى الطاقة لبقاء حياته، ولكي يمارس حركته وأغراضه، ولم يكن يتحكم في البداية إلا على الطاقة المتولدة من قدرته العضلية هو نفسه، واستمد الطاقة مما يأكل من النبات والثمار، وما يصطاده من حيوان البر والبحر.
وصنع الإنسان منذ عمارته الأولى للأرض الملابس تقيه البحر وتقيه البرد، وكانت وقاية الإنسان من قارس البرد بالملبس نوعا من الحفاظ على ما يدخره جسمه من طاقة حتى لا يصرفها الجسم في مقاومة البرد.
وحينما استأنس الإنسان بعض الحيوان، استطاع أن يسخرها أنعاما لقضاء حاجات له، ومنها حمل الأثقال والسفر إلى مقصده القريب والبعيد، فاستخدام الإنسان للأنعام تسخير لمصدر هام للطاقة:
{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً} [الأنعام: 142] .
وكما تعلم الإنسان منذ حضاراته الأولى كيف يرتاد مسالك البر، فقد تعلم صناعة الفلك صغيرها، وكبيرها لتمخر عباب الماء بالشراع الذي تحركه الريح:
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون} [الزخرف: 12] .
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32] .
{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] .
استفاد الإنسان بقوة الرياح طاقة طبيعية في دفع مراكبه السيارة، وإن كان لم يترك تسخير طاقته البشرية العضلية في دفع المراكب بالمجداف.
فعلاقة الإنسان والحيوان والنبات علاقة وثيقة في اختزان الطاقة، وانتقالها
وإحراقها، فقد أودع الله في النبات القدرة على أن يقوم بالتمثيل الضوئي الذي ينتج مركبات كيميائية عضوية محتوية على الكربون، والهيدروجين والأكسيجين مع عناصر أخرى، ومن هذه المركبات الكيميائية يتكون جسم النبات، وهو بذلك يختزن قدرا من الطاقة:
{فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} [يونس: 24] .
واحتاج الإنسان إلى طاقة إضافية تساعده في أغراض متعددة منها الحصول على الدفء، ومنها الاستضاءة ليلا، فكان له هذا من الشجر الأخضر.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] .
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 71-72] .
وعرف الإنسان كيف يستضيء بحرق بعض الشحوم الحيوانية، وكذلك بحرق بعض زيوت النباتات، والثمار وأطيبها زيت الزيتون:
{كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] .
ومنذ عرف الإنسان النار وهو يحرق الحطب للحصول على جذوة النار، ومع احتياجه إلى نار ذات حرارة عالية توصل إلى تفحيم جذوع الأشجار بعد تجفيفها، وحصل بذلك على الفحم النباتي charcoal، وما زال الفحم النباتي شائع الاستعمال إلى وقتنا الحاضر.
وتقدمت البشرية في طريق الحضارة فعرفت صهر الفلزات، وتشكيلها واحتاجت
إلى حرارة عالية فاستحدث الكير الذي يدفع بكميات إضافية من الهواء بما فيه الأكسجين داخل كومة الفحم المحترق، فيتأجج وترتفع حرارته إلى القدر المطلوب.
وتعلم الإنسان في مراحل حضارية تالية كيف يستفيد من طاقة المياه الجارية، فيقيم على مسارها عجلات تحركها المياه فتدير الطواحين لغلاله، كذلك عرف كيف يقيم مراوح تحركها الرياح، وكيف يحول تلك الحركة إلى إدارة الطواحين.
وفي أواخر القرون الوسطى طرأت زيادة سريعة في الاحتياج إلى الفحم للأغراض الصناعية، وأصبح هناك تهديد بالقضاء على مساحات كبيرة من الغابات التي كانت أشجارها تقتطع بكميات هائلة لغرض الحصول على الفحم النباتي.
وتنبهت الأذهان إلى وجود الفحم الحجري الذي يمكن أن يحل محل الفحم النباتي في كثير من صفاته، والفحم الحجري ما هو إلا تراكمات نباتية حدثت خلال أزمان جيولوجية في أماكن توافرت فيها ظروف مناسبة، فهذا الفحم هو الآخر طاقة نباتية مختزنة عبر الأعمار الجيولوجية، ويستخرج من باطن الأرض شأنه شأن أي خامة تعدينية.
وقد كان التوسع في استخدام الفحم الحجري تطورا في حياة البشرية.
