الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الفرنسية
ترجمة عمر كامل مسقاوي
ــ
كان جيلي في الثانية عشر من العمر حين أزف الاستقلال.
واليوم إذا كان لم يعد على مقاعد الجامعة فهو مع ذلك يستفيق كل صباح على صوت النفير ليقدم التحية في وقفة انضباط، للعلم الوطني ساعة رفعه.
وإذا كان لم يعد في المدرجات، أو في ثياب العمل، يُصَادَفُ في المصنع، في حقل، أو هو منتظم لِتَوِّه في مشروع عام؛ إلا أنه حيث يوجد، فهو يعبر عن قوة الإرادة في الجزائر، يتعلم فن العيش في حياة وطن، وهو ممتلئ بالتعاون.
إنه الآن جاهز لحمل رسالة.
عبر الماضي وفي أماكن أخرى من المعمورة أعطيت أجيال أخرى منحة نادرة، ساقتها العناية الإلهية المسيِّرة للعالم، حين جاءت إلى الوجود في اللحظة التي يبدو فيها أن شيئاً ما مخيفاً، يأتي ليزحزح مركز الاستقطاب والثقل، في توازن النشاط الإنساني في العالم.
تلك فرصة فائقة أن تجد نفسك بين الأحياء في اللحظة الحاسمة حين تستعد الإنسانية لتشهد تجديداً، ولادة ثانية كالتي عرفت في منعطفات التاريخ حين تتوارى سريعاً حضارة لتظهر من جديد حضارة في حلّة جديدة.
لطالما قيل، إن هنالك الإنسان وليس الإنسانية. ولمزيد من الإيضاح،
ففي ظل الإمبراطورية الرومانية مثلاً، فالإنسانية لم تكن جميع الشعوب المعروفة، بل النخبة المنتقاة. وبالطريقة نفسها في القرن التاسع لم يكن للإنسانية مفهوم غير ذلك الجزء الإنساني المثبت في الإطار الإسلامي. وهذا ما يفسِّر لنا أنه وحتى يومنا الحاضر حين نستدعي معنى الإنسانية نفكر في الجزء الشمالي من البسيطة وليس في القبائل الأسترالية.
فالناس- الجنس البشري- لم يجتازوا يوماً كتفاً بكتف مختلف مراحل التاريخ العالمي. وظلام القرون الوسطى لم يكن شاملاً العالم كله. والقرن العشرون ليس قرن الفضاء لسائر الشعوب.
والشعوب لم تصعد مجتمعة أية درجة. وهي لم تكن جميعها في العالم كله وفي وقت واحد في العلاء.
القرن الحادي والعشرون، ربما كان هو الذي سوف يستطيع أن يستعمل كلمة إنسانية، التي لم تكن تشير حتى يومنا هذا، إلا إلى جزء يسير في الغالب مم المجموع الإنساني المسمى (حضارة)، بيد أن ذلك مشروط مسبقاً بقدرته على محو الفروقات النفسية والثقافية، فضلاً عن التقنية. تلك الفروقات التي ما زالت تجعل الإنسان يضع قدماً في القمر، وأخرى في جزيرة مجهولة.
…
إن جيلي سيكون من أولئك الذين لا يعدهم حصر. والذين سيختمون الألف الثاني من التقويم الذي تعتمده مختلف الدول الحديثة.
اختتام ألف عام!!
دون أي ارتباط، أو علاقة، أو صلة، بذلك الهذيان التهديدي للألفية، فإن لدينا يقيناً مؤسساً على مؤلفات تتمتع بنفوذ معترف به، وعلى إرهاصات
الحضارة السائدة، يسمح بالتأكيد على أنه منذ الآن وإلى عام ألفين ستحدث تحولات عميقة على مستوى الشعوب، تؤدي لتجديد في أنماط حياة الإنسانية في داخلها كما في خارجها.
