الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تُتعدَّى
(1)
. ومعلوم أن الله سبحانه حدَّ لعباده حدودَ الحلال
(2)
والحرام بكلامه، وذمَّ من لم يعلم حدودَ ما أنزل الله على رسوله. والذي أنزله هو كلامه، فحدودُ ما أنزله
(3)
الله هو الوقوفُ عند حدِّ الاسم الذي علَّق عليه الحِلَّ والحُرمةَ، فإنه هو المنزَّل على رسوله، وحدُّه: ما
(4)
وُضِع له لغةً أو شرعًا، بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه.
ومن المعلوم أن حدَّ البُرِّ لا يتناول الخردل، وحدُّ التمر لا يدخل فيه البَلُّوط، وحدُّ الذهب لا يتناول القطن. ولا يختلف الناس أن حدَّ الشيء ما يمنع دخولَ غيره فيه، ويمنع خروجَ بعضه منه.
وقد تقدَّم تقريرُ هذا، وأعدناه لشدة الحاجة إليه؛ فإنَّ أعلمَ الخلق بالدين أعلَمُهم بحدود الأسماء التي علَّق بها الحِلَّ والحُرمة.
و
الأسماء التي لها حدود في كلام الله ورسوله ثلاثة أنواع:
نوعٌ له حدٌّ في اللغة، كالشمس والقمر، والبرّ والبحر، والليل والنهار. فمن حمل هذه الأسماء على غير مسمَّاها، أو خصَّها ببعضه، أو أخرج منها بعضه= فقد تعدَّى حدودها.
ونوعٌ له حدٌّ في الشرع، كالصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان
(1)
كذا وقعت العبارة في النسخ الخطية والمطبوعة. والواو في «الوصية» للحال. يعني: والحال أن الوصية لم تجئ باتباع القياس ومراعاته، بل جاءت بحفظ حدود ما أنزل الله.
(2)
ع: «حدودًا للحلال» .
(3)
ت، ع:«أنزل» . والمقصود: فحفظ حدود ما أنزله الله.
(4)
في النسخ المطبوعة: «بما» .
والإسلام والتقوى ونظائرها. فحكمُها في تناولها لمسمَّياتها الشرعية كحكم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي.
ونوع له حدٌّ في العُرف، لم يحُدَّه الله ورسوله بحدٍّ غير المتعارف، ولا حدَّ له في اللغة، كالسفر، والمرض المبيح للترخُّص، والسَّفَه والجنون الموجِب للحَجْر، والشقاق الموجب لبعث الحكمين، والنشوز المسوِّغ لهجر الزوجة [159/ب] وضربها، والتراضي المسوِّغ لحِلِّ التجارة، والضِّرار المحرَّم بين المسلمين، وأمثال ذلك. وهذا النوع في تناوله لمسمَّاه العرفي كالنوعين الآخرين في تناولهما لمسمَّاهما.
ومعرفة حدود هذه الأسماء ومراعاتها مغنٍ عن القياس غيرُ مُحْوِج إليه. وإنما يحتاج إلى القياس من قصَّر في معرفة
(1)
هذه الحدود، ولم يُحِطْ بها علمًا، ولم يُعطها حقَّها من الدلالة.
مثاله: تقصير طائفة من الفقهاء في معرفة حدِّ الخمر حيث خصُّوه بنوع خاصٍّ من المسكرات، فلما احتاجوا إلى تقرير تحريم كلِّ مسكر سلكوا طريق القياس، وقاسوا ما عدا ذلك النوع في التحريم عليه. فنازعهم الآخرون في هذا القياس، وقالوا: لا يجري في الأسباب، وطال النزاع بينهم، وكثر السؤال والجواب. وكلُّ هذا من تقصيرهم في معرفة حدِّ الخمر، فإن صاحب الشرع قد حدَّه بحدٍّ يتناول كلَّ فرد من أفراد المسكر فقال:«كلُّ مسكِر خمر»
(2)
، فأغنانا هذا الحدُّ عن باب طويل عريض كثير التعب من القياس، وأثبتنا التحريم بنصِّه لا بالرأي والقياس.
(1)
«في معرفة» ساقط من ع.
(2)
سبق تخريجه.
ومن ذلك أيضًا: تقصير طائفة في لفظ «الميسر» ، حيث خصُّوه بنوع من أنواعه، ثم جاؤوا إلى الشِّطْرَنج مثلًا، فراموا تحريمه قياسًا عليه. فنازعهم آخرون في هذا القياس وصحته، وطال النزاع. ولو أعطوا لفظ الميسر حقَّه وعرفوا حدَّه لَعلِموا أن دخول الشطرنج فيه أولى من دخول غيره، كما صرَّح به من صرَّح من الصحابة والتابعين، وقالوا: الشطرنج من الميسر
(1)
.
ومن ذلك: تقصير طائفة في لفظ «السارق» ، حيث أخرجوا منه نبَّاشَ القبور، ثم راموا قياسه [160/أ] في القطع على السارق، فقال لهم منازعوهم: الحدود والأسماء لا تثبت قياسًا، فأطالوا وأعرضوا في الردِّ عليهم. ولو أعطوا لفظ السارق حقَّه
(2)
لرأوا أنه لا فرق في حدِّه ومسمَّاه بين سارق الأثمان وسارق الأكفان، وأن إثبات الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس.
ونحن نقول قولًا ندين الله به، ونحمد الله على توفيقنا له، ونسأله الثبات عليه: إن الشريعة لم تُحْوِجنا إلى قياس قطُّ، وإنَّ فيها غُنيةً وكفايةً عن كلِّ رأي وقياس وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه الله عبده فيها.
وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79].
وقال علي: «إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه»
(3)
.
(1)
انظر ما سلف من أقوالهم.
(2)
ع: «حدَّه» ، وكذا في الطبعات القديمة.
(3)
سبق تخريجه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: «اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل»
(1)
.
وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقال عمر لأبي موسى: «الفهم الفهم»
(3)
.
فصل
قالوا: ومما يبيِّن فساد القياس وبطلانه تناقضُ أهله فيه، واضطرابُهم تأصيلًا وتفصيلًا.
أما التأصيل، فمنهم من يحتجُّ بجميع أنواع القياس، وهي: قياس العلة، والدلالة، والشَّبَه، والطرد. وهم غلاتهم، كفقهاء ما وراء النهر وغيرهم، فيحتجُّون في طرائقهم على منازعهم في مسألة المنع من إزالة النجاسة بالمائعات بأنه مائع لا تبنى عليه القناطر، ولا تجري فيه السفن؛ فلا تجوز إزالة النجاسة به، كالزيت والشَّيْرَج
(4)
، وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي إلى التلاعب بالدين أقرب منها إلى تعظيمه.
وطائفة تحتجُّ
(5)
بالأقيسة الثلاثة دونه، وتقول: قياس العلة أن يكون
(1)
رواه أحمد (2397، 2879، 3032، 3102) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وصححه ابن حبان (3392)، والحاكم (3/ 534). وأورده الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (10/ 169، 222 - 223، 13/ 19).
(2)
أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382).
(3)
من كتاب عمر في القضاء، وقد سبق بطوله.
(4)
انظر: «العدّة» للقاضي (5/ 1438).
(5)
في النسخ المطبوعة: «يحتجون» .
الجامع هو العلة التي لأجلها شُرِع الحكمُ في الأصل. وقياس الدلالة: أن يُجمَع بينهما بدليل [160/ب] العلة. وقياس الشَّبه: أن يتجاذب الحادثةَ أصلان: حاظر ومبيح، ولكلِّ واحد من الأصلين أوصاف، فتلحق الحادثة بأكثر الأصلين شبهًا بها؛ مثل أن يكون بالإباحة أشبهَ بأربعة أوصاف، وبالحظر بثلاثة؛ فيلحق بالإباحة.
وقد قال الإمام أحمد في هذا النوع
(1)
في رواية أحمد بن الحسين: «القياس: أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كلِّ أحواله. فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه، فهذا خطأ. قد
(2)
خالفه في بعض أحواله، ووافقه في بعضها. فإذا كان مثله في كلِّ أحواله، فما أقبلتَ
(3)
به وأدبرتَ به، فليس في نفسي منه شيء»
(4)
.
وبهذا قال أكثر الحنفية والمالكية والحنابلة. وقالت طائفة: لا قياس إلا قياس العلة فقط. وقالت فرقة بذلك، لكن
(5)
إذا كانت العلة منصوصة.
ثم اختلف القيّاسون
(6)
في محل القياس، فقال جمهورهم: يجري في الأسماء والأحكام. وقالت فرقة: بل لا تثبت الأسماء قياسًا، وإنما محل
(1)
يعني: في قياس الشبه.
(2)
في النسخ المطبوعة: «وقد» .
(3)
في «العدَّة» ــ وهو مصدر النقل ــ: «أحواله، فأقبلت» . وكذا في «التمهيد» .
(4)
«العدَّة» (4/ 1326). وانظر: «التمهيد» لأبي الخطاب (4/ 5). وذكر القاضي نحوه في «العدة» (5/ 1436) من رواية الأثرم.
(5)
في النسخ المطبوعة: «ولكن» .
(6)
في النسخ المطبوعة: «القياسيون» ، كالعادة.
القياس الأحكام. ثم اختلفوا، فأجراه جمهورهم في العبادات واللغات والحدود والأسباب وغيرها. ومنعه طائفة في ذلك. واستثنت طائفة الحدود والكفارات فقط. واستثنت طائفة أخرى معها الأسباب.
وكلُّ هؤلاء قسموه إلى ثلاثة أقسام: قياس أولى، وقياس مثل، وقياس أدنى. ثم اضطربوا في تقديمه على العموم أو بالعكس على قولين. واضطربوا في تقديمه على خبر الآحاد الصحيح، فجمهورهم قدَّم الخبر، وقال أبو بكر بن الفرج
(1)
القاضي وأبو بكر الأبهري
(2)
المالكيان: هو مقدَّم على خبر الواحد. ولا يمكنهم ولا أحدًا
(3)
من الفقهاء طردُ هذا القول [161/أ] البتة، بل لا بدّ من تناقضهم.
واضطربوا في تقديمه على الخبر المرسل، وعلى قول الصحابي. فمنهم من قدَّم القياس، ومنهم من قدَّم المرسل وقول الصحابي، وأكثرهم ــ بل كلُّهم ــ يقدِّمون هذا تارةً، وهذا تارةً. فهذا تناقضهم في التأصيل.
(1)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة، وهو خطأ، صوابه أبو الفرج كما في «الإحكام» لابن حزم (7/ 54). وهو أبو الفرج عمرو بن محمد الليثي البغدادي صاحب كتاب «اللمع في أصول الفقه» ، المتوفى سنة 330. انظر ترجمته في «الديباج المذهب» لابن فرحون (2/ 99).
(2)
هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح، أخذ عن أبي الفرج القاضي وغيره. انتهت إليه رئاسة المالكية في وقته. توفي ببغداد سنة 395. انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (16/ 332) و «الديباج المذهب» (2/ 162).
(3)
في النسخ الخطية والمطبوعة: «أحد» بالرفع، وهو خطأ. ويستغرب عدم تنبُّه الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عليه.
وأما تناقضهم في التفصيل، فنذكر منه طرفًا يسيرًا
(1)
يدل على ما وراءه من قياسِهم في المسألة قياسًا، وتركِهم فيها مثلَه أو ما هو أقوى منه، أو تركِهم نظيرَ ذلك القياس أو أقوى منه في مسألة أخرى، لا فرق بينهما البتة.
فمن ذلك: أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر، وقاسوا في أحد القولين عليه سائر الأنبذة، وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه. فإن كان هذا القياس حقًّا فقد تركوه، وإن كان باطلًا فقد استعملوه، ولم يقيسوا عليه الخلَّ ولا فرق بينهما. وكيف كان نبيذ التمر «تمرةٌ طيبةٌ وماءٌ طهورٌ»
(2)
، ولم يكن الخلُّ «عنبةٌ طيبةٌ وماءٌ طهورٌ» ، والمرَقُ «لحمٌ طيِّبٌ وماءٌ طهور»
(3)
؟، ونقيع المشمش والزبيب كذلك!
فإن ادعوا الإجماع على عدم الوضوء بذلك، فليس فيه إجماع، فقد قال الحسن بن صالح بن حَيّ وحميد بن عبد الرحمن: يجوز الوضوء بالخَلِّ
(4)
. وإن كان الإجماع كما ذكرتم، فهلَّا قِستم المنعَ من الوضوء
(1)
قارن هذا الفصل بكتاب «الإحكام» : «فصل في ذكر طرفٍ يسيرٍ من تناقض أصحاب القياس في القياس
…
» (8/ 48 - 76).
(2)
يشير إلى حديث ابن مسعود الذي أخرجه الترمذي وغيره، وقد سبق تخريجه.
(3)
في النسخ المطبوعة: «لحمًا طيبًا وماءً طهورًا» ومن قبل أيضًا أثبت فيها لفظ «طهورًا» ولعل ذلك تغيير من الناشرين الذين ذهب عليهم أن الإعراب هنا على الحكاية.
(4)
لم أقف على قولهما. وفي «المحلَّى» (1/ 195 - دار الفكر) عن حُميد صاحب الحسن بن [صالح] بن حي أن «نبيذ التمر خاصة يجوز الوضوء به والغسل المفترض في الحضر والسفر، وجد الماء أو لم يوجد. ولا يجوز ذلك بغير نبيذ التمر» . وهذا مخالف لما نقله المصنف عنهما.
بالنبيذ على ما أجمعوا عليه من المنع من الوضوء
(1)
بالخل؟
فإن قلتم: اقتصرنا على موضع النص ولم نقِس عليه، قيل لكم: فهلَّا سلكتم ذلك في جميع نصوصه، واقتصرتم على محالِّها الخاصة، ولم تقيسوا عليها!
فإن قلتم: لأن هذا خلاف القياس، قيل لكم: فقد صرَّحتم أنَّ ما ثبت على خلاف القياس يجوز القياس عليه. ثم هذا يُبطِل أصل القياس، فإنه إذا جاز ورود الشريعة
(2)
بخلاف القياس [161/ب] عُلِمَ أن القياس ليس من الحق، وأنه عين الباطل، فإن الشريعة لا ترد بخلاف الحق أصلًا.
ثم من قاعدتكم أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يُقبَل. وفي أيِّ الأصول وجدتم ما يجوز التطهُّر
(3)
به خارج المصر والقرية، ولا يجوز التطهُّر به داخلهما؟
فإن قالوا: اقتصرنا في ذلك على موضع النص، قيل: فهلَّا اقتصرتم به على خارج مكة فقط حيث جاء الحديث! وكيف ساغ لكم قياسُ الغسل من الجنابة في ذلك على الوضوء دون قياس داخل المصر على خارجه، وقياسُ العنبة الطيبة والماء الطهور، واللحم الطيب والماء الطهور، والدِّبس الطيب والماء الطهور= على الثمرة الطيبة والماء الطهور؟ فقِستم قياسًا، وتركتم مثله، وما هو أولى منه؛ فهلَّا اقتصرتم على مورد الحديث، ولا عدَّيتموه إلى أشباهه ونظائره!
(1)
ما عدا ع: «بالوضوء» .
(2)
ع: «الشرع» .
(3)
س، ع:«التطهير» ، هنا وفيما بعد. وكذا في النسخ المطبوعة.
ومن ذلك: أنكم قِستم على خبر مروي: «يا بني المطَّلب، إنَّ الله كرِه لكم غُسالةَ أيدي الناس»
(1)
،
فقِستم على ذلك الماء الذي يتوضأ به، وأبحتم لبني المطَّلب غُسالة أيدي الناس التي نصَّ عليها الخبر.
وقِستم الماء المستعمل في رفع الحدث ــ وهو طاهر لاقى أعضاء طاهرة ــ على الماء الذي لاقى العَذِرة والدم والمَيْتات. وهذا من أفسد القياس. وتركتم قياسًا أصحَّ منه، وهو قياسه على الماء المستعمل في محل التطهير
(2)
من عضو إلى عضو ومن محل إلى محل، فأي فرق بين انتقاله من عضو المتطهر
(3)
الواحد إلى عضوه الآخر
(4)
وبين انتقاله إلى عضو أخيه المسلم؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثَلُ المسلمين في توادِّهم وتراحُمهم كمثل الجسد الواحد»
(5)
. ولا ريب عند كلِّ عاقل أن قياس جسد المسلم
(1)
رواه (بنحوه) البلاذري في «أنساب الأشراف» (4/ 24 - 25، 295 - 296)، والطبراني في «المعجم الكبير» (677، 678) من حديث عبد المطلب بن ربيعة مرفوعًا، وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. ورواه ابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 109)، لكن أحد الرواة قصّر به؛ فجعله من مسند عبد الله بن ربيعة، وفي ترجمته خرّجه ابن قانع. وله طريق أخرى واهية عند ابن أبي حاتم في «التفسير» (9093)، والطبراني في «المعجم الكبير» (11543)، وأغرب ابن كثير في «التفسير» (4/ 64) فحسّنها، وتبعه الزيلعي في «نصب الراية» (3/ 425)، مع أن في السند حنشًا (واسمُه حسين بن قيس) متروك.
وأصل الحديث في «صحيح مسلم» (1072)، ليس فيه لفظ:«غسالة أيدي الناس» .
(2)
ت: «التطهر» .
(3)
ما عدا ع: «التطهير» .
(4)
«الآخر» ساقط من ع.
(5)
أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير.
على [162/أ] جسد أخيه أصحُّ من قياسه على العَذِرة والجِيَف والمَيْتات والدم.
ومن ذلك: أنكم قستم الماء الذي توضَّأ به الرجل على العبدِ الذي أعتقه في كفارته، والمالِ الذي أخرجه في زكاته. وهذا من أفسد القياس. وقد تركتم قياسًا أصحَّ في العقول والفِطَر منه، وهو قياسُ هذا الماء الذي قد أدَّى به عبادةً على الثوب الذي قد صلَّى فيه، وعلى الحصى التي رمَى بها
(1)
الجمار مرةً عند من يجوز منكم الرميُ بها ثانية، وعلى الحجر الذي استجمر به مرةً إذا غسله أو لم يكن به نجاسة.
ومن ذلك: أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة، فلم تغيِّر له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، على الماء الذي غيَّرت النجاسة لونه وطعمه وريحه
(2)
. وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحسِّ. وتركتم قياسًا أصح منه، وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة. فقياس الوارد على المورود، مع استوائهما في الحدِّ والحقيقة والأوصاف، أصحُّ من قياس مائة رطل ماءً وقع فيها
(3)
شعرةُ كلب على مائة رطل خالطها مثلُها بولًا وعَذِرةً، حتى غيَّرها.
ومن ذلك
(4)
: فرَّقتم بين ماء جارٍ بقدر طرف الخنصر تقع فيه النجاسة فلم تغيِّره، وبين الماء العظيم المُستبحِر إذا وقع فيه مثلُ رأس الإبرة من
(1)
في النسخ المطبوعة: «الذي رمى به» .
(2)
ع: «أو طعمه أو ريحه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «فيه» .
(4)
زادوا بعد ذلك في النسخ المطبوعة: «أنكم» .
البول، فنجَّستم الثاني دون الأول. وتركتم محضَ القياس، ولم
(1)
تقيسوا الجانب الشرقي من غدير كبير في غربيِّه نجاسةٌ على الجانب الشمالي والجنوبي، وكلُّ ذلك مماسٌّ لما قد تنجَّس عندكم مماسّة مستوية.
وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة، فأوجبوا الاستنشاق. ولم يقيسوه عليه في الوضوء [162/ب] الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالاستنشاق نصًّا
(2)
، ففرَّقوا بينهما، وأسقطوا الوجوب في محلَّ الأمر به، وأوجبوه في غيره. والأمرُ بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل البدن في الجنابة سواء.
ومن ذلك: أنكم قستم النسيان على العمد في الكلام في الصلاة، وفي فعل المحلوف عليه ناسيًا، وفيما يوجب الفدية من محظورات الإحرام كالطيب واللباس والحلق والصيد، وفي حمل النجاسة في الصلاة. ثم فرَّقتم بين النسيان والعمد في السلام قبل تمام الصلاة، وفي الأكل والشرب في الصوم، وفي ترك التسمية على الذبيحة، وفي غير ذلك من الأحكام.
وقستم الجاهل على الناسي في عدّة مسائل، وفرَّقتم بينهما في مسائل أخر. ففرَّقتم بينهما فيمن نسي أنه صائم فأكل أو شرب، لم يبطل صومه؛ ولو
(1)
في النسخ المطبوعة: «فلم» .
(2)
رواه أحمد (16380، 16383)، وأبو داود (142، 2366)، والترمذي (788) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (407)، والنسائي (87) من حديث لقيط بن صَبِرة رضي الله عنه مرفوعًا. وصححه أيضًا ابن خزيمة (150، 168)، وابن حبان (1600، 4337، 6100)، والحاكم (1/ 147 - 148، 4/ 110)، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 592، 593)، وابن حجر في «الإمتاع» (ص 50)، وغيرُهم.
جهِل فظنَّ وجودَ الليل فأكل أو شرب فسد صومه؛ مع أن الشريعة تعذِر الجاهل، كما تعذِر الناسي أو أعظم. كما عذَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسيءَ في صلاته بجهله بوجوب الطمأنينة، فلم يأمره بإعادة ما مضى
(1)
. وعذر المستحاضةَ
(2)
بجهلها بوجوب الصلاة والصوم عليها مع الاستحاضة، ولم يأمرها بإعادة ما مضى
(3)
. وعذَر عديَّ بن حاتم بأكله في رمضان حين تبيَّن له الخيطان اللذان
(4)
جعلهما تحت وسادته، ولم يأمره بالإعادة
(5)
. وعذَر أبا ذرٍّ بجهله بوجوب الصلاة إذا عدم الماء، فأمره بالتيمم، ولم يأمره بالإعادة
(6)
.
وعذَر الذين تمعَّكوا في التراب كتمعُّك الدابة، لما سمعوا
(1)
أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في النسخ المطبوعة: «الحامل المستحاضة» بزيادة «الحامل» .
(3)
رواه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (622) من حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها وفيه قولها: «فقد منعتني الصيام والصلاة
…
». وأصل الحديث عند أحمد (27144، 27474، 27475)، وابن ماجه (627) أيضًا، لكن ليس عندهما محلّ الشاهد منه. وصححه الإمام أحمد والترمذي، وحسّنه البخاري. ويُنظر:«العلل الكبير» للترمذي (74)، و «العلل» لابن أبي حاتم (123)، و «العلل» للدارقطني (15/ 363)، و «السنن الكبير» للبيهقي (1/ 338 - 340)، و «تحفة الأشراف» للمزي (11/ 293)، و «تهذيب الكمال» له (35/ 158 - 159)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (1/ 403 - 406)، و «تعليقته على العلل لابن أبي حاتم» (ص 120 - 124)، و «البدر المنير» لابن النحوي (3/ 57 - 66).
(4)
ما عدا ع: «اللذين» .
(5)
أخرجه البخاري (1916) ومسلم (1090).
(6)
رواه أحمد (21371، 21568)، وأبو داود (332)، والترمذي (124) ــ وصححه ــ، من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا .. ورواه أحمد (21304، 21371)، وأبو داود (333) من طريق ابن سيرين، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذرّ به. والعامريُّ هذا هو عمرُو بن بُجْدان نفسُه، وقد وثقه العجلي وابن حبان، وصحح حديثَه هذا أيضًا ابن خزيمة (2292) ــ لكنه اختصره، ولم يَسُقْ محلّ الشاهد منه ــ، وابن حبان (1037، 1038، 4339)، والحاكم (1/ 176 - 177)، والجورقاني في «الأباطيل» (1/ 508).
والحديث عند النسائي (322) مختصرًا، لكن غلط شيخُ شيخِه (مخلدُ بن يزيدَ) حينَ عيَّن اسم العامريِّ من طريق أبي قلابة! وراج غَلَطُه على ابن حبان (1038)، وعلى الجورقاني في «الأباطيل» (1/ 508 - 509). ويُنظر للفائدة:«العلل» لابن أبي حاتم (1)، و «العلل» للدارقطني (6/ 252 - 254، 8/ 93)، و «السنن الكبير» للبيهقي (1/ 212)، و «الفصل للوصل المدرج في النقل» للخطيب (2/ 932 - 951)، و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (3/ 327 - 328، 5/ 266 - 267)، و «البدر المنير» لابن النحوي (2/ 650 - 657).
فرضَ التيمم، ولم يأمرهم بالإعادة
(1)
. وعذَر معاويةَ بن الحكم بكلامه في الصلاة [163/أ] عامدًا لجهله بالتحريم
(2)
. وعذَر أهلَ قباء بصلاتهم إلى بيت المقدس بعد نسخ استقباله لجهلهم بالناسخ، ولم يأمرهم بالإعادة
(3)
. وعذَر الصحابةُ والأئمةُ بعدهم مَن ارتكب محرَّمًا جاهلًا بتحريمه، فلم يحُدُّوه.
وفرَّقتم بين قليلِ النجاسة في الماء، وقليلِها في الثوب والبدن، وطهارةُ الجميع شرط لصحة الصلاة.
وترك الجميعُ صريحَ القياس في مسألة الكلب، فطائفةٌ لم تقِسْ عليه
(1)
انظر حديث عمار في البخاري (338) ومسلم (368).
(2)
أخرجه عنه مسلم (537).
(3)
أخرجه البخاري (403) ومسلم (526) من حديث ابن عمر.
غيره، وطائفة قاست عليه الخنزير وحده دون الذئب
(1)
الذي هو مثله أو شرٌّ منه. وقياسُ الخنزير على الذئب أصحُّ من قياسه على الكلب. وطائفة قاست عليه البغل والحمار، وقياسُهما على الخيل ــ التي هي قرينتهما في الذكرِ وامتنانِ الله سبحانه على عباده بما يركبونها
(2)
، واتخاذِها زينةً، وملامسة الناس لها ــ أصحُّ من قياس البغل على الكلب، فقد علم كلُّ أحد أن الشبه بين البغل والفرس أظهر وأقوى من الشبه بينه وبين الكلب. وقياسُ البغل والحمار على السنَّور لشدَّة ملامستهما والحاجة إليهما وشُربهما من آنية البيت أصحُّ من قياسهما على الكلب.
وقستم الخنافس والزنابير
(3)
والعقارب والصِّرْدان
(4)
على الذباب في أنها لا تنجَس بالموت لعدم
(5)
النفس السائلة لها، وقلة الرطوبات والفضلات التي توجب التنجيس فيها. ونجَّس من نجَّس منكم العظام بالموت مع تعرِّيها من الرطوبات والفضلات جملة، ومعلوم أن النفس السائلة التي في تلك الحيوانات المقيسة أعظم من النفس السائلة التي في العظام.
(1)
ع: «دون غيره كالذئب» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
تحرف في ع إلى «بها بركوبها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
«الزنابير» من ع وحدها. وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
جمع الصُّرَد. وهو طائر أعظم من العصفور ضخم الرأس والمنقار، يصيد صغار الحشرات وربما صاد العصافير (المعجم الوسيط). وانظر:«معجم الحيوان» للفريق أمين المعلوف (ص 227).
(5)
س، ع:«بعدم» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
وفرَّقتم بين ما شرِب منه الصقر والبازي والحِدَأة والعقاب والأحناش وسباع الطير، وما شرب منه [163/ب] سباع البهائم، من غير فرق بينهما. قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الفرق في هذا بين سباع الطيور وسباع ذوات الأربع، فقال: أما في القياس فهما سواء، ولكني أستحسن في هذا
(1)
.
وتركتم صريح القياس في التسوية بين نبيذ التمر والزبيب والعسل والحنطة ونبيذ العنب، وفرَّقتم بين المتماثلين، لا فرق
(2)
بينهما البتة، مع أن النصوص الصحيحة الصريحة قد سوَّت بين الجميع.
وفرَّقتم بين مَن معه إناءان طاهر ونجس، فقلتم: يُريقهما ويتيمَّم، ولا يتحرَّى فيهما، ولو كان معه ثوبان كذلك تحرَّى
(3)
فيهما، والوضوءُ بالماء النجس كالصلاة في الثوب النجس. ثم قلتم: فلو كان
(4)
الآنية ثلاثة تحرَّى، ففرَّقتم بين الاثنين والثلاثة، وهو فرق بين متماثلين. وهذا على أصحاب الرأي، وأما أصحاب الشافعي ففرَّقوا بين الإناء الذي كلُّه بول وبين الإناء الذي نصفُه فأكثر بول، فجوَّزوا الاجتهاد بين الثاني والإناء الطاهر، دون الأول، وتركوا محض القياس في التسوية بينهما.
وقِستم القيء على البول، وقلتم: كلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف، ولم تقيسوا الجَشوة الخبيثة على الفسوة، ولم تقولوا: كلاهما ريح
(1)
انظر: «المبسوط» للسرخسي (1/ 50 - 51) و «المحيط البرهاني» (1/ 125 - 126).
(2)
في النسخ المطبوعة: «ولا فرق» ، بالواو.
(3)
في النسخ المطبوعة: «يتحرى» .
(4)
كذا في النسخ الخطية، وفي النسخ المطبوعة:«كانت» .
خارجة من الجوف.