وفي عام 1769 ميلادية توصل المهندس البريطاني جيمس وات إلى اختراع آلة حديدية تتحرك بقوة البخار المضغوط، وكان هذا الاختراع نقطة تحول في تسخير الطاقة المستمدة من الفحم الحجري "التي هي إحدى صور الطاقة النباتية" في إحداث طاقة متحركة عن طريق نقل الطاقة من الفحم إلى طاقة البخار.
وشهد القرن التاسع عشر إقامة المصانع التى تدار بمحركات بخارية، وشهدت
وسائل النقل تغييرا جذريا بظهور القاطرات البخارية في البر، والسفن ذات المحركات البخارية في البحر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر توصل العالم إلى اكتشاف الكهرباء، وكان هذا الاكتشاف أحد العجائب وقتئذ، وكانت المولدات تدار بقوة البخار، ثم أمكن إقامة مولدات كهربائية على مساقط المياه، وعلى مسار السريعة الجريان، وبذلك أمكن تسخير الطاقة الكامنة في المياه الجارية، كذلك أمكن جعل المراوح الهوائية تدار بقوة الريح مولدات كهربائية.
ثم كان الحدث الحضاري الذي لا يقل خطورة في حياة البشرية عن تسخير الفحم في توليد البخار لإدارة المحركات، ذلك هو الاتجاه إلى النفط كمصدر للطاقة، ففي عام 1859 ميلادية تمكن أحد رجال الأعمال الأمريكيين، واسمه إدوين دريك من حفر بئر في بلدة تيتوسفيل بولاية بنسيلفانيا الأمريكية، واستخراج البترول والاتجار فيه بصورة اقتصادية، وكان الأقبال عارما على هذا السائل، والبترول المستخرج من آباره سائل لزج قاتم اللون كريه الرائحة يتكون من خليط السوائل بعضها طيار خفيف الوزن وبعضها ثقيل، وكلها قابلة للالتهاب، ويستجيب هذا السائل للتقطير المرحلي Fractional distillation فيعطي قطفات من عدة سوائل مختلفة الكثافة، وتنتهي بأثقلها وهو الأسفلت، ويصحب المواد البترولية السائلة عادة غازات قابلة للالتهاب يمكن فصلها والحصول عليها على حدة، ويتكون البترول من بقايا عضوية حيوانية، ونباتية في أوقات جيولوجية وتحت ظروف جيولوجية خاصة.
استطاع المهندسون أن يخترعوا الآلات التى تعمل بالاحتراق الداخلي باستخدام
الوقود البترولي، وصنع أول محرك سيارة في أواخر القرن الماضي، وتخرج مصانع السيارات حاليا ملايين السيارات سنويا، وانتشرت الطائرات، كما انتشرت محطات توليد الكهرباء التي تعتمد على المواد البترولية.
ثم انتقل العالم إلى مصدر جديد للطاقة لا يقل أهمية عما سبقه من مصادر، فمنذ الخمسينيات من هذا القرن الحالي بدأ استخدام الانقسام النووي في توليد الكهرباء، وانتشرت المحطات النووية لتوليد الكهرباء في كثير من الدول، وأصبح عددها بضع مئات من المحطات.
ومن هذا العرض السريع لمصادر الطاقة على مدى تاريخ الحضارة البشرية يمكن تقسيم هذه الطاقة إلى الآتي حسب مصادرها:
مصادر متجددة للطاقة:
- طاقة السواعد البشرية.
- الطاقة الجيوحرارية.
- طاقة استخدام الأنعام.
- طاقة الرياح.
- طاقة المياه الجارية.
- طاقة حرق الأخشاب والفحم النباتي.
- الطاقة الشمسية المباشرة.
مصادر غير متجددة للطاقة:
-طاقة حرق الفحم الحجري.
-طاقة حرق المواد البترولية السائلة والغازية.
-طاقة الانقسام النووي.
"ك" الأحجار الكريمة في خدمة البشر:
لم تكن حياة البداوة المتقشفة في شبه الجزيرة العربية، وخاصة قبل الإسلام لتسمح بالتمتع بالكثير من أنواع الأحجار الكريمة، فقد كان المتاح التحلي به وقت الظهور الإسلام لعرب شبه الجزيرة القليل من جواهر البر، وبعض جواهر البحر.
