المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مشكلة الحضارة - القضايا الكبرى

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ مشكلة الحضارة

1 -

‌ مُشْكِلَةُ الْحَضَارَةِ

محاضرة أُلْقِيَتْ (باللغة الفرنسية)

في الجزائر العاصة بتاريخ 9/ 1/ 1964

ــ

ص: 29

في بعض المنعطفات المعينة من التاريخ، يتعين على المجتمع أن يعرف بأي تقويم (أو ميزانية) ينخرط في إحدى المراحل الجديدة. ومن هنا يجدر بنا أن نتساءل: أين كُنَّا غداة الأوَّل من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1954؟!

فقد وُلِدَتْ أجيالٌ جزائريَّة عديدة وسط الضباب الذي يُغَشِّي المجتمعات التي تضعها بعضُ الظروف الفاجعة على هامش التاريخ.

وداخل الضباب يكون من العسير على الإنسان أن يشُقَّ له طريقاً معيناً، حق لَيَنتَهِيَ الفرد نفسُه إلى فَقْدِ الصِّلة مع المجموع ومع الجماعة، الأمر الذي يُفْضِي إلى تَقَوُّضِ شبكة الصِّلات الاجماعية على هذا المنوال.

فالجزائريُّ الذي وُلِدَ ضمن هذه الشروط لم يكن شيئاً آخر سوى مجرد فرد: أي كائن معزول عن جماعة وُضِعَتْ على هامش التاريخ من جراء (القابلية للاستعمار)( Colonisabilité)(1) كما أصبحت مفكَّكة الأوصال بفعل الاستعمار حتى لقد كان يُشْبِهُ الفردَ الذي تَبَقَّى على قيد الحياة بعد نوع بشريٍّ مُنْقَرِضٍ عقب كارثة جيولوجية.

(1) بالنسبة لبن نبي فإن تعبير (القابلية للاستعمار) ظاهرة عامة في العالم المثالث كله قد عرفها خلال حقبة معينة من تاريخه.

هذا المفهوم ابتكره واستخدمه للمرة الأولى في كتابه (شروط النهضة)، الصادر في الجزائر عام 1948م.

في البداية بدا التعبير مستنكراً، ثم أعيد إليه الاعتبار شيئاً فشيئاً في الصحوة العامة كمفهوم =

ص: 31

وكانت الفاجعة التي يَعِيشُها تُشْبِهُ فاجعةَ حيوان (الماموث) الأخير ( Mammouth) المتبقي من العصر الجليديِّ الأوَّل، تائهاً عبر البراري المتجمِّدة وغير الرحيمة، التي كان لا يعثر فيها على قوته.

= تاريخي لحالة التخلف الذهني والسبات اللذين رزحت تحتها الشعوب قروناً عدة قبل أن تستفيق على المأساة الاستعمارية.

يبقى أن مفكرين آخرين في أبحاثهم التي تناولت الأسباب التي تجعل شعباً يسقط في تاريخه من أعلى القمم إلى الحضيض، قد توصلوا إلى النتائج ذاتها.

هكذا استطاع (أ. توينبي) أن يكتب في (دراسات تاريخية) أن سبب الانحطاط يجب أن لا يفسر بضياع قيادة الوسط الإنساني تحت وطأة التطاول الأجنبي على حياة مجتمع معين. إذ أن العدو الخارجي لابدَّ له أن يرتكب أشد المكر في تسديد الضربة القاضية لشعب يقدم على انتحار محقق.

وتناول (د. غروسيه) في (موازنة التاريخ) هذه المواضيع فقال: ((إن أية حضارة لا تنهار من الخارج دون أن تتآكل هي نفسها في البداية. إذ إن أية إمبراطورية لا تقهر من الخارج ما لم تكن قبل كل شيء قد انتحرت.

أما (مونتسكيو) فإنه يؤكد في (تأملأت في أسباب عظمة الرومان وانحلالهم) فيقول: ((ليست الثروة هي التي تحكم العالم، ويمكن أن نرى ذلك عند الرومان الذين تمتعوا لفترة مستمرة بالرخاء حينما حكموا أنفسهم بسياق معين، ثم ولفترة غير منقطعة عادوا إلى الوراء عندما انقادوا في سياق آخر

فإذا كانت صدفة معركة، أعني سبباً خاصاً قد دمَّرَ دولة، فإن هنالك سبباً عاماً يقضي بفناه تلك الدولة في معركة واحدة. وبكلمة واحدة فإن السياق الرئيسي يجرّ معه سائر الحوادث الخاصة)).

وليس من العسير أن نشير هنا إلى أن سائر المفكرين الكبار، منذ أقدم العصور وليس أولئك الذين هم في محور الفكر الغربي قد اقتربوا من تفسير الظاهرة التي أشار إليها بن نبي بكلمة (القابلية للاستعمار Colonisabilité) . لنرى ما تحدث عنه هو نفسه في كتابه (وجهة العالم الإسلامي):

((وبهذا نفهم الاستعمار باعتباره (ضرورة تاريخية) فيجب أن نحدث هنا تفرقةً أساسيةً بين بلد مغزو محتل وبلد مستعمر. ففي الحالة الأولى يوجد تركيب سابق للإنسان، والتراب، =

ص: 32

وكان الشعب الجزائريُّ يعيش في بلاد سُدَّ فيها المستقبل أمامه، حيث كان الفرد يولد والتشاؤُم يملأُ أعماقه وروحه، لأنه كان يفقد الدوافع الوجودية الباعثة التي تتيح للإنسان أن يُكَرِّسَ نفسَه للحياة أو الموت من أجل شيءٍ معيَّن.

ففي المرحلة التي سبقت عَهْدَ اسْتعمار الجزائر، اكتفى الإنسان بمجرد الحياة الخاملة، واختلق له، لكي يُغالِطَ نفسَه بالنسبة إلى وضعه البائس، ضروباً من التَّعِلَاّت الصوفيَّة الكاذبة كان يُقِيمُها مقامَ الدَّوافع المعلِّلَة.

ولقد تكفَّلت النزعة المرابطيَّةُ بمَدِّهِ بتلك التَّعِلَاّت مقابل ثمن منخفض أو مرتفع لِتَصْرِفَه عن ماضيه، وحاضره، ومستقبله.

ثُمَّ ضاعف الاستعمار من خطورة هذه الوضعية، جاعلاً من الإنسان مجرد (شيءٍ) من جملة أشيائه، كما جعل من النزعة المرابطية جهازاً للإرسال مُضْطَلِعاً بإيصال توجيهاته إلى الشعب، بعد تحويلها إلى دوافع جديدة مطابقة لِمَرامِه.

= والوقت، وهو يستتبع فرداً غير قابل للاستعمار. أما في الحالة الأخرى فإن جميع الظروف الاجتماعية التي تحوط الفرد تدل على قابلية للاستعمار، وفي هذه الحالة يصبح الاحتلال الأجني استعماراً، قدراً محتوماً.

فروما لم تستعمر اليونان؛ ولكنها غزتها. وإنجلترا التي استعمرت أربع مئة مليون من الهند إذ كانت لديهم القابلية، لم تستعمر إيرلندا الخاضعة دون استسلام. وفي مقابل ذلك نجد اليمن؛ تلك التي لم تفقد استقلالها لحظة، لم تفد من ذلك الاستقلال أدنى فائدة لأنها كانت قابلة للاستعمار، أعني عاجزة عن القيام بأي جهد اجتماعي. ومع ذلك فإن هذا البلد لا يدمن باستقلاله إلا لمحض المصادفة، حيث وجدت ملابسات دولية مواتية حفظت استقلاله .. وعليه فإن المشكلة الرئيسية هي أنه لكي نتخلص من الاستعمار يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار

)) ص 98. (نقلنا الترجمة العربية كما وردت في وجهة العالم الإسلامي ص 85/ 84 طبعة دار الفكر بينما الأصل المترجم نقل من الكتاب الأصل الفرنسي). [ط. ف].

ص: 33

وبعد الحرب العالمية الأُولى فحسب، استطاع الشعبُ الجزائريُّ أن يخرج من مرحلة ما قبل التاريخ المتَّفِقَة مع ما بَعْدَ عَهْدِ الموَحِّدين، لكي يَدْخُلَ إلى عالم القرن العشرين.

فالحركة الإصلاحية، والحركة الوطنيَّة، قد ظهرتا إلى النُّور في هذه الفترة بالذات.

وقد بدأت غشاوَةُ الأوشاب التي سادت ما بعد عهد الموحدين، في الانْفِراطِ والتَّفَتُّت، تحت تأثير جُهْدِ هذا النشاط الأخلاقيِّ والسياسيِّ المزدوج، الذي حرر الوعي الجزائريّ، وردَّه إلى جادَّة التّاريخ.

كما بدأ تاريخ النهضة الجزائرية، في هذه الفترة بالذات، مع تزايد الضَّغْط الاستعماريِّ الذي كان يرمي إلى استبقاء الطاقات المستيقظة تحت مراقبته.

فالتناقضُ الانفجاريّ الذي أدْخَلَ الجزائرَ إلى حيِّزِ الأزمنة العصريَّة، قد بدأ تاريخه من هذا الصِّدام القائم بين شعب اسْتَأْنَفَ سَيْرَه في الطريق، وإدارَة أجْنَبِيَّة كانت تعمل على إعاقَةِ هذا السَّير، باسْتِبْقائِها لضباب الاستعمار والقابلية للاستعمار ومحافظتها عليه.

وكان هذا الصِّدامُ يقتضي أن يؤول بصورة حَتْمِيَّة إلى: الثَّورة؛ للنَّشاط المسلَّح لشعب مصمِّم على تقويض الحواجز التي تَسُدُّ مستقبلَه، عازمٍ على الخروج من مرحلة القرون الوسطى مهما كان الثَّمن.