وقستم الوضوء وغسل الجنابة على الاستنجاء وغسل النجاسة في صحته بلا نية. ولم تقيسوهما على التيمُّم، وهما أشبه به من الاستنجاء. ثم تناقضتم، فقلتم: لو انغمس جُنبٌ في البئر لأخذِ الدلو ولم ينو الغسل لم يرتفع حدثه، كما قاله أبو يوسف، ونقَض أصله في أن مسَّ الماء لبدن الجنب يرفع حدثه وإن لم ينوِ. وقال محمد: بل يرتفع حدثه، ولا يفسد الماء، فنقضَ أصله في فساد الماء الذي يرفع الحدث
(1)
.
وقستم التيمُّم إلى المرفقين [164/أ] على غسل اليدين إليهما، ولم تقيسوا المسح على الخفين إلى الكعبين على غسل الرجلين إليهما، ولا فرق بينهما البتة. وأهل الحديث أسعد بالقياس منكم، كما هم أسعد بالنص.
وقستم إزالة النجاسة عن الثياب
(2)
بالمائعات على إزالتها بالماء، ولم تقيسوا إزالتها من القذر بها على الماء، فما الفرق؟ ثم قلتم: تُزال من المخرجين بكلِّ مزيل جامد، ولا تُزال من سائر البدن إلا بالماء. وقلتم: تُزال من المخرجين بالروث اليابس، ولا تُزال بالرجيع اليابس، مع تساويهما في النجاسة.
وقستم قليل القيء على كثيره في النجاسة، ولم تقيسوه عليه في كونه حدثًا. وقستم نوم المتورِّك على المضطجع في نقض الوضوء، ولم تقيسوا عليه نوم الساجد.
(1)
انظر: «المبسوط» للسرخسي (1/ 53).
(2)
ما عدا ع: «من الثياب» .
وتركتم محض القياس المؤيَّد بالسنّة المستفيضة في مسح العمامة ــ إذ هي
(1)
ملبوس معتاد ساتر لمحلِّ الفرض، يشقُّ نزعُه على كثير من الناس إما لحَنَكٍ أو لكُلّاب أو لبرد ــ على المسح على الخفين، والسنّة قد سوَّت بينهما في المسح، كما هما سواء في القياس، ويسقط فرضهما في التيمم.
وقستم مسحَ الوجه واليدين في التيمُّم على الوضوء في وجوب الاستيعاب، ولم تقيسوا مسح الرأس في الوضوء على الوجه في وجوب الاستيعاب، والفعل والباء والأمر في الموضعين سواء.
وقستم وجودَ الماء في الصلاة على وجوده خارجَها في بطلان صلاة المتيمِّم به، ولم تقيسوا القهقهة في الصلاة على القهقهة خارجها
(2)
. وفرَّقتم بين تقديم الزكاة قبل وجوبها فأجَزْتموه، وبين تقديم الكفَّارة قبل وجوبها فمنعتموه.
وقستم وجهَ المرأة في الإحرام على رأس الرجل وتركتم [164/ب] قياس وجهها على يديها أو على بدن الرجل، وهو محض القياس وموجَب السنَّة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوَّى بين يديها ووجهها وبين بدن الرجل ووجهها
(3)
حيث قال: «لا تلبس القُفَّازين ولا النقاب»
(4)
، وكذلك قال: «لا يلبس
(1)
ت: «وهي» ، وكذا في الطبعات القديمة.
(2)
في النسخ المطبوعة: «في خارجها» .
(3)
ع: «يدي الرجل ووجهه» ، وكذا في النسخ المطبوعة. والصواب ما أثبت من النسخ الأخرى.
(4)
تقدَّم تخريجه.
المُحرِم القميصَ ولا السراويل، ولا تنتقب المرأة»
(1)
. فتركتم محض القياس وموجَب السنَّة.
وقستم المزارعة والمساقاة على الإجارة الباطلة فأبطلتموها
(2)
، وتركتم محض القياس وموجَب السنة، وهو قياسها على المضاربة والمشاركة، فإنها بها أشبه
(3)
منها بالإجارة؛ فإنَّ صاحب الأرض والشجر يدفع أرضه وشجره لمن يعمل عليهما، وما رزق الله من نَماءٍ
(4)
فهو بينه وبين العامل. وهذا كالمضاربة سواء، فلو لم تأت السنة الصحيحة بجوازها لكان القياس يقتضي جوازها عند القيّاسين
(5)
.
واشترط أكثر من جوَّزها
(6)
كونَ البذر من صاحب الأرض
(7)
، وقاسها على المضاربة في كون المال من واحد والعمل من واحد. وتركوا محض القياس وموجَب السنة، فإن الأرض كالمال في المضاربة، والبذر يجري مجرى الماء والعمل فإنه يموت في الأرض؛ ولهذا لا يجوز أن يرجع إلى ربِّه مثل بذره، ويقتسما الباقي. ولو كان كرأس المال في المضاربة لجاز، بل
(1)
سبق تخريجه.
(2)
كذا بإفراد الضمير في جميع النسخ هنا وفيما يأتي، كأنه جعل المزارعة والمساقاة معاملة واحدة. وكذا المضاربة والمشاركة. وقد ثُنِّي الضمير في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «فإنهما أشبه بهما» بتقديم «أشبه» .
(4)
ت: «ثمار» ، تصحيف.
(5)
في النسخ المطبوعة: «القياسيين» ، كما سبق.
(6)
ت: «يجوزها» .
(7)
س، ت، ع:«رب الأرض» وكذا في النسخ المطبوعة.
اشتُرِط أن يرجع إليه مثلُ بذره كما يرجع إلى ربِّ المال مثلُ ماله. فتركوا القياس كما تركوا موجَب السنة الصحيحة الصريحة وعمل الصحابة كلِّهم.
وقستم إجارة الحيوان للانتفاع بلَبَنه على إجارة الخبز للأكل. وهذا من أفسد القياس، وتركتم محض القياس وموجَب القرآن، [165/أ] فإن الله سبحانه قال:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. فقياسُ الشاة والبقرة والناقة للانتفاع بلبنها على الظئر أصح وأقرب إلى العقل من قياس ذلك على إجارة الخبز للأكل، فإن الأعيان المستخلفة شيئًا بعد شيء تجري مجرى المنافع، كما جرت مجراها في المنيحة والعارية والضمان بالإتلاف. فتركتم محض القياس، وقستم على ما لا خفاء بالفرق بينه وبينه. وهو أن الخبز والطعام تذهب جملُته بالأكل ولا يخلُفه غيره، بخلاف اللبن ونفع
(1)
البئر، وهذا من أجلى القياس.
وقستم الصَّداق على ما يقطع فيه يد السارق، وتركتم محض القياس وموجَب السنة، فإنه عقدُ معاوضة، فيجوز بما يتراضى عليه المتعاوضان ولو خاتمٍ
(2)
من حديد.
وقستم الرجلَ يسرق العينَ ثم يملكها بعد ثبوت القطع، على ما إذا ملكها قبل ذلك. وتركتم محضَ القياس وموجَب السنة، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم
(1)
في النسخ المطبوعة: «نقع» بالقاف، تصحيف.
(2)
يعني: «ولو بخاتم» . وانظر: «شرح التسهيل» (3/ 191). وفي النسخ المطبوعة: «خاتمًا» بالنصب وهو أشهر. وأثبت ما في النسخ الخطية استئناسًا بما جاء في نسخ «كتاب الروح» (2/ 396): «
…
إذا فعله من يحصل المقصودُ بفعله، ولو واحدٌ» بردِّ «واحد» على «مَن» .
يُسقِط القطع عن سارق الرداء بعدما وهبه إياه صفوانُ
(1)
. وفرَّقتم بين ذلك وبين الرجل يزني بالأمة ثم يملكها، فلم تروا ذلك مُسقِطًا للحدِّ، مع أنه لا فرق بينهما.
وقستم قياسًا أبعد من هذا، فقلتم: إذا قُطِع بسرقتها مرة، ثم عاد، فسرَقها= لم يُقطَع بها ثانيًا. وتركتم محض القياس على ما إذا زنى بامرأة، فحُدَّ بها، ثم زنى بها ثانيًا
(2)
= فإن الحدَّ لا يسقط عنه. ولو قذَفه، فحُدَّ، ثم قذفه
(3)
ثانيًا= لم يسقط عنه الحد.
وقستم نذرَ صوم يوم العيد في الانعقاد ووجوب الوفاء، على نذر صوم اليوم القابل له شرعًا. وتركتم محض القياس وموجَب السنة، ولم تقيسوه على [165/ب] صوم يوم الحيض. وكلاهما غيرُ محلٍّ للصوم شرعًا، فهو بمنزلة الليل.
وقستم وجعلتم المحتقِن بالخمر كشاربها في الفِطْر بالقياس، ولم تجعلوه كشاربها في الحدِّ.
(1)
رواه أحمد (15305، 15306، 15310)، وأبو داود (4394)، وابن ماجه (2595)، والنسائي (4878، 4879 4881، 4883، 4884) من طرق عن صفوان بن أمية رضي الله عنه. وصححه الحاكم (4/ 380)، وابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (4/ 563)، وابن النحوي في «البدر المنير» (8/ 652). وقوّاه أيضًا البيهقي (8/ 265). وأورده الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (11/ 60 - 61). ويُنظر:«المسند» لأحمد (15303)، و «المجتبى» للنسائي (4880، 4882)، و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (3/ 568 - 571، 5/ 99 - 100).
(2)
في النسخ المطبوعة: «ثانية» .
(3)
«فحُدَّ ثم قذفه» ساقط من ع لانتقال النظر.
وقاسُوا
(1)
الكافرَ الذميَّ والمعاهِدَ على المسلم في قتله به، ولم يقيسوه على الحربي في إسقاط القود. ومن المعلوم قطعًا أنّ الشَّبه الذي بين المعاهد والحربي أعظم من الشَّبه الذي بين الكافر والمسلم. والله سبحانه قد سوَّى بين الكفار كلِّهم في إدخالهم جهنم
(2)
، وفي قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين، وفي عدم التوارث بينهم وبين المسلمين، وفي منع قبول شهادتهم على المسلمين، وغير ذلك؛ وقطَع المساواة بين المسلمين والكفار. فتركتم محض القياس ــ وهو التسويةُ بين ما سوَّى الله بينه ــ وسوَّيتم بين ما فرَّق الله بينه.
ومن العجب أنكم قستم المؤمن على الكافر في جرَيان القصاص بينهما في النفس والطَّرَف، ولم تقيسوا العبد المؤمن على الحُرِّ في جرَيان القصاص بينهما في الأطراف، فجعلتم حرمةَ عدو الله الكافر في أطرافه أعظمَ من حرمة وليِّه المؤمن. وكأنَّ نقصَ العبودية
(3)
الموجِبَ للأجرين عند الله أنقصُ عندكم من نقص الكفر!
وقلتم: يُقتَل الرجل بالمرأة. ثم ناقضتم، فقلتم: لا يؤخذ طرفه بطرفها.
وقلتم: يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مائة درهم، وقيمة الآخر مائة ألف درهم
(4)
. ثم ناقضتم، فقلتم: لا يؤخذ طرفه
(5)
بطرفه، إلا أن
(1)
في النسخ المطبوعة: «وقستم» ، وكذا «ولم تقيسوه» فيما بعد، خلافًا للنسخ الخطية.
(2)
في النسخ المطبوعة: «نار جهنم» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «نقص المؤمن العبودية» بإقحام كلمة «المؤمن» في غير محلِّها. وقد ضبط «نقص» في ح بالضم، يعني:«وكان نقصُ» .
(4)
«درهم» من ت، ع.
(5)
في النسخ المطبوعة: «طرفها» ، وهو خطأ.
تتساوى قيمتهما. فتركتم محض القياس، فإنَّ الله سبحانه ألغى التفاوت بين النفوس والأطراف في الفضل لمصلحة المكلَّفين، ولعدم ضبط التساوي. فألغيتم ما اعتبره الله سبحانه من الحكمة والمصلحة، واعتبرتم ما ألغاه [166/أ] من التفاوت.
وقستم قوله: «إن كلَّمتُ فلانًا أو بايعتُه، فامرأتي طالق وعبدي حرّ» على ما إذا قال: «إن أعطيتِني ألفًا فأنتِ طالق» . ثم عدَّيتم ذلك إلى قوله: «الطلاق يلزمني لا أكلِّم فلانًا» ، ثم كلَّمه. ولم تقيسوه على قوله:«إن كلَّمتُ فلانًا فعليَّ صومُ سنة، أو حجٌّ إلى بيت الله، أو فمالي صدقة» ، وقلتم: هذا يمين، لا تعليق مقصود. فتركتم محض القياس، فإن قوله:«الطلاق يلزمني لا أكلِّم فلانًا» يمين، لا تعليق.
وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه، وحكى غيرُ واحد إجماع الصحابة أيضًا على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنَث. وممن حكاه: أبو محمد بن حزم
(1)
. وحكاه أبو القاسم
(2)
عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التَّيمي
(3)
المعروف بابن بَزِيزة
(4)
في
(1)
في «المحلَّى» (9/ 478 - دار الفكر).
(2)
كذا وقع هنا وفي «الصواعق المرسلة» (2/ 615). وإنما ذكروا أنه يكنى أبا محمد وأبا فارس، والأول أشهر. انظر:«كفاية المحتاج» (1/ 286).
(3)
في النسخ المطبوعة ومعظم مراجع ترجمة المذكور: «التميمي» . والصواب ما أثبت من النسخ الخطية. فإنه قرشي، فكيف يكون تميميًّا!
(4)
ضبط في س بضم الباء، وهو خطأ. وهو عالم تونسي (606 - 662) من أعيان المذهب المالكي. من مؤلفاته: شرح «الإرشاد» للجويني و «روضة المستبين في شرح كتاب التلقين» للقاضي عبد الوهاب ــ وهو مطبوع، وتفسير جمع فيه بين كتابي الزمخشري وابن عطية. انظر ترجمته في «كفاية المحتاج» و «نيل الابتهاج» (ص 268) و «شجرة النور الزكية» (1/ 272 - 273).
كتابه المسمَّى بـ «مصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام»
(1)
في بابٍ ترجمتُه: «الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه» : «وقد قدَّمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي
(2)
وغير ذلك: هل تلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب وشُرَيح وطاوس: لا يلزم من ذلك شيء، ولا يُقضَى بالطلاق على من حلَف به، فحنَث. ولا يعرف لعليٍّ في ذلك مخالف من الصحابة»
(3)
. قال
(4)
:
«وصحَّ عن عطاء فيمن قال لامرأته: «أنتِ طالق إن لم أتزوَّج عليك» ، قال: إن لم يتزوَّج عليها حتى يموت أو تموت فإنهما يتوارثان
(5)
. وهو قول الحَكَم بن عُتَيبة
(6)
». ثم حكى
(7)
عن عطاء فيمن حلف بطلاق امرأته ليضربنَّ زيدًا، فمات أحدهما أو ماتا معًا، فلا حنث عليه،
(1)
وهو شرح كتاب «الأحكام الصغرى» لعبد الحق الإشبيلي، وقد وصل بعض أجزاء الكتاب.
(2)
في النسخ المطبوعة: «والشرط» وهو غلط.
(3)
هذا النص من كتاب ابن بزيزة نقله المؤلف في «الصواعق» (2/ 616) وسيورده مرة أخرى في هذا الكتاب أيضًا.
(4)
يعني: ابن بزيزة ..
(5)
رواه عبد الرزاق (11310) عن ابن جريج عنه.
(6)
«عتيبة» تصحف في ح، ت، ف إلى «عيينة» . وقول الحكم رواه عبد الرزاق (11309) ــ وعنه ابن حزم في «المحلَّى» (9/ 477 - دار الفكر) ــ من طريق غيلان بن جامع عنه.
(7)
يعني: ابن بزيزة.
ويتوارثان. وهذا صريح [166/ب] في أن يمين الطلاق لا تلزم
(1)
، ولا تطلَّق الزوجة بالحنث فيها. ولو حنَث قبل موته لم يتوارثا، فحيث أثبت التوارث دلَّ على أنها زوجة عنده. وكذلك عكرمة مولى ابن عباس أيضًا عنده يمينُ الطلاق لا تلزم، كما ذكره عنه سُنَيد بن داود في «تفسيره»
(2)
في سورة النور عند قوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21].
ومن العجب أنكم قلتم: إذا قال: «إن شفى الله مريضي فعليَّ صومُ شهر، أو صدقة، أو حجة» لزمه، لأنه قاصد للنذر. فإذا قال:«إن كلَّمتُ فلانًا فعليَّ صوم، أو صدقة» لم يلزمه لأنه نذر لجاج وغضب، فهو يمين فيه كفارة اليمين. فجعلتم قصدَه لعدم الوقوع مانعًا من ثلاثة أشياء: إيجاب ما التزم، ووجوبه عليه، ووقوعه.
وقلتم: لو قال: «إن فعلتُ كذا فعليَّ الطلاق» وفَعَله لزمه، ولم يمنع قصدُ الحلف من وقوعه، وهو أبغضُ الحلال إلى الله
(3)
،
ومَنَع من وجوب
(1)
في النسخ المطبوعة: «لا يلزم» .
(2)
من طريق عبّاد بن عبّاد المُهَلَّبي عن عاصم الأحول عنه، كما سيأتي في هذا الكتاب، وكما ذكره المؤلف في «إغاثة اللهفان» (2/ 791) و «الصواعق» (2/ 609).
(3)
يشير إلى حديثٍ رواه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. والمحفوظ أنه من مراسيل محارب بن دثار.
ويُنظر: «السنن» لأبي داود (2177)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1297)، و «الكامل» لابن عدي (3/ 86، 87)، و «العلل» للدارقطني (13/ 225)، و «السنن الكبير» للبيهقي (7/ 527)، و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2/ 447 - 448، 3/ 170 - 171)!، و «المُحرَّر» لابن عبد الهادي (1053)، و «البدر المنير» لابن النحوي (8/ 65 - 68).
القربات التي هي أحبُّ شيء إلى الله. فخالفتم صريح القياس والمنقول عن الصحابة والتابعين بأصحِّ إسناد يكون. ثم ناقضتم القياس من وجه آخر فقلتم: إذا قال «الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا إن شاء الله» ، ثم لم يفعله= لم يحنَث، لأنه أخرجه مخرج اليمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَن حلَف، فقال: إن شاء الله= فإن شاء فعل، وإن شاء ترك»
(1)
.
فجعلتموه يمينًا، ثم قلتم: يلزمه وقوع الطلاق، لأنه تعليق، فليس بيمين. ثم ناقضتم من وجه آخر، فقلتم: لو قال: «الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة» ، فهو مُؤلٍ، فيدخل في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. والأليَّة [167/أ] والإيلاء والائتلاء هو الحلف بعينه، كما في الحديث:«تألَّى على الله أن لا يفعل خيرًا»
(2)
، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
(1)
رواه أحمد (4510، 5362، 6087، 6103)، وأبو داود (3262)، وابن ماجه (2105)، والنسائي (3830) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. وصحّحه ابن حبان (4036).
أمّا البخاري، فأشار إلى تصويب وقفه، نقله عنه الترمذي في «العلل الكبير» (455). ويَحْسُنُ تدبُّر ما في «الجامع للترمذي» (1531)، و «العلل» للدارقطني (13/ 104 - 105)، و «السنن الكبير» للبيهقي (10/ 46)، و «فتح الباري» لابن حجر (11/ 605 - 606). وللحديث شاهدٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
مرفوعا، رواه الترمذي (1532)، وابن ماجه (2104)، والنسائي (3855)، وصحّحه ابن حبان (4035)!
والراجح أنه مُعَلٌّ، أعلّه ابن معين، والبخاري، وأقرّه الترمذي في «الجامع» ، وفي «العلل الكبير» (456). ويُوازَنُ ما في «المسند» للإمام أحمد (8088) بما في «التاريخ» لابن أبي خيثمة (1223 - السِّفْر الثالث).
(2)
يشير إلى حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (2705) ومسلم (1556) ولفظه: «أين المتألِّي على الله، لا يفعل المعروف» .
الْقُرْبَى} [النور: 22]. وقال الشاعر
(1)
:
قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه
…
وإن بدَرَتْ منه الأليَّةُ برَّت
ثم قلتم: وليس بيمين، فيدخل في قوله:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. فيالله العجب! ما الذي أحلَّه عامًا وحرَّمه عامًا، وجعله يمينًا وليس بيمين؟
ثم ناقضتم من وجه آخر، فقلتم
(2)
: إن قال: «إن فعلتُ كذا فأنا كافر» ، وفعَلَه= لم يكفر، لأنه لم يقصد الكفر، وإنما منَعَ
(3)
نفسه من الفعل بمنعها من الكفر. وهذا حق، لكن نقضتموه في الطلاق والعتاق، مع أنه لا فرق بينهما البتة في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر.
ثم ناقضتم من وجه آخر، فقلتم: لو قال: «إن فعلتُ كذا فعليَّ أن أطلِّق امرأتي» ، فحنَث= لم يلزمه أن يطلِّقها. ولو قال:«إن فعلتُه فالطلاق يلزمني» ، فحنَث= وقع عليه الطلاق. ولا تفرِّق اللغة ولا الشريعة بين المصدر وأن والفعل.
فإن قلتم: الفرق بينهما أنه التزم في الأول التطليقَ، وهو فعلُه
(4)
؛ وفي الثاني وقوعَ الطلاق، وهو أثر فعله.
(1)
هو كُثيِّر عزَّة. انظر: «ديوانه» (ص 325 - نشرة إحسان عباس).
(2)
ت، ع:«وقلتم» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «قصد منْعَ» بزيادة «قصد» .
(4)
«وهو فعله» من ع، وكذا في النسخ المطبوعة.
قيل: هذا الفرق الذي تخيلتموه، ولا يُجدي
(1)
شيئًا؛ فإن الطلاق هو التطليق بعينه، وإنما أثره كونها طالقًا، وهذا غير الطلاق. فهاهنا ثلاثة أمور مرتبة: التزام التطليق، وهذا غير الطلاق بلا شك. والثاني: إيقاع التطليق، وهو الطلاق بعينه الذي قال الله فيه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«الطلاق لمن أخذ بالساق»
(2)
. الثالث
(3)
: صيرورة المرأة طالقًا وبينونتها. فالقائل: «إن فعلتُ كذا فعليَّ الطلاق» [167/ب] لم يُرد هذا الثالث قطعًا، فإنه ليس إليه ولا هو
(4)
من فعله، وإنما هو إلى الشارع؛ والمكلَّفُ إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته، وهو إنشاءُ الطلاق. فلا فرق أصلًا بين هذا اللفظ وبين قوله:«فعليَّ أن أطلِّق» ، فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين، وهو عدولٌ عن محض القياس، من غير نصٍّ ولا إجماع ولا قول صاحب.
يوضِّحه أن قوله: «فالطلاق لازم لي» إنما هو فعله الذي يلزم
(5)
(1)
كذا في النسخ الخطية: «ولا يجدي» ، فخبر المبتدأ هو الاسم الموصول. وفي النسخ المطبوعة حذفوا الواو، لتكون الجملة الفعلية هي الخبر.
(2)
رواه ابن ماجه (2081) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. وفي سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد اضطرب فيه، فكان يُسنده حينًا، ويُرسله أخرى. فليُنظر:«السنن» للدارقطني (3992)، و «السنن الكبير» للبيهقي (7/ 360).
أما ما ذُكِرَ لابن لهيعة من متابعات؛ فليس يصحُّ منها شيءٌ. ويُنظر: «البدر المنير» لابن النحوي (8/ 138 - 139)، و «التلخيص الحبير» لابن حجر (3/ 441).
(3)
ت: «والثالث» .
(4)
«هو» ساقط من ع والنسخ المطبوعة.
(5)
في النسخ المطبوعة: «يلزمه» .
بالتزامه. وأما كونها طالقًا، فهذا وصفها، فليس هو لازمًا له
(1)
، وإنما هو لازم لها.
فلينظر اللبيب المنصف، الذي العلمُ أحبُّ إليه من التقليد، إلى مقتضى القياس المحض واتباع الصحابة والتابعين في هذه المسألة، ثم ليختر لنفسه ما شاء، والله الموفِّق.
ثم ناقضتم أيضًا من وجه آخر، فقلتم: لو قال: «إن حلفتُ بطلاقك أو وقع منِّي يمينٌ بطلاقك» ، أو لم يقل:«بطلاقك» ، بل قال:«متى حلفتُ أو أوقعتُ يمينًا فأنتِ طالق» ، ثم قال:«إن كلَّمتُ فلانا فأنتِ طالق» ــ حنَثَ، وقد وقع عليه الطلاق؛ لأنه قد حلف وأوقع اليمين. فأدخلتم الحلفَ بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام المكلَّف، ولم تُدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام الله ورسوله، وزعمتم أنكم اتبعتم في ذلك القياس والإجماع. وقد أريناكم مخالفتَكم لصريح القياس مخالفةً لا يمكنكم الانفكاك عنها بوجه، ومخالفتَكم للمنقول عن الصحابة والتابعين كأصحاب ابن عباس، فظهر عند المنصفين أنَّا أولى بالقياس والاتباع منكم في هذه المسألة. وبالله التوفيق.
وقلتم: لو شهد عليه أربعةٌ بالزنا، فصدَّق الشهودَ [168/أ] سقط عنه الحدُّ، وإن كذَّبهم أقيم عليه الحد. وهذا من أفسد قياس في الدنيا، فإنَّ تصديقهم إنما زادهم قوةً، وزاد الإمامَ علمًا ويقينًا
(2)
أعظمَ من العلم
(1)
«له» ساقط من ح، ف.
(2)
ع: «يقينًا وعلمًا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
الحاصل بالشهادة وتكذيبه. وتفريقكم بأن البينة لا تَعمل
(1)
إلا مع الإنكار، فإذا أقرَّ فلا عملَ للبينة، والإقرارُ مرةً لا يكفي، فيسقط الحد= تفريقٌ باطل، فإن العمل هاهنا بالبينة لا بالإقرار، وهو إنما صدر منه تصديقُ البينة التي وجب الحكمُ بها بعد الشهادة، فسواء أقرَّ أو
(2)
لم يُقِرَّ، فالعمل إنما هو بالبينة.
وقلتم: لو وجد الرجل امرأةً على فراشه، فظنَّها
(3)
امرأتَه، فوطئها= حُدَّ حدَّ الزنا، ولا يكون هذا شبهة مسقطة للحد. ولو عقَد على ابنته أو أمه ووطئها كان ذلك شبهة مسقطة للحد. ولو حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد وولدت مرة بعد مرة لم تُحَدَّ. ولو تقيَّأ
(4)
الخمر كلَّ يوم لم يُحَدَّ. فتركتم محضَ القياس والثابتَ عن الصحابة ثبوتًا لا شكَّ فيه من الحدِّ بالحَبَل ورائحة الخمر
(5)
.
وقلتم: لو شهد عليه أربعةٌ بالزنا، فطعَن في عدالتهم= حُبِس إلى
(6)
أن تزكَّى الشهود؛ ولو شهد عليه اثنان بمالٍ، فطعَن في عدالتهما
(7)
= لم يُحبَس
(1)
في النسخ المطبوعة: «لا يعمل بها» ، زادوا «بها» للتصحيف في «يعمل» .
(2)
في طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ومَن تابعه: «أم» ، ولعله أصلح ما في أصله لأن «أم» هي المعادلة لهمزة التسوية في العربية، ولكن استعمال «أو» مكان «أم» من التسامح الشائع في كتب العلماء.
(3)
ع: «فظن أنها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
في النسخ المطبوعة: «تقايأ» .
(5)
تقدَّم تخريج الآثار في ذلك.
(6)
في النسخ المطبوعة: «إلا» .
(7)
ما عدا ع: «عدالتهم» .
قبل التزكية، فتركتم محض القياس.
وقستم دعوى المرأتين الولدَ وإلحاقَه بهما وجعلَهما أمَّين له، على دعوى الرجلين. وهذا من أفسد القياس، فإنَّ خروج الولد من أمَّين معلوم الاستحالة، وتخليقَه من ماء الرجلين ممكن، بل واقع، كما شهد به القائف عند عمر، وصدَّقه
(1)
.
وقلتم: لو قال لأجنبيٍّ: «طلِّقْ امرأتي» فله أن يطلِّق في المجلس
(2)
وبعده. ولو قال لامرأته: «طلِّقي نفسَك» فلها أن تطلِّق [168/ب] نفسَها ما دامت في المجلس. ثم فرَّقتم بينهما بأن «طلِّقي نفسَك» تمليك لا توكيل، لاستحالة أن يكون وكيلًا في التصرُّف لنفسه فيقيَّدُ بالمجلس. وأما بالنسبة إلى الأجنبي، فتوكيلٌ، فلا يتقيَّد. وهذا الفرق دعوى مجرَّدة. لم تذكروا
(3)
حجةً على أن قوله: «طلِّقي نفسك» تمليك. وقولُكم: «الوكيل لا يتصرَّف لنفسه» جوابه: أنه
(4)
يتصرَّف لنفسه ولموكِّله، ولهذا كان الشريك وكيلًا بعد قبض المال والتصرُّف، وإن كان متصرِّفًا لنفسه، فإنّ تصرُّفَه لا يختصُّ به.
ثم ناقضتم هذا الفرق، فقلتم: لو قال: «أُبرِئ نفسك من الدَّين الذي عليك» فإنه لا يتقيَّد بالمجلس، ويكون توكيلًا؛ مع أنه تصرَّف مع نفسه.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عمر. وهو منقطع فإن سليمان لم يدرك عمر. ورواه الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب. انظر:«زاد المعاد» (5/ 75 - 76).
