المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الديمقراطية في الإسلام - القضايا الكبرى

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ الديمقراطية في الإسلام

4 -

‌ الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ

محاضرة ألقيت بنادي الطلبة المغاربة

سنة 1960م

وقد نشرت مع مجموعة مقالات كتاب تأملات

ــ

ص: 131

سادتي:

ورثنا نحن معشر الشعوب الإسلامية، كما ورثت معنا وفي الظروف نفسها الشعوب الأفريقية الآسيوية التي خضعت مثلنا للدول الاستعمارية واحتكت بثقافتها وحضارتها في إطار الاستعمار، ورثنا من هذا الاتصال وبحكم القانون الذي يفرض على المغلوب عادات وتقاليد الغالب، ورثنا المقاييس المرتبطة بحياة العالم الغربي وبتجربته التاريخية، وتقبلنا بعضها لنقيس بها الواقع الاجتماعي لدينا، ونقارن على ضوئها ماضينا بما يسحر أبصارنا في حاضر هذه الأمم الغربية. هذه الأمم التي فرضت علينا عاداتها ومفاهيمها ومصطلحاتها وأسلوب حياتها، وهكذا رأينا هذه الأشياء كمسلمات يقتدي بها فكرنا ويهتدي بها اجتهادنا، ويستدل بها منطقنا، دون أن نحقق في درجتها من الصحة واتفاقها مع جوهر شخصيتنا، وفلسفة حياتنا. وكان أثرها في تفكيرنا أن أصبحنا نتناول في كتابتنا وفي حديثنا موضوعات جديدة مثل موضوع هذا الحديث أي الديمقراطية في الإسلام.

إننا حينما نقدم عنواناً كهذا لا نشعر عادة بأنه يتضن مسلمة لم يسلم بها تسليم المقتنع، وإنما نسلم بها خضوعاً لمسايرة العرف الذي فرضته علينا الحضارة الغربية، حتى أصبحنا نضم إلى الإسلام كل ما نعتقد أنه ذو قيمة حضارية دون أي تمحيص فيما يربطه أو يحدد درجة ارتباطه بالإسلام أو ينزِّه عنه الإسلام.

فالديمقراطية من تلك العناصر التي نتقبلها لنضيفها إلى التراث الإسلامي، مقتنعين بما يبرر هذه الإضافة ولو بصورة شكلية حتى يصبح الموضوع لا يفتح

ص: 133

بابه على نقطة استفهام: ((هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟))، بل ندخل فيه مباشرة من باب المسلمات، فنقول:((صفوا لنا الديمقراطية الموجودة في الإسلام)).

إن مشكلة الربط بين هذين المصطلحَيْن هي في نظري المشكلة الأساسية في الموضوع، يجب أولاً أن نميز بينهما وأن نعطي لكليهما ما تستحق شخصيته من التعريف، حتى يتبين في ضوء هذا التعريف أي قرابة توجد بين المصطلحَيْن.

وعليه يجب في خطوتنا الأولى أن نوضح وأن نعرف مصطلحاتنا: ما هو الإسلام؟ ما هي الديمقراطية؟

ولا بد هنا من ملاحظة: أن كل مصطلح كان في زمن ما كلمة محدثة، وإننا نعرف بالضبط متى حدثت كلمة (إسلام) في اللغة العربية وبمعناها الدارج، إنها لا شك من ابتكار القرآن.

ولكننا على جانب أقل من المعرفة فيما يخص مصطلح (ديمقراطية)، فنحن لا نعرف متى درجت في اللغة العربية كمفردة مستوردة، ولا نعرف حتى تاريخ حدوثه في لغته الأصلية، إنما نعرف أنه صيغ في اللغة اليونانية قبل عصر بركليس (1)، إذ أن المؤرّخ توسديد يذكره على لسان هذا القيصر في إحدى خطبه الموجهة إلى شعب أثينة. أي منذ خمسة قرون قبل الميلاد.

(1) في خلال احتفال جنائزي اختير بركليس ليؤبن فيه الضحايا الأولى لحرب بيلوبونيز التي وقعت بين أثينا وأسبرطة مجد بهذه الكلمات الأعمال الطيبة للديمقراطية التي كانت منتصرة على النظام الأرستقراطي: ((بما أن الدولة عندنا تدار لمصلحة العامة وليس لمصلحة الخاصة اتخذ نظامنا اسم الديمقراطية. وفيما يختص بالنزاعات الخاصة هناك المساواة التي تؤمنها القوانين للجميع، ولكن فيما يخص المشاركة في الحياة العامة، يحصل كل فرد على تقديره بحسب جدارته، وما يهم هنا ليست الطبقة التي ينتمي إليها وإنما قيمته الشخصية، هذا دون أن يشعر بالحرج من بؤس وضعه الاجتماعي واسوداده إذا كان يستطيع أن يخدم المدينة

)) (تاريخ حرب بيلوبونيز، الكتاب الثاني، فصل 37). =

ص: 134

هكذا نرى الصلة مفقودة بين المصطلحَيْن بالنسبة إلى الزمان وإلى المكان، وربما أمكن القول مجازفة، نظراً لهذا التباعد من حيث التاريخ ومن حيث الجغرافية، بأن ليس هناك (ديمقراطية في الإسلام).

ومن جهة أخرى فبقدر ما يكون اللفظ مشحوناً بالتاريخ، أي بقدر ما تكون له جذور في واقع وتاريخ البشر كما هو شأن الكلمتَيْن اللتَيْن نحلِّلهما، يكون شيء من التباس في هذا اللفظ التباساً يلبسه أحياناً معاني متعددة.

يجب إذن أن نرفع هذا الالتباس باختيار أي هذه المعاني نقصد بالضبط. إن كلمة إسلام وكلمة ديمقراطية تحتوي كلاهما على مضمون ثري يجب من الناحية العملية تبسيطه إلى أقصى ما يمكن حتى تتيسر المقارنة بينهما.

ما هي الديمقراطية في أبسط معانيها؟

إن أي قاموس اشتقاق في اللغة الفرنسية يدلنا على أن الكلمة، مركبة من مفردتين يونانيتين، وتعني (سلطة الشعب) أو سلطة الجماهير، كما تعودنا أن نقول اليوم، أي بتعبير تحليلي موجز (سلطة الإنسان).

ومن جهة أخرى ما هو (الإسلام)؟ في أبسط معاني الكلمة لعلنا لا نجد جواباً أفضل على هذا السؤال، من أن نستعيره من جواب النّبي صلى الله عليه وسلم ذاته على سؤال ورد في حديث مشهور، رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد والبخاري عن

= ويذكر في مكان آخر: (( .. على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس، وأن تطبق مساواة الجميع أمام القانون، وأن تصب الحريات العامة في هوية المواطن. ومن واجبها أن تساعد الضعيف وتضع الجدارة في مكانها الأول. إن التوازن المتناسق بين مصلحة الدولة ومصالح الأفراد الذين يكونونها تؤمن الانطلاق السياسي والاقتصادي والفكري والفني للمدينة، وذلك بحماية الدولة من الأنانية الشخصية، وبحماية الفرد عبر الدستور من تعسف الدولة)). [ط. ف].

ص: 135

أبي هريرة، في روايات متقاربة قال أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزاً يوماً للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟

إلخ

إلى أن قال ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان» .

فإذا قصرنا الأمر على ما يتصل بموضوعنا، ووضعنا أعيننا في هذا النص الجواب، الذي يستحق ثقة أكثر كجواب للسؤال المطروح، نرى أن الإسلام هو الإيمان بالله وحده، والقيام بالصلاة وأداء الزكاة والصيام.

وقد يقول من يشرح هذا الحديث أنه لم يذكر الحج لأنه ورد قبل أن يحدد فرض الحج.