فمن المياه كان يستخرج اللؤلؤ والمرجان، واللؤلؤ إفراز كلسي تحتضنه قواقع معينة ذات ضلفتين "صدفتين"، ويكون اللؤلؤ في حبيبات مستديرة أو قريبة من الاستدارة في حجم حبة الحمص وقد تكون أصغر أو أكبر، بيضاء اللون عادة، وقد يشوبها لون آخر، واشتهرت المياه الدافئة بوجود أصداف اللؤلؤ، ويمارس غواصو اللؤلؤ صناعة الحصول على اللؤلؤ من أصدافه. أما المرجان فيكون في أعواد متشعبة ذات لون برتقالي، أو أحمر ولها مظهر أعواد النبات، إلا أنها حيوان بحري من عائلة المرجانيات، وهو حيوان رخوي يحتمي داخل أعواد كلسبة مجوفة هي أعواد المرجان.
ويمكن الحصول على اللؤلؤ وعلى المرجان من المياه المالحة أساسا، ومن المياه العذبة في ظروف خاصة.
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] .
ويطلق على ما عظم من اللؤلؤ حجما وبهاء "الدرة"، وحين أعطى الله مثالا لنوره سبحانه وتعالى بضوء مصباح في زجاجة، وصف الله بهاء الزجاجة كأنها كوكب دري!
{الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] .
وجاء ذكر اللؤلؤ فيما وعد الله به أهل الجنة من حلية، كما وصف به الحق الحور العين، ومن يطوف على أهل الجنة من غلمان:
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] .
{وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 22-23] .
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور: 24] .
وكان العرب يعرفون التطيب بالعنبر وهو من إفرازات صيد البحر، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه فتوى في شأن العنبر قال: ليس العنبر بركاز، هو شيء دسره البحر.
والأحجار الكريمة مما يوجد في أحجار اليابسة شيء كثير، إلا أن القرآن الكريم\
اختص بذكر واحد فقط من بين الأحجار الكريمة، هو الياقوت، جاء ذلك فيما وعد به أهل الجنة من الحور العين كأنهن الياقوت والمرجان في صفاء اللون:
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 56-58] .
والياقوت لونان: ياقوت أحمر nuby وياقوت أزرق sapphire والاثنان من مادة واحدة هي بلغة العلم الحديث مادة الكورندم الشديدة الصلابة التي تلي الماس في مقياس الصلابة، ولم يعرف الياقوت في الجزيرة العربية في أي من أنحائها، وموطنه المشهور هو الساحل الجنوبي للهند، وجزيرة سرنديب "سريلانكا"، ولا بد أن الناس وقت ظهور الإسلام كانت تعرف هنا الحجر الكريم، وتراه أحيانا أو تسمع به.
ولما انتشر الإسلام خارج الجزيرة وأطل على بلاد ما بين النهرين، وفارس وما وراءهما شرقا إلى بلاد السند، وما وراء فارس في أواسط آسيا وأرض مصر وأرض النوبة، عرف المسلمون كل أنواع الأحجار الكريمة وتحلوا بها، وكان من علماء المسلمين في عصر الإمبراطورية الإسلامية المزدهرة من ألفوا كتبا في صفات الأحجار الكريمة من واقع خبرتهم، وتجاربهم العلمية على تلك الجواهر، ومن هؤلاء العلماء: الكندي والرازي والمسعودي وابن سينا والبيروني والتيفاشي والقلقشندي.
واشتهرت اليمن وما حولها من مناطق جنوب غرب شبه الجزيرة العربية بالعقيق الذي عرف بالعقيق اليماني، وهو الجزع onyx، استخرج الجزع "العقيق" من مواقع شتى من تلك المناطق، وسمي باسم كل موقع استخرج منه لاختلاف في اللون
و"التجزيع". وتقتطع من الجزع حبات تصقل وتثقب وينظم منها عقود، أو يعمل منها فصوص تركب في الأختام، وقد تحفر عليها كتابة أو صور، هناك فصوص بقرانية وفصوص سعوانية، وقيل: إن أم المؤمنين عائشة كانت تتحلى بعقد من جزع ظفار.
ومن الأحجار الكريمة بلورات "الجمشت amethyst" البنفسجية اللون، وقيل: إنها موجودة في شقوق تضمها بعض حرات جبال الحجاز.
ومن الأحجار الكريمة التى عرفها المسلمون بعد انتشار الإسلام: الزمرد emerald والزبرجد peridot واللازور lapis lazuli والفيروز torquise واليشم Gade واليشب gasar، أما الماس diamond فلم تكن له شعبية في تلك الأزمان ربما؛ لأنه لا لون له، إنما كان الإقبال والإعجاب بالأحجار الكريمة الزاهية الألوان.