(2)
ما عدا ع: «قبل المجلس» ، وفي حاشية ع أن في أصلها أيضًا:«قبل المجلس» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «ولم تذكروا» ، ولم ترد الواو في النسخ الخطية.
(4)
في النسخ المطبوعة: «له أن» . وكذا في ع ولكن وضع فيها فوق «له» علامة «ظ» .
ففرَّقتم بين «طلِّقي نفسَك» و «أُبرِئ نفسَك مما عليك من الدين» ، وهو تفريق بين متماثلين؛ وتركتم محضَ القياس.
وقالوا: من أقام شهودَ زور على أن زيدًا طلَّق امرأته، فحكم الحاكمُ بذلك، فهي حلال لمن تزوَّجها من الشهود. وكذلك لو أقام شهودَ زور على
(1)
أن فلانة تزوجته بوليٍّ ورضًى، فقضى القاضي بذلك، فهي له حلال. وكذلك لو شهدوا
(2)
عليه بأنه أعتق جاريته هذه، فقضى القاضي بذلك، فهي حلال لمن تزوَّجها ممن يدري باطن الأمر؛ فتركوا محض القياس وقواعد الشريعة. ثم ناقضوا، فقالوا: لو شهدوا له زورًا بأنه وهب له مملوكته هذه أو باعها منه لم يحِلَّ له وطؤها بذلك. ثم ناقضوا
(3)
أعظمَ مناقضة، فقالوا
(4)
: لو شهدا بأنه تزوَّجها بعد انقضاء عدَّتها من المطلِّق وكانا كاذبين، فإنها لا تحِلُّ، وحبسُها على زوجها أعظم من حبسها على عدته. فأحلُّوها في أعظم العصمتين، وحرَّموها في أدناهما، وحرمة النكاح أعظم من حرمة العدّة.
[169/أ] وقلتم: لا يُحَدُّ الذميُّ إذا زنى بالمسلمة، ولو كانت قرشية علوية أو عباسية؛ ولا بسبِّ الله ورسوله وكتابه ودينه جهرةً في أسواقنا ومجامعنا، ولا بتخريب مساجد المسلمين ولو أنها المساجد الثلاثة
(5)
؛ ولا ينتقضُ عهده بذلك، وهو معصوم المال والدم. حتى إذا منع دينارًا واحدًا
(1)
«على» من ع. وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ت: «شهد» هنا وفيما بعد.
(3)
ت: «ناقضوا بذلك» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
«لو شهدوا له زورًا
…
فقالوا» ساقط من ح، ف لانتقال النظر.
(5)
ح، ف:«ولو أنها الثلاثة» .
مما عليه من الجزية، وقال:«لا أعطيكموه» انتقض بذلك عهدُه، وحلَّ ماله ودمه. ثم ناقضتم من وجه آخر، فقلتم: لو سرَق لمسلم عشرة دراهم لقُطِعت يده، ولو قذَفه حُدَّ بقذفه. فيا للقياس الفاسد الباطل، المناقض
(1)
للدين والعقل، الموجِب لهذه الأقوال التي يكفي في ردِّها تصوُّرُها، كيف استجاز المستجيز تقديمها
(2)
على السنن والآثار! فالله المستعان.
وأجزتم شهادة الفاسقَين والمحدَودين في القذف والأعميَيْن في النكاح، ثم ناقضتم، فقلتم: لو شهد فيه عبدان صالحان عالمان يفتيان في الحلال والحرام لم يصحَّ النكاح، ولم ينعقد بشهادتهما. فمنعتم انعقاده بشهادة من عدَّله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعقدتموه بشهادة من فسَّقه الله ورسوله ومنَع من قبول شهادته.
وقلتم: لو شهد شاهد على زيد أنه غصب عمرًا مالًا أو شجَّه أو قذَفه، وشهد آخر بأنه أقرَّ بذلك= لم يتمَّ النِّصاب ولم يُقضَ
(3)
عليه بشيء. ولو شهد شاهد بأنه طلَّق امرأته أو أعتَق عبده أو باعه، وشهد آخر بإقراره بذلك= تمَّت الشهادة، وقُضي عليه.
وقلتم: لو قال له: «بعتك هذا العبد بألف
(4)
»، فإذا هو جارية أو بالعكس، فالبيع باطل. ولو
(5)
قال: «بعتك هذه النعجة بعشرة» ، فإذا هي
(1)
ما عدا س، ع:«المتناقض» .
(2)
ما عدا ع: «تقديمك» ، وهو تحريف غريب.
(3)
في النسخ المطبوعة: «ولم يتمَّ النصاب لم يقض» .
(4)
«بألف» ساقط من ع.
(5)
في النسخ المطبوعة: «فلو» .
كبش أو بالعكس، فالبيع صحيح. ثم فرَّقتم بأن قلتم: المقصود من الجارية والعبد مختلف، والمقصود من النعجة والكبش [169/ب] متقارب وهو اللحم. وهذا غير صحيح، فإنَّ الدَّرَّ والنسلَ المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر، وعَسْب الفحل وضِرابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى. ثم ناقضتم أبين مناقضة بأن قلتم: لو قال: «بعتك هذا القمحَ» ، فإذا هو شعير؛ أو «هذه الأَلْيَةَ» ، فإذا هي شحم= لم يصحَّ البيع، مع تقارُب القصد.
وقلتم: لو باعه ثوبًا من ثوبين لم يصحَّ البيع، لعدم التعيين. فلو كانت
(1)
ثلاثة أثواب، فقال:«بعتُك واحدًا منها» صحَّ البيع. فيالله العجب! كيف أبطلتموه مع قلة الجهالة والغَرر، وصحَّحتموه مع زيادتهما؟ أفترى زيادة الثوب الثالث خفَّفَت الغَرر ورفعت الجهالة؟ وتفريقكم بأن العقد على واحد من اثنين يتضمن الجهالة والتغرير، لأنه قد يكون أحدهما مرتفعًا والآخر رديئًا، فيفضي إلى التنازع والاختلاف. فإذا كانت ثلاثةً، فالثلاثة تتضمَّن الجيد والرديء والوسط، وكأنه
(2)
قال: «بعتُك أوسطَها» ، وذلك أقلُّ غررًا من بيعه واحدًا من اثنين رديء وجيد، وإذا أمكن حملُ كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه. وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غَررًا وجهالة، فإن النزاع كان يكون في ثوبين فقط، وأما الآن فصار في ثلاثة. وإذا قال:«إنما وقع العقد على الوسط» قال الآخر: «بل على الأدنى، أو على الأعلى» .
وقلتم: لو اشترى جاريةً ثم أراد وطأها قبل الاستبراء لم يجُز، ولو تيقّنَّا
(1)
ع: «كان» . وفي غيرها: «كانوا» !
(2)
في النسخ المطبوعة: «فكأنه» .
فراغ رحمها بأن كانت بكرًا، أو كانت بائعتها امرأة معه في الدار بحيث تيقَّن أنها غير مشغولة الرحم، أو باعها وقد ابتدأت في الحيضة ونحو ذلك. ثم قلتم: لو وطئها السيِّدُ البارحةَ ثم [170/أ] زوَّجها منه الغدَ جاز له وطؤها، ورحمها مشتمل على ماء الواطئ
(1)
. فتركتم محض القياس والمصلحة وحكمة الشارع لفرقٍ متخيَّل لا يجدي شيئًا، وهو أن النكاح لما صحَّ كان ذلك حكمًا بفراغ الرحم، فإذا حُكِم بفراغ رحمها جاز له وطؤها. فيقال: يالله العجب! كيف يُحكَم بفراغ رحمها، وهو حديث عهد بوطئها؟ وهل هذا إلا حكم باطل مخالف للحسِّ والعقل والشرع؟ نعم لو أنكم قلتم: «لا يحلُّ له تزويجها
(2)
حتى يستبرئها ويحكم بفراغ رحمها» لكان هذا فرقًا صحيحًا وكلامًا متوجهًا. ويقال حينئذ: لا معنى لاستبراء الزوج، فله أن يطأها عقيبَ العقد، فهذا محضُ القياس، وبالله التوفيق.
وقلتم: من طاف أربعة أشواط من السبع، فلم يكمله حتى رجع إلى أهله، إنه يَجبُره بدم، وصحَّ حجُّه، إقامةً للأكثر مقامَ الكُلِّ. فخرجتم عن محض القياس، لأن الأركان لا مدخل للدم في تركها. وما أمر به الشارع لا يكون المكلَّف ممتثِلًا له
(3)
حتى يأتي بجميعه، ولا يقوم أكثرُه مقامَ كلِّه، كما لا يقوم الأكثر مقامَ الكُلِّ في الصلاة والصيام والزكاة والوضوء وغسل الجنابة، فهذا هو القياس الصحيح. والمأمور ما لم يفعل ما أُمِرَ به فالخطابُ متوجِّه إليه بعدُ، وهو في عهدته. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يسامح المتوضئَ بتركِ لُمعةٍ
(1)
س، ع:«الوطء» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
س: «تزوجها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «به» .
في محلِّ الفرض لم يصبها الماء، ولا أقام الأكثر مقام الكل. والذي جاءت به الشريعة هو الميزان العادل، وهذا
(1)
الميزان العائل. وبالله التوفيق.
وقِسْتم الادِّهانَ بالخَلِّ والزيت في الإحرام على الادِّهان بالمسك والعنبر في وجوب الفدية، ويا بعد ما بينهما! [170/ب] ولم تقيسوا نبيذ التمر على نبيذ العنب مع قرب الأخوة التي بينهما.
وقلتم: لو أفطر في نهار رمضان، فلزمته الكفارة، ثم سافر= لم تسقط عنه، لأن سفره قد يتخذ وسيلةً وحيلةً إلى إسقاط ما أوجب الشرع، فلا تسقط. وهذا بخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة، فإن الكفارة تسقط، لأن الحيض والمرض ليس من فعله. ثم ناقضتم أعظم مناقضة، فقلتم: لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحول، فملَّكَ مالَه لزوجته لحظةً، فلما انقضى الحول استردَّه منها.
واعتذارُكم بالفرق بأن هذا تحيُّلٌ على منع الوجوب، وذاك تحيُّلٌ على إسقاط الواجب بعد ثبوته، والفرق بينهما ظاهر= اعتذارٌ لا يُجدي شيئًا، فإنه كما لا يجوز التحيُّل لإسقاط ما أوجبه الله ورسوله، لا يجوز التحيُّل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها، ولا تسقط بذلك. وإذا انعقد سبب الوجود لم يكن للمكلَّف إلى إسقاطه بعد ذلك سبيل. وسببُ الوجوب هنا قائم، وهو الغنى بملك النصاب، وهو لم يخرج عن الغنى بهذا التحيُّل، ولا يعدُّه الله ولا رسوله ولا أحد من خلقه ولا نفسُه فقيرًا مسكينًا بهذا التحيُّل يستحقُّ أخذَ الزكاة ولا تجب عليه الزكاة.
(1)
ع: «لا هذا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
هذا من أقبح الخداع والمكر، فكيف يروج على من يعلم خفايا الأمور وخبايا الصدور؟ وأين القياس والميزان والعدل
(1)
الذي بعث الله به رسوله
(2)
إلى
(3)
التحيُّل على المحرمات وإسقاط الواجبات؟
وكيف تُخرِج الحيلةُ المَفسدةَ التي في العقود المحرَّمة عن كونها مفسدة؟ أم كيف تقلبها مصلحةً محضةً؟ [171/أ] ومن المعلوم أن المفسدة تزيد بالحيلة ولا تزول، وتتضاعف ولا تضعُف. فكيف تزول المفسدة العظيمة التي اقتضت لعنةَ الله ورسوله للمحلِّل والمحلَّل له بأن يشرُطا
(4)
ذلك قبل العقد، ثم يعقدا بنية ذلك الشرط، ولا يشرطاه
(5)
في صلب العقد؟ فإذا أخليا صلبَ العقد من التلفظ بشرطه حسبُ، والله ورسوله والناس وهما يعلمون أن العقد إنما عُقِد على ذلك. فيالله العجب! أكانت هذه اللعنة على مجرَّدِ ذكر الشرط في صلب العقد، فإذا تقدَّم على العقد انقلبت اللعنة رحمةً وثوابًا! وهل الاعتبار في العقود إلا بحقائقها ومقاصدها؟ وهل الألفاظ إلا مقصودة لغيرها قصدَ الوسائل؟ فكيف يُضاع المقصود، ويُعدَل عنه في عقدٍ مساوٍ لغيره من كلِّ وجه، لأجل تقديم لفظ أو تأخيره أو إبداله بغيره، والحقيقة واحدة؟ هذا مما تُنَزَّه عنه الشريعةُ الكاملة المشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم.
(1)
في النسخ الخطية: «العقل» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.
(2)
س، ت:«رسله» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «من» .
(4)
ت: «شرط» . وفي غيرها: «شرطا» . وفي النسخ المطبوعة: «يشترطا» . وما أثبته أقرب.
(5)
ت، ف:«يشترطاه» .
فأصحاب الحيل تركوا محضَ القياس، فإنَّ ما احتالوا عليه من العقود المحرَّمة مساوٍ من كلِّ وجه لها في القصد والحقيقة والمفسدة، والفارقُ أمر صوري أو لفظي لا تأثير له البتة. فأيُّ فرق بين أن يبيعه تسعة دراهم بعشرة ولا شيء معهما
(1)
وبين أن يضمَّ إلى أحد العوضين خرقةً تساوي فَلْسًا أو عودَ حطب أو أذنَ شاة ونحو ذلك؟ فسبحان الله! ما أعجب حال هذه الضميمة الحقيرة التي لا تُقصَد، كيف جاءت إلى المفسدة التي أذِنَ الله ورسوله بحربِ [171/ب] من توسَّل إليها بعقد الربا، فأزالتها ومَحَتْها بالكلِّية، بل قلبتها مصلحةً، وجعلت حربَ الله ورسوله سِلْمًا ورضًى! وكيف جاء محلِّلُ الربا المستعار الذي هو أخو محلِّل النكاح إلى تلك المفاسد العظيمة، فكشَطَها كشطَ الجلد عن اللحم، بل قلبها مصالحَ بإدخال سلعة بين المترابيين
(2)
تعاقدا عليها صورةً، ثم أعيدت إلى مالكها!
ولله ما أفقه ابنَ عباس في الدين وأعلمَه بالقياس والميزان، حيث سئل عما هو أقرب من ذلك بكثير، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة
(3)
! فيالله العجب، كيف اهتدت هذه الحريرةُ لقلب مفسدةِ الربا مصلحةً، ولعنةِ آكله رحمةً، وتحريمِه إذنًا وإباحةً!
ثم أين القياس والميزان في إباحة العِينة التي لا غرضَ للمرابيين في السلعة قط، وإنما غرضهما ما يعلمه الله ورسوله وهما والحاضرون، من أخْذ مائةٍ حالَّةٍ، وبذْل مائةٍ وعشرين مؤجَّلة، ليس لهما غرض وراء ذلك البتة.
(1)
ع: «معها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
س، ع:«المرابيين» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
سيأتي تخريجه.
فكيف يقول الشارع الحكيم: إذا أردتم حِلَّ هذا فتحيَّلوا عليه بإحضار سلعة يشتريها آكلُ الربا بثمن مؤجَّل في ذمته، ثم يبيعها للمرابي بنقد حاضر، فينصرفان على مائة بمائة وعشرين، والسلعةُ حرفٌ جاء لمعنًى في غيره؟ وهل هذا إلا عدولٌ عن محض القياس، وتفريقٌ بين متماثلين في الحقيقة والقصد والمفسدة من كلِّ وجه؟ بل مفسدة الحيل الربوية أعظم من مفسدة الربا الخالي عن الحيلة، فلو لم تأت الشريعة بتحريم هذه الحيل لكان محضُ القياس والميزان [172/أ] العادل يوجب تحريمها. ولهذا عاقب الله سبحانه من احتال على استباحة ما حرَّمه بما لم يعاقِب به من ارتكب ذلك المحرَّمَ عاصيًا، فهذا من جنس الذنوب التي يتاب منها، وذاك من جنس البدع التي يظنُّ صاحبها أنه من المحسنين.
والمقصود: ذكرُ تناقض أصحاب القياس والرأي فيه، وأنهم يفرِّقون بين المتماثلين، ويجمعون بين المختلفين؛ كما فرَّقتم بين ما لو وكَّل رجلين معًا في الطلاق، فقلتم: لأحدهما أن ينفرد بإيقاعه، ولو وكَّلهما معًا في الخُلع لم يكن لأحدهما أن ينفرد به. وفرَّقتم
(1)
بما لا يُجدي شيئًا، وهو أن الخُلْع كالبيع، وليس لأحد الوكيلين الانفراد به، لأنه أشرك بينهما في الرأي، ولم يرض بانفراد أحدهما. وأما الطلاق فليس المقصود منه المال، وإنما هو تنفيذ قوله، وامتثال أمره؛ فهو كما لو أمرهما بتبليغ الرسالة. وهذا فرق لا تأثير له البتة، بل هو باطل، فإنَّ احتياجَ الطلاق
(2)
ومفارقة الزوجة إلى الرأي والخبرة والمشاورة مثلُ احتياج الخُلع أو أعظم. ولهذا أمر الله سبحانه ببعث
الحكمين معًا، وليس لأحدهما أن ينفرد بالطلاق، مع أنهما وكيلان عند القيَّاسين
(1)
؛ والله تعالى جعلهما حكمين، ولم يجعل لأحدهما الانفراد، فما بال وكيلي الزوج لأحدهما الانفراد؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وموجَب النص؟
وقلتم: لو قال لامرأته «طلِّقي نفسَك» ، ثم نهاها في المجلس، ثم طلَّقَتْ نفسها= وقع الطلاق. ولو قال ذلك لأجنبي، ثم نهاه في المجلس، ثم طلَّق= لم يقع الطلاق. فخرجتم عن [172/ب] موجَب القياس، وفرَّقتم بأن قوله لها تمليك، وقوله للأجنبي توكيل. وقد تقدَّم بطلانُ هذا الفرق قريبًا.
وقلتم: لو وصَّى إلى عبدِ غيره فالوصية باطلة، وإن أجاز سيِّدُه. ولو وكَّل عبدَ غيرِه فالوكالة جائزة، وإن ردَّها السيد، ولكن تُكرَه بدون إذنه.
وقلتم: إذا أوصى بأن يُعتِق عنه عبدًا بعينه، فأعتقه الوارث عن نفسه= وقع عن الميِّت. ولو أعتقه الوصيُّ عن نفسه لم يجُز عن نفسه ولا عن الميِّت. وفرَّقتم بأنّ تصرُّفَ الوارث بحقِّ الملك، فنفذ تصرّفُه وإن خالف الموصي. وتصرُّفُ الوصي بحقِّ الوكالة، فلا يصح فيما خالف الموصي. وهذا فرق لا يصح، فإن تعيين الموصي للعتق في هذا العبد قطَع ملكَ الوارث له، فهو كما لو أوصى إلى أجنبي بعتقه سواء، وإنما ينتقل إلى الوارث من التركة ما زاد على الدَّين والوصية اللازمة.
وقلتم: لو قال: «ثلُثُ مالي لفلان وفلان» وأحدهما ميِّت، فالثلث كلُّه للحيِّ. ولو قال:«بين فلان وفلان» ، وأحدهما ميت، فللحيِّ نصفُه. وهذا
(1)
في النسخ المطبوعة: «القياسيين» كالعادة.
تفريق بين متماثلين لفظًا ومعنًى وقصدًا، واقتضاء الواو للتشريك كاقتضاء «بين» ، ولهذا استويا في الإقرار وفي استحقاق كلِّ واحد منهما النصفَ لو كانا حيَّين.
وقلتم: لو أوصى له بثلث ماله، وليس له من المال شيء، ثم اكتسب مالًا= فالوصية لازمة في ثلثه. ولو أوصى له بثلث غنمه، ولا غنم له، ثم اكتسب غنمًا= فالوصية
(1)
باطلة. فتركتم محض القياس، وفرَّقتم بفرقٍ
(2)
لا تأثير له، ولا يتحصَّل منه عند التحقيق شيء
(3)
.
فصل
وجمعتم بين ما فرَّق الله بينه من الأعضاء الطاهرة والأعضاء النجسة، [173/أ] فنجَّستم الماءَ الذي يلاقي هذه وهذه عند رفع الحدث. وفرَّقتم بين ما جمع الله بينه من الوضوء والتيمم، فقلتم: يصح أحدهما بلا نية دون الآخر. وجمعتم بين ما فرَّق الله بينهما من الشعور والأعضاء، فنجَّستم كليهما بالموت. وفرَّقتم بين ما جمع
(4)
بينهما من سباع البهائم، فنجَّستم منها الكلب والخنزير دون سائرها.
وجمعتم بين ما فرَّق بينه، وهو الناسي والعامد، والمخطئ والذاكر، والعالم والجاهل، فإنه سبحانه فرَّق بينهم في الإثم، فجمعتم بينهم في
(1)
العبارة «لازمة
…
فالوصية» ساقطة من ح، ف.
(2)
س: «تفريقًا» . وفي ت: «تفريق» .
(3)
بعده في النسخ المطبوعة زيادة: «والله المستعان وعليه التكلان» .
(4)
س، ع:«جمع الله» ، وكذا في النسخ المطبوعة بزيادة لفظ الجلالة هنا وفيما يأتي.
الحكم في كثير من المواضع، كمن صلَّى بالنجاسة ناسيًا أو عامدًا، وكمن فعل المحلوفَ عليه ناسيًا أو عامدًا، وكمن تطيَّب في إحرامه أو قلَم ظفرَه أو حلَق شعرَه ناسيًا أو عامدًا= فسوَّيتم بينهما. وفرَّقتم بين ما جمع الله بينه من الجاهل والناسي، فأوجبتم القضاء على من أكل في رمضان جاهلًا ببقاء النهار دون الناسي، وفي غير ذلك من المسائل.
وفرَّقتم بين ما جمع الله بينه من عقود الإجارات، كاستئجار الرجل لطحن الحَبِّ بنصف كُرٍّ
(1)
من دقيق، واستئجاره لطحنه بنصف كُرٍّ منه، فصحَّحتم الأول دون الثاني، مع استوائهما من جميع الوجوه. وفرَّقتم بأن العمل في الأول في العوض الذي استأجره به ليس مستحَقًّا عليه، وفي الثاني العمل مستَحقٌّ عليه، فيكون مستَحقًّا له وعليه. وهذا فرق صوري لا تأثير له، ولا تتعلَّق بوجوده مفسدة قط، لا جهالة ولا ربا ولا غَرر ولا تنازع، ولا هي مما يمنع صحة العقد بوجه. وأيُّ غَرر أو مفسدة أو مضرَّة للمتعاقدين في أن يدفع إليه غزلَه ينسجُه ثوبًا برُبعه، وزيتونَه [173/ب] يعصره زيتًا برُبعه، وحبَّه يطحنه بربعه، وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين، لا تتم مصلحتُهما في كثير من المواضع إلا به؟ فإنه ليس كلُّ أحدٍ
(2)
يملك عوضًا يستأجر به من يعمل له ذلك، والأجير محتاج إلى جزء من ذلك، والمستأجر محتاج إلى العمل، وقد تراضيا بذلك. ولم يأت من
(1)
مكيال لأهل العراق يساوي ستين قفيزًا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف صاع، فهو إذن 720 صاعًا. انظر:«متن اللغة» (5/ 46) و «المكاييل والأوزان والنقود العربية» للدكتور محمود الجليلي (ص 97 - 99).
(2)
ع: «كل واحد» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
الله ورسوله نصٌّ يمنعه، ولا قياس صحيح، ولا قول صاحب، ولا مصلحة معتبرة ولا مرسلة.
وفرَّقتم
(1)
بين ما جمع الله بينه، وجمعتم بين ما فرَّق الله بينه، فقلتم: لو اشترى عنبًا ليعصره خمرًا، أو سلاحًا ليقتل به مسلمًا، ونحو ذلك= إنَّ البيع صحيح. وهو كما لو اشتراه ليقتل به عدوَّ الله ويجاهد به في سبيله، أو اشترى عنبًا ليأكله. كلاهما سواء في الصحة. وجمعتم بين ما فرَّق الله بينه، فقلتم: لو استأجر دارًا ليتخذها كنيسةً يُعبَد فيها الصليب والنار جاز
(2)
، كما لو استأجرها ليسكنها. ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم: لو استأجرها ليتخذها مسجدًا لم تصحَّ الإجارة.
وفرَّقتم بين ما جمع الله بينه، فقلتم: لو استأجر أجيرًا بطعامه وكسوته لم يجز. والله سبحانه لم يفرِّق بين ذلك وبين استئجاره بطعام مسمًّى وثياب معينة
(3)
. وقد كان الصحابة يؤجِّر أحدُهم نفسَه في السفر والغزو بطعام بطنه وركوبه
(4)
وهم أفقه الأمة
(5)
.
وفرَّقتم بين ما جمع الله بينه من عقدين متساويين من كلِّ وجه، وقد صرَّح المتعاقدان فيهما بالتراضي، وعلم الله سبحانه تراضيهما والحاضرون،
(1)
في النسخ: «ففرقتم» ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2)
في النسخ المطبوعة: «جاز له» .
(3)
لعله يشير إلى قصة موسى إذ تزوَّج على أن يأجر ثماني حجج.
(4)
في النسخ المطبوعة: «مركوبه» .
(5)
روى مسلم (1807/ 132) من حديث سلمة بن الأكوع أنه كان تبيعًا لطلحة بن عبيد الله في غزوة الحديبية يسوس فرسه، ويخدم طلحة، ويأكل من طعامه
…
[174/أ] فقلتم: هذا عقد باطل لا يفيد الملك ولا الحِلَّ حتى يصرِّحا بلفظ «بعت واشتريت» . ولا يكفيهما أن يقول كلُّ واحد منهما: «أنا راضٍ بهذا كلَّ الرِّضى» ، ولا «قد رضيتُ بهذا عوضًا عن هذا» ، مع كون هذا اللفظ أدلَّ على الرِّضى الذي جعله الله سبحانه شرطًا للحِلِّ من لفظه:«بعت واشتريت» ، فإنه لفظ صريح فيه، و «بعت واشتريت» إنما يدل عليه باللزوم.
وكذلك عقدُ النكاح، وليس ذلك من العبادات التي تعبَّدَنا الشارعُ فيها بألفاظ لا يقوم غيرُها مقامَها كالأذان وقراءة الفاتحة في الصلاة وألفاظ التشهد وتكبيرة الإحرام وغيرها، بل هذه العقود تقع من البَرِّ والفاجر والمسلم والكافر، ولم يتعبَّدنا الشارعُ فيها بألفاظ معينة، فلا فرق أصلًا بين لفظ الإنكاح والتزويج وبين كلِّ لفظ يدل على معناهما.
وأفسَدُ من ذلك اشتراطُ العربية مع وقوع النكاح من العرب والعجم والترك والبربر ومن لا يعرف كلمة عربية، والعجب أنكم اشترطتم تلفُّظَه بلفظٍ لا يدري ما معناه البتة، وإنما هو عنده بمنزلة صوتٍ في الهواء فارغٍ لا معنى تحته، فعقدتم العقدَ به، وأبطلتموه بتلفظه باللفظ الذي يعرفه، ويفهم معناه، ويميِّز بين معناه وغيره. وهذا من أبطل القياس، ولا يقتضي القياس إلا ضدَّ هذا، فجمعتم بين ما فرَّق الله بينه، وفرَّقتم بين ما جمع الله بينه.
وبإزاء هذا القياس قياسُ من يجوِّز قراءة القرآن بالفارسية، ويجوِّز انعقاد الصلاة [174/ب] بكلِّ لفظ يدل على التعظيم كسبحان الله، وجلَّ الله، والله العظيم، ونحوه ــ عربيًّا كان أو فارسيًّا ــ ويجوِّز إبدال لفظ التشهد بما يقوم مقامه. وكلُّ هذا من جنايات الآراء والأقيسة. والصواب: اتباع ألفاظ العبادات والوقوف معها. وأما العقود والمعاملات فإنما تُتَّبع مقاصدها
والمراد بها
(1)
بأيِّ لفظٍ كان، إذ لم يشرع الله ورسوله لنا التعبُّدَ بألفاظ معينة لا نتعدَّاها.
وجمعتم بين ما فرَّق الله بينه من إيجاب النفقة والسكنى للمبتوتة وجعلتموها كالزوجة. وفرَّقتم بين ما جمع الله ورسوله بينه من ملازمة الرجعية المعتدَّة والمتوفَّى عنها زوجُها منزلَهما
(2)
حيث يقول تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وحيث أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المتوفَّى عنها أن تمكث في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله
(3)
.
وجمعتم بين ما فرَّقت السنَّةُ
(4)
بينهما من بول الطفل والطفلة الرضيعين، فقلتم: يُغسَلان. وفرَّقتم بين ما جمعت السنَّةُ بينه من وجوب غسلِ قليل البول وكثيره.
وفرَّقتم بين ما جمع الله ورسوله بينهما من ترتيب أعضاء الوضوء
(1)
في النسخ المطبوعة: «منها» .
(2)
س، ت، ع:«منزلها» .