ومهما يكن الأمر، فها نحن وضعنا للكلمتين التحديد المتفق مع أبسط معانيهما.

فهل يوجد وجه مقارنة بينهما بعد هذا التبسيط؟ أي وجه مقارنة بين مفهوم سياسي يفيد جمله تقرير (سلطة الإنسان) في نظام اجتماعي معين وبين مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان) إلى سلطة الله في هذا النظام أو في غيره.

هكذا ينتهي الأمر فيما يبدو إلى مناقضة أو ما يشبه مناقضة كالتي ظهرت بكل وضوح في الشعارات التي نادت بها الثورة الفرنسية في نضالها ضدّ الكنيسة (لا نريد ربّاً ولا سيِّداً)، فهذه المناقضة الصورية تزيد طبعاً في تباعد المصطلحَيْن، وفي صعوبة المقارنة التي نريد عقدها بينهما.

ولكن الصعوبة هذه ليست نتيجة الواقع الذي يدل عليه كلا المصطلحَيْن، بل إنها تنتج من كيفية تعبيرنا عن هذا الواقع.

ص: 136

إننا قد اخترنا مثلاً للتعبير عن الديمقراطية المعنى اللغوي كما يعرفه لنا أي قاموس اشتقاق، وهو مرتبط بتقاليد الثورة الفرنسية حيث يعتبر هذا المصطلح من إنتاجها اللغوي في هذا العصر.

ولكن ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديمقراطية، ونحددها دون ربطها مسبقاً بأي مفهوم آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها، أي في إطار عمومياتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق.

ففي مثل هذا الإطار، الذي ستتضح مبرراته فيما بعد، يجب أن نعتبر الديمقراطية من ثلاث وجوه:

1 -

الديمقراطية كشعور نحو الـ (أنا).

2 -

الديمقراطية كشعور نحو الآخرين.

3 -

الديمقراطية كمجموعة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.

فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية الذاتية والموضوعية، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديمقراطي، والعدة التي يستند عليها النظام الديمقراطي في المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد.

فهذه الاعتبارات تكوِّن العموعيات التي تتحدد في نطاقها المشكلة بما تقتضيه من الوضوح، فهي تدلُّ بالخصوص على أن الشعور بالديمقراطية مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما كانت تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة

ص: 137

الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين. فالشعور الديمقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان (1).

إن المؤرخ الفرنسي جيزو يتيح لنا في كتابه أوروبا من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى الثورة الفرنسية تتبع هذه الحركة أي التطور الذي أدى إلى ظهور الديمقراطية في أوروبا. ونمو الشعور الديمقراطي في البلاد الأوروبية.

فالمؤرخ الكبير يبين كم كانت أصول الديمقراطية الغربية بعيدة وبسيطة، وكيف تكون الشعور الديمقراطي ببطء، قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن؛ ذلك التصريح الذي يعبر عن التقويم الجديد للإنسان وعن التتويج الأسطوري والسياسي للثورة الفرنسية.

فالشعور الديمقراطي الغربي، قد بدأ يعبر عن نفسه، وهو لم يتخلص بعد من الغموض الملازم لكل ما هو في حالة تخلق ونشوء، خلال الحركتين التاريخيتين الكبيرتين، حركة الإصلاح وحركة النهضة. بل إن هاتين الحركتين هما أول تصريح بقيمة الإنسان الأوروبي في مجال الروح وفي مجال العقل.

فمن الواضح، أن هذا الدرس عن تاريخ أوروبا، الذي نقرؤه في كتاب جيزو، نجد الواقع الاجتماعي مطبوعاً ومغلفاً بخصائص المجتمع الغربي، مثل حركة الإصلاح والنهضة.

ولكن الحقيقة العامة بالنسبة إلى الشعور الديمقراطي، مهما يغشاها من قلة

(1) يقول مونتسكيو في مقدمة كتاب (روح القوانين)((في زمن يوسد فيه الجهل لا يوجد عندنا مجال للشك ولا حتى عندما نفعل أكبر الخطايا، وفي زمن النور نرتجف حتى عندما نقوم بأفضل الأعمال)) [ط. ف].

ص: 138

وضوح، حيث تلبس هنا ظواهر التاريخ الغربي وخصائصه التي لا يمكن أن تتكرر في تاريخ الأجناس والشعوب الأخرى، فإنها تبرز رغم ذلك تحت هذا الغلاف الخاص، أي عندما نخلص الموضوع من قيود التاريخ والسياسة ونعبر عن الأشياء بمصطلح علم النفس وعلم الاجتماع.

إن الشعور الديمقراطي في أوروبا كان النتيجة والمآل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة. فهذا هو معناه التاريخي الصحيح، ولكن هذا المعنى لا يفصل عن تاريخ أوروبا ليطبق على أمم أخرى.

ولكن القانون العام بالنسبة إلى طبيعة الشعور الديمقراطي، سواء في أوروبا أو في بلد آخر. هو أن هذا الشعور نتيجة لاطِّراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي، الحدّ الوسط بين طرفين كل واحد منهما يمثل نقيضاً بالنسبة للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور المستعبد المستبد، من ناحية أخرى.

فالإنسان (الحر) أي الإنسان الجديد الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها، هو الحدّ الإيجابي بين نافيتين تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية، ونافية الاستعباد.

ولهذا التطور ناحية شكلية لها دلالتها عندما يضفى على هذا الإنسان (الحر) لقب يعبر عن قيمته الجديدة؛ فبعد أن كان يعتبر ( Sujet) أي التابع إلى الملك أو مولاه، تسميه الثورة الفرنسية ( Citoyen) المواطن، وتحاكم الملك لويس السادس عشر فتسميه (المواطن كأبيه) أثناء المحاكمة، وبعد أن كان الفلاح الروسي يسمى (موجيك) في العهد القيصري، أصبح (الرفيق) بعد ثورة أكتوبر 1917، التي علقت على باب العهد الجديد صورة (الرفيق) ستالين.

ومن أثر هذه الشكليات أن يكون من بين أكبر الأسماء التي حلقت في سماء

ص: 139

الثورة الفرنسية اسم روبسبيير ( Robespierre)، حفيد أولئك الذين كانوا من قطيع ( SerFs) أي الخدم، و ( Mirabeau) حفيد أولئك الإقطاعيين ( Seigneurs) الذين مثلوا العهد البائد في فرنسا قبل الثورة.

فهذه هي الحقيقة العامة، الخالصة من ظروف البيئة والمطابقة لكل وسط إنساني مهما كانت ظروفه التاريخية الخاصة.

وهذا هو المقياس العام الذي تقاس به الأشياء بالنسبة إلى أي تطور ديمقراطي، سواء كواقع اندثر في طيات التاريخ، أو كمشروع نريد تحقيقه في واقع مجتمع.

فكل تطور من هذا النوع هو في جوهره عملية تصفية، تصفي الإنسان حتى يصبح الإنسان الجديد في صورة (المواطن) أو صورة (الرفيق) أي الإنسان الذي تخلص من رواسب العبودية ومن نزعات الاستعباد، التي تكون الصورة السلبية للشعور الديمقراطي.

والتاريخ يعطينا نماذج كثيرة من هذه الصور السلبية أي الصور المعبرة عن نفسية العبد ونفسية المستعبد.

إنه لا يخلو من الفائدة أن نذكر بعض هذه النماذج توضيحاً للموضوع وربما وجدنا بعضها حتى في الأدب.