ولقد مَزَّقَ هذا النشاطُ الضَّباب الذي رانَ عليه، وإن كان لم يُزِحْهُ عنه إزاحةً تامةً، حيث تَبَقَّتْ على الطريق بعضُ الكَوْمات من هذا الضباب تُغَشّي آفاقَنا حتى هذا الحين.

ص: 34

بينما تستدعي المشاكل التي خلَّفَها لنا العهد الاستعماريُّ، والتي تَنْضافُ إليها مشاكل عهد الاستقلال، توفُّرَ كلِّ الوضوح الوضيء، الضروريِّ لحلولها.

وضمن هذه الشروط بالذات، يواجه الجيلَ الراهن، من خلال نفس المشروع الثوري الذي يضطلع به، السؤالُ الرئيسي التالي:

- ما هي الحضارة؟

ونحن عندما نضع هذا السؤال، ربَّما خامرتْ ذِهْنَنا آهتاماتٌ مختلفة قد يكون من بينها اهتمامُ المختصِّ في عِلْمِ الإنسان ( Anthropologue)، الذي يمثل لديه:(كلُّ شكل من أشكال التنظيم للحياة البشريَّة)، في أيِّ مجتمع من المجتمعات النَّامية أو المتخلِّفَة، نوعاً معيَّناً من الحضارة.

وهذا الاستعمالُ لاصطلاح الحضارة، أوسعُ بكثير من نطاق الموضوع الذي نهْتَمُّ به، لا سِيَّما في بلاد مُنْهَمِكَةٍ - على وجه الدقة- في النِّضال ضدَّ مصاعب التخلُّف.

فإذا كان شكلُ الحياة الذي وَرثَتْهُ هذه البلاد عن عهد القابلية للاستعمار والاستعمار، يُمثِّل (حضارة)، فإن السؤالَ الذي طرحناه سابقاً يصبح سؤالاً زائداً وبلا طائل

بينما يظل هذا السؤال قائماً بالنَّظر إلى المشاكل التي تُواجِهُنا، وذلك باعتباره على الأقلِّ دعوةً تَسْتَحِثُّنا للبحث لها عن حلولها. ومن هنا يتعين علينا المزيدُ من تضييق حَيِّزِ موضوعنا، وإن كان هذا يتمُّ في نطاق اهتهامنا بامتلاك أداةٍ لعمل فعّال، وطريقة تزيد في تمكيننا من الهدف الذي نرمي إليه بحيث تضعه في مُتَناوَل وسائلنا الحقيقية، أكثر مِمَّا يتمُّ في نطاق اهتمامنا باستكشاف وإبراز حقيقة جديدة. ولكي نزيد في توضيح موضوعنا، نقول: إن المسألة

ص: 35

تنحصر في عمل شعب قام بإنجاز ثورته لكي يقذف بالمحتلِّ خارج حدوده، وهو يريد أن يُرْسِيَ داخل هذه الحدود، نظاماً عامّاً، وشكلاً من الحياة يمكن فيهما لكلِّ جزائريٍّ أن يجد كلَّ الدوافع وكلَّ الضَّمانات الضروريَّة لوجوده.

- فهل هو يمتلك وسائل تحقيق هذه الغاية الطموحة؟

هذا هو السؤال الذي يفرض علينا تعريفاً أكثر انْضِباطاً للحدود التي وضعنا المشكلة في نطاقها.

وإذن فالمسألة لا تتَمَثَّلُ هنا في اكتشاف حقائق جديدة، متعلقة بعلم الإنسان، وإنما تتمثَّل في تسليط الضوء بقدر الإمكان على الطريق المؤدية إلى الهدف المقصود، وفي الإشارة إلى مخرج من المصاعب الراهنة، وذلك باستفادتنا من سياسةٍ سبق لها أن قامت بصياغة آختياراتها، ومن الدلائل المتعلِّقة (بعِلم اجتماع) لا يُغْفِلُ المعطيات الخاصة بوضعيتنا الراهنة، أو بشروطنا الموضوعيَّة كما يُقال.

- فما هي هذه الشروط؟

لقد أراد علم الاجتماع الذي كرَّس نفسَه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لدراسة قضايا العالَم الكادح ( Le tiers-monde) أن يطلق على مجموع مشاكل هذا العالم مصطلَحَ: (التَّخلُّف).

ولا ريب في أن هناك ميزةً منهجيَّة معينة، في عملية تخفيض عدد هذه المشاكل بالرجوع بها إلى الوحدة التي تمكّننا من تركيز وسائل التفكير العقليِّ بدلاً من تشتيتها، وهذا في صورة ما إذا لم تُؤَدِّ بنا عمليَّةُ التَّخفيض تلك- على غير علم منَّا- إلى التَّغيير من طبيعة المشكلة، وبالتالي إلى تغيير طبيعة النتيجة النَّظريَّة، التي يجب أن تجد ترجمتها في عمل اجتماعيٍّ حقيقيٍّ، يتناول معطيات عينيَّة

ص: 36

ملموسة، كما يجب أن تُسجَّل ضمن برنامج واتِّجاه سياسة واقعيَّة، واعِيَةٍ لأهدافها، مدركة لوسائلها.

وفي مراعاتنا لذلك الاحتراز وهذا المقصد، يكون من المشروع بالنسبة إلينا أن نتناول موضوعَنا تحت زاوية (التخلُّف)، حيث لا نفهم من هذا المصطلح معنى التفسير أو النَّتيجة لتحليل مشاكلنا، ولكن باتِّخاذنا له كمجرد تعبير شامل لها.

ويتمُّ تحديد هذا المصطلح نفسه بمقابلته مع مصطلح آخر، يُشير إلى الظاهرة العكسية المتمثِّلة في: النُّمُوِّ.

ونحن نعلم أن هاتيْن الظاهرتين تجدان ترجَمتَهما في صورة (مُنْحَنَيات بيانيَّة)( diagramines) اقتصادية تميِّز بطابعها كلاًّ من الإنتاج والاستهلاك، وذلك على سبيل المثال فيما يتعلق بالورق، والفحم، والكهرباء؛ أو بالأرقام المطابقة لمتوسط المداخيل الفردية السنويَّة، وهو الأمر الذي يؤول إلى نفس النّتيجة.

ويمكننا أن ننظر إلى هذه الأرقام، في اعتبارنا لها بالنسبة إلى سنة 1955، لوجودها في حَوْزَتِنا (1)، حيث نلاحظ أنها تتراوح بالنسبة إلى السنة المذكورة بين: 1835 دولاراً فيما يتعلق بالولايات المتحدة، وبين: 38 دولاراً فيما يخصُّ (ليبيريا) أو (أندونيسيا). وبين أقصى هذين الطرفين توجد سائر الأرقام المتوسطة لبقية البلدان الأخرى، مهما تكن درجة نُمُوِّها.

وَلْنَقُم حينئذٍ بإبداء ملاحظة بخصوص الحدِّ الأدنى أو المناسب من الدخل

(1) ليس مهماً أن هذه الأرقام تغيرت منذ عام 1955م. إذ أن قيمتها التوضيحية وحدها تهمنا. فنحن لا نعتقد أن النسب التي توضحها تعدلت بصورة أساسية. [ط. ف].

ص: 37

الذي يمكننا أن نعتبره كافياً لِتَلْبيَة حاجات بلاد متخلِّصة من جميع علامات التخلُّف، ونقص الاستخدام، والأميَّة (أو اللاأبْجَدِيَّة)، ونقص التغذية إلخ

فهذا الدخل الذي يمكننا أن ننظر إليه باعتباره العَتَبَة المفضية إلى النموِّ، هو متوسط دخل الفرد في اليابان، حيث يبلغ بها: 200 (مئتي) دولار.

والآن ولكي نجعل هذه الأرقام ذات دلالة بالنسبة إلى موضوعنا، فَلْنَقُمْ بتوزيعها على الخريطة الجغرافية، بالطريقة التي توضع على غرارها الأعلام الصغيرة على إحدى خرائط ضُباط أر كان الحرب كعلامات للمواقع الخاصة بكل جيش من الجيوش على حدة، في إحدى جبهات القتال.

ومفهوم أن الأرقام الموزَّعة على هذا النحو، تصوِّر لنا بهده الطريقة المناطقَ المتحادَّة لكلٍّ من النُّموِّ والتخلُّف.

وعندئذ تَتَبَدَّى أمامنا ملاحظة تفرض علينا نفسها: فَحَدَّا هاتين المنطقتين يرتسمان على الخريطة، كحديْن لقارتين متباينتين: تشمل إحداهما جميع البلدان المساهمة في مؤتمر باندونغ على وجه التقريب، أعني المساحة المُناهزة لنصف الكرة الجنوبيِّ، بينما تتضمَّن المساحة الأُخرى رقعةَ البلدان النَّامية التي تشمل بالتقريب سائر منتصف الكرة الشماليِّ (1).

ومن شأن هذه الملاحظة أن تُدْخِلَنا بقدم راسخة إلى صميم موضوعنا، لأن تحديد مكان الوقائع الاقتصادية، يمثِّل في نفس الوقت تحديداً لمكان أسبابها أو

(1) مؤتمر (الشمال- الجنوب) ضمَّ حديثاً الدول المتطورة وتلك التي تتطلع للسير في فلك المشاكل التي يقتضيها نظام اقتصادي عالمي جديد. وهؤلاء المؤتمرون قد وجدوا أنفسهم في كتلتين. وهذا ما تصوره (بن نبي) منذ عشرين عاماً في تحليله العلاقات بين مختلف شعوب العالم المعاصر. [ط. ف].