(3)
رواه أحمد (27087، 27088، 27363)، وأبو داود (2300)، والترمذي (1204)، وابن ماجه (2031)، والنسائي (3528، 3530، 3532) من حديث الفريعة بنت مالك - رضي الله عنهت - مرفوعا. وصححه الترمذي، وابن حبان (1461، 1462)، والحاكم (2/ 208)، ونقل قول الحافظ محمد بن يحيى الذهلي:«هذا حديث صحيح محفوظ» . وصححه أيضًا ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 394 - 395)، وابن النحوي في «البدر المنير» (8/ 243، 247، 250). ويُنظر للفائدة: «العلل» للدارقطني (15/ 412 - 413).
(4)
ع: «فرَّق الله» ، وكذا في النسخ المطبوعة. والصواب ما أثبت من النسخ الأخرى.
وترتيب أركان الصلاة، فأوجبتم الثاني دون الأول. ولا فرق بينهما، لا في المعنى ولا في النقل. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله أمرَه ونهيَه، لم يتوضأ
(1)
قطُّ إلا مرتَّبًا، ولا مرةً واحدةً في عمره
(2)
، كما لم يصلِّ إلا مرتَّبًا. ومعلوم أن العبادة المنكوسة ليست كالمستقيمة، ويكفي هذا الوضوءَ اسمُه وهو أنه وضوء منكَّس
(3)
، فكيف يكون عبادة؟
وجمعتم [175/أ] بين ما فرَّق الله بينه من إزالة النجاسة ورفع الحدث، فسوَّيتم بينهما في صحة كلٍّ منهما بغير نية. وفرَّقتم بين ما جمع الله بينهما من الوضوء والتيمم، فاشترطتم النية لأحدهما دون الآخر. وتفريقكم بأن الماء يطهِّر بطبعه، فاستغنى عن النية؛ بخلاف التراب فإنه لا يصير مطهِّرًا إلا بالنية= فرقٌ صحيح بالنسبة إلى إزالة النجاسة فإنه مزيل لها بطبعه. وأما رفعُ الحدث فإنه ليس رافعًا له بطبعه، إذ الحدث ليس جسمًا محسوسًا يرفعه الماء بطبعه بخلاف النجاسة، وإنما يرفعه بالنية، فإذا لم تقارنه النية بقي على حاله، فهذا هو القياس المحض.
(1)
في النسخ المطبوعة: «ولم يتوضأ» مع واو العطف.
(2)
يُوازَنُ ما ذكره المصنِّف هنا بما رواه أحمد (17188)، وعنه أبو داود (121) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. ويُنظر:«بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2/ 195، 4/ 109 - 110، 5/ 663)، و «الإمام» لابن دقيق العيد (1/ 434 - 435، 571 - 573)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (1/ 218 - 223)، و «البدر المنير» لابن النحوي (1/ 207 - 210)، و «صحيح سنن أبي داود» للألباني (1/ 206 - 207).
(3)
ع: «منكوس» .
وجمعتم بين ما فرَّق الله بينه، فسوَّيتم بين بدنِ أطيبِ المخلوقات وهو وليُّ الله المؤمن، وبين بدنِ أخبثِ المخلوقات وهو عدوه الكافر، فنجَّستم كليهما بالموت. ثم فرَّقتم بين ما جمع الله بينه، فقلتم: لو غُسِل المسلمُ ثم وقع في ماء لم ينجِّسه، ولو غُسِل الكافر ثم وقع في ماء نجَّسه. ثم ناقضتم في الفرق بأن المسلم إنما غُسِل ليصلَّى عليه، فطهُر بالغسل، لاستحالة الصلاة عليه وهو نجِس، بخلاف الكافر. وهذا الفرق ينقض ما أصَّلتموه من أن النجاسة بالموت نجاسة عينية، فلا تزول بالغسل لأن سببها قائم وهو الموت، وزوالُ الحكم مع بقاء سببه ممتنع. فأيُّ القياسَين هو المعتدُّ به في هذه المسألة؟
وفرَّقتم بين ما جمعت السنة والقياس بينهما، فقلتم: لو طلعت عليه الشمس، وقد صلَّى من الصبح ركعةً، بطلت صلاته. ولو غربت عليه الشمسُ، وقد صلَّى من العصر ركعةً، صحَّت صلاته. والسنة الصحيحة الصريحة قد سوَّت بينهما، وتفريقكم بأنه في الصبح خرج من وقت كامل إلى غير وقت
(1)
، ففسدت صلاته؛ وفي العصر خرج من وقت كامل إلى وقت كامل وهو وقت صلاة، فافترقا. ولو لم يكن في هذا القياس إلا مخالفته لصريح السنَّة
(2)
لكفى في بطلانه، فكيف وهو قياس فاسد في نفسه؟ فإن الوقت الذي خرج إليه في الموضعين ليس وقت الصلاة الأولى، فهو ناقص بالنسبة إليها. ولا ينفع كماله بالنسبة إلى الصلاة التي هو فيها.
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة «كامل» ، وهي غير صحيحة.
(2)
يقصد حديث أبي هريرة، الذي أخرجه البخاري (556) ومسلم (608).
فإن قيل: لكنه خرج إلى وقت نهي في الصبح وهو وقت طلوع الشمس، ولم يخرج إلى وقت نهي في المغرب.
قيل: وهذا فرق فاسد، لأنه ليس بوقت نهيٍ عن هذه الصلاة التي هو فيها، بل هو وقتُ أمرٍ بإتمامها بنصِّ صاحبِ الشرع حيث يقول
(1)
: «فَلْيُتِمَّ صلاتَه» ، وإن كان وقتَ نهي بالنسبة إلى التطوع. فظهر أن الميزان الصحيح مع السنة الصحيحة، وبالله التوفيق
(2)
.
وجمعتم بين ما فرَّق الله بينه، فقلتم: المختلعة البائنة التي قد ملكت نفسها يلحقها الطلاق، فسوَّيتم بينها وبين الرجعية في ذلك. وقد فرَّق الله بينهما بأن جعل هذه مفتديةً لنفسها مالكةً لها كالأجنبية، وتلك زوجُها أحقُّ بها. ثم فرَّقتم بين ما جمع الله بينه، فأوقعتم عليها مرسلَ الطلاق دون معلَّقه، وصريحَه دون كنايته. ومن المعلوم أن من ملَّكه الله أحدَ الطلاقين ملَّكه الآخر، ومن لم يملِّكه هذا لم يملِّكه هذا.
وجمعتم بين ما فرَّق [176/أ] الله بينه، فمنعتم من أكل الضَّبِّ وقد أُكِل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر، وقيل له: أحرام هو؟ فقال: لا؛ فقستموه على الأحناش والفئران. وفرَّقتم بين ما جمعت السنَّة بينه من لحوم الخيل التي أكلها الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع لحوم الإبل وأذِنَ الله تعالى فيها، فجمع الله ورسوله بينهما في الحِلِّ، وفرَّق الله ورسوله بين الضَّبِّ والحَنَش
(3)
في التحريم.
(1)
في الحديث السابق.
(2)
ع: «والله أعلم» .
(3)
ت: «الحنش والضب» .
وجمعتم بين ما فرقت السنَّة بينه من لحوم الإبل وغيرها حيث قال: «توضؤوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم»
(1)
، فقلتم: لا نتوضأ من هذا
(2)
ولا من هذا. وفرَّقتم بين ما جمعت
(3)
بينه، فقلتم في القيء: إن كان ملء الفم فهو حدث، وإن كان دون ذلك فليس بحدث. ولا يُعرَف في الشريعة شيء يكون كثيره حدثًا دون قليله. وأما النوم فليس بحدث، وإنما هو مظنته، فاعتُبِر ما يكون مظنة، وهو الكثير.
وفرَّقتم بين ما جمع الله بينه، فقلتم: لو فتَح على الإمام في قراءته لم تبطل صلاته، ولكن تُكرَه لأنَّ فتحَه قراءة منه، والقراءة خلف الإمام مكروهة. ثم قلتم: فلو فتَح على قارئٍ غيرِ إمامه بطلت صلاته، لأن فتحه عليه مخاطبة له، فأبطلت الصلاة. ففرَّقتم بين متماثلين، لأن الفتح إن كان مخاطبةً في حقِّ غير الإمام، فهو مخاطبة في حقِّه
(4)
. وإن لم يكن مخاطبةً في حقِّ الإمام، فليس مخاطبةً
(5)
في حقِّ غيره. ثم ناقضتم من [176/ب] وجه آخر أعظم مناقضة، فقلتم: لما نوى الفتحَ على غير الإمام خرج عن كونه قارئًا إلى كونه مخاطِبًا بالنية. ولو نوى الربا الصريح، والتحليل
(1)
سيأتي فيه حديث جابر بن سمرة الذي أخرجه مسلم (360)، وهذا لفظ حديث ابن عمر في «سنن ابن ماجه» (497). ونحوه لفظ حديث البراء بن عازب في «جامع الترمذي» (81).
(2)
في النسخ المطبوعة: «لا من هذا» .
(3)
يعني السنَّة. وفي ع: «جمعت الشريعة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
يعني: «في حق الإمام» ، كما في النسخ المطبوعة. ولكن في جميع النسخ الخطية ما أثبت.
(5)
ع: «بمخاطبة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
الصريح، وإسقاط الزكاة بالتمليك الذي اتخذه حيلةً= لم يكن مرابيًا، ولا محلِّلًا، ولا مُسقطًا للزكاة
(1)
، بهذه النية.
فيالله العجب! كيف أثَّرت نية الفتح والإحسان على القارئ، وأخرجته عن كونه قارئًا إلى كونه مخاطِبًا؛ ولم تؤثر نية الربا والتحليل مع إساءته بهما وقصدِه نفسَ ما حرَّمه
(2)
الله، فتجعله مرابيًا محلِّلا؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس، وجمعٌ بين ما فرَّق الشارع بينهما، وتفريقٌ بين ما جمع بينهما؟
وقلتم: لو اقتدى المسافر بالمقيم بعد خروج الوقت لا يصح اقتداؤه، ولو اقتدى المقيم بالمسافر بعد خروج الوقت صحَّ اقتداؤه. وهذا تفريق بين متماثلين، ولو ذهب ذاهب إلى عكسه لكان من جنس قولكم سواء، ولأمكنه تعليله بنحو ما علَّلتم به. ووجَّهتم الفرق بأن من شرط صحة اقتداء المسافر بالمقيم أن ينتقل فرضه إلى فرض إمامه، وبخروج الوقت استقرَّ الفرض عليه استقرارًا لا يتغير بتغيُّر حاله، فبقي فرضه ركعتين. فلو جوَّزنا له اقتداءه بالمقيم بعد خروج الوقت جوَّزنا اقتداء مَن فرضُه الركعتان
(3)
بمن فرضُه أربع، وهذا لا يصح، كمصلِّي الفجر إذا اقتدى بمصلِّي الظهر. وليس كذلك المقيم إذا اقتدى بالمسافر بعد خروج الوقت، إذ ليس من شرط صحة
(4)
[177/أ] اقتداء المقيم بالمسافر أن ينتقل فرضه إلى فرض إمامه، بدليل أنه لو
(1)
ع: «ولا مسقطًا للزكاة ولا محلِّلًا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ع: «حرم» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «ركعتان» .
(4)
لفظ «صحة» ساقط من ع.
اقتدى به في الوقت لم ينتقل فرضه إلى فرض إمامه؛ بخلاف المسافر، فإنه لو اقتدى بالمقيم في الوقت انتقل فرضه إلى فرض إمامه.
ثم ناقضتم، فقلتم
(1)
: إذا كان الإمام مسافرًا، وخلفه مسافرون ومقيمون، فاستخلف الإمام مقيمًا= فإن فرض الإمام لا ينتقل إلى فرض إمامه وهو فرض المقيمين، مع أن الفرق في الأصل مدخول. وذلك أن الصلاتين سواء في الاسم والحكم والوضع
(2)
والوجوب، وإن اختلفتا
(3)
في كون الإمام يصلِّي
(4)
، فإذا صلى الإمام أربعًا وجب على المأموم أن يصلِّي بصلاته كما لو كان في الوقت. وخروج الوقت لا أثر له في ذلك، فإن الذي فرضه الله عليه في الوقت هو بعينه فرضه بعد الوقت، ولا سيما إذا كان نائمًا أو ناسيًا، فإن وقت اليقظة والذكر هو الوقت الذي شرع الله له الصلاة فيه
(5)
، وعذر السفر قائم، وارتباط صلاته بصلاة الإمام حاصل. فما الذي فرَّق بين الصورتين مع اتحاد السبب الجامع، وقيام الحكمة المجوِّزة للقصر والمرجِّحة لمصلحة الاقتداء عند الانفراد؟
وفرَّقتم بين ما جمعت الشريعة بينهما ــ وهو الحيض، والنفاس ــ فجعلتم أقلَّ الحيض محدودًا إما بثلاثة أيام أو بيوم وليلة أو بيوم، ولم تحُدُّوا أقلَّ النفاس، وكلاهما دم خارج من الفرج يمنع أشياء ويوجب أشياء.
(1)
في النسخ المطبوعة: «وقلتم» .
(2)
ما عدا ت: «الموضع» .
(3)
ما عدا ع: «اختلفا» .
(4)
ت: «مصلي» ، وفي النسخ المطبوعة:«مصليا» .
(5)
ت: «له فيه الصلاة» .
وليسا اسمين شرعيين لم يُعرفا إلا بالشريعة، بل هما اسمان لغويان، ردَّ الشارعُ أمته فيهما إلى ما يتعارفه النساء حيضًا [177/ب] ونفاسًا، قليلًا كان أو كثيرًا. وقد ذكرتم هذا بعينه في النفاس، فما الذي فرَّق بينه وبين الحيض؟ ولم يأتِ عن الله ولا عن رسوله ولا عن الصحابة تحديدُ أقلِّ الحيض بحدٍّ أبدًا، ولا في القياس ما يقتضيه.
والعجب أنكم قلتم: المرجع فيه إلى الوجود
(1)
حيث لم يحُدَّه الشارع، ثم ناقضتم فقلتم: حدُّ أقلِّه يوم وليلة. وأما أصحاب الثلاث فإنما اعتمدوا على حديثٍ
(2)
توهَّموه صحيحًا، وهو غير صحيح باتفاق أهل الحديث، فهم أعذر من وجه.
قال المفرِّقون: بل فرَّقنا بينهما بالقياس الصحيح، فإنَّ للنفاس علَمًا ظاهرًا يدل على خروجه من الرحم وهو تقدُّم الولد عليه، فاستوى قليله وكثيره، لوجود عَلَمِه الدالِّ عليه. وليس مع الحيض علَمٌ يدل على خروجه من الرحم، فإذا امتدَّ زمنه صار امتداده علَمًا ودليلًا على أنه حيض معتاد، وإذا لم يمتدَّ لم يكن معنا ما يدل عليه أنه حيض، فصار كدم الرعاف.
(1)
ح، ف:«الوجوب» ، تصحيف.
(2)
رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (7586)، وفي «الأوسط» (599)، وفي «مسند الشاميين» (1515، 3420)، والدارقطني في «السنن» (845، 846) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا. ورواه الدارقطني (847) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعًا. وضعّف الدارقطني الحديثيْن كليْهما.
وللحديث طرق كثيرة لا يصح منها شيء، بل كلّها واهية. ويُنظر:«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (1/ 383 - 384)، و «الإمام» لابن دقيق العيد (3/ 202 - 210، 213 - 214)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (1/ 408 - 413).
ثم ناقضوا في هذا الفرق نفسه أبين مناقضة، فقال أصحاب الثلاث: لو امتدَّ يومين ونصفَ يوم دائمًا لم يكن حيضًا حتى يمتدَّ ثلاثة أيام. وقال أصحاب اليوم: لو امتدَّ من غدوة إلى العصر دائمًا
(1)
لم يكن حيضًا حتى يمتدَّ إلى غروب الشمس. فخرجوا بالقياس عن محض القياس!
وقلتم: إذا صلَّى جالسًا، ثم تشهَّد في حال القيام سهوًا، فلا سجود عليه. وإن قرأ في حال التشهد فعليه السجود. وهذا فرقٌ بين متساويين من كلِّ وجه.
وقلتم: إذا افتتح الصلاة في المسجد، فظنَّ أنه قد سبقه الحدث، فانصرف [178/أ] ليتوضأ، ثم علم أنه لم يسبقه الحدث وهو في المسجد= جاز له المضيُّ على صلاته. وكذلك لو ظن أنه قد أتمَّ صلاته، ثم علم أنه لم يُتِمَّ. ثم قلتم: لو ظنَّ أن على ثوبه نجاسة، أو أنه لم يكن متوضئًا، فانصرف ليتوضأ أو يغسل ثوبه، ثم علم أنه كان متوضِّئًا أو طاهرَ الثوب= لم يجُز له البناء على صلاته. ففرَّقتم بين ما لا فرق بينهما، وتركتم محض القياس. وفرَّقتم بأنه لما ظنَّ سبقَ الحدث فقد انصرف من صلاته انصرافَ استيفاء
(2)
، لا انصرافَ رفض، فإنه لو تحقَّق ما ظنَّه جاز له المضي، فلم يصِرْ قاصدًا للخروج من الصلاة، فلم يمتنع البناء. وكذلك لو ظنَّ أنه قد أتمَّ صلاته، فلم ينصرف انصراف رفض. وإذا لم يقصد الرفض لم تصر الصلاة مرفوضة، كما لو سلَّم ساهيًا. وليس كذلك إذا ظنَّ أنه لم يتوضأ أو
(3)
على
(1)
س، ت، ف:«دائمًا أبدًا» ، وزاد بعضهم كلمة «أبدًا» في حاشية ح.
(2)
في النسخ المطبوعة: «انصراف استئناف» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «أو أن» .
ثوبه نجاسة، لأنه انصرف منها انصرافَ رفض، ونوى الرفض مقارِنًا لانصرافه، فبطلت كما لو سلَّم عامدًا.
وهذا الفرق غير مُجدٍ شيئًا، بل هو فرقٌ بين ما جمعت الشريعة بينهما، فإنه في الموضعين انصرف انصرافًا مأذونًا فيه أو مأمورًا به، وهو معذور في الموضعين. بل هذا الفرق حقيق باقتضائه ضد ما ذكرتم، فإنه إذا ظن أنه لم يتوضأ فانصرافه مأمور به وهو عاصٍ لله بتركه، بخلاف ما إذا ظن أنه قد أتمَّ صلاته فإن انصرافه مباح مأذون له فيه. فكيف تصح الصلاة مع هذا الانصراف، وتبطل بالانصراف المأمور [178/ب] به؟
ثم إنه أيضًا في انصرافه ظنًّا
(1)
أنه قد أتم صلاته، ينصرف انصرافَ تركٍ حقيقةً، لأنه يظن أنه قد فرغ منها، فتركُها تركُ مَن قد أكملها. ومن ظنَّ أنه محدِث فإنما تركُها تركُ قاصدٍ لتكميلها
(2)
، فهي أولى بالصحة.
وقلتم: لو قال: «لله عليَّ أن أصلِّي ركعتين» ، فقال آخر:«وأنا لله عليَّ أن أصلي ركعتين»
(3)
= لم يجُز لأحدهما أن يأتمَّ بصاحبه، لأنهما فرضان بسببين، وهو نذرُ كلِّ واحد منهما، ولا يؤدَّى فرضٌ خلف فرضِ آخر. ثم ناقضتم، فقلتم: لو قال الآخر: «وأنا لله عليَّ أن أصلي الركعتين اللتين أوجبتَ على نفسك» جاز لأحدهما أن يأتمَّ بالآخر، لأنه أوجب على نفسه عينَ
(4)
ما
(1)
س: «ظنَّ» . وفي طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ومَن تابعه: «[حين] ظنَّ» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «لتكملتها» .
(3)
ع: «وقلتم: لو قال اثنان: لله عليَّ أن أصلي ركعتين» ، وفوق «اثنان» علامة «ظ» .
(4)
لفظ «عين» ساقط من ت.
أوجبه الآخر على نفسه، فصارتا كالظهر الواحدة. وهذا ليس يُجدي شيئًا، فإنَّ سبب الوجوب مختلف كما في الصورة الأولى سواء، وهو نذرُ كلِّ واحد منهما على نفسه، وليس الواجب على أحدهما هو عين الواجب على الآخر، بل هو مثله؛ ولهذا لا يتأدَّى أحدُ الواجبين بأداء الآخر. ولا فرق بين المسألتين في ذلك البتة، فإنَّ كلَّ واحد
(1)
يجب عليه ركعتان نظير ما وجب على الآخر بنذره. فالسبب متماثل
(2)
، والواجب متماثل، والتعدُّد في الجانبين سواء. فالتفريق بينهما تفريق بيِّن
(3)
، وخروج عن محض القياس.
وفرَّقتم بين ما جمع النصُّ والميزان بينهما، فقلتم: إذا ظفِر برِكازٍ
(4)
فعليه فيه الخُمْس، ثم يجوز له صرفُه إلى أولاده وإلى نفسه إذا احتاج إليه. وإذا وجب عليه عشرُ [179/أ] الخارج من الأرض لم يكن له صرفُه إلى ولده ولا إلى نفسه. وكلاهما واجب عليه إخراجُه لحقِّ الله وشكرًا لنعمته
(5)
بما أنعم عليه من المال، ولكن لما كان الرِّكازُ مالًا مجموعًا لم يكن نماؤه وكماله بفعله، فالمؤنةُ فيه أيسرُ= كان الواجب فيه أكثر. ولما كان الزرعُ فيه من المؤنة والكلفة والعمل أكثرُ مما في الركاز= كان الواجب فيه نصفه، وهو العشر. فإن اشتدَّت المؤنة بالسقي بالكلفة حُطَّ الواجبُ إلى نصفه وهو
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «منهما» .
(2)
كذا في النسخ الخطية هنا وفيما بعد. وفي النسخ المطبوعة: «مماثل» .
(3)
كذا في النسخ، وضبط في س بتنوين النون وفي ت بكسر الياء المشدَّدة. وقرأ بعضهم «بَيْن» ، فزاد في حاشية ع:«متماثلين» وفوقها علامة «ظ» . ومن هنا ورد في النسخ المطبوعة: «بين متماثلين» .
(4)
الرِّكاز: المال المدفون في الجاهلية، ويقال: هو المعدن. (المصباح المنير).
(5)
في النسخ المطبوعة: «وشكر النعمة» .
نصف العشر. فإن اشتدَّت المؤنة في المال غيره
(1)
بالتجارة والبيع والشِّراء كلَّ وقت، وحفظِه وكراءِ مخزنه ونقلِه= خُفِّف إلى شطره، وهو رُبع العشر. فهذا من كمال حكمة الشارع في اعتبار كثرة الواجب وقلته. فكيف يجوز له أن يعطي الواجب الأكثر الذي هو أقلُّ مؤنةً وتعبًا وكلفةً لأولاده ويمسكه لنفسه، وقد أضعفه عليه الشارعُ أكثرَ من كلِّ واجب في الزكاة، ومخرجُ الجميع وإيجابه واحد نصًّا واعتبارًا؟ فالتفريق بينهما تفريق بين ما جمعت الشريعة بينهما حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:«في الرِّكاز الخُمْس، وفي الرِّقة ربعُ العُشْر»
(2)
.
وقلتم: لو أودع من لا يعرفه مالًا، فغاب
(3)
عنه سنين، ثم عرفه= فلا زكاة عليه، لأنه لا يقدر على ارتجاعه منه؛ فهو كما لو دفنه بمفازة
(4)
، ونسيه
(5)
. ثم ناقضتم فقلتم: لو أودعه من يعرفه، فنسيه سنين، ثم عرفه= فعليه زكاة تلك السنين الماضية كلِّها. [179/ب] والمال خارج عن قبضته وتصرُّفه، وهو غير قادر على ارتجاعه في الصورتين، ولا فرق بينهما. وقد
(1)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة.
(2)
قوله: «في الركاز الخمس» أخرجه البخاري (1499) ومسلم (1710) من حديث أبي هريرة. والجزء الثاني من الحديث أخرجه البخاري (1454) ضمن حديث طويل عن أنس عن أبي بكر. والرِّقَة: الفضة المضروبة نقودًا.
(3)
ت: «ثم غاب» .
(4)
ع: «بمغارة» هنا وفيما بعد. وفوقه هنا: «أو بمفازة» ، كأن الناسخ شك في أصله. وفي النسخ المطبوعة:«بمغارة» ، ولعله تصحيف.
(5)
في النسخ المطبوعة: «فنسيه» .
صرَّحتم في مسألة المفازة أنه لو دفنه بموضعٍ
(1)
منها، ثم نسيه، فلا زكاة عليه إذا عرفه بعد ذلك. ولا فرق في هذا بين المفازة وبين المودع بوجه. ثم ناقضتم من وجه آخر، وقلتم: لو دفنه في داره، وخفي عليه موضعُه سنين، ثم عرفه= وجب
(2)
عليه الزكاة لما مضى.
وقلتم: لو وجبت
(3)
عليه أربع شياه، فأخرج ثنتين سمينتين تُساوي الأربع= جاز. فطردُ قياسكم هذا: أنه لو وجب عليه عشرة أَقْفِزةِ بُرٍّ، فأخرج خمسةً من بُرٍّ مرتفع تُساوي قيمة العشرة التي هي عليه= جاز. وطردُه: لو وجب عليه خمسةُ أبعرةٍ، فأخرج بعيرًا يساوي قيمة الخمسة= أنه يجوز. ولو وجب عليه صاعٌ في الفطرة، فأخرج ربعَ صاع يساوي الصاع الذي لو أخرجه لتأدَّى به الواجب= أنه يجوز. فإن طردتم هذا القياس، فلا يخفى ما فيه من تغيير المقادير الشرعية والعدول عنها، ولزمكم طردُه في أن من وجب عليه عتقُ رقبة، فأعتق عُشْرَ رقبةٍ تساوي قيمةَ رقبةٍ غيرها= جاز؛ ومَن نذر الصدقة بمائة شاةٍ، فتصدَّق بعشرين تساوي قيمة المائة= جاز.
ثم ناقضتم، فقلتم: لو وجب عليه أضحيتان، فذبح واحدًا سمينًا يُساوي وسطين= لم يجز. ثم فرَّقتم بأن قلتم: المقصود في الأضحية: الذبح وإراقة الدم، وإراقة دم واحد لا تقوم مقامَ إراقة دمَين. والمقصود [180/أ] في الزكاة: سدُّ خَلَّةِ الفقير وهو يحصل بالأجود الأقل، كما يحصل بالأكثر إذا كان دونه.
(1)
في النسخ المطبوعة: «في موضع» .
(2)
ع: «وجبت» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «وجب» .
وهذا فرقٌ إن صحَّ لكم في الأضحية لم يصحَّ لكم فيما ذكرناه من الصور، فكيف ولا يصحُّ
(1)
؟ فإن المقصود في الزكاة أمور عديدة. منها: سدُّ خَلَّة الفقير. ومنها: إقامة عبودية الله بفعل نفسِ ما أمَر به. ومنها: شكرُ نعمته عليه في المال. ومنها: إحراز المال وحفظه بإخراج هذا المقدار منه. ومنها: المواساة بهذا المقدار، لما علِم الله فيه من مصلحة ربِّ المال ومصلحة الآخذ. ومنها: التعبُّد بالوقوف عند حدود الله وأن لا ينقص منها ولا يغيَّر. وهذه المقاصد إن لم تكن أعظم من مقصود إراقة الدم في الأضحية، فليست بدونه، فكيف يجوز إلغاؤها واعتبارُ مجرَّدِ إراقة الدم؟
ثم إن هذا الفرق ينعكس عليكم من وجه آخر، وهو أن مقصود الشارع من إراقة دم الهدي والأضحية: التقرُّب إلى الله سبحانه بأجلِّ ما يقدر عليه من ذلك النوع وأعلاه وأغلاه ثمنًا وأنفَسه عند أهله. فإنه لن يناله سبحانه لحومها ولا دماؤها، وإنما يناله تقوى العبد منه، ومحبته له، وإيثاره بالتقرب إليه بأحبِّ شيء إلى العبد وآثَرِه عنده وأنفَسِه لديه، كما يتقرب المحبُّ إلى محبوبه بأنفَسِ ما يقدر عليه وأفضلِه عنده. ولهذا فطر الله العباد على أن من تقرَّب إلى محبوبه بأفضلِ هديةٍ يقدر عليها وأجلِّها وأعلاها كان أحظى لديه وأحبَّ إليه ممن تقرَّب إليه بألفِ واحدٍ رديءٍ [180/ب] من ذلك النوع.
وقد نبَّه سبحانه على هذا بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].
(1)
بعده زيادة في النسخ المطبوعة: «في الأضحية» .
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]، وقال:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8].
وسئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب، فقال:«أغلاها ثمنًا، وأنفَسُها عند أهلها»
(1)
. ونذر عمر أن ينحر نجيبةً فأُعطِي بها نجيبَين
(2)
، فسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذهما بها وينحرهما
(3)
، فقال:«لا، بل انحَرْها إياها»
(4)
. فاعتُبِر في الأضحية عينُ المنذور، دون ما يقوم مقامه وإن كان أكثر منه، فلَأن يُعتبرَ في الزكاة نفسُ الواجب، دون ما يقوم مقامه ولو كان أكثر منه
(5)
= أولى وأحرى.
(1)
أخرجه البخاري (2518) من حديث أبي ذر.
(2)
ع: «بُخْتِيَّة
…
بختيين». وفي س: «نجيبة
…
نجيبتين»، وكذا في النسخ المطبوعة. وباللفظين جاءت الرواية.