فالإراشادات التي يعطيها شخص أورسوس إلى شخص جوينبلين في قصة فيكتور هوجو (الرجل الذي يضحك)، هي في الواقع إرشادات تنطق فيها روح العبد. حيث يقول أورسوس لزميله: ((هناك سنة يتمسك بها الكبار، فإنهم لا يعملون شيئاً، وسنة يتمسك بها الصغار، فإنهم لا يقولون شيئاً، إن الفقير ليس له صديق إلا صديق واحد: الصمت، إنه لا يجوز له أن يتفوه إلا بكلمة واحدة: نعم، فالاعتراف والرضا هو كل حقه، نعم إلى القاضي، نعم إلى الملك.

ص: 140

فالكبار ينهالون علينا ضرباً بالعصا، إذا ما حدثتهم نفوسهم .. إن هذا من حقهم، وإنهم لا يخسررون شيئاً من عزتهم إذا ما دكّوا عظامنا ضرباً .. )).

فمن البيّن أن فيكتور هوجو وصف فى هذا الحوار وبكل دقة نفسية العبد الذي يقول (نعم) في كل الظروف، ونشعر كم في هذه الكلمة الإيجابية في لفظها من سلبية في معناها، إذ إن (نعم) هنا تساوي نافية، تلغي قيمة الـ (أنا)؛ أي أنها تنفي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها الديمقراطية في نفس الفرد.

ولا يخلو الأدب العربي من هذه النماذج المعبرة عن نفسية العبد، إننا نجدها بالخصوص في كتاب ألف ليلة وليلة، حيث نرى في كل صفحة الأمير يأمر أو يهدد بضرب عنق، والجلاد يقول (نعم) السمع والطاعة يا مولانا.

وإننا لنجد صورة أخرى للنافية التي تنفي الشعور الديمقراطي نجدها في صورة المستعبد المستبد، كما يصفه القرآن الكريم لنا في الحوار المشهور الذي دار بين فرعون وموسى حيث يسأل الأول:

- {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟} [طه: 20/ 49].

فيرد الثاني:

- {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 20/ 50].

إننا نرى كم يعبِّر هذا السؤال عن نفسيّة الجبار المستبد الذي يريد استعباد الخلق، وكان ينتظر من موسى الاعتراف بمزاعمه في الربوبية، حتى أتى جواب الرسول فأثار غضبه لأنه كان رفضاً لمزاعمه.

ولكن المشهد يستمر فيزيد وضوحاً في تصوير المستبد، فنراه يندفع في كبريائه، ويرجئ الرسول إلى يوم الزينة ليكون موعداً له وللسحرة، فيتزايد غضب الطاغية المستبد عندما رأى كيد الشيطان مهزوماً والسحرة سُجَّداً:

ص: 141

{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} . فغضب الطاغية: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 20/ 70 - 71].

ليس من الضروري أن نتابع المشهد إلى آخره، فقد أعطانا صورة كافية للاستبداد في شخص فرعون بقدر ما يزداد غضبه على الرسول وعلى السحرة، فالموقف لا يعبر هنا عن (نافية) إزاء الـ (أنا)، بل عن نافية إزاء الآخرين أي أنه ينفي جانباً من الشعور الديمقراطي.

ولكن قد نجد أحياناً موقفاً يعبر عن النافيتين معاً.

إن تاريخ روسيا القيصرية ترك لنا قصة ذات دلالة في الموضوع إذ نرى أحد القياصرة، وهو فيما أعتقد القيصر إسكندر الأكبر، وقد كان في ضيافته أمير من الغرب، فأراد القيصر أن يبرهن لضيفه عن مقدار سلطانه على رعيته، فأشار بأصبعه إلى جندي كان يقوم بدور حراسة بأحد ممرات الدوريات المشرفة على هاوية سحقية، فبمجرد الإشارة ألقى الجندي بنفسه من ذلك العلو، كأنه آلة تحركت بالضغط على زر

فهذا المشهد يتضن بكل وضوح موقف العبد وموقف الرجل المستبد، أي نافيتي الشعور الديمقراطي.

ويمكن جمع الكثير من هذه النماذج، مثل رئيس الحشاشين؛ حسن السفاح، أو شيخ الجبل كما كان يلقب، فإنه كان أيضاً يتصرف في حياة أتباعه فيقوم أحدهم لمجرد الإشارة ليلقي بنفسه في هاوية معنوية، يلقي فيها ضميره.

وعلى كل فإن ما ذكرنا يكفي لتكوين إطار العموميات التي تحيط بالموضوع، وتكون مرجعاً يرجع إليه في هذا السياق.

ص: 142

فالقضية إذن عندما نتحدث عن الديمقراطية في الإسلام منوطة بهذه العموميات وهذا المرجع، أي بالعناصر الثلاثة التي قدمناها على أنها الشروط العامة لوجود الشعور الديمقراطي في أي بيئة.

وبالتالي فالسؤال هو: هل الإسلام يتضمن ويتكفل هذه الشروط الذاتية والموضوعية، أي هل يكون نحو (الأنا) ونحو (الآخرين) الشعور الذي يطابق الروح الديمقراطي كما بيَّنا، وهل يخلق الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟

وعلينا من وجهة عملية، وقبل الجواب على السؤال؛ هل يخلق الإسلام الشعور الديمقراطي؟ أن نتساءل: هل يخفف الإسلام حقيقة من كمية ومن حدة الدوافع السلبية، والنزعات النافية للشعور الديمقراطي، التي تطبع سلوك العبد وسلوك المستعبد؟

لا بدّ إذن وفي البداية على الخصوص أن نقدر كل مشروع يهدف إلى تأسيس ديمقراطية، على أنه مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى منهج شامل، يشمل الجانب النفسي، والأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي.

فالديمقراطية ليست إذن، كما نفهمها فهماً سطحياً عندما نتناول معناها الدارج، أي في حدود اشتقاق المفردة، ليست مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير، إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور.

وقد يكون هذا النص نفسه غير موجود في بلد معين إما لأن هذا البلد، لم يوضع في دستوره نظام دستوري، وإما لأن جباراً مستبداً جاء يلغيه، مثل نابليون في فرنسا، ومع ذلك لا تفقد الديمقراطية معناها في هاتين الحالتين، لأن معناها مرتبط بشعور، وبعادات، وتقاليد لا يكونها نص ولا يلغيها جبار.

فإنجلترا تتمتع بحياة ديمقراطية ممتازة، دون أن يكون في أساسها نص

ص: 143

دستوري خاص، يحمي الحقوق والحريات التي يتمتع بها فعلاً الشعب الإنجلنري، وإنما تحميها تقاليد الشعب ذاته وعاداته وأوضاعه النفسية، وعرفه الاجتماعي، أي في نهاية التحليل يحميها ما يمكن ان نسميه الروح الإنجليزي بالذات.

فليست الديمقراطية إذن في أساسها عملية تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملك وشعب مثلاً، بل هي تكوين شعور وانْفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية، تشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية في ضمير شعب، قبل أن ينص عليها أي دستور، والدستور ما هو غالبا إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديمقراطي عندما يصبح واقعاً سياسياً يدلُّ عليه نص توحي به عادات وتقاليد، ويمليه شعور في ظروف معينة، ولا يكون أي معنى لهذا النص إن لم تسبقه التقاليد والعادات التي أوحت به، أو بعبارة أخرى المبررات التاريخية التي دلَّت على ضرورته.

ومن هنا تبدو بكل وضوح تفاهة تلك الاستعارات الدستورية التي تستعيرها اليوم بعض الدول الإفريقية الآسيوية الناشئة، التي تريد إنشاء الوضع الجديد في بلادها، بالقياس على المنوال الذي تستعيره من بعض البلاد ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، إن هذه الاستعارة تكون تارة لازمة ولكنها لن تكون بكل تأكيد وحدها كافية، إن لم تصحبها الإجراءات المناسبة لبثّ ما يستعار في نفسية الشعب الذي يستعيره.