ص: 38

عواملها: إذِ المؤَكَّد أن كلَّ مساحة تحتوي في داخلها على حقيقتها الاقتصادية الخاصة بها، كما تحتوي في نفس الوقت سائرَ الاطرادات المتساوقة التي تفسِّرها.

فالنُّموُّ والتخلُّف يُفسَّر كلٌّ منهما داخل المساحة التي تكتنفه، بمجموعة من الأَسباب المتطلبة للعرض على التحليل التاريخيِّ. فمفهوم:(حقْل الدراسة) الذي استخرجه أرنولد توينبي ( A. Toynbee) في المجال التاريخي، يمتدُّ هنا ليشمل المجال الاقتصادي كذلك (1).

فنحن عندما نطرح السؤال التالي: ما هو النموُّ؟ - وهو سؤال يهمُّ بطبيعة الحال كل بلاد منهمكة في مواجهة مشاكل التخلف- لا نكون إذن منصرفين إلى عمل أحَد هُواة التسلية بالفنون الجميلة. إذ أننا نطرح السؤال على النقيض من ذلك ضمن اهتمامنا باستخلاص درس من تجربة معاشة غنيَّة وحيَّة، تقع نتائجها تحت أبصارنا في سائر البلدان النامية، مع بقائنا أحراراً في تحوير حدودها إذا

(1) في فكر توينبي فإن مفهوم حقل الدراسة يشمل مجتمعاً فوق القومية ( Supra-nationalè) ومؤلف من عدة طوائف أثنيّة؛ جغرافية وسياسية، مجموعة دول قومية تنتمي إلى عالم ثقافي واحد، بحيث أن تاريخ إحداها لا يعني سيئاً إذا نظرنا إليه على حدة بل يقتضي وضعه في إطار أكثر اتساعاً، وأكثر تعبيراً؛ إنه مداه الثقافي وحقل دراسته.

توينبي يقول في هذا الخصوص: ((أسئلة كثيرة تجد جوابها هناك حيث أن أي تفسير تام لا يمكن أن يقدم إذا نحن اتبعنا مبدأ العزل))

فمن أجل الإمساك جيداً بأية حالة، لا بدَّ أن نوجه انتباهنا إلى المجموعة، فالمجموعة وحدها تقدم حقل دراسة يمكن فهمه بذاته)) (توينبي، التاريخ، محاولة توضيح مختصرة، من D.C. Somervell ومترجمة من P 10.11.22 E. Julia) . هذه هي نفسها المفاهيم التي كتبها H. Massis في أحد مؤلفاته (الغرب وقدره): (((الغرب) إنه فكرة تعني لنا شيئاً نشير إليه. لأن (الغرب) منطقة للفكر الإنساني أكثر من أي جزء من العالم. إذ الذي يميزه بشكل رئيسي هو الصبغة المسيحية)).

(مدى حضارة) عند بن نبي (حقل دراسة) عند توينبي (منطقة فكر) عند ماسيس، تلك تعابير قابلة للتبادل للمبدأ نفسه في التحليل [ط. ف].

ص: 39

لَزِمَ الأمر حتَّى نتمكَّنَ من تكييفها مع حالتنا الخاصة، وهذا بشرط أن نحترم قانونَها مع ذلك.

وتَمْثُلُ هذه التجربة في أساسها بالنسبة إلى البلدان المتخلِّفة، تحت المظهر النوعيِّ للتصنيع الذي أصبح بالفعل مَناطَ جميع مطامح كل البلدان (الأفريقا سيويَّة) وسائر مؤسَّساتها.

إلا أن هذا المفهوم لا يحقَّق بطريقة واحدة؛ فهناك الطريقة التي تمَّ بها تصنيع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، حيث وضع لينين ( Lénine) قاعدة ذلك التصنيع عندما أعلن الشعار الشهير الذي نادى فيه بأن:((الشيوعية هي السوفيات (1)( Soviets) مع الكهرباء))، وهو الشعار الذي يقتضي قاعدة انطلاق مفاهيمية معينة.

ويمكن أن يُنجَزَ التصنيع كذلك على النحو الذي تمَّ في اليابان، باقتصارها على مجرد تبنِّي مناهج ومطامح مناوئيها، أي بصنع أُسطول مثل إنكلترا، وإعداد صناعة مثل فرنسا أو ألمانيا، وبطريقة احتلال المستعمرات كما هي الحال بالنسبة إلى هولندة، وإيطاليا إلخ

إلا أن تجربة التصنيع لا تقترن بالإفادة النظرية المرجوَّة منها، إلا حيث أُتيح لها أن تطَّرد ضمن شروط عاديةٍ، ودونما إرغام من الخارج.

وفي أوروبا الغربية بالذات تتبدَّى هذه التجربة أمامنا في شكلها النقيِّ، أي في صورتها المتخلِّصة من كل الأعراض المفاهيميَّة، وفي ارتباطها فقط بالوقائع الاقتصادية المحضة.

(1) أي مجالس مندوبي العمال، والفلاحين، والجنود بالاتحاد السوفياتي. (المترجم).

ص: 40

وعلى هذا يجب علينا متابعة اطرادها المتساوق في أوروبا بالذات، إذا أردنا أن نستخلص منها درساً يفيدنا.

ويمكننا النظر إلى هذا الاطراد بصورة مشروعة باعتبار أنه قد بدأَ نقطة انطلاقه بالآلة البخارية. كما أنه من المشروع أن نقوم بعَزلِ مثل هذا الواقع، ليس فحسب لأن جميع نتائجه المترتبة عليه فيما بعد؛ الاقتصادية منها والاجتماعية، هي التي تكوِّن الواقع القابل للترقيم الذي يشار إليه بمصطلح النُّموِّ، ولكن لأن ظروف تكوينه الخاص كذلك- وأعني بها سائر سياق ذلك التَّسلسل الذي سبقه، والواقع في نطاق اختصاص علم الاجتماع- تظلُّ هي نفسها بالنسبة إلى جميع الوقائع المماثلة التي تَنْدَرِجُ هي الأُخرى داخل نفس الاطِّراد، قبل الآلة البخارية أو بعدها.

وبناء على ذلك فإن سائر تلك الوقائع تجد جميع أسباب نموِّها، وجميع تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية داخل نفس تلك المساحة التي سبق لنا تحديدها منذ قليل بأرقام متوسط الدخل الفردي السنوي، المنحصرة بين: 200 (مئتي) دولار، و 1835 دولاراً، أعني مساحة ظلت مستمرة الامتداد منذ عهد (غوتنبيرغ)(أ)، وأصبحت تشمل اليوم ما يناهز نصف الكرة الشمالي.

وحتَّى الوجوه المحيطة بالوقائع الكبرى لهذا الاطّراد، نجدها تنْتَمِي لنفس

(أ)(يوهان غنز فلايش) المدعوّ: غوتنبيرغ ( Yohann Gensfleisch) dit: Gutenberg: مطبعي ألماني، ولد في ميّانس ( Mayence) حوالي سنة 1400م. وتوفي سنة 1468م. استقر في ستراسبورغ ( Strasbourg) سنة 1434م. وفي سنة 1440م اكتشفت الطباعة بالأحرف المنفصلة؛ وفي (ميّانس) اشترك منذ سنة 1448م، مع زميله الصائغ والمطبعي يوهان فوست ( Yohann Faust)( ولد حوالي 1400م، وتوفي حوالي 1466م) وطبع (الكتاب المقدّس اللاتيني ذا الـ 43 سطراً) الشهير، كما يُعْزى إليه كذلك طبع (كتاب مقدّس ذي 36 سطرًا)، ورزنامة إلخ

ص: 41

هذه المساحة: فالعالمان اللذان أنجزا الآلة البخارية على سبيل المثال هما: (دنيس بابان) و (وات)(ب)

ويمكننا أن نختار وقائع أُخرى من مثل: القنبلة الذرية، أو القطن المصقول كيميائياً ( le coton mercerisé) ، فنجد ظروف تكوينها تشغل نفس الرقعة الجغرافية.

وكذلك الشأْن بالنسبة إلى النموِّ الذي يشمل داخل اطراده جميعَ هذه الوقائع، والذي أصبحنا اليوم نحدد عن طريق المقابلة معه مجموع المشاكل التي نشير إليها بكلمة (التخلُّف)، فهو يمثل ظاهرة أُوروبية: كالحروب الصليبية، وعهد الإصلاح، والنهضة، والرأسمالية، والاستعمار إلخ ..

فجميع الأسباب التي أنتجت هذه الوقائع، تشغل منذ أربعة قرون على الأقل، رقعة ما انفكَّت متواصلة الامتداد منذ عهد كريستوف كولومب ( Christophe Colomb) .

والنموُّ الذي يتمُّ ضمن البعد الاقتصادي، ليس سوى فترة زمنيَّة من النموِّ العام لحضارة أوروبا داخل المكان والزمان؛ إنه المظهر الماديُّ لهذه الحضارة.

وإذن فإن جميع الوقائع التي تتساوق في تسلسل ضمن اطرادها منذ الآلة

(ب)( Denis Papin) : فيزيائي فرنسي. ولد في بلوا ( Blois) سنة 1647م، وتوفي حوالي سنة 1714م. كان أول من تحقق القوة المطاطة للبخار المائي. وفي سنة 1707م أجرى في ألمانيا - حيث أقصي إليها نتيجة لحدث إلغاء منشور نانت ( édit de Nantes) سنة 1685م- تجربته على السفينة البخارية، كما ابتدع أيضاً المرجل المعروف باسمه.

- جيمس وات ( James Watt) ميكانيكي ومهندس إنكليري من إيقوسيا ( Ecosse)، ولد في غريوك (( Greenock) (1736 م - 1819م). ابتدع مبدأ الآلة البخارية ذات التأثير المزدوج؛ وأدخل مصطلح (الحصان) باعتباره: وحدة قياس للقوة، كما سميت باسمه وحدة الطاقة الكهربائية المعروفة (بالوات).