وإلى أن يحين هذا، فإن الظّن بأن تغييراً أو انقلاباً يحدث حتماً بطرفة عين، وفجأة في ساعة الصفر صبيحة عام ألفين هو تفكير صبياني.
معطيات هذا الانقلاب، هي في التطور التاريخي الذي بدأ منذ زمن ليس بقصير. فهل أدرك ذلك جيلي والذي سيعقبه والسابق عليه؟
إن عصرنا، يبدي كل أمارات الإرهاق، والانحلال البطيء. لكن في بعض أجزاء من كوكبنا قوى جديدة تتوقع تنتظر، وتعمل على سدّ الفراغ عبر أجهزة نفسية معاصرة ابتدعتها عبقريتها. وهذا ما يحدث بشكل رئيسي في الصين، وفي العالم المثالث، حيث الجزائر تحتل المركز الذي أهلتها له مواهبها أو إنجازاتها.
إن عصرنا كما قيل، هو عصر مِفْصَل. إنه الوقت الملائم للتغيير، للثورة على الصعيد الكوني.
وأمامنا، كما هو أمام سائر القوى، التي أشرنا إليها أمران حسب تعبير بن نبي لا ثالث لهما: رسالة أو خضوع.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد 47/ 38).
وخطاب القرآن الكريم هذا موجه إلى الشباب المسلم، العربي، شباب العالم المثالث، فمجموع الطاقات الجديدة هي التي ينبغي عليها أن تعيد من جديد صنع عالم مُهان مُذَل، في ظله لم تعش الإنسانية يوماً موحدة وكلية.
لقد سقط الغربما، إذ بدلاً من أن يستجيب للخطاب الإنجيلي القائل:
((لقد جعلتك لتكون نور الأمم، لتحمل الخلاص حتى أطراف الأرض)) (أعمال الرسل: 13 - 14).
إذا به يبنى فوضى كونية حاملاً الحرب والعبودية والاستغلال إلى أقاصي المعمورة.
وها إن أبناءه انتهوا إلى لعنه، والهروب منه، وتدميره مؤكدين نبوءةٌ أخرى للإنجيل ((سيكرهون بعضهم بعضاً. بسبب الفظائع التي ارتكبوها ولسبب سائر خطاياهم)) (قزحيا: 6 - 9).
الغرب يموت، لكن بغير توبة ضمير، فها هي أميركا الكبرى تتهاوى تحت ضربات موجهة إليها من الداخل من (الشباب الغاضب)، من السود، ومن الرأي العام الذي يطرد رئيسا غير نزيه، ويمنى بالهزيمة في فييتنام.
أما أوروبا، فلم تعد سوى ظل نفسها فهي قد سقطت من الزمن.
إن قارِعَ منتصف الليل يقترب في الظلام.
…
يحدث أكثر من مرة في حوليات الفكر، أن رجلاً عظيماً يمر وهو شبه مغمور في زمنه؛ نيتشه عرف الإهانة حين نشر مؤلفاته على نفقته. بينما مرت ستة قرون قبل أن يعترف لابن خلدون كأب لفلسفة التاريخ (بعض الطروحات تدعي عكس ذلك، إذ تعتبره أباً لعلم الاجتماع، ونحن لا نعتقد ذلك، لأننا نرى فيه، وإن كان أول عالم اجتماع أكثر من عالم اجتماع. فهو المنشئ للتوقع والرؤية المسقبلية).
وفي بعض الأحيان فإن مجرى الأمور في عالمنا يؤدي إلى ظلم وإجحاف كبيرين عندما لا يبدو الفكر العالمي يستأهل بصورة مؤكدة التمجيد بعد الموت.
سنوات، عقود، بل قرون يمكن أن تمر قبل أن تأتي مصادفة سعيدة تنفض عنه غبار النسيان.