ومهما يكن في الأمر، فقد تبيَّن من الآن، أن الجواب على السؤال المعروض في هذا البحث؛ هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟ لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من السُّنة والقرآن، بل يتعلق بجوهر الإسلام بصفة عامة وعلى وجه الخصوص، ومن الوجهة التي تهمنا هنا، فإنه لا يسوغ لنا أن نعتبر الإسلام كدستور يعلن سيادة شعب معين، ويصرح بحقوق وحريات هذا الشعب، بل ينبغي أن نعتبره، في سياق حديثنا، كمشروع ديمقراطي تفرزه الممارسة، وترى

ص: 144

من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يكون محيطه، وهو في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديمقراطية، بحيث ترتبط حركته التاريخية بالمبادئ العامة، التي أقرها الإسلام في صورة بذور غرست في الوعي الإسلامي، وفي صورة شعور عام ودوافع تكون المعادلة الإسلامية في كل فرد من المجتمع.

ويجب أن نعتبر هذه الحركة الناشئة والمنشئة في لحظة بدايتها، أي في اللحظة التي تبتدئ تحقق شروط المشروع الديمقراطي الأولية، لأنها الشروط التي تتحقق بمقتضاها كل النتائج الاجتماعية المقبلة لهذا المشروع.

غير أننا أوضحنا فيما سبق، أن مرحلة التخلق والنشوء ترتبط بصورة شكلية، بتعبير جديد نطلقه على الإنسان، أي بتقويمه تقويماً جديداً ليصبح (المواطن) في الثورة الفرنسية، أو (الرفيق) في الثورة الروسية وتظهر، طبقاً لهذا التقويم، الاختلافات الأولى بين النماذج الديمقراطية المعروفة في التاريخ، حتى في المصطلح السياسي حيث نصبح نتكلم اليوم على (الديمقراطية الغربية) بأوروبا، و (الديمقراطية الشعبية) في الشرق، و (الديمقراطية الجديدة) في الصين (1).

فبصورة تزيد أو تنقص وضوحاً، نجد أنفسنا أمام نماذج ديمقراطية يختلف بعضها عن بعض، بمقدار تقويمها الجديد للإنسان بالقيمة التي تعطى له في صورة شكلية، تعبر بصورة رمزية عن بداية أو تدشين المشروع الديمقراطي في البلد، ووضعه في الطريق نحو القيم والمثل الديمقراطية.

وهذا التقويم الجديد للإنسان، يطبع من البداية فعالية المشروع وأثره في

(1) يمكن لتقويم الإنسان هذا أن يخضع لتغيرات غريبة كما تبيّنه لنا هذه الجملة التي يقولها لينن: ((ليس من المهم أن تموت ثلاثة أرباع الإنسانية إذا كان الربع الحي الباقي شيوعياً)) (يذكرها كيسرلنج Keyserling في التحليل الطبقي لأوروبا، ص 329). [ط. ف].

ص: 145

المجال النفسي، بالنسبة إلى الدوافع السلبية التي تقاوم المقومات الديمقراطية في نفس العبد ونفس المستعبد، فهو يكون إذن مقياساً تقاس به الأشياء في هذا السياق، وتميز به النماذج المعروفة في التاريخ، من النموذج الذي حققته أثينة منذ ثلاثة آلاف سنة، إلى النموذج الذي تحققه الصين اليوم.

ولكننا عندما نعتبر هذه النماذج، عدا النموذج الإسلامي وبالنسبة إليه، نجد أنها تستهدف في أساسها، إما منح الإنسان بعض الحقوق السياسية التي يتمتع بها (المواطن) في البلاد الغربية، وإما الضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها (الرفيق) في البلاد الشرقية.

أما الإسلام، فإنه يمنح قيمة تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية. لأنها القيمة التي يمنحها له الله في القرآن في قوله:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 17/ 70]. فهذا التكريم يكون- أكثر من الحقوق أو الضمانات- الشرط الأساسي للتعبير اللازم في نفس الفرد، طبقاً للشعور الديمقراطي سواء بالنسبة للأنا أم بالنسبة للآخرين، والآية التي تنص على هذا التكريم تبدو وكأنها نزلت لتصدير دستور ديمقراطي يمتاز عن كل النماذج الديمقراطية الأخرى، دون أن تعبر عنه نصوص قانونية محددة، فنظرة النموذج الإسلامي إلى الإنسان، هي نظرة إلى التكريم الذي وضعه الله فيه، أي نظرة إلى الجانب اللاهوتي فيه، بينما النماذج الأخرى تمنحه النظرة إلى الجانب الناسوتي والجانب الاجتماعي، فالتقويم الإسلامي يضفي على الإنسان شيئاً من القداسة، ترفع قيمته فوق كل قيمة تعطيها له النماذج المدنية.

والفرق ليس في المفردات ولكن في معناها، في واقع الأشياء بالنسبة إلى شعور الإنسان نحو نفسه ونحو الآخرين.

فالإنسان الذي يحمل بين جانبيه الشعور بتكريم الله له، يشعر بوزن هذا

ص: 146

التكريم في تقديره لنفسه وفي تقديره للآخرين، لأن الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبددت في نفسه.

ثم إن الإسلام الذي وضع في نفسية المسلم هذا التوجيه العام، قد وضع عن طريقه- يميناً وشمالاً- حاجزين، كي لا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد.

وهذان الحاجزان مذكوران بالإشارة في آيتين، تذكر الواحدة الهاوية ذات اليمين والأخرى تذكر الهاوية ذات الشمال، فيقول عز وجل:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:28/ 83].

فهذا الحاجز وضع بكل وضوح على حافة الاستعباد، حتى لا يقع فيه المسلم، أما الحاجز الآخر الذي يحفظه من هاوية العبودية، فهو مذكور في قوله عز وحلّ:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 4/ 96 - 98].

ومجمل القول، إن المسلم محفوظ من النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، الموجودة أو المدسوسة في طينة البشر، بما وضع الله في نفسه من تكريم مقدس، وما جعل عن يمينه وشماله من معالم، ترشد طريقه حتى لا يقع في وحل العبودية أو وحل الاستعباد.

ومما يدعم شعوره بهذا التكريم العام الذي منحه كإنسان، فإنه يشعر بتكريم خاص قد منحه كمؤمن في قوله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 63/ 8].

ص: 147

وهذه العزهّ الموهوبة للمؤمن لا تعرضه للكبرياء، لأنها لا تعني المجد التالف المتصل بالأشياء المادية، بل هي العزة في سموّ الأخلاق، وعلوّ الهمة.

وهكذا نرى أن الدوافع السلبية التي من شأنها أن تدفع المسلم إلى الهاوية، من ناحية أم من أخرى، يسيطر عليها الشعور الإيجابي الذي وضعت في نفسه بذوره بصفته مسلم.

وعليه فإن (الديمقراطية) مغروسة أولاً في ضمير المسلم، مع التقويم الجديد الذي حدّد في نظره قيمته وقيمة الآخرين.

ولا شك أن عبارة (الديمقراطية الجديدة) في الصين الشعبية، تعني أولاً هذا التقويم الجديد للإنسان، قبل أن تعني قوانين جديدة ومصانع جديدة وطرقاً جديدة .. فهي تهم (أولاً عالم الأشخاص قبل أن تهمّ عالم الأشياء).

وإذا أردنا أن نعرف شيئاً هو الديمقراطية الإسلامية، فإن هذا الشيء يعني أولاً (تطعيم) الإنسان، وتحصينه ضدّ النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، وتصفية هذه النزعات في نفسه.