ص: 42

البخارية، أو ابتداء من آلة الطباعة، تُعَدُّ وقائع حضارة. كما أن جميع الأسباب التي تُنْتِجُ هذه الوقائع، وجميع ظروف تكوينها ناجمة عن نفس السبب العام، وعن نفس الظرف الرئيسيِّ، اللذين هما بكلمة واحدة: حضارة أوروبا التي تعدُّ الرّحِم الحقيقيَّ لكل جزئيَّة من تفاصيل النموِّ الأخلاقي والاجتاعي للإنسان المنتمي إلى مساحتها.

ومن ثَمَّ فالحضارة هي التي تمنح إذن للمجتمع مع هذه القدرة الاقتصادية التي تميِّزه بخاصيتها كمجتمع نام، إرادة استخدام هذه القدرة في حلّ جميع المشاكل، وخاصة المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلِّف بمدىً أشدُّ من القسوة. كما أن الحضارة هي التي تشكل هذه القدرة وهذه الإرادة اللَّتَين لا تقبلان الانفصال عن وظيفة المجتمع النَّامي، داخل المساحة الخاصة به، في إشعاعه الثقافي، والاقتصادي وحتَّى في تَوَسُّعه السياسيِّ أو الإمبرياليِّ كذلك.

ولهذا يجب علينا الآن أن نَتَثَبَّتَ من أمر تعريف الحضارة الذي سبق لنا اقراحه فيما سلف من وجهة نظر متعلقة بعلم الإنسان، وهي الوجهة التي لا نريد تناول الموضوع من زاويتها؛ لأن الحضارة يجب أن تحدَّد من وجهة نظر وظيفيَّة: فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيحُ لمجتمع معين أن يقدِّم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموِّه. فالمدرسة، والمعمل، والمستشفى، ونظام شبكة المواصلات، والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعُها أشكالاً مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضِّر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.

ولكن إذا كانت هذه الإرادة ملازمة لجوهر الحضارة ذاته، ومتضمِّنة في معطياتها الأصلية، في شكل إحسان، أو صدقة، أو زكاة إلخ

مثلاً، فإن قدرتها تتشكل بصورة تدريجيَّة، لأنها لا تَكون في البداية سوى معطى مُضْمَر.

ص: 43

فالمجتمع النامي الراهن، أي المجتمع الغربي ضمن حدوده الحاضرة، أعني مع المجتمعات التي استوحت نموذَجَه، لم يكن منذ بضعة قرون مضت سوى معطى مُضْمَر في ذاتيَّة مجتمع القرون الوسطى المسيحيِّ؛ فإرادة هذا المجتمع كانت تحمل بذرة قدرة المجتمع الأوَّل.

ولهذا فنحن عندى ما نريد أن نضع أصلَ النموِّ الاقتصادي للحضارة الراهنة موضعه، لا يتعين علينا أن نضع هذا الاختراع أو ذاك- من مثل الآلة البخارية، ونَوْل (جكار)(جـ)، والبوصلة، وآلة الطباعة- باعتباره مصدراً لذلك الأصل، ولكن جميع الظروف التاريخيَّة التي تَخَلَّقَتْ فيها بذورُ كلِّ الأفكار، وكل ضروب الخلق والإنشاء، وكل إنتاجات هذه الحضارة.

فجميع ضروب الخلق هذه، لا تقبل التصور إلا ضمن الشروط العامة لحضارة معينة، وليس ضمن أبعاد عبقرية إنسان مفرد، ولا حتَّى بضع مئات من العباقرة ة فأمثال: غاليليه ( Galilée) ، وليونارد دي فانشي ( Léonard de Vinci) ، وميكال آنج ( Michel-Ange) ، ودانتي ( Dante) ، ومن لفَّ لَفَّهُم، ليسوا هم الذين صنعوا النهضة، ولكن شروط هذه الأخيرة هي التي صنعتهم.

وههنا يكون من الملائم أن نتوقف عند خلاصة ذات أهمية نظرية وعملية بالنسبة إلى بلاد كالجزائر جنَّدتْها مشاكلُ التخلُّف؛ فإبداع شيء ما، أو إنشاؤُه، أو اكتشافه، لا يسبق الظروف العامة التي تصبح فيها العبقرية البشرية منتجة ضمن مساحة محدَّدة، ولكنه يتلو هذه الظروف. ذلك أن اطرادات التاريخ لا تقبل النكوص على أعقابها، وبعبارة أخرى فالزمن لا يدور في حلقة مغلقة.

(جـ) جوريف - ماري جكار ( Joseph - Marie Jacquard) : ميكانيكي فرنسي، ولد في ليون ( Lyon)(1752 م- 1834م)، مخترع نَوْل النَّسيج الذي يحمل اسمه:( Métier à la Jacquard) .

ص: 44

(فابن سينا) لم يكن يعدو مجرَّدَ مُعطىً مُضْمَرَ ضمن أحَدِ (الصَّبْغِيَّات)(1)، والظروف العامة للمجتمع الإسلامي في عصره هي التي حقَّقتْه بالصورة التي برز عليها إلى الوجود.

ويمكننا أن نترجم ذلك بطريقة أخرى، بالاستناد إلى تلك القاعدة المعروفة في المنطق الدَّارج، والقائلة بأن النَّتيجة لا تسبق سببها، أو بالاستناد كذلك إلى مجرد الإدراك السليم للفلاح الذي يعلم أن المحراث لا يوضع أمام الثيران.

وكل ذلك يسمح لنا باستخدام صيغة تكوِّن بديهيَّة أساسية بالنسبة إلى هذا العرض: فالحضارة هي التي تصنع منتجاتها (الآلة البخارية، والثلاجة، أو الطائرة سواء)، وليست منتجاتها هي التي تصنعها. ولقد تمَّ التَّثَبُّث من أهمية هذه البديهية المقرَّرة في علاقتها بكل من علم المناهج ( Méthodologie) وعلم الاجتماع، بطريقة الْخُلْف ( par l'absurde) على نحو من الأنحاء، في المجتمع الإسلامي منذ قرن من الزمان، كما سنقوم ببيان ذلك فيما يلي:

فلو كانت النهضة الإسلامية قد اعتمدت أقلَّ منهج نقديٍّ إزاءَ ما استعصى عليها حله من مشاكل، لاتَّضح لها ذلك الخُلْفُ (أو تلك اللَاّمعقوليَّة)، بطرحها لمجرد هذا السؤال البسيط:

- ((هل كان هناك قبل الآلة البخاريَّة، وقبل ليونارد دي فانشي، وقبل القديس توما اللإكويني ( Saint Thomas D'Aquin) ، شيء ما، واطراد تاريخيٍّ معين، انْطَوَى في داخله على بذرة جميع اللحظات الزمنيَّة لفكر المجتمع الغربيِّ ونشاطه ابتداء من تَشَكُّل هذا المجتمع الذي لا زال ينطوي حتى هذا الحين على بذور نجهلها؟)).

(1) يترجم المعرّبون كلمة (كروموزوم Chromosome) : بالصّبْغِيّ، أي: بتذكير المفرد، ويجمعونها على (صَبْغِيَّات). (المترجم).

ص: 45

وإذا كان الجواب على هذا السؤال بالإثبات فهلَاّ يتعيَّن علينا عندئذٍ أن نُعْطِيَ اسْماً خاصاً لهذا الاطراد، وأن نطلق عليه بالتالي اسم: الحضارة الغربية؟

والبديهيَّة التي اكتفينا بإبراز أهميتها فحسب، عن طريق هذه الملاحظات البسيطة، تخوِّل لنا التمكن بصورة أفضل من الخصائص الأساسية للتجربة التي بدأت في المجتمع الإسلامي مع حركة النهضة منذ قرن من الزمان.

لقد بدأت هذه النهضة غداة حَدَثٍ غريب في ظاهره، عن تاريخ هذا المجتمع، وأعني بذلك: تمرُّد السِّيبايْ (أو الجنود الهنود بالجيش الإنكليزيّ)(د) الذي حدث سنة 1858م، وكان لما ترتَّب عليه من نتائج بالنسبة إلى (الوضعية القانونية) الإسلامية للهند، دويّ هائل في العالم الإسلامي، لأن (جمال الدين الأفغاني) قد قام بتجميع أصدائه، كما تولى مع تابعه (الشيخ محمد عبده) شرح هذه الأصداء وبثّها بإضفاء الطابع المأْساويّ عليها أثناءَ تقديمها للجيل الذي عاصره.

ولقد بدأ تاريخ حركة الإصلاح منذ هذا العصر. فكيف أتيح لها أن تجد ترجمتها ضمن وقائع العالم الإسلامي التاريخية، والاجتماعية، والسياسية، وخاصة بالجزائر؟

(د) السيبايْ ( Cipaye) : كلمة أخذتها اللغة البرتغالية عن إحدى اللغات الهندية، ودخلت عن طريق البرتغالية إلى الفرنسية؛ وهي تعني: الجندي من سكان الهند الأصليين (بالشركة الإنكليزية) أولاً، قبل أن تتنازل هذه الأخيرة عن حقوقها بالهند للتاج البر يطاني؛ ثم أطلقت فيما بعد على الجندي الهندي الأصل بالجيش البريطاني في الهند.

