الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
بقلم الدكتور: عبد العزيز خالدي
ــ
في سنة 1939كانت الجزائر تعلم أن المقامرة على مصير العالم ستجري في ذلك الصدام الذي كان على الأبواب آنذاك.
ولكي يعلم الوضعية التي تكتنف مصيره الخاص، كان الشعبُ يتتظر كلمةَ الأمر من مُسَيِّريه.
ولكن (زعماءَنا) كانوا أكثر تعلُّقاً بما يُحَاك داخل: (كهف علي بابا)(1)، من الاهتمام بالطفرات التي كانت تَعْتَمِلُ في أعماق الوعي الشعبيِّ.
فقد تُرِكَ الشعب وشأنه إلى الإدارة، حتى يُقَدَّم كَمُحْرَقَةٍ لِفُوهاتِ المدافع.
ولقد أراد الاستعمار أن ينتهز الظروف لكي يضع أقفال ضمان أُخرى يغلق بها وعي (رعاياه).
وعند نزول الحلفاء في الثامن من نوفبر (تشرين الثاني) سنة 1942م، بينما كان جميع الطامعين في النفوذ يتآمرون بالجزائر العاصمة، لم تبدر أقلُّ حركة عن أيِّ شخص من (مُسَيِّرينا).
ولكن العاصفة التي اجتاحت العالم، طوال حمس سنوات كانت قد فككت مفاصل الأقفال.
(1) يعني مقر الحكومة الفرنسية بالجزائر العاصمة في تلك الأثناء (المترجم).
فقد كان الشعب الجزائري الذي احتفظت ذاكرتُه ببعض نُبَذٍ من التصريحات المغرية التي صدرت زمن الحرب، واعياً لمصيره.
ولكي يُنْسيه تلك التَّصريحات، عمد الاستعمار إلى إغراقه في حَمَّام من الدِّماء، وغَمْسِه في محفل خليع من الانْتِخابات المضلِّلَة التي كان يرمي من ورائها إلى صرف الجماهير الجزائرية عن وجهتها، وإلى تقديم بديل خادع للخارج، يجعل الرأي الدُّولي المتواطئ أو السيِّئ الاطِّلاع، يعتقد أن الجزائر كانت تُقْبِلُ على عهدٍ ديموقراطيٍّ تحت رعاية الوالي نجلان ورينه مايير ( Le gouverneur Naegelen et René Mayer) .
ولكنها كانت ساعة التحدي المنقذة التي أرغمت الشعب الجزائري على أن يمتلك ذاته لكي يجد نفسه من جديد. فقد فهم أنه يتعين عليه لكي يتخلص من عهد يسوده الالتباس و (البوليتيك)(1)، ويبرز إلى وضح النهار، أن يستعيد القيم التقليدية التي انبنى عليها تاريخه حتى سنة 1830 (2).
وكان ذلك يقتضي أن يوجد العقل الموضوعي الذي يستطيع تحرير هذه التقاليد من ارتهانها ((لأوشاب ما بعد عهد الْمُوَحِّدين)).
لقد قام الشيخ بن باديس ومدرستُهُ بجهد محمود في هذا الاتجاه، وإن كانا لم
(1)( Boulitique) : اصطلاح شعبي محض، يطلقه الإنسان الشعي في بلدان المغرب العربي عموماً على احتراف الدجل السياسي والاعتباط ( démagogie) الرامي إلى اقتناص النفوذ لتحقيق أغراض شخصية خسيسة، عن طريق التضليل السياسي للجماهير. (المترجم).
(2)
يمثّل إنشاء منشورات مكتبة (النهضة) مساهمة في ذيوع هذه الحركة الجزائرية، كما يلتقي خطُّ سيرها مع فكرة الشيخ بن باديس التي يقولُ فيها:((إن الذي يكوِّن الأمّة، هو العقيدة، والثقافة، والاعتزاز بالماضي: وما دام أحد الشعوب لم يفقد هذه المقوِّمات، فهو حيّ ولو كان مستعبدً)). (المقدم).
يحقِّقا ذلك التَّحرُّر تحقيقاً تامّاً، لأن طريقة سيرهما قد ظلت رهينة لكل من علم الكلام والمغيَّبات.
وكان كتاب (شروط النهضة) يمثل أوَّل جهد لعقل مسلم يستعيد (للإسلام) معناه التاريخي، لأنَّ الإسلام يتكامل ضمنه مع تركيب متآلف وأساسي للإنسان، والتراب والزمن.
ولقد أدرك الاستعمارُ أكثر من ساستنا، القيمة الثورية لهذا التعبير الجديد عن الإسلام؛ ويقتضينا الواجب أن نضيف إلى ذلك أنه أقدم على عمل جريء لكي لا يجد هذا التصوُّرُ طريقه إلى الوعي الإسلامي.