أما الديمقراطية العلمانية أو اللائكية، فإنها تمنح الإنسان أولاً الحقوق والضمانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لأمرين فهو إما أن يكون ضحية مؤامراتٍ لمنافع معينة، ولتكتلات مصالح خاصة ضخمة؛ وإما لأن يجعل الآخرين تحت ثقل دكتاتورية طبقية، لأنها لم تصف في نفسه دوافع العبودية والاستعباد، لأن كل تغيير حقيقي في المجتمع لا يتصور دون تغيير ملائم في النفوس. طبقاً للقانون الأعلى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/ 11].

وهكذا تظهر بوضوح أكثر، العلاقة العضوية بين الإسلام والديمقراطية؛

ص: 148

العلاقة التي لم يكن من السهل توضيحها في صدر هذا الحديث، عندما كنا نحاول تحديد وجه التشبيه والمقارنة بكلمة ديمقراطية مأخوذة في معناها الاشتقاقي، أي باعتبار المشروع الديمقراطي على أنه مجرد مشروع تسليم سلطات إلى الشعب بمقتضى نصوص دستورية معينة.

وهكذا يظهر أيضاً بوضوح أكثر، الخطأ الذي نقع فيه عندما نستعير من بلاد معينة دستوراً ديمقراطياً جاهزاً، لأننا في مثل هذه الحالة لا ننقل مع النصوص الدستورية المستعارة كل الأُسس النفسية، والتجربة التاريخية التي أملت هذه النصوص في بلاد مولدها، كأنما نقوم بمشروع ديمقراطي على غير أساس في صميم الواقع. إن هذه الملاحظات تتيح لنا، منذ الآن، التقرير بشرعية الحديث عن (الديمقراطية في الإسلام) كما وردت عبارتها في عنوان هذا الحديث.

ولكن يجب أن نتساءل، كيف تتحقق هذه الديمقراطية المؤسسة بالصورة التي بيَّناها في عالم النفس المتصل بالضمير والشعور، كيف تتحقق في عالم الواقع المحسوس، في الأعمال الخاصة والعامة، في نطاق الأفراد والحكومات، وفي حياة النظم والمنظمات؟

وبالخصوص يجب أن نتساءل، هل تكفل هذه الديمقراطية ما تكفله الديمقراطية اللائكية للفرد من حقوق وحريات سياسية، ومن ضمانات اجتماعية؟

هذا هو الجانب الآخر، الجانب الموضوعي، وقد يلاحظ أن مبررات هذا الفصل، يجب أن تكون مستقاةً من واقع المسلمين اليوم، لا من نصوص دينهم.

ولكن ليس لهذه الملاحظة إلا قيمةً شكليةً، لأننا عندما ندرس ديمقراطية أثينا، على وجه المثال، فإننا لا نبحث عن مبرراتها في واقع الشعب اليوناني

ص: 149

اليوم، دون أن يعني هذا، أن الجيل اليوناني المعاصر قد فقد القيم التي تميزت بها الديمقراطية في عصر أفلاطون.

فلا حرج إذن في اعتبار الديمقراطية في الإسلام، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عامة. ولكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع.

فمما يتعارف عليه الناس ويؤكده التاريخ، فإن التقاليد الإسلامية نشأت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين.

فإذا اتفقنا على وجهة النظر هذه؛ وهي وجهة نظر فقهاء الإسلام، فالمشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام، قد أخذ طريقه للتحقيق نحو الأربعين سنة تقريباً.

ففي هذه المدة، وضعت كل الأصول النفسية التي تقدم ذكرها تكملها وتدعمها مقدمات جديدة، لتكون الأساس المعنوي للديمقراطية الإسلامية.

فإحدى هذه المقدِّمات يجب ذكرها بالخصوص، لأنها تكمل تقويم الإنسان في نقطة رئيسية تتصل بالعبد في المجتمع الإسلامي.

إننا نعلم، أن ديمقراطية أثينا لم تعطِ أي أهمية لهذه القضية؛ قضية الرقيق، إلا من الوجهة الانتفاعية حيث كان الرقيق من مقومات النظام الاقتصادي، حتى إن أحداً لم يفكر في إطار هذا النظام في وضع مبدأ لتحرير الرقيق فيكتمل بذلك تقويم الإنسان فيه. بينما يأتي الإسلام فيقرر هذا المبدأ بكل وضوح: فيشمل بذلك تقويمه الإنسان الذي وقع في قيد الرق، بمقدمات أو أصول فقهية نجدها في القرآن وفي السُّنة، وتكون في الواقع تشريعاً لعتق الرقيق بصورة تدريجية.

ص: 150

ومن بين هذه المقدمات التي يمكن ذكرها، قوله عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ

} [البلد: 90/ 10 - 13].

فهذا التقريع للإنسان الحرّ كأنما يهدف إلى وضع قضية الرقيق في ضميره، كي تأخذ هكذا طريقها إلى الحلّ، أي طريق التحرير التدريجي.

وهذا التوجيه العام يظهر في آيات أخرى، كالآية التي تحدد موضوع الصدقات حيث يقول عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ

} [التوبة: 9/ 60].

كما يظهر أيضاً في الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النّار» .

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه» .

وفي حديث آخر حيث يوصي صلى الله عليه وسلم بشأن الرقيق: «إنهم إخوانم وضعهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون» .

وفي حديث يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق، حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم» .

فهذه النصوص كلها تكمل، من نواح مختلفة، التقويم الأساسي للإنسان، التقويم الذي يقوم عليه- كما قدمنا- المشروع الديمقراطي، تكميلاً يجعل هذا المشروع يضم في خطوطه العامة مصير الرقيق إلى مصير الإنسان الحر، وبحيث يضيف الرقيق إلى عالم الآخرين، أي عالم الأشخاص بعد أن كان من عالم الأشياء، وذلك لأول مرة في التاريخ.

ص: 151

ثم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام، هذه التوجيهات كلها في حجة الوداع، في خطبته بهذه المناسبة، وهي الخطبة التي وضعت فيها ظروف هذه الحجة وملابسات التاريخ معنى الوصية الروحية التي خلفها الرسول لمن يأتي بعده من أجيال المسلمين. ومعنى التصريح بحقوق الإنسان حيث يقول عليه الصلاة والسلام:

«يا أيّها الناس إن ربّكم واحد. وإن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر، فضلٌ إلا بالتقوى

».

فهذا الحديث يكمل في مناسبة يملؤها الجلال والتأثير، فلسفة ومنهج الإنسان في المشروع الديمقراطي الإسلامي.

ولكن إذا كانت لهذا المشروع هذه الأسس النظرية، فلا بد أن يكون له من ناحية أخرى، آثاره الملموسة في صيم الواقع: في الأعمال الفردية والحقوق والضمانات التي يتمتع بها الفرد، وفي الأعمال الصادرة من الحكم وفي امتيازاته، وحدود سلطته، وفي كيفية تكوينه أو صورة شرعيته، أي في جميع الصفات الظاهرة للديمقراطية.

ولا شك أن لهذه الآثار وضوحاً أكثر، في فترة التخلق الدستوري، التي تصب خلالها النصوص النظرية في الحقائق الاجتماعية، في أعمال وسلوك الجيل الذي وضع المشروع الديمقراطي الإسلامي في طريق التحقيق، من اليوم الذي أشرقت فيه الهداية المحمدية إلى يوم صفين.

وتأثير المبادئ في هذا المجتمع الناشئ يظهر أكثر ما يظهر في الجانب المحسوس، كما تظهر حدودها المتصلة بهذا الجانب في واقع الحياة الاجتماعية.