- أما تمرد السيباي ( Révolte des C'ipayes) فهي الحرب التي شنها في الهند سنة 1857م الجنود الهنود المتمردون بالجيش الإنكليزي ضدَّ الإنكليز؛ وقد تمت على مرحلتين: انتهت المرحلة الأولى منهما: بالاستيلاء على (دلهي)؛ ثم استؤنفت المرحلة الثانية، نتيجة لتحريض نانا صهيب ( Nana-Sahib) للمقاومة التي استمرت على الاستيلاء على لوكْنو ( Lucknow) سنة 1858م.

ص: 46

إننا لا ندعي أن نقدم لذلك كله في الإطار الضيق لمحاضرة، دراسة متقصِّية مستوعبة لجميع التفاصيل (1).

وإنما نقتصر على القول بأن هناك تطوراً معيناً قد بدأ بالفعل منذ ذلك الحين، في العوائد، والأفكار الدارجة، وفي بعض الوقائع الاجتماعية المعينة، متخذاً في بعض الأحيان أشكالاً سياسية تعمل بمقتضى النزعة (اللَاّيِيكيَّة) غير الدينيّة في كثير أو قليل، من قبيل (ثورة تركيا الفتاة) سنة 1908م، أو هو يتخذ أحياناً أخرى سياقاً إصلاحياً ينصرف اهتمامه إلى استخدام القيم التقليدية للإسلام في النزاع المفاهيمي والسياسي للقرن العشرين، بعد تجديده لها في قليل أو كثير.

ولكن هذه الحركة كانت ترمي من كلا جانبيْها في نهاية الحساب إلى أن تَمْهَرَ المجتمع الإسلامي بالوسائل الملائمة للدفاع عن ذاته أو لتبرير نفسه، بدل أن تقوم بتحويل الشروط الواقعية والأساسية لهذا المجتمع.

ومن أجل الدفاع عنه كانت المشاكل توضع ضمن حدود كمية، أي باعتبار:(كميّات الأشياء) الضرورية. وقد كان نفس شعار (جمال الدين) الذي يقول فيه: ((لو أن جميع الهنود يبصقون معاً، لأغرقوا الْجُزُرَ البريطانية في بحر من اللُّعاب! .. ))، يشير إلى أن (النهضة) كانت تنزلق في طريق (الشَّيْئِيّة)( Choséisme) .

إلا أنه يجب علينا أن نضيف إلى هذا أن (الأفغاني) العظيم قد ترك لنا أفكاراً كذلك، فيما كتبه من أجل الدفاع عن العالم الإسلامي. وفي النهاية، ابْتُدِعَتْ من أجل تبرير هذا العالم، آلةٌ ذات مقطع مزدوج؛ فقد تمّت المحافظة

(1) انظر للكاتب نفسه (وجهة العالم الإسلامي). [ط. ف].

ص: 47

على ذائِقَة القيم الإسلامية أو أُعيد إنشاؤُها لمواجهة سيطرة الغرب الثقافية عليه. ولكن في الوقت الذي كان يُواجَهُ فيه الاستعمار على هذا النحو، كان يُحْتَفَطُ بمعطيات القابليّة للاستعمار، أو هي كانت تُتْرَكُ دون مساس بها.

وأشخاصُ الجيل الذي عاصرتُه ممن قرؤوا كتاب (الإفلاس الأخلاقي للسياسة الغربية في الشرق) لمؤَلِّفه التركي (أحمد رضا)، أو كتابات (شكيب أرسلان)، كانوا في الحقيقة يقرؤون أعمالاً للدفاع والتَّبرير، وليس أعمالاً للبناء والتوجيه.

فبدل أن تُتَرْجم الجهود الذهنية عن نفسها في صورة مذهب دقيق للنهضة، ومنهاج منسجم، كانت تنْطلق في صورة شعلات دفاعية أو جداليَّة. وكان المؤَلَّف المنهجيُّ الوحيد الذي خلَّفه (جمال الدين) يتمثل في مجادلة ضدّ (الماديّة) - أو (النَّاشوريّة) حسب تعبير كاتبه- وهو الكتاب الذي يتعين علينا أن نقرن به المجادلة المدوِّية لتلميذه (محمد عبده) ضدّ (رينانْ)( Ernest Renan) .

والإصلاحُ الجزائريّ نفسُه، لم يكن بالإجمال سوى مجادلة ضدّ المرابطية والاستعمار.

إلا أن فكرة المذهب كانت تساور العقول في ذلك الجيل أو الذي يليه، كما يشهد بذلك مؤَلَّفٌ لكاتب ليس معروفاً بما فيه الكفاية، وأعني به (الكواكبي)(هـ)، الذي كان كتابه (أمّ القُرى) يمرّ طَيَّ التكتّم بالجزائر حوالي سنة 1920. ولكنه لم يكن سوى عمل من صنع الخيال، أُعِدَّ كمُفَصَّلِ المشاهد

(هـ) عبد الرحمن الكواكبي (1849م- 1902م): ولد في حلب، وقد اضطهده الأتراك لحريته في القول والكتابة، جال (زنجبار) و (الحبشة)، وأقام في مصر. له كتاب (أمّ القرى)، و (طبائع الاستبداد).

ص: 48

( Scénario) لضرب من (المجمع الدينيّ) التخيّليّ المنعقد في (مكَّة) من طرف علماء جميع بلدان الإسلام. على أن الموضوع لم يُتَناوَل هنا أيضاً إلا من زاوية الدفاع عن هذه البلدان، دون أي اهتمام بالتخطيط، أو بالإعداد للتَّخطيط.

ولكي نتمثّل ما ينقص جميع هذه الجهود الذهنية، يجب أن نتصور أحد أعمال ماركس ( Marx) أو أنغلز ( Engels) أو لينين في اقتصاره على مجرد نقد المجتمع الرأسمالي، دونما نظر إلى نواقص الطبقة العمّالية، أو انفتاح على بناء المجتمع الاشتراكي.

وأخيراً فإن المشكلة التي كان يجب أن تطرح في العالم الإسلامي منذ ما يزيد عن نصف القرن. ضمن حدود حضارة معينة، ولكن على مستوى أُسس هذه الحضارة وإرادتها وقدرتها، قد تم وضعها على مستوى منتجاتها.

أو إذا أردنا التعبير عن ذلك بصورة أخرى، نقول إن المشكلة قد وضعت على مستوى حاجات مجتمع انخرط مُنْذُئِذٍ في طريق الخيال ( l'utopie)، والشَّيْئِيَّة، والتَّكْديس الذي سنقوم بتحليله.

فبدل تناول الموضوع بطريقة (جبريّة)( algébrique) تمكّن من الإشارة إلى حلّ قابل للتطبيق على مستوى مجتمع تقوم فيه نفس المشكلة، كالمجتمع الغربي طوال عصر النهضة، تمّ تبنِّي طريقة سير (حسابية) تعالج كلَّ حالة على حدة؛ فعوض معالجة وضعية تاريخية عامة، تمت معالجة قضايا سياسية مختلفة.

بينما العوامل التي أثَّرتْ منذ قرون على وضعية البلدان الإسلاميّة، لم تتشكَّل داخل الحدود الوطنية لبلاد معينة، ولكن داخل المجال الذي تكتنفه رقعةُ الحضارة الإسلامية، أي الرقعة التي يطلق عليها توينبي:(حقل الدراسة).

وإذا كانت الأسباب المحلية هي التي تحدد المظاهر السياسية لكل بلد، وهي التي تدين لها الجزائر مثلاً بما جعلها تؤُول إلى مستعمرة فرنسية على وجه

ص: 49

التخصيص، بدل أن تصبح مستعمرة إنكليزية أو برتغالية، خلال مئة وثلاثين عاماً؛ فإن الأسباب التاريخية العامة هي التي تحدّد الشروط الواقعية للتخلُّف في أي بلاد متخلفة. وليس من عمل الصدفة أن تمَّ إدماج (ليبيا) و (تونس) و (مصر) على سبيل المثال وبالتوالي، ضمن النظم السياسية لكل من: إيطاليا، وفرنسا، وإنكلترا في قليل أو كثير، ولكنها لم تندمج داخل النظم الاجتماعية- الثقافية لهذه البلدان النَّامية. فقد كان لهذه البلدان العربية الإسلامية والإفريقية الثلاثة طوال العهد الاستعماري، ثلاث وضعيات قانونية سياسية مختلفة، ولكن وضعيتها الاجتماعية- الثقافية كانت هي نفسها على وجه التقريب. ذلك أن العوامل المحلية تحقق التباين، بينما تعمل العوامل العامة على الوحدة.

ومشاكل الإنسان تظل متوقفة على هذه العوامل الأخيرة بالخصوص، ذلك أنها مشاكل حضارة.

ولقد ترتَّبَتْ على الواقع المتمثل في إهمال العالَم الإسلامي لهذا المظهر، النتيجة التي نشاهدها: حيث اقتحم الزِّيُّ الأوروبي، والبوقُ، والطنبور، والهاتف، والسيارة، شتى بلدان العالم الإسلامي بصورة مفاجئة منذ خمسين سنة، ولكن مشاكل التخلُّف ظلت راسخة القدم داخل هذه البلدان.

فقد أردنا بدل الاضطلاع بتشييد حضارة، أن نقوم بتكديس منتجاتها.

ولم يكن عملُ النهضة الإسلامية طوال السنوات الخمسين الأخيرة، يمثل تشييداً، ولكن تكديساً للعتاد.

فعملية البناء لم تبدأ بالعالم الإسلامي إلا سنة 1952م في مصر، ومع ثورة أول نوفبر سنة 1954م بالجزائر.