فالمحاضرات الثلاثة المنشورة هنا تشكِّل كُلاًّ متكاملاً، كما تُسَجَّل ضمن اهتمامات المؤلف منذ حوالي عشرين سنة. وهي تأتي في وقتها المناسب لتسدَّ ثغرة في سياسة جزائريَّة تزحمها المشاكل العاجلة وتجعلها تُضيع من هنا بالذات كل فعَّاليَّتها.
ذلك أن السياسة لا يمكنها أن تغيِّر مصير مجتمع معين ما لم يتم تحديدها في كنف تصوُّر عام للعالم باعتبارها التعبير العيني الملموس لثقافة حضارة مُرتَسِمة على مُخَطَّط تعبئة ( Tactique) واستراتيجيَّة وطنيَّتَيْن.
وغداة انعقاد مؤتمر جبهة التحرير الوطني، أُريد أن أُلِحَّ في هذه المقدِّمة على أهمِّيّة المشكلة المفاهيميَّة، لأن:((المفهوميَّة، ليست مجرد مجموع أفكار شتيتة، ولكنها مُسَيَّرَةُ الطاقات، والسَّهم الذي يُعَيِّن للجماعة طريقها في التاريخ)).
بينما نحن نعلم منذ الاستقلال أننا نمتلك برنامجاً: هو برنامج طرابلس، ولكننا لا نمتلك مفهومية. وهذا الفراغ الذي يشغل ويحيِّر الوطنيِّين الواعين، يشبع مطامع بعض المفاميِّين المشردين من أوطاضهم ( Cosmopolites) من
الدُّخلاء الباحثين عن أرض موعودة. وإننا لنجد من بين هؤلاء (الثوريِّين!) أولئك الحانقين الذين كَبَوا في اللحاق بموكب الثورة في بلدانهم وأُولئك المنتجعين لِلْكَلأ ( transhumants)(1) ، الذين ليسوا من هنا ولا من هناك، والذين نجدهم يتسلَّلُون في بلادنا إلى كلِّ مكان (2)
وهناك أيضاً الذين يتباهون بالنجاحات المشهودة لبعض النظم الاشتراكية المعينة ولكنهم لا يأخذون في اعتبارهم حساباً للحقائق الواقعيَّة الجزائريَّة بما فيه الكفاية.
وإذن فالْخَطر يتهدَّدنا في عقر دارنا، ولذا يجب علينا أن نُفْهم الآخرين وَنُفْهِم أنْفُسَنا أن مفهوميَّة شعب ما لا يمكن أن تُصاغ إلا من طرف الآدميِّين الذين شكَّلت جِبِلَّتَهُمْ أحداثُ تاريخ هذا الشعب.
ويزداد إلحاح ضرورة المفهوميَّة بقدر ما تشغل الجزائر مكانة خاصة في (المغرب)، والعالم العربي، وأفريقيا، وفي العالم الكادح.
فقد اجتذب بالأمس النضال البطولي للشعب الجزائري تياراً ضخماً من التعاطف. واليوم أصبح العالم مُنْتَبِهاً لرسالة الجزائر الجديدة. وهذه الرسالة يجب أن لا تَتَنكَّر لتضحية شهدائنا، ولا أن تخيِّب رجاء معاصرينا.
(1) يعني المقدّمُ شذّاذ الآفاق الذين لا ينتمرن إلى وطن، من المرتزقة المتمعّشين الذين يصطلح الشعبُ على تسميتهم:((بالْخُبزيِّين)). (الترجم).
(2)
ويتعين علينا كذلك أن نقوم ذات يوم بتحديد الدور الذي تلعبه صحافة فرنسية معينة في تعمية الجزائريِّين وصرفهم عن وجهتم قبل الاستقلال وبعده. فقد تعودنا على اطلاعة الوقحة للصحافة اليمينيّة، ولكن مكيافيلية ( machiavélisme) الصحافة اليسارية أشد منها فتكاً بما لا يقاس لأنها تخفي وراء مداهنتها الدنيئة (مقاولة) ترمي إلى تَقْييم اللاّقِيَم ( les non-valeurs) ومواراة القيم الحقيقية، لمجرد أنها لا تجد السلوان أو هي تظلّ سيّئة العزاء إذ تجد نفسها قبالة ثورة تفهم أنها تُعَدُّ من أجل الشعب الجزائريّ وبواسطته هو وحده. (المقّدِّم).
وأخيراً وبالنسبة إليَّ وأنا أُقدِّم اليوم كتاب (آفاق جزائريَّة) فإنني لا أنسى أنني كنت قد قدمت بالأمس، منذ ستة عشر عاماً، كتاب:(شروط النهضة)؛ فها هنا يقوم استمرار موصول للصداقة وللفكرة. وذلك أمر جدير بالتَّنويه عبر صروف الدَّهر وتقلُّبات الأزمان؟
…
الدكتور عبد العزيز خالدي
الجزا ئر العاصة في 15 مارس (آذار)