ص: 152

فمدى تأثير المبادئ يظهر فعلاً مع حدودها في واقع الحياة، في الفترة المطابقة لطور التخلق والتكو ين الديمقراطي. وإذا راجعنا هذا الطور، سنجد عدة مبادئ نظرية مع حدودها في التطبيق، كالمبدأ الذي يؤسس الحكم الإسلامي على طاعة المحكومين لأولي الأمر، كما ورد في الآية الكريمة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. } [النساء: 4/ 59].

فهذا المبدأ يقرر، طبقاً للنص، امتيازات الحكم.

ولكن في اليوم ذاته، الذي يستم فيه عمر رضي الله تعالى عنه مقاليد هذا الحكم نراه يبيّن هو نفسه الحدود، الواقعية للمبدأ النظري، إذ يبيّن للمؤمنين الذين بايعوه، أي عاهدوه على الطاعة، حدود هذه الطاعة في خطبته المشهورة:(( .. من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومني .. )).

فنرى هكذا، كيف تتصور فكرة الحكم، في ضمير حاكم في اللحظة البارزة من التاريخ الإسلامي، التي يستلم فيها مقاليد الديمقراطية الإسلامية.

ولكن هذه اللحظة تعطينا أيضاً صورة لفكرة الطاعة في ضمير محكوم، إذ نرى أعرابياً يرد على الخليفة فيقول:((والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بسيوفنا)).

إننا نرى الطاعة والحكم محدودين بالاعتبارات نفسها في ضمير المواطن البسيط وضمير رجل الدولة.

وهكذا تبرز في صميم الواقع الذي سجّله التاريخ، فكرة الحاجزين اللذين وضعهما الإسلام على يمين وشمال المسلم، في طريقه نحو تحقيق الديمقراطية

ص: 153

الإسلامية، كما بيَّنا، حتى أنه في مقابل الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية (لا نريد ربّاً ولا سيّداً)، يمكنه أن يعلن شعار الثورة الإسلامية (لا نريد عبودية ولا استعباداً).

وكذلك تبرز في هذه الفترة الخلاقة المبادئ لتي تحمي الحريات المعنوية، فحرية الضير تبرز في هذه الآية:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 2/ 256].

أما حرية العمل والتنقل، فإنها مقررة في قوله عز وجل:

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ .. } [الملك: 67/ 15].

أما حرية التعبير، فإنها دخلت في العرف منذ الأيام الأولى من العهد الإسلامي، فالنَّبي عليه الصلاة والسلام كان يعود أصحابه على مناقشة آرائه وتقاريره، ففي يوم بدر، نراه صلى الله عليه وسلم يحدد ميدان المعركة في المكان الذي ظهر له الأنسب لذلك، ولكن أحد أصحابه من الأنصار اقترح مكاناً غيره، قد ظهر له أصلح بالنسبة إلى الحاجة الحربية، وتقول السُّنة التي تروي لنا هذا الخبر، أن النَّبي عليه الصلاة والسلام قد عدل رأيه طبقاً لوجهة نظر صاحبه، وقد شرع هكذا سنة نجد أثرها البليغ في توجيه الرأي الإسلامي فيها بعد، كما نرى ذلك في قضية تحديد الصداق مثلاً، عندما أراد عمر في أيامه أن يضع حدّاً أعلى لتقدير المهور، حتى يتيسر الزواج لكل مسلم، فأبدى رأيه في الموضوع على المنبر، ولكن امرأة عجوز خالفته في الرأي مستشهدة بآية تترك تحديد الصداق إلى تقدير الزوجين أنفسهم، وما كان موقف الخليفة إلا أن قال:((أصابت امرأة وأخطأ عمر)).

وكذلك يقرر القرآن مبدأ حصانة المنزل، في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا

ص: 154

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 24/ 27].

ولكن هذا التوجيه العام، الذي يقرر ويحمي الحريات الفردية في كل اتجاه، يضع في الوقت نفسه الحدود اللازمة لهذه الحريات في حديث مشهور، إذ يقول عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري:«مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» .

فهذا الحدّ الموضوع لكل حريةٍ فرديةٍ في ظروفٍ معينة، يكون أساساً مهمّاً في التشريع الإسلامي، حيث تقدم فيها مصلحة المجتمع على مصلحة الأفراد. ولكن العمل يجري على أساس التخفيف الأدبي والمادي من حدة الاستثناء المسلط على حريات الفرد في مثل هذه الظروف. ومما يحكي بهذا الصدد:((أن امرأةً يهوديةً أرادت أن تحتفظ بملك لها يقع داخل الحدود التي عيّنها التخطيط لبناء مسجد عمر في بيت المقدس، فأراد القائم بالمشروع تنفيذ المخطط دون التفات إلى وجهة نظر المدعية، على اعتبار أسبقية المصلحة العامة، ولكن المدعية رفعت قضيتها إلى الخليفة الذي أوفاها رغبتها)) .. وربما كانت وجهة نظره مقررة على أساس أن بناء مسجد لا يكون مصلحة عامة بالنسبة إلى يهودية.

وهذه المعاملة في القضاء الإسلامي، تدخل أولاً في نطاق التقويم العام للإنسان، بصفته إنساناً وضع في طينته التكريم، بقطع النظر عن كونه رجلاً أو امرأةً، مسلماً أو يهودياً، ثم يحددها ما ورد في نطاق القضاء، في قوله عز وجل:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 4/ 58].

ص: 155

ولا ريب أن آثار المبادئ الظاهرة بكل وضوح في الأعمال والمواقف، تظهر خلال الفترة التي يدخل فيها المشروع الديمقراطي الإسلامي في قيد التحقيق.

فإذا وجدنا في الآية السابقة النص النظري الذي تقوم عليه عدالة القضاء الإسلامي، فإننا نجد في وثيقة أخرى الصورة الواقعية لهذه العدالة، فهذه الوثيقة التاريخية التي من شأن القضاء الإسلامي أن يعتزّ بها، هي وصية عمر رضي الله عنه للقاضي أبي موسى الأشعري، الذي كان بمثابة النائب العام للجمهورية في أيامنا، إذ يقول له:

((آسِ- أو ساو- بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك)).

إن هذه الوصية لم تبق رسالة مهملة، بل كان أثرها بليغاً في الواقع. كما تدلُّ على ذلك الأمثال الكثيرة في عهد التخلق الديمقراطي الإسلامي.

وهذه التفاصيل كلها، تكون في الحقيقة السمات العامة لا يسمى ديمقراطية سياسية، أي سمات النظام الذي يمنح الفرد الضمانات اللازمة ضدّ كل تعدّ من جانب الحكم. والإسلام نظام من هذا النوع حتى في الصورة الشكلية، التي يتكون عليها الحكم الإسلامي، حيث إن رئيس الدولة يستلم سلطاته بمقتضى مبايعة الأمة- أو الشعب كما نقول اليوم- ممثلةً في بعض الرجال البارزين خلقاً وعقلاً، يمثلون هيئة على نمط مجلس شيوخ، يعينون الخليفة بالمبايعة طبقاً لمبدأ الشورى الذي يقرره القرآن بصورة خاصة، عندما يوصي النّبي صلى الله عليه وسلم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 3/ 159]. أو بصورة عامة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 42/ 38].

فعلى هذه الاعتبارات، يصح القول بأن الحكم الإسلامي ديمقراطي في مصدره وفي عمله، كما قدمنا. والإسلام يتضن كل السمات التي تطبع الديمقراطية

ص: 156

السياسية، التي تمنح الفرد مسؤولية في تأسيس الحكم والضمانات اللازمة التي تحميه من جور هذا الحكم.

ولكن التجربة التي تجري للديمقراطية السياسية في العالم منذ عهد الثورة الفرنسية، تدلُّ على ضعف حريات الفرد، في الواقع، عندما لا تحميه في الوقت نفسه الضمانات الاجتماعية التي تكفل حريته المادية.