(3)
سياق الحديث في «سنن أبي داود» : «أهدى عمر بن الخطاب بُخْتيًّا، فأعطيَ بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أهديت بختيًّا، فأُعطيت بها ثلاثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بُدْنًا؟ قال: لا، انحرها إياها» . وكذا في «المسند» وغيره. ولم أقف على سياق المؤلف.
(4)
رواه أحمد (6325)، وأبو داود (1756) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. وفي سنده جهم بن الجارود مجهول، أغرب بروايته هذا الحديث عن سالم بن عبد الله بن عمر دون جِلَّةِ أصحابِ سالمٍ كالزهري، على أنه لا يُعْرَفُ له سماع من سالم، كما قال البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 230). أما ابن خزيمة فصححه (2911)، وكذلك الضياء المقدسي (1/ 315). ويُنظر:«بيان الوهم والإيهام» (3/ 58)، و «البدر المنير» (9/ 318 - 319).
(5)
ت: «منه كان
…
».
وطردُ قياسكم: أنه لو وجب عليه أربع شياه جياد، فأخرج عشرةً من أردأ الشياه وأهزلها وقيمتُهن قيمة الأربع؛ أو وجب عليه أربعُ حِقاقٍ
(1)
جيادٍ، فأخرج عشرين ابنَ لبونٍ
(2)
من أردأ الإبل وأهزلها= أنه يجوز. فإن منعتم ذلك نقضتم القياس، وإن طردتموه تيمَّمتم الخبيث منه تنفقون، وسلَّطتم ربَّ المال على إخراج رديئه ومعايبه عن جيده، والمرجعُ في التقويم إلى اجتهاده. وفي هذا من مخالفة الكتاب والميزان ما فيه.
وفرَّقتم بين ما جمع الشارع بينه، وجمعتم بين [181/أ] ما فرَّق بينه. أما الأول فقلتم: يصح صومُ رمضان بنيَّة من النهار قبل الزوال، ولا يصح صوم الظهار وكفارة الوطء في رمضان وكفارة القتل إلا بنيَّةٍ من الليل. وفرَّقتم بينهما بأن صوم رمضان لمَّا كان معيَّنًا بالشرع أجزأ بنيّةٍ من النهار، بخلاف صوم الكفارة. وبنيتم على ذلك أنه لو قال:«لله عليَّ صومُ يوم» ، فصامه بنيةٍ قبل الزوال= لم يجزئه. ولو قال:«لله عليَّ أن أصوم غدًا» ، فصامه بنيّة قبل الزوال= جاز. وهذا تفريقٌ بين ما جمع الشارع بينه من صوم الفرض، وأخبر أنه لا صيام لمن لم يبيِّته من الليل
(3)
.
(1)
جمع الحِقِّ والحِقَّة من الإبل، وهو ما طعن في السنة الرابعة.
(2)
ابن لبون: ولد الناقة إذا دخل في السنة الثالثة.
(3)
رواه أحمد (26457)، وأبو داود (2454)، والترمذي (730)، وابن ماجه (1700)، والنسائي (2331 - 2334) من حديث حفصة رضي الله عنها مرفوعًا. ورواه النسائي (2335 - 2341) عنها موقوفًا، ورواه (2342، 2343) عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا. وقد صححه ابن خزيمة (1933) وغيرُ واحدٍ من الحفاظ. لكن رجّح البخاري والترمذي وأكثر الأئمّة النقّاد وقفَ الحديثِ على حفصةَ. ويُنظر: «التاريخ الأوسط» للبخاري (2/ 786 - 794)، و «العلل الكبير» للترمذي (202)، و «السنن الكبرى» للنسائي (عقب الحديث 2661)، و «العلل» لابن أبي حاتم (654)، و «العلل» للدارقطني (13/ 134، 15/ 193 - 194)، و «تنقيح التحقيق» (3/ 177 - 184)، و «إرواء الغليل» (914).
وهذا في صوم الفرض. وأما النفل فصحَّ عنه أنه كان ينشئه بنية من النهار، فسوَّيتم بينهما في إجزائهما بنية من النهار، وقد فرَّق الشارع بينهما. وفرَّقتم بين بعض الصوم المفروض وبعض في اعتبار النية من الليل، وقد سوَّى الشارع بينهما.
والفرق بالتعيين وعدمه عديم التأثير، فإنه وإن تعيَّن لم يصِرْ عبادةً إلا بالنية. ولهذا لو أمسك عن الأكل والشرب من غير نية لم يكن صائمًا. فإذا لم تقارن النية جميع أجزاء اليوم فقد خرج بعضه عن أن يكون عبادة، فلم يؤدِّ ما أُمِر به، وتعيينه لا يزيد وجوبه إلا تأكيدًا واقتضاءً. فلو قيل: إن المعيَّن أولى بوجوب النية من الليل من غير المعيَّن لكان أصحَّ في القياس.
والقياس الصحيح هو الذي جاءت به السنة من الفرق بين الفرض والنفل. فلا يصح الفرض إلا بنية من الليل، والنفل يصح بنية من النهار، لأنه يسامَح
(1)
فيه ما لا يسامَح في [181/ب] الفرض، كما يجوز أن يصلي النفل قاعدًا وراكبًا على دابته إلى القبلة وغيرها، وفي ذلك تكثير النفل وتيسير الدخول فيه. والرجل لما كان مخيَّرًا بين الدخول فيه وعدمه، ويخيَّر بين الخروج منه وإتمامه= خُيِّر بين التبييت والنية من النهار. فهذا محض القياس وموجب السنة. ولله الحمد.
وفرَّقتم بين ما جمع الله بينهما من جماع الصائم والمعتكف، فقلتم: لو
(1)
في النسخ المطبوعة: «يتسامح» هنا وفيما بعد.
جامع في الصوم ناسيًا لم يفسد صومه، ولو جامع المعتكف ناسيًا فسد اعتكافه
(1)
. وفرَّقتم بينهما بأن الجماع من محظورات الاعتكاف، ولهذا لا يباح ليلًا ولا نهارًا، وليس من محظورات الصوم لأنه يباح ليلًا.
وهذا فرق فاسد جدًّا، لأن الليل ليس محلًّا للصوم، فلم يحرَّم فيه الجماع، وهو محلٌّ للاعتكاف فحرِّم فيه الجماع. فنهار الصائم كليل المعتكف في ذلك، ولا فرق بينهما، والجماع محظور في الوقتين؛ ووِزانُ ليل الصائم اليومُ الذي يخرج فيه المعتكف من اعتكافه. فهذا هو القياس المحض، والجمعُ بين ما جمع الله بينه، والتفريق بين ما فرَّق الله بينه. وبالله التوفيق.
وقلتم: لو دخل عرفةَ في طلب بعير له أو حاجة، ولم ينوِ الوقوفَ= أجزأه عن الوقوف. ولو دار حول البيت في طلب شيء سقط منه، ولم ينو الطواف= لم يجزئه. وهذا خروج عن محض القياس.
وفرَّقتم بفرقٍ فاسدٍ
(2)
، فقلتم: المقصود الحصول
(3)
بعرفة في هذا الوقت [182/أ] وقد حصل؛ بخلاف الطواف، فإن المقصود العبادة ولا تحصل إلا بالنية. فيقال: والمقصود بعرفة العبادة أيضًا، فكلاهما ركن مأمور به، ولم ينوِ المكلَّف امتثالَ الأمر لا في هذا ولا في هذا، فما الذي صحَّح هذا وأبطل هذا؟
(1)
ما عدا ع: «صومه» ، وهو خطأ.
(2)
في النسخ المطبوعة: «تفريقًا فاسدًا» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «الحضور» .
ولما تنبَّه بعض القيَّاسين
(1)
لفساد هذا الفرق عدل إلى فرق آخر، فقال: الوقوف ركن يقع في نفس الإحرام، فنية الحج تشتمل
(2)
عليه، فلا يفتقر إلى تجديد نية، كأجزاء الصلاة من الركوع والسجود تنسحب عليها نية الصلاة. وأما الطواف فيقع خارج العبادة
(3)
، فلا تشتمل عليه نية الإحرام، فافتقر إلى النية.
ونحن نقول لأصحاب هذا الفرق: رُدُّونا إلى الأول، فإنه أقلُّ فسادًا وتناقضًا من هذا. فإن الطواف والوقوف كلاهما جزء من أجزاء العبادة، فكيف تضمَّنت نيّةُ العبادة
(4)
لهذا الركن دون هذا؟ وأيضًا فإن طواف المعتمر يقع في الإحرام. وأيضًا فطواف الزيارة يقع في بقية الإحرام، فإنه إنما حلَّ من إحرامه قبله تحلُّلًا أولَ ناقصًا، والتحلُّل الكامل موقوف على الطواف.
وفرَّقتم بين ما جمعت السنة والقياس بينهما، فقلتم: إذا أحرم الصبيُّ، ثم بلَغ، فجدَّد إحرامه قبل أن يقف بعرفة= أجزأه عن حجة الإسلام. وإذا أحرم العبد، ثم عتَق، فجدَّد إحرامه= لم يجزئه عن حجة الإسلام. والسنة قد سوَّت بينهما، وكذا القياس، فإنَّ إحرامهما قبل العتق والبلوغ
(5)
صحيح،
(1)
في النسخ المطبوعة: «القياسيين» كالعادة.
(2)
ع: «مشتملة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ع: «الإحرام» .
(4)
ع: «تضمنت جزءًا من أجزاء العبادة» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
ع: «البلوغ والعتق» . وكذا في النسخ المطبوعة.
وهو سبب للثواب. وقد صارا
(1)
من أهل وجوب الحج قبل الوقوف بعرفة، فأجزأهما عن حجة الإسلام، كما لو لم يوجد منهما إحرام [182/ب] قبل ذلك. فإنَّ غاية ما وُجد منهما من الإحرام أن يكون وجوده كعدمه، فوجودُ الإحرام السابق على العتق لم يضرَّه شيئًا بحيث يكون عدمه أنفع له من وجوده. وتفريقُكم بأن إحرام الصبيِّ إحرامُ تخلُّق وعادة، وبالبلوغ انعدم ذلك، فصح منه الإحرام عن حجة الإسلام؛ وأما العبد فإحرامه إحرام عبادة، لأنه مكلَّف، فصح إحرامه موجِبًا فلا يتأتَّى له الخروج منه حتى يأتي بموجَبه= فرقٌ فاسد، فإن الصبي يثاب
(2)
على إحرامه بالنص، وإحرامه إحرام عبادة ــ وإن كانت لا تسقط الفرض ــ كإحرام العبد سواء.
وفرَّقتم بين ما جمع القياس الصحيح بينه، فقلتم: لو قال: «أحِجُّوا فلانًا حجّةً» ، فله أن يأخذ النفقة ويأكل بها ويشرب، ولا يحُجَّ. ولو قال:«أحِجُّوه عنِّي» ، لم يكن له أن يأخذ النفقة إلا بشرط الحج. وفرَّقتم بأن في المسألة الأولى أخرج كلامه مخرجَ الإيصاء بالنفقة له، وكأنه أشار عليه بالحج، ولا حقَّ للمُوصي في الحج الذي يأتي به. فصحَّحنا الوصية بالمال، ولم نُلزِم
(3)
الموصَى له بما لا حقَّ للموصي فيه. وأما في المسألة الثانية فإنما قصد أن يعود نفعه إليه بثواب النفقة في الحج، فإن لم يحصل له غرضه لم تنفذ الوصية. وهذا الفرقُ نفسه هو المبطِل للفرق بين المسألتين، فإنه بتعيين
(4)
(1)
ما عدا ع: «صار» ، وفي ع:«صارا» مع علامة الضرب على الألف.
(2)
ع: «مثاب» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
يحتمل قراءة «يُلزَم» .
(4)
س، ت:«بتعين» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
الحج قطع ما توهَّمتموه
(1)
من دفع المال إليه يفعل به ما يريد، وإنما قصد إعانته على طاعة الله ليكون شريكًا له في الثواب، ذاك بالبدن وهذا بالمال. [183/أ] ولهذا عيَّن الحجَّ مصرفًا للوصية، فلا يجوز إلغاء ذلك، وتمكينه من المال يصرفه في ملاذِّه وشهواته. وهذا
(2)
من أفسد القياس. وهو
(3)
لو قال: «أعطُوا فلانًا ألفًا يبني
(4)
بها مسجدًا أو سِقايةً أو قنطرةً» لم يجُز أن يأخذ الألف ولا يفعل ما أُوصي به، كذلك الحج سواء.
وفرَّقتم بين ما جمع محضُ القياس بينهما، فقلتم: إذا اشترى عبدًا ثم قال له: «أنت حرٌّ أمسِ» عتَق عليه. ولو تزوَّجها ثم قال لها: «أنتِ طالقٌ أمسِ» لم تطلق. وفرَّقتم بأن العبد لما كان حرًّا أمسِ اقتضى تحريمَ شرائه واسترقاقه اليوم، وأما الطلاق فكونُها مطلَّقةً أمسِ لا يقتضي تحريم نكاحها اليوم. وهذا فرق صوري لا تأثير له البتة، فإن الحكم إن جاز تقدُّمه
(5)
على سببه وقع العتق والطلاق في الصورتين، وإن امتنع تقدُّمه
(6)
على سببه لم يقع واحد منهما؛ فما بال أحدهما وقع دون الآخر؟
فإن قيل: نحن لم نفرِّق بينهما في الإنشاء، وإنما فرَّقنا بينهما في الإقرار والإخبار. فإذا أقرَّ بأن العبد حُرّ بالأمس فقد بطل أن يكون عبدًا اليوم، فعتَق
(1)
س: «توهمتوه» ! وفي ع: «توهموه» ، وكذا في المطبوع.
(2)
الواو قبل «هذا» من ح، ف.
(3)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «كما» .
(4)
ع: «ليبني» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
ت: «تقديمه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
زيد بعده في النسخ المطبوعة: «في الموضعين» .
باعترافه. وإذا أقرَّ بأنها طالق أمسِ لم يلزم بطلان النكاح اليوم، لجواز أن يكون المطلِّق الأول قد طلَّقها أمسِ قبل الدخول، فتزوَّج هو بها اليوم.
قلنا: إذا كانت المسألة على هذا الوجه، فلا بدَّ أن يقول:«أنت طالق أمسِ من غيري» ، أو ينوي ذاك، فينفعَه حيث يُديَّن
(1)
. فأما إذا أطلق فلا فرق بين العتق والطلاق.
فإن قيل: يمكن أن يطلِّقها بالأمس، ثم يتزوجها اليوم.
قيل: هذا يمكن في الطلاق الذي لم يُسْتَوفَ إذا كان مقصوده الإخبار، فأما إذا قال:«أنتِ طالق أمسِ ثلاثًا» ولم يقل: «من زوجٍ كان قبلي» ، ولا نواه= فلا فرق أصلًا بين ذلك [183/ب] وبين قوله للعبد:«أنت حُرٌّ أمس» . فهذا التفصيل هو محض القياس، وبالله التوفيق.
وجمعتم بين ما فرَّقت السنة بينهما، فقلتم: يجب على البائن الإحداد، كما يجب على المتوفَّى عنها، والإحداد لم يكن
(2)
لأجل العِدَّة، وإنما كان لأجل موت الزوج. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نفى وأثبت، وخصَّ الإحداد بالمتوفَّى عنها
(3)
. وقد فارقت المبتوتةَ في وصف العدَّة، وقدرها، وسببها. فإنَّ سببها الموت، وإن لم يكن الزوج دخل بها. وسبب عدَّة البائن الفراق وإن كان
(1)
من ديَّنَ الحالفَ، أي نوَّاه فيما حلف. وديَّن الرجلَ في القضاء وفيما بينه وبين الله: صدَّقه. انظر: «التاج» (35/ 60).
(2)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «من ذلك» .
(3)
ع: «عنها زوجها» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وانظر في إحداد المتوفى عنها زوجها حديث أم حبيبة، أخرجه البخاري (1280) ومسلم (1486).
الزوج حيًّا. ثم فرَّقتم بين ما جمعت السنة بينهما، فقلتم: إن كانت الزوجة ذميَّة أو غير بالغة فلا إحداد عليها. والسنة تقتضي التسوية، كما يقتضيه القياس.
وفرَّقتم بين ما جمع القياسُ المحضُ بينهما، فقلتم: لو ذبح المُحرِم صيدًا فهو ميتة لا يحِلُّ أكلُه، ولو ذبح الحلالُ صيدًا حَرَميًّا فليس بميتة، وأكلُه حلال. وفرَّقتم بأن المانع في ذبح المُحرِم فيه، فهو كذبح المجوسي والوثني، فالذابح غير أهل. وفي المسألة الثانية: الذابح أهل، والمذبوح محلٌّ للذبح إذا كان
(1)
، وإنما منع منه حرمة المكان. ألا ترى أنه لو خرج من الحرم حلَّ ذبحه؟ وهذا مِن أفسَدِ فرقٍ. وهو باقتضاء عكسِ الحكم أولى، فإن المانع في الصيد الحرمي في نفس المذبوح، فهو كذبح ما لا يؤكل؛ والمانع في ذبح المُحرِم في الفاعل، فهو كذبح الغاصب.
وقلتم: لو أرسل كلبه على صيد في الحِلِّ، فطرده حتى أدخله الحرم، فأصابه= لم يضمنه. ولو أرسل سهمه على صيد في الحِلِّ، فأطارته [184/أ] الريح حتى قتل صيدًا في الحرم= ضَمِنه؛ وكلاهما تولَّد القتل فيه عن فعله. وفرَّقتم بأن الرمي حصل بمباشرته وقوته التي أمدَّت السهمَ فهو محضُ فعله، بخلاف مسألة الكلب فإن الصيد فيه يضاف إلى فعل الكلب. وهذا الفرق لا يصح، فإنَّ إرسال السهم والكلب كلاهما من فعله، والذي
(2)
تولَّد منهما تولَّد عن فعله، وجريانُ السهم وعَدْوُ الكلب
(3)
كلاهما هو السبب
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «حلالًا» .
(2)
ع: «فالذي» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
«كلاهما
…
الكلب» ساقط من ت لانتقال النظر.
فيه. وكونُ الكلب له اختيار والسهمُ لا اختيار له= فرقٌ لا تأثير له، إذ كان اختيار الكلب بسبب إرسال صاحبه
(1)
.
وقلتم: لو رهن أرضًا مزروعة أو شجرًا مثمرًا
(2)
دخل الزرع والثمرة
(3)
في الرهن، ولو باعهما
(4)
لم يدخل الزرع والثمرة في البيع. وفرَّقتم بينهما بأن الرهن متصل بغيره، واتصال الرهن بغيره يمنع صحته الإشاعة
(5)
، فلو لم يدخل فيه الزرع والثمرة لبطل؛ بخلاف البيع
(6)
، فإن اتصاله بغيره لا يبطله، إذ الإشاعة لا تنافيه. وهذا قياس في غاية الضعف، لأن الاتصال هنا اتصالُ مجاورة، لا إشاعة، فهو كرهن زيتٍ في ظروفه، وقماشٍ في أعداله
(7)
، ونحوه.
وقلتم: لو أُكرِه على هبة جاريته لرجلٍ، فوهبها له [و] ملَّكَها
(8)
، فأعتقها الموهوب له= نفذ عتقه. ولو باعها لم يصح بيعه. وهذا خروج عن محض
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «له» .
(2)
ت: «مثمرة» .
(3)
ع: «الثمر» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
ح، ف:«باعها» .
(5)
في المطبوع: «صحته للإشاعة» . وفي الطبعات السابقة: «صحة الإشاعة» وكذا في ف، ولكنه خطأ في القراءة.
(6)
س، ت:«المبيع» ، وهو تصحيف. وكذا في النسخ المطبوعة.
(7)
جمع العِدْل، وهو نصف الحِمل يكون على أحد جنبي البعير.
(8)
كذا في النسخ دون ضبط، فزدت الواو لإقامة السياق. وفي النسخ المطبوعة:«مالكها» .
القياس. وتفريقكم بأن هذا عتقٌ صدر عن إكراه، والإكراه لا يمنع صحة العتق؛ وذاك بيعٌ صدر عن إكراه، والإكراه يمنع صحة البيع= لا يصح، لأنه إنما أُكرِه على التمليك، ولم يكن للمُكرَه غرض في [184/ب] الإعتاق، والتمليك لم يصح، والعتق لم يُكرَه عليه، فلا ينفذ كالبيع سواء.
هذا مع أنكم تركتم القياس في مسألة الإكراه على البيع والعتق، فصحَّحتم العتق دون البيع. وفرَّقتم بأن العتق لا يدخله خيار، فصحَّ مع الإكراه كالطلاق؛ والبيع يدخله الخيار، فلم يصحَّ مع الإكراه. وهذا فرقٌ لا تأثير له. وهو فاسد في نفسه، فإن الإقرار والشهادة والإسلام لا يدخلها خيار، ولا تصح مع الإكراه. وإنما امتنعت عقود المكرَه
(1)
من النفوذ، لعدم الرضى الذي هو مصحِّح العقد، وهذا
(2)
أمر تستوي فيه عقوده كلُّها: معاوضتها
(3)
وتبرعاتها، وعتقه وطلاقه وخلعه وإقراره. وهذا هو محض القياس والميزان، فإن المكرَه محمول على ما أُكرِه عليه غيرُ مختار له، فأقواله بمنزلة
(4)
أقوال النائم والناسي، فاعتبار بعضها وإلغاء بعضها خروج عن محض القياس. وبالله التوفيق.
وقلتم: لو وقع في الغدير العظيم ــ الذي إذا حُرِّك أحدُ طرفيه تحرَّك الآخرُ
(5)
ــ قطرةُ دم أو خمر أو بول آدمي نجَّسه كلَّه. وإذا وقع في آبار
(1)
ح: «الكره» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «وهو» .
(3)
في المطبوع: «معاوضاتها» .
(4)
«بمنزلة» ساقط من ع، ومن هنا جاء ــ فيما يبدو ــ في النسخ المطبوعة:«كأقوال» .
(5)
في المطبوع: «إذا حُرِّك
…
» وفي الطبعات السابقة: «إذا تحرَّك
…
لم يتحرك الطرف الآخر». والصواب ما أثبت من النسخ.
الفلوات والأمصار البعرُ والرَّوث والأخباثُ لا تنجِّسها ما لم يأخذ وجه ربع الماء أو ثلثه، وقيل: أن لا يخلو دلوٌ عن شيء منه. ومعلوم أن ذلك الماء أقرب إلى الطيب والطهارة حسًّا وشرعًا من هذا.
ومن العجب أنكم نجَّستم الأدهان والألبان والخَلَّ والمائعات بأسرها بالقطرة من البول والدم، وعفوتم عما دون ربع الثوب من النجاسة المخففة، وعما دون قدر الكف من المغلَّظة. وقستم العفو عن رُبع الثوب على وجوب [185/أ] مسح ربُع الرأس ووجوب حَلْق رُبعه في الإحرام، وأين مسحُ الرأس من غسل النجاسة؟ ولم تقيسوا الماء والمائع على الثوب، مع عدم ظهور أثر النجاسة فيهما البتة، وظهور عينها ورائحتها في الثوب، ولا سيما عند محمَّد
(1)
حيث يعفو عن قدر ذراع في ذراع، وعند أبي يوسف عن قدر شبر في شبر. وبكلِّ حال، فالعفوُ عما هو دون ذلك بكثير، مما لا نسبة له إليه، في الماء والمائع الذي لا يظهر أثرُ النجاسة فيه بوجه، بل يُحيلها ويُذهِب عينهَا وأثرَها= أولى وأحرى.
وجمعتم بين ما فرَّق الشرعُ والحسُّ بينهما، فقستم المنيَّ الذي هو أصل الآدميين على البول والعَذِرة. وفرَّقتم بين ما جمع الشرع والحسّ بينهما، ففرَّقتم بين بعض الأشربة المسكرة وغيرها مع استوائهما
(2)
في الإسكار، فجعلتم بعضها نجسًا كالبول، وبعضَها طاهرًا طيِّبًا كاللبن والماء.
وقلتم: لو وقع في البئر نجاسة تنجَّس ماؤها وطينها. فإن نُزِح منها دلو
(1)
يعني الشيباني صاحب أبي حنيفة، وذكر بعده القاضي أبا يوسف.
(2)
س، ت:«استوائها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
فتَرَشْرش
(1)
على حيطانها تنجَّست حيطانها، وكلما نُزِح منها شيء نبع مكانَه شيءٌ، فصادف ماءً نجسًا وطينًا نجسًا. فإذا وجب نزحُ أربعين دلوًا مثلًا، فنُزِح تسعة وثلاثون= كان المنزوح والباقي كلُّه نجسًا، والحيطانُ التي أصابها الماء، والطينُ الذي في قرار البئر؛ حتَّى إذا نُزح الدلو الأربعون قَشْقَش
(2)
النجاسةَ كلَّها، فطهَّر الطينَ والماءَ وحيطانَ البئر، وطهَّر نفسَه، فما رُئي أكرَمُ من هذا الدلو ولا أعقَل ولا أخْيَر!
(3)
.
فصل
وقالت الحنابلة والشافعية
(4)
: [185/ب] لو تزوَّجها على أن يحجَّ بها لم تصحَّ التسمية، ووجب مهرُ المثل. وقاسوا هذه التسمية على ما إذا تزوَّجها على شيء لا يُدرى ما هو. ثم قالت الشافعية: لو تزوَّج الكتابية على أن يعلِّمها القرآنَ جاز. وقاسوه على جواز إسماعها إياه، فقاسوا أبعد قياس، وتركوا محض القياس، فإنهم صرَّحوا بأنه لو استأجرها ليحملها إلى الحج جاز، ونزلت الإجارة على العُرف؟ فكيف صحَّ أن يكون موردًا لعقد
(1)
يعني: فتطاير الماء. وفي س، ع:«فرشرش» ، وكذا في المطبوع.
(2)
كذا جاءت هذه الكلمة في النسخ، وستأتي مرتين أخريين في سياق المسألة نفسها في هذا الكتاب، وكذلك في «بدائع الفوائد» (3/ 1059). ويظهر من السياق أنها بمعنى أزَال، أما معناها في كتب اللغة، فيقال: تقشقش من مرضه: تهيأ للبرء أو برأ. وقشقش الهناءُ الجَرَبَ: هيأه للبرء.
(3)
في «بدائع الفوائد» : «قال الجاحظ: ما يكون أكرم أو أعقل من هذا الدلو!» . وانظر نسبة هذا القول إلى الجاحظ في «الحاوي الكبير» للماوردي (1/ 338) و «الانتصار» لأبي الخطاب (1/ 534) و «عارضة الأحوذي» (1/ 86).
(4)
ع: «وقالوا» !
الإجارة
(1)
، ولم يصح
(2)
أن يكون صداقًا؟
ثم ناقضتم أبينَ مناقضة، فقلتم: لو تزوجها على أن يرُدَّ عبدَها الآبقَ من مكان كذا وكذا صحَّ، مع أنه قد يقدر على ردِّه، وقد يعجز عنه. فالغَرر الذي في هذا الأمر أعظم من الغَرر الذي في حملها إلى الحج بكثير. وقلتم: لو تزوجها على أن يعلِّمها القرآنَ أو بعضَه صحَّ، وقد تقبل التعليم، وقد لا تقبله. وقد يطاوعها لسانها، وقد يأبى عليها.
وقلتم: لو تزوَّجها على مهر المثل صحَّت التسمية مع إخلافه
(3)
، لامتناعِ من يساويها من كلِّ وجه أو لعزَّته
(4)
. وإن اتفق من يساويها في النسب فنادرٌ جدًّا من يساويها في الصفات والأحوال التي يقلُّ المهر ويكثُر بسببها
(5)
. فالجهالة التي في حجِّه بها دون هذا بكثير.
وقلتم: لو تزوجها على عبد مطلق صحَّ، ولها الوسط. ومعلوم أن في الوسط من التفاوت ما فيه.
وقلتم: لو تزوجها على أن يشتري لها عبدَ زيدٍ صحَّت التسمية، مع أنه غرر ظاهر، إذ تسليم المهر موقوف على أمر غير مقدور له، وهو رِضَى زيد ببيعه. ففيه من الخطر ما في ردِّ عبدها [186/أ] الآبق، وكلاهما أعظم خطرًا
(1)
في النسخ المطبوعة: «مورد العقد الإجارة» . وقد ضبط «موردًا» في النسخ ــ ما عدا س ــ بتنوين الفتحة.
(2)
ع: «ولا يصح» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ع: «اختلافه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
ع: «القرابة» ، وفي النسخ المطبوعة:«لقربه» ، وكلاهما تصحيف.
(5)
في النسخ المطبوعة: «المهر بسببها ويكثر» .
من الحجِّ بها.
وقلتم: لو تزوجها على أن يرعى غنمها مدةً صحَّ، وليس جهالة حُملانها إلى الحج بأعظم من جهالة أوقات الرعي ومكانه؛ على أن هذه المسألة بعيدة من أصول أحمد ونصوصه، ولا تُعرف منصوصةً عنه، بل نصوصه على خلافها. قال في رواية مُهنّا
(1)
فيمن تزوج على عبد من عبيده: جاز. وإن كانوا عشرةَ عبيد يعطي من أوسطهم. فإن تشاحَّا أقرَعَ بينهما. قلتُ: وتستقيم القرعة في هذا؟ قال: نعم.