ولكن روح التكديس و (الشيئية)، التي يجب التخلُّص منها، ما انفكَّت مستمرة البقاء، وهي قد تَتَبَدَّى أحياناً تحت مظهر مشتطّ في الْهَزْلِ: وذلك عندما

ص: 50

نلاحظ- إذ نعبر العالم الإسلامي- أربعة أجهزة للتكييف الهوائي في مقصورة أحد رؤساء المصالح، أو خمسة أجهزة هاتفية على مكتبه (1)

وهذا التكديس للأشياء يزدوج على العموم مع تكديس للأشخاص؛ فالمكان الذي يجب أن يشغله خمسة موظفين أو مستخدمين، يوضع فيه أحياناً خمسة عشر أو عشرون، بطريقة تزدوج بها مشكلة البطالة العادية مع بطالة خاصة ناشئة عن الواقع الماثل في استحداثنا لموظفين دون أن نستحدث وظائفهم. ومفهوم جيداً أن جميع ذلك يتبدَّى في حسابات التقويم الاقتصادي والنفساني لبلاد تبحث عن التملص من شروط التخلف، ويتعين عليها أن تستخدم لبلوغه جميع ما يقع تحت طائلتها من الآدميّين، والأفكار، والأشياءَ المادية.

وعندئذ تتجلَّى لا معقولية المنهاج المعتمد بصورة تامة التأَكد، لأنه لكي يتسنى لنا صنع حضارة ابتداء من منتجاتها، حتى ولو كان هذا الأمر قابلاً: للتصور من وجهة نظر متعلقة بعلم المناهج- ونكرر أن هذا أمر غير معقول ..

(1)(فكر الشيئية) عند بن نبي يبرز في طبيعة إنسان (ما بعد الوحدين) وهذا يعادل شيئاً ما الإنسان الكتلة L'homme-masse عند. J.Ortega J.gasset و Bildungse Philister ونيتشيه و Zelote وتوينبي وهناك وصف بنفس التعابير تقريباً لـ J.Ortega J.gasset الذي أبرز عوارضها في علم النفس الانحطاطي في Senorito-satiofait للإنسان الكتلة وهو يستعيد تماماً مفهوم إنسان ما بعد الموحدين عنهد بن نبي.

في (ثورة الجماهير) المؤلف الإسباني وضع اللوحة التالية ((إنه يهتم طبيعياً بالمخدرات، بالسيارات وببعض الأشياء النادرة ولكن هذا يؤكد عدم اهتمامه أساساً نحو الحضارة، لأن سائر هذه الأشياء ليست سوى نتاجها .. لا يرى فيها الحضارة ولكن يستخدمها كما لو أنها إنتاج الطبيعة نفسها.

إنه يرغب في سيارة وهو يتلذذ بها ولكنه يعتقد أنها ثمار عفوية من شجرة الفردوس.

في قرارة نفسه إنه يجهل الخصائص الصناعية للحضارة، وهو لا يجد الحكماس لمعرفة هذه الآلات ولا للمبادئ التي تجعلها ممكنة)). [ط. ف].

ص: 51

فهلا يزال يتعين علينا أيضاً أن نكون قادرين على اقتناء جميع منتجاتها. الأمر الذي يعدّ استحالة محضة من وجهة النظر الاقتصادية.

إن هناك ما يدعونا إلى الإلحاح على هذة النقطة هنا، فالواقع الماثل في امتداد نهضة العالم الإسلامي عبر قرن كامل من الزمان، دون أن تتوصل حتى الآن إلى النتيجة التي بلغتها مجتمعات أخرى انطلقت من نفس النقطة، لا يعزى لفقدان الوسائل، وإنما يرجع إلى فقدان الأفكار. ولكي نستشهد بمثال لنجاح يمكنه أن يوحي لنا بلا فعّاليّة منهاجنا، نستطيع اتخاذ (اليابان) كحدّ للمقارنة. فقد كانت هذه البلاد سنة 1853م- وهي الفترة التي تلقَّتْ فيها النذير الذي تهددها بالانفتاح لتوسُّع الغرب- في نفس النقطة التي كان يوجد بها العالم الإسلامي حوالي سنة 1858م، (وهو التاريخ الذي اخترناه منذ حين كنقطة انطلاق للنهضة الإسلامية). ويُعَدُّ الفارق بين هذين التاريخين زهيداً عندما نُضْفيه على ما يناهز القرن من الزمان. وإن كانت النهضة اليابانية لم تبدأ في الواقع إلا عقب سنة 1868م؛ مع عهد الحكومة المستنيرة، الذي يسمى فيها بعهد (الميجي)( Meïji)( و).

وقبل نهاية القرن الأخير كانت اليابان قد دخلت أسرة القوى الكبرى.

ولقد أمكن التحقق من ذلك، ولا سيما منذ الحرب الروسية- اليابانية الشهيرة،

(و) الميجي ( Meïji) : اصطلاح يشار إليه في اليابان إلى العهد الجديد الذي بدأ بها سنة 1868م، أي عهد (الحكومة المستنيرة) إبان حكم موتسو- هيتو ( Mutsu-Hito) الإمبراطور الياباني المولود في كيوتو ( Kyoto)(1852 م- 1912م)، والذي تولى العرش بعد الإمبراطور كومايي ( Koméi) سنة 1867م، فتخلص من الوالي الإقطاعيين الأقوياء المدعوين بالتايكون أو الشوغون ( Taïkouns ou Shogouns) وهم الذين حكموا اليابان عملياً من سنة 1186م، حتى عهد الثورة سنة 1868م، وذلك بوضعهم للميكادو ( Mikados ا)(أو أباطرة اليابان) تحت وصايتهم؛ وألغى النظام الإقطاعي، ثم منح لليابان دستورها سنة 1889م؛ كما أدخل الحضارة الغربية إلى بلاده، واضطلع بالحربين الصينية- اليابانية، والروسية- اليابانية.

ص: 52

التي بلغ منها أن سَرّبَتْ نفحةً ملحميّة للشعر العربي في ذلك الأوان، كما تذكرنا بذلك قصيدة لحافظ إبراهيم

- لكم نظمنا من قصائد جميلة حول نهضتنا، في الوقت الذي كانت فيه اليابان تتوّج نهضتها بانتصار أَراق ما لا يُسْتهانُ به من المداد في أوروبا، حيث كان (غليوم الثاني)(ز) يتحدث عن (الخطر الأصفر)، وعن (الرجل المريض) .. !

وقد كان (الإنسان المريض) في ذلك العصر، يعني العالم الإسلامي بالذات.

فقد انتقلت اليابان من عهد القرون الوسطى إلى العصر الحديث في مرحلة استغرقت خمسين حولاً تقريباً، وقد أنشأت جميع الشروط التي تجعل منها اليوم مجتعاً منتمياً (للنموذج النَّامي).

وفي إمكاننا أن نجد في الرقم الذي ذكرناه لمتوسط دخلها الفردي السنوي موضوعاً للتأمل. فالواقع أنه يبين لنا العلاقة القائمة بين أخلاق معينة، خاصة بسياسة تقشفية في مجتمع معلوم، وبين شروط نموّه الاجتماعي والاقتصادي.

فقد توصلت اليابان إلى الإنقاص من جميع مشاكل التخلف بفضل تنظيم معين للمجتمع على قواعد أخلاقية، يجعله يبلغ مستوى القدرة على مواجهة جميع أعبائه بواسطة وسائل تعدّ منقوصة على وجه الإجمال إذا قارناها ترقيمياً بالوسائل التي تقع في حوزة بلدان أخرى نامية.

(ز) غليوم الثاني ( Guillaume II) : (1859 م- 1941م) ملك بروسيا، وإمبراطور ألمانيا (1888م- 1918م)؛ وقد ولد في برلين، وتنازل عن العرش عقب الحرب العالمية الأولى، ثم لجأ إلى البلدان المنخفضة (أي هولندة).

ص: 53

وهذان المظهران للقضية هما اللذان يقدمان لنا الدرس المفيد، كما أنهما مظهران مترَابطان. فنحن نرى ضمن حالة ملموسة، وبصورة تلقائية، أن مشكلة التجهيز مرتبطة بقضية الإنسان والأفكار، وأن المحصول الاجتماعي للآلات مرتبط بفعالية وسلوك الفرد الذي يستخدمها.

ونحن هنا، ندرك ضمن حدّ معين، الصلة القائمة بين إرادة وقدرة مجتمع يبني ذاته على قاعدة حضارة، وليس على قاعدة منتجاتها. وهذا ما يفسر لنا كيف أن اليابان قد نجحت حيث لم يحقق العالم الإسلامي، حتى هذا الحين، نصراً حاسماً على التخلف، لأن نشاطه قد طبق في عالم الأشياء والمنتجات، بدل أن يطبق ضمن النسق البشري ونسق الأفكار.

وفي ضوء هذه الاعتبارات يصبح من الضروري أن نحول السؤال المثار بصورة ضمنية من خلال موقف العالم الإسلامي منذ قرن من الزمان:- كيف نصنع منتجات الحضارة؟ .. إلى سؤال صريح:- كيف نصنع الحضارة؟ ..

تلك هي المشكلة في انضباطها التام.

ولكي نتناول هذه المشكلة على هذا الشكل، يتعين علينا اللجوءُ إلى الطريقة المعتمدة في مختبر التحليلات.

فنحن لكي نقوم بتحليل مادة ما، لا ننقلها برمّتها إلى المختبر، ولكننا نقتصر على اقتطاع (عيّنات) منها فحسب. وعيّنات حضارة ما، هي منتجاتها الاجتماعية في جميع أشكالها.

فالصباح الذي نستنير به، والأفكار التي وجهت أمر تجهيزه، والآدميون الذين قاموا بعملية إنجازه، تمثل جميعها منتجات اجتماعية لحضارة معينة.

ونحن لو حللنا من وجهة نظر علم الاجتماع هذه (العيّنة)، لوجدنا أن

ص: 54

محتواها أو مادتها الجوهرية المتعلقة بعلم الاجتماع تؤول إلى ثلاثة حدود هي: التراب، والزمن، والإنسان.