ولقد رأينا في البلاد المتطورة، كيف يصبح (المواطن الحر) عبداً مجهولاً لمصالح كبيرة تتحد ضده، وكم تضيع عليه بهذا السبب المنافع المنتظرة التي يمنحها إياه، بصورة نظرية، تصريح بحقوق الإنسان ودستور لا يكون لهما أثر ظاهر في حياته.

كما رأينا، كيف أن البلاد التي يحدث فيها هذا الاختلاف بين القيم السياسية والقيم الاجتماعية، تعاني صراع الطبقات الذي ربما ينتهي إلى تأسيس نوع من الديمقراطية، يعطي (المواطن) الضمانات الاجتماعية اللازمة. ولكن على حساب حرياته السياسية.

ولكن الإسلام تلافى هذا المعوق، لأنه أتى لمشكلات الحياة المادية المتصلة بالنظام الاقتصادي، بالحلول المناسبة، دون أن يمسّ الفرد في حرياته الذاتية.

وعليه، فالإسلام يبدو وكأنه جمع موفق بين مزايا الدطقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.

فالتشريع الإسلامي يتمم فعلاً السمات السياسية التي قدمناها، بسمات ديمقراطية أخرى، متصلة بالجانب الاقتصادي.

فالمشروع الديمقراطي، في المجال الاقتصادي، يقوم على مبادئ عامة، تهدف إلى توزيع الثروة حتى لا تصبح دُولة بين أيدي بعض المترفين.

ص: 157

فعندما يقرر القرآن الزكاة، فإنه يضع أساس تشريع اجتماعي عام، قبل أن تدرج في العالم الأفكار الاجتماعية التي ألفناها فيه اليوم.

فعندما يصف الرسول ضرورة هذا المبدأ، فإنه يصفه بمبررات تزعم الاشتراكية أنها تنفرد بها اليوم، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله اقتطع من أموال المسلمين الأغنياء نصيباً هو نصيب الفقراء، لأن الفقراء، لا يجوعون ولا يعرون إلا بسبب الأغنياء)).

وهذا المبدأ، كالمبادئ التي يقررها القرآن والسُّنة، لا تحققه أعمال الأفراد فحسب- حيث أن كل مسلم يحاول القيام بهذا الواجب حتى في أيامنا- بل أعمال الحكم أيضاً، وآثاره المرئية تظهر في التوجيهات الحكومية في عهد التخلق الديمقراطي وفي السيرة، حيث نجد هذه الآثار واضحة؛ فعمر رضي الله تعالى عنه سمع مولوداً يبكي، وقد علم أنه يبكي لأن أمه قد فطمته، لتحصل على منحة يدفعها بيت المال للأمهات اللواتي فطمن أولادهن، فأذاع الخليفة في المدينة لائحةً خاصةً بالأمهات المرضعات، يقول لهن:((ألا لا تعجلوا صبيانكم على الفطام فإنا نفرض لكل مولودٍ في الإسلام)).

فهذه اللائحة تعطينا فكرة عن تنظيم الحضانة الرسمية للأطفال، هذه الحضانة التي لم تتحقق بهذه الصورة حتى اليوم في أوروبا، إذ أن مثل هذه المنح عندما تدفعها حكومة أوروبية، فإنها لا تكون باسم الطفل مباشرة، كالمنحة التي يقدمها بيت المال في زمان عمر، وإنما تقدمها باسم (منحة الأمومة)، فالنتيجة واحدة لا شك، ولكن بين الطريقتين شيء من الاختلاف يميز الطريقة الإسلامية في العهد الديمقراطي.

ولا شك أننا نعجب بهذا المثل، لا يبدو فيه لرجل الدولة مثل عمر من سمو الضمير، ومن اهتمام بواجباته نحو الجمهور، ولكن في مناسبة أخرى نرى أن الجمهور

ص: 158

نفسه يشعر بحقوقه، كما يتبين من خلال قصة المرأة المسكينة التي أبدت استياءها من الفقر، راميةً عمر بأسبابه، حتى تتهمه دون أن تدري أنها تتحدث معه، بالإهمال في شؤون الأمة. إننا في الواقع لسنا أمام ضمير خليفة في حالة، وضمير امرأة مسكينة في حالة أخرى، بل نشعر بأننا أمام الضمير الديمقراطي الذي صاغه الإسلام. وأن ما يتحرك في هذا الضمير أو ذاك، إنما هو الشعور بالقيمة الأساسية التي قدر بها الإنسان، ووضعت في ضمير المسلم كأساس لكل البناء الإسلامي، في الجانب الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.

ثم يقرر الإسلام مبدأ آخر يضعه كأساس لبناء الاقتصاد؛ وهو مبدأ تحريم الرِّبا. فكان لهذا التحريم الأثر الكبير في تحديد صورة الاقتصاد الإسلامي، بحيث أضفى عليه من اللحظة الأولى الطابع الديمقراطي، لأنه لم يسمح بالتجارة في المال والنقود التي تقوم على مبدأ الرِّبا، وتحتكرها بعض البنوك.

وبذلك لم يتح للمال أن يحقق لطبقة معينة أو لبعض الأفراد، السلطة المطلقة على الحياة الاقتصادية، كما يحدث في النظام الرأسمالي. إذ يتيح الرِّبا السلطة التامة للاحتكار على التجارة، وللتكتل المالي على الصناعة بواسطة البنك الذي يحقق تركيز رأس المال، أي سلطة المال إلى أكبر درجة ممكنة، بالنسبة إلى إمكانيات عصر معين.

فالتشريع الإسلامي، أعفى الاقتصاد من سلطة الدرهم المطلقة، تلك السلطة التي أحدثت في البلاد المتطورة أزمات اجتماعية تواجهها أحياناً بالثورات العنيفة.

وربما يجب القول، بأن هذا التشريع لم يخفف من حدّة الدرهم في مجال الاقتصاد فحسب، بل خفف من حدته في المجال الروحي إذا صحَّ التعبير، حتى

ص: 159

إنه يعفي المجتمع من الأزمة الأخلاقية .. المتفشية اليوم في الحياة التي تستضيء بأضواء الحضارة الغربية ..

فالإسلام لم يقاوم فقط الاحتكار الكبير الذي يقلل كمية المنتجات حتى ترتفع أسعارها في السوق، بل يقاوم كل احتكار يؤدي على أي طريقة إلى ارتفاع الأسعار. إن كل وسيط بين المنتج والمستهلك يخفي صورة الاحتكار الذي يكون المستهلك ضحيته، فالوسيط ضرب من الطفيلية في مجال الاقتصاد.

ولكن التشريع الإسلامي يدين كل ضرب من الطفيلية، يدل على ذلك الحديث المروي عن أبى هريرة رضي الله تعالى عنه، حيث يقول:((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التلقي، وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ)).

فهذا الحديث يفيد، بروحه إن لم يكن بحرفه، استنكار الاحتكار حتى في صورته المصغرة، حيث أن البادي لو باع بضاعته بنفسه، لباعها بسعر اليوم، أما الحاضر فإنه يمكنه إرجاء البيع إلى ما بعد، لأنه من سكان المدينة، وفي إمكانه عرض البضاعة في السوق في الوقت المناسب، أي في الوقت المناسب له على حساب المستهلك.

فالإسلام يدين هذه الطفيلية؛ ولا يسمح كذلك ببيع المأكولات التي ليست بعد في حوزة البائع، كما يدلُّ على ذلك الحديث المروي عن أنس بن مالك، إذ يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهر أي تحمر، فقال:((أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟)).