وقلتم: لو خالعها على كفالة ولدها عشرَ سنين صحَّ، وإن لم يذكر قدر الطعام والإدام والكسوة. فيا لله العجب! أين جهالة هذا من جهالة حُملانها إلى الحج؟
فصل
وقالت الشافعية: له أن يجبر ابنته البالغَ
(2)
المعنِّسةَ
(3)
العالمةَ بدين الله، التي تفتي في الحلال والحرام، على نكاحها بمن هي أكره الناس فيه
(4)
،
(1)
نقلها القاضي في «الروايتين والوجهين» (2/ 128 - المسائل الفقهية) وابن قدامة في «المغني» (10/ 114).
(2)
ع: «البالغة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «المفتية» ، تصحيف.
(4)
كذا في النسخ الخطية، وفي الفقرة التالية، وفي «زاد المعاد» (1/ 234). وفي النسخ المطبوعة هنا:«له» ، وقد يكون تغييرًا من بعض الناشرين، فإنه لا يقال: كره فلان في الشيء. ولعل المصنف أجراه مجرى «زهد فلان في الشيء» لاتحاد المعنى، وسيأتي مرة أخرى.
وأشدُّ شيءٍ
(1)
عنه نفرةً بغير رضاها، حتَّى لو عيَّنت كفؤًا شابًّا جميلًا دَيِّنًا تحبُّه، وعيَّن كفؤًا شيخًا مشوَّهًا دميمًا= كان العِبرة بتعيينه دونها. فتركوا محض القياس، والمصلحة، ومقصود النكاح من الود والرحمة وحسن المعاشرة.
وقالوا: لو أراد أن يبيع لها حَبْلًا أو عُودَ أَراكٍ
(2)
من مالها لم يصح إلا برضاها. وله أن يُرِقَّها مدةَ العمر عند من هي أكره شيءٍ فيه بغير رضاها.
قالوا: وكما خرجتم عن محض القياس، خرجتم عن صريح السنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيَّر جاريةً بكرًا زوَّجها أبوها وهي كارهة
(3)
، وخيَّر أخرى ثيِّبًا
(4)
.
[186/ب] ومن العجب أنكم قلتم: لو تصرَّف في حبل من مالها على غير وجه الحظِّ لها كان مردودًا، حتى إذا تصرف في بُضْعها على خلاف حظِّها كان لازمًا. ثم قلتم: هو أخبَرُ بحظِّها منها. وهذا يردُّه الحِسُّ، فإنها أعلم بميلها ونفرتها وحظِّها ممن تحب أن تعاشره وتكره عشرته.
(1)
ع: «أشد الناس» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وسيأتي:«هي أكره شيء فيه» .
(2)
ت: «عودًا زال» ، تصحيف طريف.
(3)
رواه أحمد (2469)، وأبو داود (2096)، وابن ماجه (1875)، والنسائي في «السنن الكبرى» (5366، 5368) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. ورجّح أبو داود (2097) وغيرُ واحد من النقّاد أنه من مراسيل عكرمة. ويُنظر: «المراسيل» لأبي داود (223، 224 ط. الصميعي)، و «السنن» لابن ماجه (1874)، و «المجتبى» للنسائي (3269)، و «السنن الكبرى» له (5369)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1255)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 305 - 306).
(4)
يشير إلى حديث خنساء بنت خِذام الأنصارية، أخرجه البخاري (5138).
وتعلَّقتم بما رواه مسلم
(1)
من حديث ابن عباس يرفعه: «الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليها، والبكر تُستأذَن في نفسها، وإذنُها صُماتُها» ، وهو حجة عليكم. وتركتم ما في «الصحيحين»
(2)
من حديث أبي هريرة يرفعه: «لا تُنكَح الأيِّمُ حتّى تُستأمَر، ولا البكرُ حتَّى تُستأذن» . وفيهما
(3)
أيضًا من حديث عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، تُستأمَر النساءُ في أبضاعهن؟ قال:«نعم» . قلت: فإن البكر تُستأذَن، فتستحيي. قال:«إذنها صُماتها» . فنهى أن تُنكَح بدون استئذانها، وأمر بذلك، وأخبَر أنه هو شرعه وحكمه. فاتفق على ذلك أمرُه، ونهيُه، وخبرُه. وهو محض القياس والميزان.
فصل
وقالت الشافعية والحنابلة
(4)
والحنفية: لا يصحُّ بيعُ المقاثئ والمباطخ والباذنجان إلا لقطةً لقطةً
(5)
، ولم يجعلوا المعدوم تبعًا للموجود مع شدة الحاجة إلى ذلك، وجعلوا المعدومَ منزَّلًا منزلةَ الموجود في منافع الإجارة للحاجة إلى ذلك. وهذا مثلُه من كلِّ وجه، لأنه يستخلف كما تستخلف المنافع، وما يقدَّر من عروض الخطر له فهو مشترك بينه وبين المنافع. وقد جوَّزوا بيع الثمرة إذا بدا الصلاح في واحدة منها، ومعلوم [187/أ] أن بقية
(1)
برقم (1421).
(2)
البخاري (5136) ومسلم (1419).
(3)
البخاري (5137) ومسلم (1420).
(4)
س، ت، ع:«الحنابلة والشافعية» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
في النسخ المطبوعة: «لقطة» مرة واحدة.
الأجزاء معدومة، فجاز بيعها تبعًا للموجود. فإن فرَّقوا بأن هذه أجزاء متصلة، وتلك أعيان منفصلة، فهو فرق فاسد من وجهين: أحدهما: أن هذا لا تأثير له البتة.
الثاني: أن [من]
(1)
الثمرة التي بدا صلاحها ما يخرج أثمارًا
(2)
متعددةً كالتوت والتين، فهو كالبطيخ والباذنجان من كلِّ وجه. فالتفريق خروج عن القياس والمصلحة وإلزامٌ بما لا يُقدَر عليه إلا بأعظم كلفة ومشقة. وفيه مفسدة عظيمة يردُّها القياس، فإن اللقطة لا ضابط لها، فإنه يكون في المَقثأة الكبارُ والصغار وبين ذلك، فالمشتري يريد استقصاءها، والبائع يمنعه من أخذِ الصغار، فيقع بينهما [من]
(3)
التنازع والاختلاف والتشاحن ما لا تأتي به شريعة. فأين هذه المفسدة العظيمة ــ التي هي منشأ النزاع التي مَن تأمَّلَ مقاصدَ الشريعة علِمَ قصدَ الشارع لإبطالها وإعدامها ــ إلى المفسدة اليسيرة التي في جَعلِ ما لم يوجد تبعًا لما وُجِد، لما فيه من المصلحة؟ وقد اعتبرها الشارع، ولم يأتِ عنه حرف واحد أنه نهَى عن بيع المعدوم
(4)
. وإنما نهى عن بيع الغَرر
(5)
، والغرر شيء، وهذا شيء. ولا يسمَّى هذا البيع غررًا، لا لغةً ولا عرفًا ولا شرعًا.
(1)
ما بين الحاصرتين زيادة من النسخ المطبوعة.
(2)
في جميع النسخ الخطية: «أثمامًا» ، ولعله سبق قلم، والمثبت من النسخ المطبوعة.
(3)
ما بين الحاصرتين زيادة من النسخ المطبوعة.
(4)
سيأتي الكلام على بيع المعدوم، وانظر:«زاد المعاد» (5/ 716).
(5)
انظر في بيع الغرر: «زاد المعاد» (5/ 725).
فصل
وقالت الشافعية والحنفية والمالكية
(1)
: إذا شرطت الزوجة أن لا يُخرجها الزوجُ من بلدها أو دارها أو أن لا يتزوَّج عليها ولا يتسرَّى فهو شرط باطل. فتركوا محضَ القياس، بل قياسَ الأولى، فإنهم قالوا: لو شرطت في المهر تأجيلًا، أو غيرَ نقد [187/ب] البلد، أو زيادةً على مهر المثل= لزم الوفاءُ بالشرط. وأين
(2)
المقصود الذي لها في الشرط الأول إلى المقصود الذي في هذا الشرط؟ وأين فواته إلى فواته؟
وكذلك من قال منهم: لو شرط أن تكون جميلة شابة سوية، فبانت عجوزًا شمطاء قبيحة المنظر= أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه؛ حتى إذا فات درهم واحد من الصداق، فلها الفسخ بفواته قبل الدخول. فإن استوفى المعقود عليه، ودخل بها، وقضى وطره منها، ثم فات الصداق جميعه، ولم تظفر منه بحبة واحدة= فلا فسخ لها. وقستم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يؤويها
(3)
ولا ينفق عليها ولا يطأها ولا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك، مما هو من أفسد القياس الذي فرَّقت الشريعة بين ما هو أحقُّ بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به. فجمعتم
(4)
بين ما فرَّق الشرع والقياس
(5)
بينهما، وألحقتم
(1)
ع: «الحنفية والمالكية والشافعية» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ع: «فأين» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ح، ف:«يورثها» . والكلمة غير محررة في ت، د. والمثبت من س، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
ع: «وجمعتم» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
ع: «القياس والشرع» .
أحدهما بالآخر. وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوفاء بشروط النكاح التي
(1)
يستحلّ بها الزوجُ فرج امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق
(2)
، فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقَّها بعدم الوفاء!
وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح، وكشرط الصلاة في المكان الذي شرط فيه الصلاة، وإن كان وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين. وقد ألغى الشارعُ هذا الشرط في النذر الذي هو قربة محضة [188/أ] وطاعة، فلا تتعيَّن عنده بقعة عيَّنها الناذر للصلاة إلا المساجد الثلاثة، وقد شرط الناذرُ في نذره تعيينه، فألغاه الشارع لفضيلة غيره عليه أو مساواته له= فكيف يكون شرطُ الواقف الذي غيرُه أفضلُ منه وأحبُّ إلى الله ورسوله لازمًا يجب الوفاء به؟ وتعيين الصلاة في مكان معيَّن لم يرغب الشارع فيه ليس بقربة، وما ليس بقربة لا يجب الوفاء به في النذر، ولا يصح اشتراطه في الوقف.
فإن قلتم: الواقف لم يُخرج ماله إلا على وجه معيَّن، فلزم اتباع ما عيَّنه في الوقف
(3)
من ذلك الوجه، والناذرُ قصَد القربة، والقُرَبُ متساوية في المساجد غير الثلاثة، فتعيينُ
(4)
بعضِها لغو.
قيل: فهذا
(5)
الفرق بعينه يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة فيه من شروط
(1)
في النسخ الخطية: «الذي» ، وهو سهو.
(2)
كما في حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه البخاري (2721، 5151) ومسلم (1418).
(3)
«في الوقف» من ع.
(4)
في النسخ المطبوعة: «فتعين» .
(5)
ع: «هذا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
الواقفين، واعتبار ما فيه قربة. فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف التقرُّبُ إلى الله، فتقرُّبه بوقفه كتقرُّبه بنذره، فإن العاقل لا يبذل ماله إلا لما فيه مصلحة عاجلة أو آجلة. والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه مباحة كانت أو غيرها، وقد يبذله فيما يقرِّبه إلى الله. وأما بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه يقرِّبه
(1)
إلى الله. ولو قيل له: «إن هذا المصرف لا يقرِّب إلى الله» أو «إن غيرَه أفضلُ وأحبُّ إلى الله منه وأعظم أجرًا» لبادر إليه. ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: «إذا بذلتَ مالك في مقابلة هذا الشرط
(2)
حصل لك أجر واحد، وإن تركتَه حصل لك أجران»، فإنه يختار ما فيه الأجر الزائد. فكيف إذا قيل له:«إن [188/ب] هذا لا أجر فيه البتة» ؟ فكيف إذا قيل: «إنه مخالفٌ لمقصود الشارع، مضادٌّ له، يكرهه الله ورسوله» ؟
وهذا كشرط العزوبيَّة
(3)
مثلًا وتركِ النكاح، فإنه شرطٌ لترك واجبٍ أو سنّةٍ أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنة دون الصلاة والصوم، فكيف يلزم الوفاءُ بشرط تركِ الواجبات والسنن اتباعًا لشرط الواقف، وتركُ شرط الله ورسوله الذي قضاؤه أحقُّ وشرطه أوثق؟
يوضِّحه أنه لو شرَط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء كان
(1)
ع: «تقرب» . وفي النسخ المطبوعة: «يقرب» .
(2)
ع: «هذه الشروط» ، وكذا في المطبوع. والصواب ما أثبت من النسخ الأخرى، وكذا في الطبعات السابقة.
(3)
كذا وردت الكلمة في جميع النسخ، وستأتي مرة أخرى في هذا الكتاب. ولم تنص عليها كتب اللغة، وورودها عند ابن القيم يدل على أنها ليست من مولَّدات عهدنا هذا.
شرطًا باطلًا عند جمهور الفقهاء. قال أبو المعالي الجويني
(1)
: ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان
(2)
. هذا مع أن وصف الغنى وصف مباح، ونعمة من الله، وصاحبه إذا كان شاكرًا فهو أفضل من الفقير مع صبره، عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية
(3)
. فكيف يُلغَى هذا الشرط، ويصحُّ شرطُ الترهُّب في الإسلام الذي أبطله النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا رهبانية في الإسلام»
(4)
.
(1)
بعده في ع: «وهو إمام الحرمين رحمه الله» ، وكذا في النسخ المطبوعة. والظاهر أنها كانت حاشية في بعض النسخ، فدخلت في المتن.
(2)
الذي في «نهاية المطلب» (8/ 368): «فلو وقف على الأغنياء شيئًا فقد اضطرب أصحابنا فيه. فمنهم من أبطل الوقف، ومنهم من صححه» .
(3)
انظر في هذه المسألة: «عدة الصابرين» (ص 338 - 522) و «مدارج السالكين» (2/ 413 - 414) و «طريق الهجرتين» (2/ 576 - 577).
(4)
قال ابن حجر في «فتح الباري» (9/ 111): «لم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني: «إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة» ». كذا قال، وإنما رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (5519) من حديث سعيد بن العاص رضي الله عنه مرفوعًا، وسنده ضعيف واهٍ. أما حديث سعد رضي الله عنه؛ فلفظه عند الدارمي (2215):«إني لم أُومَرْ بالرهبانية» . وورد معناه فيما رواه عبد الرزاق (12591) ــ وعنه أحمد (25893) ــ من مُرْسَلِ عروة بن الزبير، وقد سقط ذكرُه في نسخة «معجم الصحابة» لأبي القاسم البغوي (2506)، ويُستدرَك من أصلَيْه («المصنَّف» و «المسند»)، ومِنْ فرعِه «ذم الكلام» لأبي إسماعيل الهروي (449). ولا يُلتفَتُ إلى السند المزبور في «المصنف» لعبد الرزاق (10375)؛ فإنه تخليطٌ بَيِّنٌ، راج بعضُه على ابن حبان (4658) .. وورد معناه أيضًا فيما رواه الروياني في «المسند» (1279)، والطبراني في «المعجم الكبير» (7715) من حديث أبي أمامة، وسندُه واهٍ جدًّا، آفتُه عفير بن معدان.
ورواه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 367)، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (2507)، ومحمد بن علي الترمذي الصوفي في «نوادر الأصول» (1609) من مرسل أبي قلابة الجرمي. ورواه أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (3/ 500)، وأبو نعيم الأصبهاني في «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 215) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وآفته محمد بن حميد الرازي.
يوضِّحه أنَّ مَن شرَط التعزُّبَ فإنما قصد أن تركَه
(1)
أفضلُ وأحبُّ إلى الله، فقصد أن يتعبَّد الموقوفُ عليه بتركه. وهذا هو الذي تبرَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منه بعينه فقال:«من رغب عن سنتي فليس مني»
(2)
. وكان قصدُ أولئك الصحابة هو قصد هؤلاء الواقفين بعينه سواء، فإنهم قصدوا تربية
(3)
أنفسهم على العبادةِ وتركِ النكاح الذي يشغلهم، تقرُّبًا إلى الله بتركه، فقال النبي صلى الله [189/أ] عليه وسلم فيهم ما قال، وأخبر أنه من رغب عن سنته فليس منه. وهذا في غاية الظهور، فكيف يحِلُّ الإلزام بترك شيءٍ قد أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ من رغب عنه فليس منه؟ هذا مما لا تحتمله الشريعة بوجه.
فالصواب الذي لا تسوِّغ الشريعةُ غيرَه: عرضُ شروط الواقفين على كتاب الله وعلى شرطه، فما وافق كتابَه وشرطَه فهو صحيح، وما خالفه كان شرطًا باطلًا مردودًا، ولو كان مائة شرط
(4)
. وليس ذلك بأعظم من ردِّ حكمِ
(1)
كذا في النسخ، يعني: ترك النكاح.
(2)
رواه البخاري (5063) ومسلم (1401) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
ت، ع:«ترفية» ، وكذا في ح دون إعجام. وفي س:«ترفيه» بالهاء. وكذا في النسخ المطبوعة بالتاء أو الهاء. ووضع ناسخ ف علامة «ظ» على الكلمة في النسخة، وكتب في طرَّتها «تربية» مع علامة «ظ» أيضًا. وما اقترحه أقرب، وإن كان المؤلف يستعمل في هذا السياق كلمة «التوطين». انظر مثلًا:«أحكام أهل الذمة» (2/ 1152، 1153، 1155) و «الفوائد» (ص 199) و «إغاثة اللهفان» (1/ 113).
(4)
كما في البخاري (2155) ومسلم (1504/ 8) وغيرهما.
الحاكم إذا خالف حكمَ الله ورسوله، ومن ردِّ فتوى المفتي. وقد نصَّ الله سبحانه على ردِّ وصية الجانف في وصيته والآثم فيها، مع أن الوصية تصحُّ في غير قربة، وهي أوسع من الوقف. وقد صرَّح صاحبُ الشرع بردِّ كلِّ عمل ليس عليه أمره، فهذا الشرط مردود بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحِلُّ لأحد أن يقبله ويعتبره ويصحِّحه.
ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقفُ مالَه لمن قام بها وإن لم تكن قربةً، ولا للواقفين فيها غرض صحيح، وإنما غرضُهم ما يقرِّبهم إلى الله= ولا يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما بذلت المرأة بُضْعَها للزوج بشرط وفائه لها بها، ولها فيها أصحُّ غرض ومقصود، وهي أحقُّ من كلِّ شرط يجب الوفاءُ به بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس والسنة؟
ثم من العجب العجاب: قولُ من يقول: إن شروط الواقف كنصوص الشارع. ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول، ونعتذر إليه سبحانه
(1)
مما [189/ب] جاء به قائله، ولا نعدل بنصوص الشارع غيرَها أبدًا. وإنَّ أحسنَ الظنِّ بقائل هذا القول حملُ كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة، وتخصيصِ عامِّها بخاصِّها، وحَمْلِ مطلقها على مقيدها، واعتبارِ مفهومها كما يُعتبر منطوقُها. وأمّا أن تكون كنصوصه في وجوب الاتباع وتأثيم مَن أخلَّ بشيء فيها
(2)
، فلا يُظَنُّ ذلك بمن له نسبةٌ ما إلى العلم. فإذا كان حكمُ
(1)
«إليه سبحانه» ساقط من النسخ المطبوعة.
(2)
ع: «منها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
الحاكم ليس كنصِّ الشارع، بل يُرَدُّ ما خالف حكمَ الله ورسوله
(1)
، فشرطُ الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالردِّ والإبطال. فقد ظهر تناقضُهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات، وخروجُهم فيها عن موجَب القياس الصحيح والسنة. وبالله التوفيق.
يوضِّح ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قسَم يعطي الآهلَ حظَّين، والعزبَ حظًّا
(2)
. وقال: «ثلاثةٌ حقٌّ على الله عَوْنُهم» ، ذكر منهم الناكحَ يريد العفاف
(3)
. ومصحِّحو هذا الشرط عكسوا مقصوده، فقالوا: نعطيه ما دام عَزَبًا، فإذا تزوَّج لم يستحقَّ شيئًا. ولا يحِلُّ لنا أن نعينه، لأنه ترك القيامَ بشرط الواقف وإن كان قد فعل ما هو أحبُّ إلى الله ورسوله. فالوفاءُ بشرط الواقف المتضمِّن لترك الواجب أو السنة المقدَّمة على فضل الصوم والصلاة
(4)
لا يحِلُّ مخالفته، ومتى
(5)
خالفه كان آثمًا عاصيًا
(6)
؛ حتَّى إذا خالف الأحبَّ إلى الله ورسوله والأرضى
(7)
له كان
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «من ذلك» .
(2)
رواه أحمد (23986، 24004)، وأبو داود (2953) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (6131)، والحاكم (2/ 140 - 141).
(3)
رواه الترمذي (1655) ــ وحسّنه ــ، وابن ماجه (2518)، والنسائي في «المجتبى» (3120، 3218)، وفي «السنن الكبرى» (4313، 4995، 5307) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
مرفوعًا. وصححه ابن حبان (786)، والحاكم (2/ 160، 217).
ويُنظر: «العلل» للدارقطني (10/ 350 - 351).
(4)
في النسخ المطبوعة: «أو الصلاة» .
(5)
ع: «ومن» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
ع: «عاصيًا آثمًا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(7)
في النسخ المطبوعة: «وخالف الأرضى» ، بزيادة «خالف» !
بارًّا مُثابًا قائمًا بالواجب عليه!
يوضِّح بطلانَ هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع الله ورسوله [190/أ] أنكم قلتم: كلُّ شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل، حتى أبطلتم بذلك شرط دار الزوجة أو بلدها، وأبطلتم اشتراطَ انتفاعِ البائع
(1)
بالمبيع مدة معلومة، وأبطلتم اشتراط الخيار فوق ثلاث
(2)
، وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع، ونحو ذلك من الشروط التي صحَّحها النص، والآثار عن الصحابة، والقياس. كما صحَّح عمر بن الخطاب
(3)
، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان
(4)
اشتراطَ المرأة دارها أو بلدها، أو أن لا يتزوَّج عليها، ودلَّت السنّة على أن الوفاء به أحقُّ من الوفاء بكلِّ شرط. وكما صحَّحت السنة اشتراطَ انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة، فأبطلتم ذلك، وقلتم: يخالف مقتضى العقد، وصحَّحتم الشروط المخالفة
(5)
لعقد الوقف، إذ هو
(1)
في النسخ المطبوعة: «اشتراط البائع الانتفاع» ، ولعله تصرف من بعض الناشرين.
(2)
ع: «بعد ثلاثة» ، وكذا في المطبوع. وفي الطبعات السابقة:«فوق ثلاثة» .
(3)
علَّقه البخاري عن عمر في كتاب الشروط، باب الشروط في المهر؛ وكتاب النكاح، باب الشروط في النكاح. ورواه موصولًا عبد الرزاق (10608، 10610، 10611)، وسعيد بن منصور (662، 663)، وابن أبي شيبة (16706، 16707)، والبيهقي (7/ 249). وفي الموضع الأول عند عبد الرزاق سقط أو تعليق في سنده.
(4)
أثر عمرو بن العاص ومعاوية رضي الله عنهما رواه عبد الرزاق (10612)، وسعيد بن منصور (664)، وابن أبي شيبة (16709). وأثر سعد بن أبي وقاص رواه ابن أبي الدنيا في «المحتضرين» (256) ومن طريقه ابن عبد البرّ في «التمهيد» (18/ 168 - 169). وانظر:«إغاثة اللهفان» (2/ 694).
(5)
في النسخ المطبوعة هنا زيادة: «بمقتضى عقد الوقف» .
عقدُ قربة مقتضاه التقرُّب إلى الله، ولا ريب أن شرط ما يخالف القربة يناقضه مناقضة صريحة.
فإذا شرط عليه الصلاةَ في مكان لا يصلِّي فيه إلا هو وحده، أو واحد بعد واحد أو اثنان، فعدولُه عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع فيه جماعة المسلمين مع قِدَمِه وكثرة جماعته، فيتعدَّاه إلى مكانٍ أقلَّ جماعةً، وأنقصَ فضيلةً، وأقلَّ أجرًا، اتباعًا لشرط الواقف المخالف لمقتضى عقد الوقف= خروجٌ عن محض القياس. وبالله التوفيق.
يوضِّحه أن المسلمين مجمعون على أن العبادة في المساجد من الذكر والصلاة وقراءة القرآن أفضل منها عند القبور. فإذا منعتم فعلَها في بيوت الله، وأوجبتم على الموقوف عليه فعلَها بين [190/ب] المقابر إن أراد أن يتناول الوقف، وإلّا تناوَلَه
(1)
حرامًا= كنتم قد ألزمتموه بترك الأحبِّ إلى الله الأنفَعِ للعبد، والعدولِ إلى الأبغَض
(2)
المفضول أو المنهيِّ عنه، مع مخالفته لقصدِ الشارع تفصيلًا، وقصدِ الواقف إجمالًا، فإنه إنما يقصد الأرضى لله والأحبَّ إليه، ولمَّا كان في ظنه أن هذا أرضى لله اشترطه. فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود الشارع، وأنتم نظرتم إلى مجرَّد لفظه، سواء وافق رضى الله
(3)
ورسوله ومقصودَه في نفسه أم
(4)
لا.
(1)
كذا في النسخ الخطية. وفي طرّة ع: «يكون» مع علامة «ظ» فوقها. وذلك لقراءة الكاتب «تناوُلُه» مصدرًا. ومن هنا أيضًا جاء في النسخ المطبوعة: «كان تناولُه» .
(2)
ت: «الأنقص» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي ع:«بعض» . والصواب ما أثبت من غيرهما، وهو المقابل لقوله:«الأحب إلى الله» .
(3)
ت: «سواء كان موافقًا لرضى الله» .
(4)
ع: «أو» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
ثم لا يمكنكم طرد ذلك أبدًا، فإنه لو شرَط أن يصلِّي وحده، حتى لا يخالط الناس، بل يتوفَّر على الخلوة والذكر؛ أو شرَط أن لا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفَّر على قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار، أو شرط على الفقهاء أن لا يجاهدوا في سبيل الله، ولا يصوموا تطوعًا، ولا يصلُّوا النوافل، وأمثال ذلك= فهل يمكنكم تصحيح هذه الشروط؟ فإن أبطلتموها ففعلُ
(1)
النكاح أفضل من بعضها، أو مساوٍ له في أصل القربة. وفعلُ الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل. وذكرُ الله وقراءة القرآن في المسجد أفضل منه بين القبور. فكيف تُلزمون بهذه الشروط المفضولة، وتُبطلون تلك
(2)
؟ فما هو الفارق بين ما يصح من الشروط وما لا يصح؟
ثم لو شرط المبيتَ في المكان الموقوف ولم يشرط
(3)
التعزُّبَ، فأبحتم له التزوجَ، فطالبته الزوجةُ بحقِّها من المبيت، وطالبتموه بشرط الواقف منه، فكيف تقسمونه بينهما؟ أم ماذا تقدِّمون: ما أوجبه الله ورسوله من المبيت والقَسْم للزوجة [191/أ] مع ما فيه من مصلحة الزوجين، وصيانة المرأة وحفظها، وحصولِ الإيواء المطلوب من النكاح؛ أم ما شرطه الواقف، وتجعلون شرطَه أحقَّ، والوفاءَ به ألزم؟ أم تمنعونه من النكاح، والشارعُ والواقفُ لم يمنعاه منه؟ فالحقُّ أن مبيته عند أهله إن كان أحبَّ إلى الله ورسوله جاز له، بل استُحِبَّ تركُ شرط الواقف لأجله، ولم يمنعه فعلُ ما
(4)
(1)
في النسخ المطبوعة: «فعقد» .
(2)
ع: «ذلك» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ع: «يشترط» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
ع: «وأما منعه ما» ، وفي طرتها:«في الأصل: ولم يمنعه» . والظاهر أن ناسخها حاول إقامة النص دون جدوى.
يحبُّه الله ورسوله من تناول الوقف. وهو تركُ ما يحبه الله ورسوله
(1)
، بل تركُ ما أوجبه سببًا لاستحقاق الوقف
(2)
؛ فلا نصَّ، ولا قياس، ولا مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه، ولا مرضاة لله
(3)
ورسوله.
والمقصود: بيانُ بعض ما في الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي يبيِّن أنه من
(4)
عند غير الله، لأن ما كان من عنده فإنه يصدِّق بعضُه بعضًا، ولا يخالف بعضُه بعضًا. وبالله التوفيق.
فصل
وقالت الشافعية والمالكية والحنفية
(5)
ومتأخرو أصحاب أحمد: إنه لا قصاص في اللطمة والضربة، وإنما فيه التعزير، وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع. وخرجوا عن محض القياس، وموجَب النصوص، وإجماع الصحابة؛ فإنَّ ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
(1)
«من تناول الوقف
…
» إلى هنا ساقط من ت، ع. و «وهو تركُ
…
رسوله» ساقط من النسخ المطبوعة.
(2)
كذا وقعت العبارة في س، ح، ف. وفيها خلل، ويمكن إقامتها بأن نقول: «أما أن يكون تركُ ما يحبُّه الله ورسوله، بل تركُ
…
».
(3)
ت: «يرضاه الله» .
(4)
في النسخ المطبوعة: «الذي هو من» .
(5)
ع: «وقالت الحنفية والمالكية والشافعية» ، كأن ناسخها أو غيره من قبل رتَّبهم. وفي النسخ المطبوعة:«الحنفية والشافعية والمالكية» .