فالتراب يتمثل ضمنها في صورة مواد أوّليّة واصلة أو عازلة. أما الزمن فيندمج داخل سائر الاطراد العلمي والفني الواقع بين اكتشاف الظاهرة الكهربائية، حوالي نهاية القرن الثامن عشر، وبين تطبيقه في ميدان الإنارة حوالي منتصف القرن التاسع عشر؛ ذلك أن الزمن يمثل نفس الركيزة التي يقوم عليها هذا الاطراد.

وأما الإنسان فينخرط ضمن التدخل البشري: (اليدوي والذهني) في هذا الاطراد ابتداء من غالفاني ( Galvani) حتى أديسون ( Edison).

وإذن فالمصباح باعتباره نتاجاً للحضارة، يمثل في الواقع إنتاجاً للإنسان، والتراب والزمن.

وكل عينة أخرى- وليس هناك محلّ لمضاعفة الأمثلة- تُحلَّل على نفس المنوال: فهي نتيجة للإنسان باعتباره صانعاً لجميع الوقائع الاجتماعية، وصانعاً لنفسه أولاً وبالذات بوصفه كائناً اجتماعياً؛ وللتراب الذي يجسّم سائر هذه الوقائع، ويدخلها إلى حيّز الملموس بمنحها الركيزة الطبيعية (أو الفيزيائية) والاقتصادية؛ وللزمن الذي يقدم للاطرادات المتعلقة بعلم الاجتماع الامتداد الضروري لنموّها واكتمالها. فإذا ما طبقنا الآن الطريقة (الجبريّة) الكلاسيكية على جميع منتوجات الحضارة تلك، بجمعنا لحدودها المتجانسة فيما بينها- حدّاً لِحَدٍّ- في سائر مركباتها ابتداء من مجرد الإبرة إلى الصاروخ. ومنذ الفكرة الأكثر شيوعاً حق معادلات (النظرية النسبية)، ومن مجرد الراعي باعتباره ذاتية اجتماعية إلى شخص أكبر عالم، توصلنا إلى هذه النتيجة الدالة المتمثلة في أن مجموع

ص: 55

منتوجات حضارة ما، يُساوي مجموع الأشخاص، بزيادة مجموع ضروب التراب، وزيادة مجموع الأزمنة.

ولكي نترجم هذه الصياغة إلى لغة عادية، يجب أن ندلي بملاحظة تخص كل حدّ من حدودها:

1 -

فمجموع منتجات حضارة ما، ليس سوى هذه الحضارة نفسها، ولكن ضمن حالة شتيتة وسائبة، أعني دونما اعتبار لصلاتها الداخلية أو لتركيبها المتآلف، ما دامت خاصة التحليل ماثلة في شجب هذه الصِّلات.

2 -

ومجموع الأشخاص ليس إلا: (الإنسان) باعتباره كائناً اجتماعياً.

3 -

ومجموع ضروب التراب، ليس غير التراب ولكن مع كامل (مَشْروطِيَّتِه) المتعلقة بعلم الاجتماع ( Son conditionnement sociologique) ، ( أي رضوخه لضرورات فنية معينة) بما في ذلك وضعيته القانونية، و (تَوْضيبُه) الفنيّ: Son aménagement technique (1)

4 -

ومجموع الأزمنة ليس هو إلا الزمن الذي يتم تكييفه اجتماعياً حيث يحول إلى زمن اجتماعي بإدماجه ضمن جميع العمليات الصناعية، والاقتصادية، أو الثقافية، باعتباره ركيزة تقوم عليها سائر اطرادات هذه العمليات. وليست الملاحظات التي أدلينا بها حول النقط الثلاثة الأخيرة سوى ملاحظات توضيحية؛ وإن كان يتعين أن نضيف إليها ملاحظة ذات أهمية خاصة على علاقة بعلم الاجتماع، ويمكن استخلاصها من هذا التحليل، وهي المتمثلة في أن فاقَةَ البلدان المتخلِّفة لا تعدو كونها فاقة ظاهرية، حيث إن كلا من هذه البلدان

(1) تحمل عبارة (التوضيب) هنا معنى العملية المثلى لتجهيز وتوزيع التراب ضمن الإطار الجغرافي بما ينتظمه من الآدميين الذين يعيشون عليه، وما يدور فيه من نشاطات اقتصادية في علاقتها الوظيفية بالموارد والإمكانيات الطبيعية والفنية. (المترجم).

ص: 56

تمتلك عدداً من الآدميين يكفي لتحويلها، كما تمتلك أحياناً أخصب وأغنى تراب في العالم - كما هي الحال بالنسبة إلى (أندونيسيا) مثلاً-، وهي تمتلك بطبيعة الحال الزمن الذي يعدّ هو نفسه بطريقة صارمة بالنسبة إلى الجميع.

وعلى النقيض من ذلك فإن الملاحظة المتعلقة بالنقطة الأولى تضعنا في مواجهة مشكلة جديدة، لأن الحضارة حيثما تكون في حالة شتيتة أو تَمْثُلُ على صورة سائبة، لا تمثّل حضارة، ولكن ركاماً مكدَّساً من الأشياء المشتتة، الفاقدة للتآلف في قليل أو كثير، حتى ليمكن أن نتمثّلها في صورة متحف من الطُّرَف المستغربة والمثيرة للاستطلاع، أو سوق للسِّلَع الزهيدة القيمة والبضائع الكاسدة البائرة. وهذه الملاحظة تقدم لنا عن طريق المراجعة، المعنى الحقيقي المتعلق بعلم الاجتماع لظاهرة التكديس التي أشرنا إليها فيما سلف أثناءَ حديثنا عن الطريق الذي لا يفضي إلى مخرج، والذي انخرطت فيه نهضة العالم الإسلامي منذ قرن من الزمان.

فهذه العناصر الثلاثة التي هي: الإنسان، والتراب، والزمن، لا تمارس مفعولها ضمن حالة شتيتة، ولكن ضمن تركيب متآلف، يحقق بواسطتها جميعاً إرادة وقدرة المجتمع المتحضّر.

وإذن فإن مشكلة هذا التركيب المتآلف هي التي توضع أمامنا.

وأنا لا أعتقد أن هناك طريقتين لتناول هذه المشكلة، فالتجارب البشرية المعاشة هي التي يمكنها أن ترشدنا بدروسها، إما بطريقة مباشرة ضمن التاريخ، وذلك ما لم تعترض بعض الأسباب الثانوية كحائل بين الأسباب الأساسية ونتائجها، وإما من خلال الاطرادات التي توجب علينا أن نرجع عن طريق التحليل إلى الأسباب الأولى ذاتها.

ولذا يجب علينا حسب اقتضاء الظروف أن نَتَبَنَّى هذا المنهاج أو ذاك في

ص: 57

عملية استقصائنا، وإن كانت النتيجة العملية تظل هي نفسها، وهي التي تهمنا من حيث التطبيق؛ إذ إن الشروط الخاصة بحضارة ما لا تقبل الانفصال فيما بينها، بحيث يحقق تركيبها المتآلف بطريقة تلقائية شروط قيامها بوظيفتها كإرادة وقدرة.

والواقع أننا عندما نسائل التاريخ، نجد أن الحضارات قد تشكلت ضمن ظروف هيمنت عليها فكرة الخلاص، وسيطرت على وعي الإنسان حتى غيرت اتجاهه. وهذه الفكرة لا تشكل صياغتها، ولا تصبح حاسمة إلا أمام خطر مرعب.

ويمكن للخطر أن يَمْثُلَ في شكل تَحَدٍّ من طرف الطبيعة نفسها (في صورة جفاف، أو طوفان إلخ

)، أو تَحَدٍّ من طرف التاريخ في صورة غَزْوٍ، أو حرب، أو تهديد بالاسترقاق. وإلى هذا الشكل من التحدّي بالذات، يُرْجِعُ توينبي ( Toynbee)(1) الظروف العامة التي تتشكل ضمنها الحضارات. فتشكل الحضارة المصرية، يدخل في رأيه ضمن هذه المقولة.

(1) مفهوم تحد- رد Defi-riposte هو مفتاح فهم وشرح تاريخ توينبي في مصير كل حضارة. يوازن بين اطرادين نموذجيين؛ الأول: حول النمو، والثاني: حول التخلف والانحلال.

فإذا كان هنالك ولادة وثبات، إذن هنالك نمو مجتمع باتجاه الحضارة، عندما تأخذ بالتغلب باسمرار على التحديات (الطبيعية- الاقتصادية- الديمغرافية- الأخلاقية) عبر ردود أفعال ملائمة.

الحضارات تولد عندما يقدم الوسط شروطاً للحياة قاسية (مزايا المحن) والانتصار على تلك المصاعب هو واقعة نمو، والرزوح تحت وطأتها عند الانطلاق أو في الطريق تلك علاقة انحلال وسقوط.

هذه هي بالإجمال الظروف التاريخية لكل حضارة في طرح توينبي.

من خلال الطروحات (البنابية) حول تكون وأفول المجتمعات المتحضرة يلاحظ أن مفكرنا قد تجاوز نظريات توينبي المبنية على جدلية (تحد ورد).

انظر تحديداً (الخط البياني لدورة الحضارة في شروط النهضة). [ط. ف].