فهذه العناصر التشريعية التي تكون الجانب الاجتماعي في الديمقراطية الإسلامية، قد كان لها أثرها الظاهر في الواقع المحسوس الخاص بالمجتمع الإسلامي، وقد أثرت على نموه المادي، طبقاً للهدف المزدوج الذي استهدفه الشرع، حتى

ص: 160

لا يقع المسلم في وضع العبد الذي تستعبده الأوضاع الاقتصادية، أو أن يصبح الرجل المستبد وبيده صولجان الذهب.

وهكذا يتبيَّن، أن المبادئ التي قررها الإسلام في المجال السياسي والمجال الاجتماعي، ووضعها في أساس ما يمكن أن نطلق عليه (الديمقراطية الإسلامية)، قد تحققت فعلاً في واقع المسلمين. وقد كان أثرها حقيقياً في سلوك الأفراد وفي أعمال الحكم، على الأقل في فترة التخلق الديمقراطي التي عرفنا فيما سبق حدودها الزمنية في التاريخ الإسلامي.

ولا شك أن التقويم الأساسي للإنسان الذي قام عليه المشروع الديمقراطي في الإسلام، هو السبب الجوهري في هذا التحويل الذي حول المبادئ النظرية إلى حقائق اجتماعية ملموسة.

فقبل أن يذيع عمر اللائحة الخاصة بالأمهات المرضعات التي أشرنا إليها، أي قبل أن يصدر الحاكم أمره فقد كان الإنسان الذي يعود إلى نفسه في لحظة يراجع فيها ضميره فترتفع منه تلك الصرخة المثيرة التي سجلها التاريخ في آثار ابن الخطاب إذ صرخ ((يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين)) (1).

فلكي نعطي هذا الفصل قيمته، يجب ألا نتصور اطراده في الزمان، حيث يبدو أن العامل الحكومي قد سبق، بإصدار اللائحة التي أشرنا إليها، العامل الأخلاقي بل أن نتصوره أولاً في الضمير الذي كان يحتوي صرخة عمر قبل أن يصدر أمره الحكومي، الذي يسجل في النظام الإداري في صورة لائحة، الأثر الظاهر لنظام خلقي تحويه نفسه.

(1) من أراد أن يطلع على هذه القصة بأكملها يجدها في طبقات ابن سعد، الجزء 3 قسم واحد [ص:217]، ونغتنم هنا الفرصة للتعبير عن شكرنا للأستاذ الكبير محمود شاكر الذي دلنا على هذا النص كما دلنا على نصوص الأحاديث الواردة هنا.

ص: 161

فهذا الاطراد هو في الواقع اطراد للشعور الأساسي نحو الـ (أنا) ونحو الآخرين، الشعور الذي وضعت بذوره في الضمير الإسلامي في صورة تقويم جديد للإنسان كما بيَّنا.

فالطفل الذي لا زال في ثدي أمه، ليس في نظر عمر، سوى الرجل المحرد أو (المواطن) المتوقع، فالخليفة لا يرى فيه مجرد إنسانيته أو مجرد حضور المجتمع في شخصه، بل يرى فيه أكثر من ذلك، يرى فيه حضور القيمة التي لا تقدر، والتي وضعها الله في جوهره قبل أن يولد في هذا العالم، وقدرها عز وجل يوم كرم آدم.

يجب أن نعترف، بأن الشيء الذي يمكن التعبير عنه، بمصطلح اليوم بالروح الديمقراطي الإسلامي، إنما يحمل في جوهره سمة القداسة، والتاريخ قد يبين تأثير المبادئ عندما يضفى عليها شيء من القداسة.

ولقد لاحظ القارئ لا شك، أن الأمثال التي أوردناها هنا قد انتقيناها من الفترة التاريخية التي بيَّنا حدودها الزمنية بين الهجرة وصفين.

وربما تساءلنا عما حدث بعد صفين؟ وهل التفاصيل التي قدمناها ترتبط بصورة ما بواقع المسلمين اليوم؟

فهذان السؤالان ليسا في نطاق هذا الحديث، الذي يقتصر فقط على وصف الطابع الخاص بالعهد الديمقراطي الإسلامي، أي بالفترة التي تنتهي مع الخلفاء الراشدين، مع واقعة صفين، التي تمثل نقطة التحول في تاريخ العالم الإسلامي، والفاصل الذي منع المشروع الديمقراطي الإسلامي من أن يواصل سيره في التاريخ.

ولكن هذا التحول لم يمح آثار هذا المشروع في النظام الإسلامي، لقد دامت

ص: 162

ظاهرة فيه فترة طويلة، حيث نجدها حتى بعد صفين في سلوك الأفراد وفي أعمال الحكم أحياناً.

لا شك أن عهد معاوية مثلاً كان، من الوجهة التي تهمنا هنا، عهد تقهقر الروح الديمقراطي الإسلامي.

ولكن إذا لاحظنا أن الطاغية المستبد قد ظهر من جديد في شخص الحاكم، يجب أن نلاحظ أن العبد لم يظهر بعد في شخص المحكوم ما دام متمسكاً بالروح الإسلامي، كما يدل على ذلك تفاصيل كثيرة خاصة بتلك الفترة، كالحوار الغريب الذي نشأ بين أبي ذرٍّ الغفاري ومعاوية، عندما كان هذا الأخير قائماً ببناء قصر الخضراء بدمشق، فكان الصحابي المشهور يؤنب الخليفة تأنيباً شديداً، فيقول له بهذه المناسبة:((فإما أنك تبني هذا القصر بأموال المسلمين من دون حق لك فيها، وإما أن تبنيه من مالك وهو تبذير)) (1)

فهذه الرقابة التي يفرضها الضمير الإسلامي على أعمال الحكم قد استمر أثرها في التاريخ الإسلامي، حتى بعد التقهقر الذي أشرنا إليه، ويمكن تفسير أحداث كبرى في التاريخ الإسلامي كظهور المرابطين والموحدين في الشمال الأفريقي، على أنها الصدى لاحتجاج الضمير الإسلامي ضد الاستبداد.

ويمكن القول أن هذا الصدى لم ينقطع من الأحداث التي عبرت بصورة أم بأخرى عن استمرار الروح الديمقراطي الإسلامي عبر التاريخ قروناً طويلةً، حتى حدث فاصل آخر لا يمكن تحديد تاريخه بالضبط، ولكنه بلا ريب يتفق مع نهاية الحضارة الإسلامية. أي عندما ينتهي الإشعاع، الذي كونه التقويم الأساسي للإنسان، إذ بعدما انتهى أثره في أعمال الحكومة أي في السياسة، قد انتهى أيضاً في سلوك الأفراد أي في الأخلاق.

(1) أوردنا هذا القول بمعناه لا بلفظه.

ص: 163

فإشعاع الروح الديمقراطية الذي بثه الإسلام، ينتهي أيضاً في العالم الإسلامي عندما يفقد أساسه في نفسية الفرد، أي عندما يفقد الفرد شعوره بقيمته وبقيمة الآخرين.

ويجب أن نلاحظ أن الحضارة الإسلامية انتهت منذ الحين الذي فقدت في أساسها قيمة الإنسان.

وليس من التطرف في شيء القول بصفة عامة أن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان.

لعله يمكن أن نستخلص من هذه الاعتبارات رأياً، فيما يخص مستقبل الديمقراطية في البلاد الإسلامية، فهذه البلاد تمر قطعاً بحالة إرهاصٍ تبشر بنهضة الروح الديمقراطية في هذه البلاد، حيث تجري تجارب ديمقراطية ملحوظة.

ولكن هذه المحاولات لا تنجح إلا بقدر ما تضع في ضمير المسلم تقويماً جديداً للإنسان، أي بقدر ما تضع في ضميره قيمته وقيمة الآخرين حتى لا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد.

ص: 164