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقال:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. فأمَر بالمماثلة في العقوبة والقصاص، فيجب اعتبارها بحسب الإمكان، والأمثل هو المأمور به. فهذا الملطوم المضروب قد اعتُدِي عليه، فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما [191/ب] فَعَل
(1)
. فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كلِّ وجه. ولا ريب أنَّ لطمةً بلطمةٍ وضربةً بضربةٍ في محلِّها
(2)
بالآلة التي لطمه بها أو بمثلها أقرَبُ إلى المماثلة المأمور بها حسًّا وشرعًا، من تعزيره
(3)
بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته. وهذا هو هدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومحضُ القياس. وهو منصوص الإمام أحمد
(4)
، ومن خالفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نصِّ مذهبه وأصوله، كما خرج عن محض القياس والميزان.
قال إبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني في كتاب «المترجَم»
(5)
له: بابٌ في القصاص من اللطمة والضربة: حدثني إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن القصاص من اللطمة والضربة، فقال: «عليه القود من
(1)
يعني: كما فعل المعتدي. وفي النسخ المطبوعة بعده زيادة: «به» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «محلّهما» .
(3)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «بها» .
(4)
في «تهذيب السنن» للمصنف (3/ 129) أن الإمام أحمد نصَّ عليه في رواية الشالنجي وغيره. وانظر: «جامع المسائل» (2/ 260).
(5)
في النسخ المطبوعة: «كتابه المترجم» ، ولا يستقيم ذلك مع قوله:«له» . وقد أحال المصنف على الكتاب المذكور في «تهذيب السنن» أيضًا.
اللطمة والضربة». وبه قال أبو داود وأبو خيثمة وابن أبي شيبة. قال
(1)
إبراهيم الجوزجاني: «وبه أقول، لما حدثنا شَبَابة بن سوَّار، ثنا شعبة، عن يحيى بن الحصين قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: لطَم أبو بكر رجلًا يومًا لطمةً، فقال له: اقتَصَّ، فعفا الرجل
(2)
.
ثنا شبابة، أنا شعبة، عن مخارق قال: سمعت طارقًا يقول: لطم ابنُ أخٍ لخالد بن الوليد رجلًا من مراد، فأقاده خالد منه
(3)
.
حدثني ابن نمير
(4)
، ثنا أبو بكر بن عياش قال: سمعت الأعمش عن كميل بن زياد قال: لطمني عثمان، ثم أقادني، فعفوتُ
(5)
.
حدثني ابن الأصفهاني، ثنا عبد السلام بن حرب، عن ناجية، عن عمِّه يزيد بن عربي قال: رأيتُ عليًّا أقاد من لطمة
(6)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: «وقال» ، والواو مقحمة.
(2)
رواه ابن أبي شيبة (28591) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (13/ 305 - 306) ــ عن شبابة به. وسنده صحيح. ورواه حميد بن زنجويه في «الأموال» (903)، والطحاوي في «بيان المشكل» (9/ 150، 150 - 151) من طرق أخرى عن شعبة به.
(3)
رواه ابن أبي شيبة (28585، 28586)، وابن المنذر في «الأوسط» (13/ 307)، والبيهقي (8/ 65). ويُنظر:«المصنف» لعبد الرزاق (18030).
(4)
ما عدا س، ع:«ابن بهز» . وفي النسخ المطبوعة: «أبو بهز» . ولعله محمد بن عبد الله بن نمير، وهو ممن يروي عن أبي بكر بن عياش. انظر:«تهذيب الكمال» (33/ 132).
(5)
روى ابن المنذر في «الأوسط» (13/ 306) من طريق يحيى بن عبد الحميد (وهو الحماني)، عن أبي بكر، عن الأعمش، عن (كميل) بن زياد أن عثمان أقاد من لطمة.
(6)
رواه ابن جرير في «التاريخ» (5/ 156 - 157) من طريق عبد السلام بن حرب به ضمن خبر طويل، لكن وقع فيه: يزيد بن عدي. وقد خُولف فيه عبد السلام؛ فقد رواه ابن أبي شيبة (28584) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (13/ 306) ــ عن عبد الله بن عبد الملك المسعودي، عن ناجية أبي الحسن، عن أبيه به. ورواه ابن جرير في «التاريخ» (5/ 157) من طريق عثمان بن عبد الرحمن الأصبهاني، عن المسعودي (كذا أطلق!)، عن ناجية به.
ورواه الخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/ 259) من طريق أخرى عن يزيد بن عربي به.
ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا عبد الله [192/أ] بن إسماعيل بن دينار
(1)
، ابن أخي عمرو بن دينار
(2)
أن ابن الزبير أقاد من لطمة.
(1)
في النسخ الخطية والمطبوعة: «زياد» ، تحريف.
(2)
كذا، والظاهر أن نظر الناسخ انتقل، فأسقط (عمرو بن دينار). وقد رواه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 744) ــ ومن طريقه البيهقي (8/ 65) ــ عن أبي بكر الحميدي، عن سفيان، عن ابن أخي عمرو، عن عمرو
…
ولم تتّضح كلمة (لطمة)، فأُثْبِتَ في المطبوع من «المعرفة والتاريخ» بدلها:«المسلم» ! وتابع الحميديَّ على إثبات ابن أخي عمرو: عليُّ ابنُ المديني ومن طريقه رواه الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (4/ 2256)، وعبد الجبار بن العلاء العطار، ومن طريقه رواه ابن المنذر في «الأوسط» (13/ 307).
أما ابن أبي شيبة، فرواه (28589) هو ومسدد في «المسند» [كما في «إتحاف الخيرة المهرة» للبوصيري (3401)، و «المطالب العالية» لابن حجر (1885)]، ويحيى بن الربيع ــ ومن طريقه البيهقي (8/ 65) ــ، وعلي بن حرب في «الجزء الثاني من حديثه عن ابن عيينة» ، وعلي بن محمد المدائني، كما في «أنساب الأشراف» للبلاذري (6/ 351) = خمستُهم عن سفيان، عن عمرو.
وقد استشكل البيهقي هذا الوجه، وكأنه يرى أنه قد سُلِكَ فيه طريق الجادّة بإسقاط (ابن أخي عمرو)! لكن قد رواه ابن المنذر في «الأوسط» (13/ 307) من طريق ابن أبي شيبة، ونقل قوله:«وهذا مما لم يسمعه ابن عيينة من عمرو» .
ثنا يزيد بن هارون، أنا الجُرَيري، عن أبي نضرة، عن أبي فراس قال: خطبنا عمر، فقال: إني لم أبعث عُمَّالي عليكم
(1)
ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن إنما بعثتُهم ليبلِّغوكم دينكم وسنة نبيكم، ويقسِموا فيكم فيئكم. فمن فُعِل به غير ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفسُ عمر بيده، لَأُقِصَّنَّه منه. فقام إليه عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان رجلٌ من المسلمين على رعية، فأدَّب بعضَ رعيته، لَتُقِصَّنَّه
(2)
منه؟ فقال عمر: أنَّى
(3)
لا أُقِصُّه منه، وقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِصُّ من نفسه؟
(4)
.
ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن ابن حرملة قال: تلاحى رجلان فقال أحدهما: ألم أخنقك حتى سلَحتَ؟ فقال: بلى، ولكن لم يكن لي عليك شهود، فاشهدوا على ما قال. ثم رفعه إلى عمر بن عبد العزيز، فأرسل في ذلك إلى سعيد بن المسيِّب، فقال: يخنُقه كما خنَقه حتى يُحدِث، أو يفتدي منه. فافتدى منه بأربعين بعيرًا. فقال ابن كثير: أحسبه ذكره عن عثمان
(5)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: «إليكم» .
(2)
كذا في النسخ. وقد يكون الصواب: «أتُقِصَّنَّه؟» .
(3)
رسمها في س، ع:«أنا» ، وهو خطأ. وفي المطبوع:«ألا أقصه» .
(4)
رواه أحمد (286)، وأبو داود (4537) من طريقين آخرين عن الجُرَيْرِيِّ به. وروى النسائي (4777) الجملة الأخيرة منه فقط. قال ابن المديني:«إسنادٌ بصريٌّ حسنٌ» . وقال: «لا نعلم في إسناده شيئا يُطْعَنُ فيه، وأبو فراس رجل معروف من أسلم، روى عنه أبو نضرة وأبو عمران الجوني» . نقله ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 431 - 432). وقد صححه الحاكم (4/ 439)، وأورده الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (1/ 218 - 219).
(5)
رواه عبد الرزاق (18245) عن معمر ومحمد بن يحيى (وهو المأربي)، عن ابن حرملة به (بنحوه مختصرًا). ويُوازَن بما في «المصنف» لابن أبي شيبة (28229)، و «المحلى» لابن حزم (10/ 459) من اختلافٍ في تقدير الدية. وما عند ابن أبي شيبة أصح؛ لأنه رواه عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد الأنصاري (قاضي المدينة)، وسندُه صحيحٌ غاية.
ثنا الحسين بن محمد، ثنا ابن أبي ذئب، عن المطَّلب بن السائب أن رجلين من بني ليث اقتتلا، فضرب أحدهما الآخر، فكسَر أنفَه، فانكسر عظمُ كفِّ الضارب. فأقاد أبو بكر من أنف المضروب، ولم يُقِد من يد الضارب. فقال سعيد بن المسيب: كان لهذا أيضًا القود من كفِّه، قضى عثمان أنَّ كلَّ مقتتلين اقتتلا ضَمِنا ما بينهما. فأقيد منه، فدخل المسجد وهو يقول: يا عباد الله كسر ابنُ المسيِّب يدي
(1)
.
قال الجُوزجاني: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم[192/ب] وجِلّة أصحابه، فإلى من يُركَن بعدهم؟ أو كيف يجوز خلافهم؟
قلت: وفي «السنن»
(2)
لأبي داود والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسِم قَسْمًا أقبل رجلٌ، فأكبَّ عليه، فطعنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعُرجون كان معه، فجُرِح بوجهه
(3)
، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تعالَ فاستقِد» ، فقال: بل عفوتُ يا رسول الله.
(1)
رواه ابن أبي شيبة (28209) عن شبابة، عن ابن أبي ذئب به (مختصرًا).
(2)
رواه أحمد (11229)، وأبو داود (4536)، والنسائي (4773، 4774)، وفي سنده: عَبِيدة بن مُسافع، وهو مجهول الحال، وقد قال ابن المديني: ولا أدري: سمع من أبي سعيد أم لا؟ أما ابن حبان، فقد صحّحه (7280).
(3)
كتب ناسخ ع: «أوجهه» ، ثم ضرب هو أو بعضهم على الهمزة، وكتب في الحاشية:«به» مع علامة «ظ» . وفي النسخ المطبوعة: «وجهه» .
وفي «سنن النسائي»
(1)
وأبي داود وابن ماجه عن عائشة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدِّقًا، فلاحَّه
(2)
رجلٌ في صدقته، فضربه أبو جهم، فشجَّه. فأتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: القوَدَ يا رسول الله. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لكم كذا وكذا» ، فلم يرضوا. [فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لكم كذا وكذا» ، فرَضُوا]
(3)
. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنِّي خاطبٌ العشيةَ على الناس، ومُخبِرهم برضاكم» . فقالوا: نعم. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنَّ هؤلاء الليثيين
(4)
أتَوني يريدون القصاص، فعرضتُ عليهم كذا وكذا، فرضُوا. أرضيتم؟». فقالوا: لا. فهمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفُّوا عنهم، فكفُّوا
(5)
. ثم دعاهم، فزادهم، فقال:«أرضيتم؟» . فقالوا: نعم. فقال: «إني خاطبٌ على الناس، ومُخبِرهم برضاكم» فقالوا: نعم. فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«أرضيتم؟» . قالوا: نعم.
(1)
رواه أحمد (25958)، وأبو داود (4534)، والنسائي (4778)، وابن ماجه (2638)، ونقل قول محمد بن يحيى الذهلي:«تفرّد بهذا معمر، لا أعلم رواه غيرُه» . يعني: تفرّد بوصله وإسناده عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وقد خالفه يونس بن يزيد الأيلي، فرواه عن الزهري قال: بلغنا
…
(فذكره). رواه البيهقي (8/ 49) من طريق ابن وهب، عن يونس به. وصحح ابن حبان الحديث (6194)، ونحا نحوَه البيهقي في «معرفة السنن والاثار» (6/ 170). ويُنظر:«المصنف» لعبد الرزاق (18033، 18034).
(2)
كذا بالحاء المهملة في النسخ و «سنن النسائي» . وفي غيره: «فلاجَّه» من اللجاج. وفي النسخ المطبوعة: «فلاحاه» ، ولعله إصلاح من بعض الناشرين.
(3)
ما بين الحاصرتين ساقط من النسخ لانتقال النظر، وقد أشير إليه في طرَّة ف.
(4)
«الليثيين» ساقط من ع والنسخ المطبوعة.
(5)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «عنهم» .
وهذا صريح في القوَد في الشجَّة. ولهذا صولحوا من القود مرة بعد مرة حتى رضُوا. ولو كان الواجب الأَرْش
(1)
فقط لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حين طلبوا القود: إنه لا حقَّ لكم فيه، وإنما [193/أ] حقُّكم في الأرش.
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع الصحابة، وهذا ظاهر القرآن، وهذا محض القياس. فعارض المانعون هذا كلَّه بشيء واحد، وقالوا
(2)
: اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة، والقصاص لا يكون إلا مع المماثلة. ونظرُ الصحابة أكمل، وأصحُّ، وأتبَع للقياس، كما هو أتبع للكتاب والسنة، فإن المماثلة من كلِّ وجه متعذِّرة، فلم يبق إلا أحد أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد منها. والأول أولى، لأن التعزير لا يُعتبَر فيه جنسُ الجناية ولا قدرُها، بل قد يعزَّر بالسوط والعصا، وقد يكون لطمه، أو ضربه بيده. فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد، وقد يزيد وينقص.
وفي العقوبة بجنس ما فعله تحرٍّ للمماثلة بحسب الإمكان، وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله به، وأنزل به الكتاب والميزان. فإنه قصاص بمثل ذلك العضو في مثل المحلِّ الذي ضرَب فيه بقدره. وقد يساويه، أو يزيد قليلًا، أو ينقص قليلًا. وذلك عفوٌ لا يدخل تحت التكليف، كما لا يدخل تحت التكليف المساواةُ في الكيل والوزن من كلِّ وجه، كما قال تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]، فأمر بالعدل
(1)
الأرش: الدية.
(2)
قارن بكلام شيخ الإسلام في «قاعدة في شمول النصوص للأحكام» ضمن «جامع المسائل» (2/ 260 وما بعدها)، فالمصنف صادر عنه.
المقدور، وعفا عن غير المقدور منه
(1)
.
وأما التعزير فإنه لا يسمَّى قصاصًا، فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة. ومنه: قصَّ الأثرَ، إذا اتبعه. وقصَّ الحديثَ، إذا أتى به على وجهه. والمقاصَّة: سقوط أحد الدَّينين بمثله جنسًا وصفةً. [193/ب] وإنما هو تقويم للجناية، فهو قيمةٌ لغير المِثليِّ، والعدولُ إليه كالعدول إلى قيمة المتلف. وهو ضرب له بغير تلك الآلة في غير ذلك المحلِّ، وهو إما زائد وإما ناقص، ولا يكون مماثلًا ولا قريبًا من المثل. فالأول أقرب إلى القياس، والثاني تقويم للجناية بغير جنسها كبدل المتلف.
والنزاع أيضًا فيه واقع إذا لم يوجد مثلُه من كلِّ وجه، كالحيوان والعقار والآنية والثياب وكثير من المعدودات والمذروعات. فأكثر القيَّاسين
(2)
من أتباع الأئمة الأربعة قالوا: الواجب في بدل ذلك عند الإتلاف: القيمة. قالوا: لأن المثل في الجنس يتعذَّر. ثم طرد أصحاب الرأي قياسَهم، فقالوا: وهذا هو الواجب في الصيد في الحرم والإحرام، إنما تجب قيمته لا مثلُه، كما لو كان مملوكًا. ثم طردوا هذا القياس في القرض، فقالوا: لا يجوز قرض ذلك، لأن موجب القرض ردُّ المثل، وهذا لا مثل له.
ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد، لدلالة القرآن والسنة وآثار الصحابة فضمَّنَ بمثله
(3)
من النَّعم، وهو مِثلٌ مقيَّد بحسب
(1)
وانظر في مسألة القصاص في اللطمة ونحوها: «تهذيب السنن» للمصنف (3/ 128) وما بعدها، و «زاد المعاد» (4/ 77).
(2)
في النسخ المطبوعة: «القياسيين» كالعادة.
(3)
كذا في ع. وفي س: «يضمن مثله» . وفي غيرهما: «يضمن بمثله» بإهمال حرف المضارع. ومن هنا زاد الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد قبله: «على أنه» بين حاصرتين لإقامة السياق، ثم حذف بعض من جاء بعده الحاصرتين! وفي «جامع المسائل» (2/ 262):«على أن الصيد يضمن» .
الإمكان، وإن لم يكن مِثْلًا من كلِّ وجه. وهذا قول الجمهور منهم: مالك والشافعي وأحمد.
وهم يجوِّزون قرضَ الحيوان أيضًا كما دلَّت عليه السنة الصحيحة، فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه استسلف بَكْرًا، وقضى جملًا رَباعِيًّا، وقال:«إنَّ خياركم أحسنُكم قضاءً»
(1)
. ثم اختلفوا بعد ذلك في موجَب قرض الحيوان، هل ردُّ القيمة
(2)
، أو المثل؟ على قولين، وهما في مذهب [194/أ] أحمد وغيره. والذي دلَّت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة أنه يجب ردُّ المثل، وهذا هو المنصوص عن أحمد.
ثم اختلفوا في الغصب والإتلاف على ثلاثة أقوال، وهي في مذهب أحمد: أحدها: يُضمَن الجميع بالمثل بحسب الإمكان. والثاني: يُضمَن الجميع بالقيمة. والثالث: أن الحيوان يُضمَن بالمثل، وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة. واختلفوا في الجدار يُهدَم، هل يُضمَن بقيمته، أو يعاد مثله؟ على قولين، وهما للشافعي
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (1600) من حديث أبي رافع. والبكر: الفتي من الإبل. والرَّباعي منها: الذي دخل في السنة السابعة.
(2)
يعني: هل موجبه ردُّ القيمة
…
فالسياق واضح، ولكن زيد في النسخ المطبوعة بعد «هل»:«يجب» .
(3)
انظر: «جامع المسائل» (2/ 261).
والصحيح ما دلَّت عليه النصوص ــ وهو مقتضى القياس الصحيح، وما عداه فمناقض للنص والقياس ــ: أن
(1)
الجميع يُضمَن بالمثل تقريبًا. وقد نصَّ الله سبحانه على ضمان الصيد بمثله من النعم. ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النعامة والبعير، وبين شاة وشاة أعظم منها بين طير وشاة. وقد ردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بدل البعير الذي اقترضه مثلَه دون قيمته، وردَّ عوضَ القَصْعة التي كسرتها بعضُ أزواجه قصعتَها
(2)
نظيرَها، وقال:«إناء بإناء، وطعام بطعام»
(3)
؛ فسوَّى بينهما في الضمان. وهذا عين العدل، ومحض القياس، وتأويل القرآن.
وقد نصَّ الإمام أحمد على هذا في «مسائل إسحاق بن منصور»
(4)
. قال إسحاق: قلت لأحمد: قال سفيان: من كسر شيئًا صحيحًا فقيمته صحيحًا. قال أحمد: إن كان يوجد مثلُه، فمثلُه. وإن كان لا يوجد مثلُه، فعليه قيمته.
ونصَّ عليه أحمد في رواية إسماعيل بن [194/ب] سعيد، فقال: سألتُ أحمد عن الرجل يكسر قصعةً لرجل
(5)
، أو عصاه، أو يشقُّ ثوبًا لرجل. قال:
(1)
في النسخ المطبوعة: «لأن» ، ولعله تصرف من بعض الناشرين.
(2)
في المطبوع: «بقصعة» ، ولم يذكر مصدر ما أثبت. والصواب ما أثبتناه من النسخ الخطية، وكذا في الطبعات السابقة.
(3)
رواه أحمد (25155، 26366)، وأبو داود (3568)، والنسائي (3957) من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي سنده جسرة بنت دجاجة، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 67):«وعند جسرة عجائب» .
(4)
(6/ 2872).
(5)
في النسخ المطبوعة: «الرجل» .
عليه المثل في العصا والقصعة والثوب. فقلت: أرأيتَ إن كان الشَّقُّ قليلًا؟ فقال: صاحبُ الثوب مخيَّر في ذلك، قليلًا كان أو كثيرًا.
وقال في رواية إسحاق بن منصور
(1)
: من كسر شيئًا صحيحًا فإن كان يوجد مثله فمثله، وإن كان لا يوجد
(2)
مثله فعليه قيمته. فإذا كسَر الذهبَ فإنه يُصلِحه إن كان خلخالًا. وإن كان دينارًا أعطى دينارًا آخر مكانه. قال إسحاق: كما قال.
وقال في رواية موسى بن سعيد
(3)
: وعليه المثل في العصا والقصعة والقصبة إذا كسَر، وفي الثوب. ولا أقول في العبد والبهائم والحيوان. وصاحبُ الثوب
(4)
مخيَّر إن شاء شقَّ الثوب، وإن شاء مثلَه
(5)
.
واحتجَّ في رواية ابنه عبد الله
(6)
بحديث أنس. فقال حميد عن أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعةٍ فيها طعام، فضرَبت بيدها، فكسرت القصعة. فأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكِسرتين، فضمَّ إحداهما إلى الأخرى، وجعل يجمع فيها الطعام، ويقول: «غارت
(1)
في الموضع السابق من «مسائله» .
(2)
ع: «وإن لم يوجد» .
(3)
انظر: «الروايتين والوجهين» (1/ 409) و «الإنصاف» (6/ 193).
(4)
ع: «الشق» ، وفيما عداها:«الشيء» . والصواب ما أثبت من المصدرين المذكورين والنسخ المطبوعة.
(5)
كذا في النسخ الخطية و «الإنصاف» . وفي النسخ المطبوعة: «أخذ مثله» ، بزيادة «أخذ» !
(6)
لم ترد الرواية في «مسائله» المطبوعة.
أمُّكم، كلوا». فأكلوا، وحبَس الرسولَ حتى جاءت قصعتها التي
(1)
في بيتها، فدفع القصعة إلى الرسول، وحبس المكسورةَ في بيته. والحديث في «صحيح البخاري»
(2)
. وعند الترمذي
(3)
فيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام بطعام، وإناء [195/أ] بإناء» . وقال: حديث صحيح. وعند أبي داود
(4)
والنسائي فيه: قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله ما كفّارة ما صنعتُ؟ قال: «إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام» .
وهذا هو مذهبه الصحيح عنه عند ابن أبي موسى. قال في «إرشاده»
(5)
: «ومن استهلك لآدمي ما لا يكال ولا يوزن، فعليه مثلُه إن وجد. وقيل: عليه قيمته» . وهو اختيار المحققين من أصحابه. وقضى عثمان وابن مسعود على من استهلك لرجل فُصْلانًا بفُصلانٍ مثلها
(6)
. وبالمِثل قضى شُريح
(7)
(1)
في النسخ المطبوعة: «قصعة التي هو» ، تصرَّفوا بحذف وزيادة. والصواب ما أثبت من النسخ، وكذا الرواية في «سنن ابي داود» ولا إشكال فيها.
(2)
برقم (5225) من حديث أنس قصة عائشة بطولها.
(3)
برقم (1359) من حديث أنس قصة عائشة مختصرًا.
(4)
أبو داود (3568) والنسائي (3957)، ورواه أيضًا أحمد (25155، 26366) من حديث عائشة. وفي إسناده جسرة بنت دجاجة، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 67): وعند جسرة عجائب.
(5)
(ص 255).
(6)
نقل ذلك عنهما ابن حزم في «المحلَّى» (6/ 478 - دار الفكر». وعن عثمان نقله النووي في «المجموع شرح المهذب» (14/ 234).
(7)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (14953، 14965، 14978)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (37436)، و «المحلى» (8/ 141).
والعَنبري
(1)
. وقال به قتادة
(2)
وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي
(3)
؛ وهو الحق.
وليس مع من أوجب القيمة نصّ ولا إجماع ولا قياس. وليس معهم أكثر ولا أكبر من قوله صلى الله عليه وسلم
(4)
(5)
. قالوا: فأوجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم في إتلاف نصيب الشريك القيمةَ لا المثل، فقِسنا على هذا كلَّ حيوان، ثم عدَّيناه إلى كلِّ غيرِ مثليٍّ. قالوا: ولأن القيمة أضبط وأحصر بخلاف المثل.
قال الآخرون: أما الحديث الصحيح فعلى الرأس والعين، وسمعًا له وطاعة؛ ولكن فيما دلَّ عليه، وإلَّا فما
(6)
لم يدل عليه ولا أريد به فلا ينبغي أن يحمل عليه. وهذا التضمين الذي يُضمَّنه ليس من باب تضمين المتلَفات، بل هو من باب تملُّك مال الغير بقيمته، فإن نصيب الشريك يملكه المُعتِق ثم يعتِق عليه؛ فلا بد من تقدير دخوله في ملكه، ليعتِق عليه. ولا خلاف بين
(1)
هو القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري، من أتباع التابعين. توفي بالبصرة سنة 168. ترجمته في «أخبار القضاة» لوكيع (2/ 88). وانظر قوله بالمثل في «المجموع» للنووي (14/ 234) و «المعاني البديعة» للريمي (2/ 37).
(2)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (14954)، و «المحلى» (8/ 141).
(3)
صاحب «المسند» . كان من أوعية العلم. يجتهد ولا يقلِّد. قاله الذهبي في «تاريخ الإسلام» (6/ 104).
(4)
قارن بكلام شيخ الإسلام في القاعدة المذكورة المطبوعة ضمن «جامع المسائل» .
(5)
أخرجه البخاري (2522) ومسلم (1501) من حديث ابن عمر.
(6)
في المطبوع: «فيما» ، وهو خطأ.
القائلين بالسِّراية في ذلك، وأن
(1)
الولاء له، وإن تنازعوا: هل يسري عقيب عتقه، أو لا يعتِق حتى يؤدِّي القيمة، أو يكون موقوفًا فإذا أدَّى تبيَّنَّا
(2)
أنه عتَق من حين العتق؟ وهي في مذهب الشافعي. والمشهور في مذهبه ومذهب أحمد القول الأول. وفي مذهب مالك القول الثاني
(3)
. وعلى هذا الخلاف ينبني ما لو أعتق الشريكُ نصيبَه بعد عتق الأول. فعلى القول الأول لا يعتِق، وعلى الثاني
(4)
يعتِق عليه ويكون الولاء بينهما. وينبني على ذلك أيضًا إذا قال أحد الشريكين: «إذا أعتقتَ نصيبَك فنصيبي حُرٌّ» . فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق، ويعتِق نصيبُه من مال المعتِق. وعلى القول الثاني يصح التعليق ويعتِق على المعلِّق.
والمقصود: أن التضمين هاهنا كتضمين الشفيع الثمن إذا أخذ بالشفعة، فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف، ولكن من باب التقويم للدخول في الملك. لكن الشفيع أدخل الشارعُ الشِّقصَ
(5)
في ملكه بالثمن باختياره، والشريك المعتِق أدخل الشِّقصَ في ملكه بالقيمة بغير اختياره. فكلاهما تمليك: هذا بالثمن، وهذا بالقيمة؛ فهذا شيء، وضمان المتلف شيء.
قالوا: وأيضًا فلو سُلِّم أنه ضمان إتلاف لم يدلَّ على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة. والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما ما لا ينقسم
(1)
في المطبوع: «ولأن» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «تبين» .
(3)
انظر: «المغني» (14/ 354).
(4)
س: «القول الثاني» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
الشِّقص: القطعة من الشيء، النصيب منه.
كالعبد والحيوان والجوهرة [196/أ] ونحو ذلك، فحقُّ كلٍّ
(1)
منهما في نصف القيمة. فإذا اتفقا على المهايأة
(2)
جاز، وإن تنازعا وتشاحَّا بيعت العينُ، وقُسِم بينهما ثمنُها على قدر ملكيهما كما يقسم المِثليُّ. فحقُّهما في المثلي في عينه، وفي المتقوِّم عند التشاجر والتنازع في قيمته. فلولا أنَّ حقَّه في القيمة وإِلّا
(3)
لما أجيب إلى البيع إذا طلبه. وإذا ثبت ذلك، فإذا أتلف له
(4)
نصف عبد فلو ضمَّنَّاه بمثله لفات حقُّه من نصف القيمة الواجب له شرعًا عند طلب البيع، والشريك إنما حقُّه في نصف القيمة، وهما لو تقاسماه تقاسماه بالقيمة، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالقيمة. وعكسُه المِثليُّ، لو تقاسماه تقاسماه بالمثل. فإذا أتلف أحدهما نصيبَ شريكه ضمِنَه بالمثل. فهذا هو القياس والميزان الصحيحُ طردًا وعكسًا، الموافقُ للنصوص وآثار الصحابة. ومن خالفه فلا بد له من أحد أمرين: إما مخالفة السنة الصحيحة وآثار الصحابة إن طرد قياسه، وإما التناقض البيِّن إن لم يطرده.
فصل
(5)
وعلى هذا الأصل تنبني الحكومة المذكورة في كتاب الله عز وجل،
(1)
في النسخ المطبوعة: «كل واحد» .