ص: 58

ولكن هذا التأويل لا يمدنا بتفسير لما حدث على وجه الدقة، عند الهجرة السكانية التي تمت في بداية الأزمنة التاريخية، عقب ذلك الجفاف الذي اجتاح المناطق المتاخمة للجزائر، فغير شروطها المناخية؛ وصيرها إلى مناطق صحراوية؛ إذ لابدَّ أن يكون قد حدث ضمن هذا الخروج ( exode) شيءٌ ما يظل خارجاً عن متناول التفسير بالتحدّي الطبيعيّ، ما دام جزء من السكان قد بقي بنفس المكان وتكيف مع الشروط الجديدة لحياته، والتحق جزء آخر بأعالي (النّيل) ليجد من جديد شروط حياته القديمة، واتجه جزء واحد من هؤلاء السكان إلى مستنقعات (الدّلتا)، فروّض الطبيعة الجديدة؛ وهكذا ولدت الحضارة المصرية، كنتيجة مترتبة ليس عن الظاهرة الطبيعية وحدها فحسب، ولكن عن اختيار حرّ وقاصد، أعني عن إرادة جماعية وأوّليّة وجَّهت خطى هذا الجزء من (الخروج العام) نحو صقع محدّد.

ونحن لا نفسر آلية هذه الإرادة، ولكننا نقتصر على إثباتها باعتبارها في الوقت ذاته ظاهرة تظل خارجة عن متناول التفسير الطبيعيّ، ومظاهرة تدشينيّة مع ذلك لمجتمع جديد وحضارة جديدة.

ويمكننا أن نستند لدعم وجهة نظرنا على التاريخ اليهودي، الذي يمدّنا فعلاً بمثال لخروج آخر ..

وإن كان هذا الخروج لا يُفَسِّرُ حضارة إسرائيل، إلا في الحد الذي يُفَسَّرُ فيه هو ذاتُه بالعمل الأوّلي (لموسى) الرسول. ويبيّن لنا (الكتابُ المقدَّس) أيَّ صعوبات لاقاها هذا الأخير في كنف شعب حَرونٍ عَنُودٍ من أجل تشكيل إرادته وقيادته قبل هذا الخروج وبعده.

(فموسى) بالذات هو الذي يفتح لنا النافذة المطلَّة على المظهر الآخر من القضية، أعني عندما تُنْهِضُ فكرةُ الخلاص شعباً ما وتشكل إرادته بصورة عامة،

ص: 59

لا أمام خطر ناتج عن الطبيعة، ولكن إزاءَ خطر (أُخْرَوِيّ) وغَيْبِيّ.

ولقد ولدت المجتمعات التي ما تنفك تسلَّط حتى هذا الحين انعكاسات حضاراتها على الخارطة الجغرافية، وأعني بها: الهندوسية، والبوذية، والموسويّة، والمسيحية، والإسلامية، من هذه الانطلاقة الروحية التي أقامت هياكل (براهما) و (يَهْوَهْ)( Brahma et Jéovah) ومعابد البوذية، والكنائس القوطية، والمساجد الإسلامية.

فكل هذه الحضارات المعاصرة لنا، قد شكلت تركيبها المتآلف الأصليّ للإنسان والتراب والزمن، في مهد فكرة دينيّة. وإذا اقتضى الأمر أن نصدر حكماً بشأن المجتمع الذي هو بصدد التشييد حالياً باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، باعتباره شكلاً من الحضارة- وأنا أعتقد أنه يمثل بالفعل شكلاً لحضارة- نجد أن تكوينه ونموّه يفسّران بنفس الطريقة.

فمن وجهة النظر التاريخية، يتعين علينا ملاحظة أن الأفكار (الماركسية) قد استخدمت لنموّها واكتمالها كلَّ البنية التَّحْتِيَّة ( L'infrastructure) النفسانية والمفاهيمية المسيحية للإنسان الذي حوَّل إنجيل (يسوع المسيح) إلى إنجيل (لماركس)، وجميع المطامح التوّاقة إلى (ملكوت الربّ الإله)، إلى مطامح متشبّثة (بالفردوس الأرضي)! ..

ومن وجهة النظر النفسية فإن العقيدة التي أقامت في الماضي (كاتدرائيات) إمبراطورية (إيفيان الرابع)(الملقب بإيفيان الرهيب)، هي التي تتولى اليوم تشييد المصانع والسدود في بلاد (خروتشوف)(1)

فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة، وإما بواسطة بديلاتها

(1) انظر بهذا النطاق كتاب (ن بردييف) منابع واتجاهات الشيوعية الروسية. [ط. ف].

ص: 60

اللادينية نفسها، في التركيبة المتآلفة لحضارة ما، وفي تشكيل إرادتها. فهل يتعين علينا أن نستخلص في ذلك أنه يلزمنا أن ننتظر أو نستثير وحي فكرة دينية جديدة، في كل مرة توضع في مواجهتنا مشكلة نهضة؟

لقد حسمت أوروبا حالتها الخاصة منذ بضعة قرون، داخل الإطار المسيحيّ دون ريب، ولكن مع مبادرات في الميدان الفني، والأدبي، والفلسفي، كانت تذهب إلى ما وراء المبدأ الإنجيليّ.

فقد تشكل الفكر الأوروبي المعاصر في جوّ العقلانية ( Rationalisme) الفرنسية، والجماليّة ( Esthétisme) الإيطالية. ومع ذلك ففي كل مرة كانت تنتاب فيها هذا الفكر استثارة أو تحدّ وافد من الخارج، كان يرجع من جديد إلى أصله المسيحيّ كما يبيّن لنا ذلك التصريح الشهير الذي أعلنه (شارل العاشر) على أمم أوروبا غداة احتلال الجزائر.

ولكن حالتنا نحن تمثل حالة شعب استلم عن سلفه السامي ( Sémitique) ميْسِمَ أقوى انطلاقة دينية. ففي أوروبا كانت الحركة الدينية للنهضة حركة مُبْعِدَة عن المركز ( Centrifuge) على وجه العموم؛ ومن ثَمَّ فقد كانت تبتعد عن المسيحية. وتمثل (الماركسية) ضمن اعتبار معين، نتيجة لهذه العملية الإقْصائِيَّة التي أبعدت الفكر الأوروبي عن المركز المسيحيّ؛ وعلى النقيض من ذلك، فإن الحركة الدينية للنهضة الإسلامية تمثل حركة مقرّبة من المركز ( Centripète) ومن أجل تحقيق الشكل الجديد لحضارته، كان المجتمع الإسلامي يبحث بطريقة مُنْبَهِمَة، ولكن في تشبّث لا ينثني منذ قرن من الزمان، عن القبس الديني الضروري لتركيبته الحيوية، التاريخية المتجانسة. ولا يعد عملاً من أعمال الصدفة، ولكن بفعل منطق داخلي آمِر، أن تكون الجهود الذهنية الأولى لنهضة هذا المجتمع قد وجدت تعبيرها المحظوظ والملائم في قليل أو كثير، ضمن أعمال من قبيل (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، وأن يكون نفس مجهود الإنهاض

ص: 61

الاجتماعي في هذه البلاد بين سنة 1920 وسنة 1936، والذي حمل اسم:(الإصلاح)، مُسْتَوْحًى من الدين.

وأخيراً، فقد سجلت الثورة الجزائرية ضمن ميثاق طرابلس (الإسلام)( Islamisme) بين مبادئها الموجِّهة لها، ذلك أنها كانت تطيع المنطق نفسه، لِعِلْمِها أنها قد اسْتَقَتْ هي نفسُها أصفى جوهرها وأقوى عناصر مفهوميتها ( Idéologie) من هذا الدين. وهكذا سجلت على هذا الغرار مبدأ (مُحَضِّراً) سامِقاً ضمن مفهوميتها، عِلماً منها بأنها تستطيع أن تستمدّ منه الشرارة الضرورية لتركيبة الإنسان، والتراب، والزمن، المتماسكة بالجزائر.

ومن جهة أخرى فقد بدأنا نشاهد على الصعيد السياسي، والفني، أوّليات مثل هذا الجهد ضمن إجراءات فعلية؛ فقد تمَّ بالفعل على صعيد التربية مثلاً وضع مشكلة الإنسان ضمن اتجاه حضارة، كما أن الهيئات التي اضطلعت بالدفاع عن المناهج التربوية سائرة في نفس هذا الاتجاه، حيث نضجت موجّهاتها في بوتقة الروح التي قامت على إعداد ميثاق طرابلس.

والواقع أننا عندما نضع مشكلة الإنسان تحت زاوية النموّ، يبدو لنا الزمن كبُعد من أبعاد فعّاليته. فالمشكلتان (أعني مشكلتي الإنسان والزمن) مترابطتان فيما بينهما، والموجهات التي تقدم حلاًّ لأولاهما، تحلّ الثانية معها.

وفيما يتعلق بالمشكلة المثالثة (أعني مشكلة التراب)، فإن الإجراءات المتخذة في ميدان الإصلاح الزراعي، وعملية التشجير، والتّنقيب المنجمي، تضعها وضعها الصحيح، كما تحدد أمر (التَّوضيب) الجديد للتراب في علاقته الوظيفية بحاجات بلاد تريد اجتياز عتبة نموِّها (1).

(1) الاثنا عشر سنة السابقة تؤكد لنا بشكل أفضل النتائج الناشئة عن تلك الإرادة الوطنية. وبصورة أخص ابتداء من الخطة الرباعية الأولى. [ط. ف].

ص: 62

وبكلمة واحدة، فإن التركيبة المتجانسة للإنسان والتراب والزمن بصدد التحقق، بالرغم من المصاعب الملازمة لتحولات اجتماعية لَمَّا تزل في بدايتها، مع ما ينضاف إليها من المصاعب المصطنعة التي تقام أمام خطانا، لكي تبرهن لنا أننا غير قادرين على السير وحدنا.

ولكن الثورة قد شحذت إرادة شعب يرمي إلى التحرر مهما كلفه الثمن، من ارتهانه الثقيل الوطأة للتخلف، ويعتزم في كلمة واحدة، أن يَنْضَوي إلى الحضارة.

ص: 63