وهكذا نرى، أن العبقرية الإنسانية تهيم طو يلاً قبل أن تكتشف حصاداً تركه واحد من أبرز وجوهها. أوَلم تأخذ به علماً من قبل؟
…
إن جيلي يحب أن يدرك بأنه سادر في التنكر للمفكر الوحيد، ذي المدى العالمي الذي لم تنجب مثله الأرض الجزائرية.
فأولئك الذين هم من أبناء جيلي، وبالطبع من أبناء الأجيال الأخرى، الذين يبذلون أنفسهم للبحث من أجل تكوين الفكر الجزائري لم يعد باستطاعتهم أن يتجاهلوا (مالك بن نبي) أكثر من ذلك.
وليس المكان هنا لإعطاء نبذة عن حياته، أو حتى القول بدقة ماذا يمثل بن نبي بالنسبة لمختلف التيارات الفكرية العالمية.
ولن يستخفنا المقام، لكي نعتبر أنفسنا مؤهلين في الوقت الحاضر إلى إحلاله في المقام الذي يعود إليه بين ابن خلدون، وهردر، وبوخار، وشبنجلر، وتوينبي، وباقي المفكرين والفلاسفة في هذا الوجود.
يكفينا أن نلفت الانتباه، إلى أنه من الضروري لكي نفهم الأعمال (البنابية) محتواها وتوجهاتها، أن ندرس بعناية المؤلفين الذين أشرنا إليهم هنا وفي الشروحات اللاحقة والتعليقات.
ليس هذا سوى إشارة أولى. فالمطلوب عمل وبحث، بكل معنى الكلمة من أجل أوسع معرفة حول مصائر مختلف المجتمعات والحضارات المعروفة.
فعندما نستذكر بن نبي فهذا يعني أننا نتكلم عن معنى الوجود، عن فن بناء الأمة، عن مستقبلنا التاريخي، فن بناء مفهوم الإنسانية في نهاية القرن
…
هذه الطبعة (القضايا الكبرى) لا تعني أننا بدأنا بأهم أعمال بن نبي بكل معنى الكلمة.
فالموضوعات التي عولجت في هذا الكتاب لا تشكل في الواقع، سوى الجزء اليسير من إنجاز بن نبي. فليس هنا سوى بعض النصوص، محاضرات ألقيت في الأصل في الجزائر وفي الخارج.
وقد اعتقدنا أنه من المفيد أن نضيف إليها شروحاً لبعض النقاط. لأن ذلك يضيء لقارئ بن نبي لأول مرة، ويرفده بالعناصر الوثائقية الملائمة لمزيد من البحث الجاد.
ولسنا بحاجة لأن نضيف، بأننا نأمل ألا نكون قد شوهنا فكر طبيبنا طبيب الحضارة، حين نعطي تفسيرات قد تكون خاطئة، أو نقحم فيه تعليقات في غير موضعها، أو نخضعه لمقارنات تحكمية.
هذا أكثر ما نخشاه.
أما فيما تبقى، فنحن أول من يدرك أن عملنا لا يخلو من قصور، وعلى كل فإن ما كتبه بن نبي هو وحده المهم.
…
الآن، لا بد للقارئ أن يعرف من كان وراء هذا العمل، مشروع طبع الأعمال الكاملة لمالك بن نبي. إنهما صديقان هما عمر بن عيسى، وعبد الرحمن بن عمارة، اللذان يكنان الإخلاص لبِنْ نبي ويمحضانه جهودهما، وهما بذلك يعطيان المثل لجيل باحث في العمق، في الطابع الثقافي لبناء وطننا.
إنني أحييهما، وأشكرهما على ما أولياني من شرف القيام بمهمة دقيقة هي تقديم ثمرة من ثمرات والتعليق عليها.
إذ كيف يمكن أن نرى في هذا العمل، غير المهمة التي تكشف للجيل الصاعد الروح التي تضع الجزائر في رؤية عليا للتاريخ، في أفق عالمي يتمازج مع الاتجاه الشامل للعالم.
نور الدين بوقروح