(2)
المهايأة: مقاسمة المنافع زمانًا أو مكانًا. انظر: طلِبة الطلَبة (ص 127).
(3)
حذفت «وإلا» في النسخ المطبوعة لوقوعها في غير موقعها، ولكنه أسلوب شائع في كتب المصنف وشيخه وغيرهما في ذلك العهد. وقد سبق مثله. وانظر ما علقت في «الداء والدواء» (ص 209).
(4)
«له» ساقط من ت.
(5)
قارن بكلام شيخ الإسلام في قاعدته المذكورة المطبوعة ضمن «جامع المسائل» (2/ 266 - 267).
التي حكم فيها النبيَّان الكريمان داود وسليمان صلى الله عليهما وسلم، إذ حكما في الحرث الذي نفَشت فيه غنم القوم. والحَرْث هو البستان، وقد روي أنه كان بستان عنب، وهو المسمَّى بالكَرْم. والنفش: رعيُ الغنم ليلًا. فحكَم داود بقيمة المتلَف، فاعتبر الغنمَ، فوجدها [196/ب] بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث؛ إما لأنه لم يكن لهم دراهم، وتعذَّر بيعها أو رضُوا
(1)
بدفعها ورضي أولئك بأخذها بدلًا عن القيمة. وأما سليمان فقضى بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمَنوا ذلك بالمِثل بأن يعمُروا البستان حتى يعود كما كان. ولم يضيِّع عليهم مُغَلَّه من حينِ الإتلاف
(2)
إلى حين العَود، بل أعطى أصحابَ البستان ماشيةَ أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، فيستوفوا من نماء غنمهم نظيرَ ما فاتهم من نماء حرثهم. وقد اعتبر النَّماءين، فوجدهما سواء. وهذا هو العلم الذي خصَّه الله به، وأثنى عليه بإدراكه.
وقد تنازع علماء المسلمين في مثل هذه القضية على أربعة أقوال:
أحدها: موافقة الحكم السليماني في ضَمان النَّفْش، وفي المثل. وهو الحق، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ووجه للشافعية والمالكية، والمشهور عندهم خلافه.
والقول الثاني: موافقته في ضمان النفش، دون التضمين بالمثل. وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد.
(1)
س: «ورضوا» . وفي النسخ المطبوعة: «أو تعذَّر بيعها ورضوا» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «من الإتلاف» ، فسقط منها لفظ «حين» .
والثالث: موافقته في التضمين بالمثل دون النفش، كما إذا رعاها صاحبها باختياره، دون ما إذا تفلَّتت
(1)
ولم يشعر بها. وهو قول داود ومن وافقه.
والقول الرابع: أن النفش لا يوجب الضمان بحال، وما وجب من ضمان الرَّعي
(2)
بغير النفش فإنما
(3)
يضمن بالقيمة لا بالمثل. وهذا
(4)
مذهب أبي حنيفة
(5)
.
وما حكم به نبيُّ الله سليمان هو الأقرب
(6)
إلى العدل والقياس. وقد حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ على أهل الحوائط حفظَها بالنهار، وأنَّ ما أفسدت المواشي بالليل ضمانٌ على أهلها
(7)
. فصحَّ بحكمه [197/أ] ضمانُ النفش،
(1)
ت، ع:«انفلتت» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «الراعي» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «فإنه» .
(4)
ح، ف:«وهذا هو» .
(5)
هنا انتهى النقل من كلام شيخ الإسلام. وقد ذكر الأقوال الأربعة في «تهذيب السنن» (3/ 137) أيضًا، وقال عن القول الأول:«وهو أصح الأقوال وأشدُّها مطابقة لأصول الشرع والقياس، كما قد بينَّا ذلك في كتاب مفرد في الاجتهاد» . ثم قال: «وذكرُ هذه الأقوال وأدلَّتها وترجيح الراجح منها له موضع غير هذا أَليق به من هذا» . وقال في «مفتاح دار السعادة» (1/ 155): «وقد ذكرت الحكمين الداودي والسليماني ووجهيهما، ومن صار من الأئمة إلى هذا ومن صار إلى هذا، وترجيح الحكم السليماني من عدة وجوه، وموافقته للقياس وقواعد الشرع في «كتاب الاجتهاد والتقليد» .
(6)
ت: «أقرب» .
(7)
رواه أحمد (18606)، وأبو داود (3570)، والنسائي في «السنن الكبرى» (5752، 5753) من حديث البراء رضي الله عنه. وفي سند الحديث اختلاف شديد، ويُنظر:«المسند» لأحمد (23691، 23694، 23697)، و «السنن» لأبي داود (3569)، و «السنن» لابن ماجه (2332)، و «السنن الكبرى» للنسائي (5754، 5755)، و «السنن» للدارقطني (3313 - 3319)، و «التمهيد» لابن عبد البر (11/ 81 - 82)، و «المحلى» لابن حزم (8/ 146، 11/ 4، 5)، و «السنن الكبير» للبيهقي (8/ 341 - 342). وصحح الحديثَ ابنُ حبان (7170)، والحاكم (2/ 48)، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (6/ 486).
وصحَّ بالنصوص السابقة والقياس الصحيح وجوبُ الضمان بالمثل، وصحَّ بنصِّ الكتاب الثناءُ على سليمان بتفهيم هذا الحكم= فصحَّ أنه الصواب. وبالله التوفيق.
ومن ذلك: المماثلة في القصاص في الجنايات الثلاث على النفوس والأموال والأعراض، فهذه ثلاث مسائل:
الأولى: هل يُفعَل بالجاني كما فعَل بالمجنيِّ عليه؟
(1)
فإن كان الفعل محرَّمًا لحقِّ الله كاللواط وتجريعه الخمر لم يُفعَل به كما فَعل اتفاقًا. وإن كان غير ذلك كتحريقه بالنار، وإلقائه في الماء، ورَضِّ رأسه بالحجر، ومنعِه الطعامَ
(2)
والشرابَ حتى يموت= فمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه يفعلون به كما فَعل، ولا فرق بين الجرح المُزْهِق وغيره. وأبو حنيفة وأحمد في رواية
(3)
يقولان: لا يُقتَل إلا بالسيف في العنق خاصة.
(1)
ما عدا ع: «هل يفعل بالمجني عليه كما فعل بالجاني» . ولعله كذا وقع في الأصل مقلوبًا سهوًا، فأصلح في ع. وفي النسخ المطبوعة: «كما يفعل
…
»، والصواب ما أثبت من ع.
(2)
ت: «من الطعام» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة زيادة: «عنه» .
وأحمد في رواية ثالثة يقول: إن كان الجرح مُزْهِقا فُعِل به كما فعَل، وإلا قُتل بالسيف. وفي رواية رابعة يقول: إن كان مزهقًا، أو موجبًا للقوَد بنفسه لو انفرد فُعِل به كما فعَل، وإن كان غير ذلك قُتِل بالسيف
(1)
.
والكتاب والميزان مع القول الأول. وبه جاءت السنة، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رضَّ رأسَ اليهودي بين حجرين كما فَعل بالجارية
(2)
. وليس هذا قتلًا لنقضه العهد؛ لأن ناقِضَ العهد إنما يُقتَل بالسيف في العنق. وفي أثر مرفوع: «من حرَّق حرَّقناه، ومن غرَّق غرَّقناه»
(3)
.
وحديث: «لا قود إلا بالسيف»
(4)
،
قال الإمام أحمد: ليس إسناده
(1)
وانظر: «تهذيب السنن» (3/ 138 - 140) و «زاد المعاد» (4/ 77).
(2)
أخرجه البخاري (2413) ومسلم (1672) من حديث أنس.
(3)
رواه البيهقي (8/ 43)، وفي «معرفة السنن والآثار» (6/ 409) من حديث البراء رضي الله عنه. قال البيهقي في «معرفة السنن»:«وفي هذا الإسناد بعضُ مَنْ يُجْهَلُ» . وضعّفه ابن الجوزي في «التحقيق» (2/ 317)، وأقرّه الذهبي في «التنقيح» (2/ 235). وقال ابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (4/ 494):«وفي هذا الإسناد مَنْ تُجْهَلُ حالُه؛ كبِشْرٍ، وغيرِه» . وبشر هذا رجّح بعض المحققين أن اسمه: (باشر)، ويُنظر:«الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (2/ 439 - 440)، و «المؤتلف والمختلف» لعبد الغني بن سعيد الأزدي (2/ 750)، و «الإكمال» لابن ماكولا (1/ 157 - 158)، و «توضيح المشتبه» لابن ناصر الدين الدمشقي (3/ 21).
(4)
رواه ابن ماجه (2667) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعا. وفي سنده جابر بن يزيد الجعفي، وهو واهٍ جدًّا، وشيخُه أبو عازب مجهول.
ورواه ابن ماجه (2668) من حديث الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا، وهو منكر، والمحفوظ أنه من مراسيل الحسن. ويُنظر:«المصنف» لابن أبي شيبة (28295)، و «المسند» للبزار (3663)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1388)، و «الكامل» لابن عدي (3/ 252، 5/ 340، 7/ 82)، و «السنن» للدارقطني (3109 - 3113، 3174 - 3181)، و «السنن الكبير» للبيهقي (8/ 62 - 63)، و «معرفة السنن والآثار» له (6/ 187 - 188).
بجيد
(1)
. والثابت عن الصحابة [197/ب] أنه يُفعَل به كما فعَل. فقد اتفق على ذلك الكتاب، والسنَّة، والقياس، وآثار الصحابة. واسم القصاص يقتضيه، لأنه يستلزم المماثلة.
المسألة الثانية: إتلاف المال. فإن كان مما له حرمة كالحيوان والعبيد، فليس له أن يُتلِف ماله كما أتلفَ ماله. وإن لم تكن له حرمة كالثوب يشقُّه، والإناءِ يكسره، فالمشهور أنه ليس له أن يتلف عليه نظيرَ ما أتلفه، بل له القيمة، أو المثل
(2)
كما تقدَّم. والقياس يقتضي أنَّ له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه ما
(3)
فعله الجاني به، فيشقَّ ثوبه كما شقَّ ثوبه، ويكسر عصاه كما كسر عصاه إذا كانا متساويين، وهذا من العدل
(4)
. وليس مع من منعه نصٌّ ولا قياس ولا إجماع، فإن هذا ليس بحرام لحقِّ الله، وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والأطراف. وإذا مكَّنه
(5)
الشارع أن يُتلِف طرفَه بطرفه فتمكينُه من إتلافِ ماله في مقابلةِ ماله
(6)
هو أولى وأحرى، وأن حكمة
(1)
«المغني» (11/ 509).
(2)
في المطبوع: «القيمة في المثل» !
(3)
في النسخ المطبوعة: «كما» .
(4)
ت: «مع العدل» ، فكتب بعضهم في الحاشية:«محض» مع علامة «ظ» ، يعني أن «مع» تحريف «محض» فيما يظهر له.
(5)
ما عدا س، ت:«أمكنه» . وقبله في ت: «فإذا» .
(6)
بعده في س، ح، ف:«لف» باللام، فهل هو بعض كلمة «التالف»؟ وفي ع:«كيف» .
القصاص من التشفِّي ودركِ الغيظ لا تحصل إلا بذلك، ولأنه قد يكون له غرض في أذاه وإتلاف ثيابه ويعطيه قيمتها، ولا يشقُّ ذلك عليه لكثرة ماله، فيشفي نفسه منه بذلك، ويبقى المجنيُّ عليه بغبنه وغيظه، فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه ودركِ ثأره وبردِ قلبه وإذاقةِ الجاني من الأذى ما ذاق هو؟ فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة وقياسها
(1)
يأبى ذلك.
وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله:{وَإِنْ [198/أ] عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يقتضي جواز ذلك.
وقد صرَّح الفقهاء بجواز إحراقِ زروع الكفار وقطعِ أشجارهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا، وهذا عين المسألة. وقد أقرَّ الله سبحانه الصحابة على قطع نخل اليهود لما فيه من خزيهم، وهذا يدل على أنه سبحانه يحبُّ خزيَ الجاني الظالم ويشرعه. وإذا جاز تحريقُ متاع الغالِّ لكونه تعدَّى على المسلمين في خيانتهم في شيء
(2)
من الغنيمة، فلَأن يحرَّق مالُه إذا حرَّق مالَ المسلم المعصوم أولى وأحرى. وإذا شُرعت العقوبة المالية في حقِّ الله الذي مسامحتُه به أكثر من استيفائه، فلَأن تُشرَع في حقِّ العبد الشحيح أولى وأحرى.
ولأن الله سبحانه شرع القصاص زجرًا للنفوس عن العدوان، وكان من
(1)
بعده في النسخ المطبوعة زيادة «معًا» .
(2)
في النسخ الخطية: «من شيء» ، والمثبت من المطبوعة. وانظر في تحريق متاع الغالِّ ما أخرجه أبو داود (2714، 2715).
الممكن أن يوجب الدية استدراكًا لظلامة المجنيِّ عليه بالمال، ولكن ما شرعه أكمل وأصلح للعباد، وأشفى لغيظ المجنيِّ عليه، وأحفظ للنفوس والأطراف؛ وإلا فمن كان في نفسه من الآخر من قتلِه أو قطعِ طرفِه، قتَلَه أو قطَع طرفَه، وأعطى ديتَه؛ والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك. وهذا بعينه موجود في العدوان على المال.
فإن قيل: فهذا ينجبر
(1)
بأن يعطيَ
(2)
نظير ما أتلفه عليه.
قيل: إذا رضي المجنيُّ عليه بذلك، فهو كما لو رضي بدية طرفه. فهذا هو محض القياس، وبه قال الأحمدان أحمد بن حنبل وأحمد بن تيمية
(3)
. قال في رواية موسى بن سعيد
(4)
: وصاحب الشقِّ
(5)
مخيَّر
(6)
، إن شاء شقَّ الثوبَ، وإن شاء مثلَه
(7)
.
المسألة الثالثة: الجناية [198/ب] على العِرض. فإن كان حرامًا في نفسه كالكذب عليه وقذفِه وسبِّ والديه، فليس له أن يفعل به كما فعل
(8)
اتفاقًا.
(1)
ما عدا س، ع:«يتخير» ، وهو تصحيف. وقال ناسخ ف أيضًا في حاشيتها:«لعله ينجبر» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «يعطيه» .
(3)
انظر: «جامع المسائل» (2/ 260) و «الإنصاف» (6/ 194).
(4)
سبق تخريجها.
(5)
ما عدا ع: «الشيء» ، تحريف.
(6)
في النسخ المطبوعة: «يخير» .
(7)
هنا أيضًا في النسخ المطبوعة: «أخذ مثلَه» ، بزيادة «أخذ» .
(8)
زيد بعده: «به» في النسخ المطبوعة.
وإن سبَّه في نفسه، أو سخِر منه
(1)
، أو هزِئ به، أو بال عليه، أو بصَق عليه، أو دعا عليه= فله أن يفعل به نظيرَ ما فعَل به متحرِّيًا للعدل. وكذلك إذا كسَعه أو صفَعه، فله أن يستوفي منه نظيرَ ما فعَله
(2)
به سواء. وهذا أقرب إلى الكتاب والميزان وآثار الصحابة من التعزير المخالف للجناية جنسًا ونوعًا وقدرًا وصفةً.
وقد دلَّت السنة الصحيحة الصريحة على ذلك، فلا عبرة بخلاف من خالفها. ففي «صحيح البخاري»
(3)
أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن زينب بنت جحش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلِّمه في شأن عائشة، فأتته، فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشُدْنك العدل في بنت أبي قحافة
(4)
. فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة، وهي قاعدة، فسبَّتها، حتى إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَينظر إلى عائشة، هل تتكلَّم. فتكلَّمت عائشة ترُدُّ على زينبَ حتى أسكتتها. قالت: فنظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، وقال:«إنها بنت أبي بكر» .
وفي «الصحيحين»
(5)
هذه القصة قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينبَ بنت جحش زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تُساميني في المنزلة عند
(1)
في النسخ المطبوعة: «به» .
(2)
ع: «فعل» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
برقم (2581). وأخرجه مسلم (2442).
(4)
نسبتها إلى جدِّها. وكذا في النسخ الخطية و «صحيح مسلم» (2442) و «مسند أحمد» (24575) وغيرهما. وفي النسخ المطبوعة: «بنت ابن أبي قحافة» كما في بعض روايات حديث البخاري.
(5)
بل في «صحيح مسلم» .
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرت الحديث، وقالت: ثم وقعت فيَّ، فاستطالت عليَّ، وأنا أرقُب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأرقُب طرفَه: هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرَح [199/أ] زينبُ حتى عرفتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر. فلما وقعتُ بها
(1)
لم أنشَبْها حتى أثخنتُ عليها
(2)
. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبسَّم:«إنها ابنة أبي بكر» . وفي لفظ فيهما
(3)
: «لم أنشَبْها أن أثخنتُها غلبةً» .
وقد حكى الله سبحانه عن يوسف الصدِّيق أنه قال لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}
(4)
، لما قالوا:{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}
(5)
[يوسف: 77]، ولم يُبْدِ لهم ذلك للمصلحة التي اقتضت كتمان الحال.
ومن تأمَّل الأحاديث رأى ذلك فيها كثيرًا جدًّا. وبالله التوفيق.
فصل
قالوا: وهذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، من تناقض القيَّاسين
(6)
الآرائيين، وقولهم بالقياس وتركهِم لما هو نظيره من كلِّ وجه أو أولى منه، وخروجِهم في القياس عن موجَب القياس، كما أوجب لهم مخالفةَ السنن
(1)
يعني: نلتُ منها.
(2)
أي لم أتركها حتى بالغت في إفحامها. ويروى: «أنحيتُ» .
(3)
بل في «صحيح مسلم» وحده.
(4)
زادوا في النسخ المطبوعة: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} .
(5)
زادوا في النسخ المطبوعة: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} وغيَّروا عبارة المصنف.
(6)
في النسخ المطبوعة: «القياسيين» كالعادة.
والآثار، كما تقدَّم الإشارة إلى بعض ذلك. فَلْيُوجِدْنا القيَّاسون
(1)
حديثًا واحدًا صحيحًا صريحًا غيرَ منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا! فإن كان مخالفة القياس ذنبًا
(2)
فقد أريناهم مخالفته صريحًا. ثم نحن أسعَدُ
(3)
بمخالفته منهم، لأنا إنما خالفناه للنصوص. وإن كان حقًّا فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟
فانظر إلى هذين البحرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما، والحزبين اللذين قد ارتفع في مَعْرَكِ
(4)
الحرب عَجاجُهما. فجرَّ كلٌّ منهما جيشًا من الحجج لا تقوم له الجبال، وتتضاءل له شجاعة الأبطال، وأدلَى كلٌّ
(5)
منهما من الكتاب والسنة والآثار بما خضعت له الرقاب، وذلَّت له الصعاب، وانقاد [199/ب] له علمُ كلِّ عالم، ونفَّذه حكمُ كلِّ حاكم
(6)
. وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه، ويحيط علمًا بما أصَّلاه وفصَّلاه. فليعرف الناظر في هذا المقام قدرَه، ولا يتعدَّى طورَه، وليعلم أن وراء سُوَيقِيَته
(7)
بحارًا طاميةً، وفوق مرتبته في العلم مراتبَ فوق
(1)
انظر التعليق السابق. وفي ف: «القائسون» .
(2)
هذا في س، ع. ونقطة الباء واضحة في ح أيضًا. وفي غيرهما والنسخ المطبوعة:«دينًا» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «أسعد الناس» .
(4)
في النسخ المطبوعة: «معترك» .
(5)
في طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ومَن تابعه: «وأتى كلُّ واحد» ، ولعله تصرُّف من بعض الناشرين.
(6)
في النسخ المطبوعة: «ونفّذ حكمه كل حاكم» .
(7)
السُّوَيقِيَة: تصغير الساقية.
السُّهى
(1)
عاليةً. فإن وثق من نفسه بأنه من فرسان هذا الميدان، وجملة هؤلاء الأقران، فَلْيجلس مجلسَ الحكم بين الفريقين، ويحكُمْ بما يُرضي الله ورسوله بين هذين الحزبين؛ فإن الدين كلَّه لله، وإنِ الحكم إلا لله. ولا ينفع في هذا المقام:«قاعدةُ المذهب كيتَ وكيتَ» ، و «قطع به جمهورٌ من الأصحاب» ، و «تحصَّل لنا في المسألة كذا وكذا وجهًا» ، و «صحَّح هذا القولَ خمسة عشر، وصحح الآخرَ سبعة» . وإن علا نسبُ علمِه قال: «نصَّ عليه» ، فانقطع النزاع، ولُزَّ
(2)
ذلك النصُّ في قَرَن الإجماع. والله المستعان، وعليه التكلان.
فصل
قال المتوسِّطون بين الفريقين: قد ثبت أن الله سبحانه أنزل
(3)
الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان. وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه. ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح. بل كلُّها
(1)
كوكب صغير خفيّ في وسط بنات نعش.
(2)
ع: «ولو» ، تصحيف. وفي المطبوع:«ولزم» ، ولعله من أخطاء الطبع. والمراد أنَّ نصَّ الإمام جُعِل مع الإجماع في قرَن واحد، كأنهما نِدَّان. يقال للبعيرين إذا قُرِنا في قرَن واحد: قد لُزَّا. ومنه قول جرير:
وابنُ اللبون إذا ما لُزَّ في قرَنٍ
…
لم يستطع صولةَ البُزْل القناعيسِ
انظر: «ديوانه» (1/ 125).
(3)
في النسخ المطبوعة: «قد أنزل» .
متصادقة متعاضدة متناصرة يصدِّق بعضُها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض؛ فلا يناقض القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا.
ونصوص الشارع نوعان: أخبار، وأوامر. فكما [200/أ] أن أخباره لا تخالف العقل
(1)
الصحيح، بل هي نوعان: نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملةً أو جملةً وتفصيلًا. ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه
(2)
من حيث الجملة. فهكذا أوامره سبحانه نوعان: نوع يشهد به القياس والميزان، ونوع لا يستقلُّ بالشهادة به ولكن لا يخالفه. وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال، وهو ورودُها بما يردُّه العقل الصريح
(3)
، فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح.
وهذه الجملة إنما تتفصَّل
(4)
بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين:
إحداهما: أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلَّفين أمرًا ونهيًا وإذنًا وعفوًا، كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علمًا وكتابةً وقدرًا. فعلمُه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف
(1)
في النسخ الخطية: «القول» ، وهو تصحيف أو سهو كان في الأصول.
(2)
في النسخ الخطية: «أدركته» ، يعني: العقول، ولكن مقتضى السياق ما أثبت من المطبوع.
(3)
يعني: الخالص. وكذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «الصحيح» .
(4)
ضبط في س، ح بتشديد الصاد المفتوحة. وفي النسخ المطبوعة:«تنفصل» ، تصحيف. وتفصَّل مطاوع فصَّل، لم تنصّ عليه المعاجم، ولكن المصنف استعمله في كتاب «الفوائد» (ص 161) أيضًا. قال: «
…
بل عرفه معرفة مجملة، وإن تفصَّلت له في بعض الأشياء». وانظر:«بيان تلبيس الجهمية» لشيخ الإسلام (5/ 125).
وغيرها، وأمرُه ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أعمالهم
(1)
التكليفية. فلا يخرج فعلٌ من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري. فقد بيَّن الله سبحانه على لسان رسوله، بكلامه وكلام رسوله، جميعَ ما أمرَ
(2)
به، وجميعَ ما نهى عنه، وجميعَ ما أحلَّه، وجميع ما حرَّمه، وجميع ما عفا عنه. وبهذا يكون دينه كاملًا كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
(3)
[المائدة: 3]. ولكن قد يقصُر فهمُ أكثر الناس عن فهم ما دلَّت عليه النصوص، وعن وجه الدلالة وتنويعها
(4)
. وتفاوتُ الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله، ولو كانت الأفهام متساويةً [200/ب] لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خصَّ سبحانه سليمانَ بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داود بالعلم والحكم.
وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه: «الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك»
(5)
. وقال علي: «إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه»
(6)
. وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم
(7)
. ودعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس أن
(1)
ع: «أفعالهم» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وقد وقع تقديم وتأخير في أجزاء هذه الجملة والجملة السابقة في س، ح، ف، ففيها: «
…
أفعال عباده وعفوه وأمره ونهيه وإباحته الواقعة تحت التكليف وغيرها قد أحاط
…
».
(2)
في النسخ المطبوعة: «أمره» .
(3)
في النسخ المطبوعة زيادة: «وأتممت عليكم نعمتي» .
(4)
ع: «وموقعها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
سبق تخريجه.
(6)
سبق تخريجه.
(7)
سبق تخريجه.
يفقِّهه في الدين ويعلِّمه التأويل
(1)
. والفرق بين الفقه والتأويل: أن الفقه هو فهم المعنى المراد، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى، التي هي آخيَّته
(2)
وأصله. وليس كلُّ من فقه في الدين عرف التأويل، فمعرفة التأويل يختصُّ به الراسخون في العلم. وليس المراد به
(3)
تأويل التحريف وتبديل المعنى، فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه، والله يعلم بطلانه.
فصل
(4)
والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق:
فرقة قالت: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا بعض هؤلاء حتى قال: ولا بعُشْرِ معشارها
(5)
. قالوا: فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص. ولَعَمرُ الله إنَّ هذا مقدار النصوص في فهمه وعلمه ومعرفته، لا مقدارها في نفس الأمر. واحتجَّ هذا القائل بأن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع
(6)
. وهذا احتجاج فاسد جدًّا من وجوه:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تقدم تفسيرها. ويريد أن المعنى يدور حول تلك الحقيقة.
(3)
«به» ساقط من ح، ف.
(4)
قارن هذا الفصل بكلام شيخ الإسلام في القاعدة المذكورة (ص 274 - 276) ضمن «جامع المسائل» ، المجموعة الثانية. فإنما هو مأخوذ منه مع بعض الزيادات. وكذلك الفصول التالية.
(5)
انظر: «البرهان» للجويني (2/ 15، 37).
(6)
انظر: «أصول السرخسي» (2/ 139) و «الفروق» للقرافي (1/ 8).
أحدها: أن ما لا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يجعل أنواعًا، فيُحكَم لكلِّ نوع منها بحكم واحد، فتدخل الأفراد التي [201/أ] لا تتناهى تحت ذلك النوع.
الثاني: أن أنواع الأفعال، بل والأعراض، كلُّها متناهية.
الثالث: أنه لو قُدِّر عدمُ تناهيها، فأفعالُ
(1)
العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية. وهذا كما تجعل الأقارب نوعين: نوعًا مباحًا، وهو بنات العمِّ والعمَّة وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام. وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورًا، وما سوى ذلك لا ينقضه. وكذلك ما يُفسد الصوم، وما يوجب الغسل، وما يوجب العدَّة، وما يُمنَع منه المُحرِم، وأمثال ذلك. وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم، ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحِلّ ويحرُم عندهم، مع قصور بيانهم= فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدَرُ على ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامة وقضية كلّية تجمع أنواعًا وأفرادًا، وتدل دلالتين: دلالةَ طرد، ودلالةَ عكس.
وهذا كما سئل صلى الله عليه وسلم عن أنواع من الأشربة كالبِتْع والمِزْر
(2)
، وكان قد أوتي جوامع الكلم، فقال:«كلُّ مسكِر حرام»
(3)
. و «كلُّ عمل ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»
(4)
. و «كلُّ قرضٍ جَرَّ نفعًا فهو ربا»
(5)
. و «كلُّ شرطٍ ليس في
(1)
في النسخ المطبوعة: «فإن أفعال» .
(2)
البِتْع: ما اشتدَّ من نبيذ العسل. والمِزْر: ما اشتدَّ من نبيذ الذرة والشعير. وقد فسَّرهما أبو موسى الأشعري في حديث «الصحيحين» ، وسيأتي.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
رواه أبو الجهم العلاء بن موسى الباهلي في «جزئه» (92 - تخريج أبي القاسم البغوي)، والحارث بن محمد بن أبي أسامة في «المسند» (437 - بغية الباحث) للهيثمي، من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا. وآفتُه سوار بن مصعب، وهو واهٍ متروكٌ. ويُنظر:«تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 108).
كتاب الله فهو باطل»
(1)
. و «كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه ومالُه وعِرضُه»
(2)
. و «كلُّ أحدٍ أحقُّ بماله من ولده ووالده والناس أجمعين»
(3)
. و «كلُّ محدَثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة»
(4)
.
(5)
.
وسمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية «جامعةً فاذّة»
(6)
: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
(1)
كما في حديث عائشة في «صحيح البخاري» (456) و «صحيح مسلم» (1504).
(2)
أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه سعيد بن منصور (2293) عن هشيم، عن عبد الرحمن بن يحيى الحضرمي، عن حبان بن أبي جبلة، عن الحسن مرسلا. وخالفه أبو عبيد القاسم بن سلام والحسن بن عرفة، فروياه عن هشيم، عن عبد الرحمن، عن حبان بن أبي جبلة مرسلًا. رواه الدارقطني (4568)، والبيهقي (7/ 481، 10/ 319). والحديث منكر، لا يصح، وقد نقل الخلال عن مهنّا عن الإمام أحمد قال:«أحاديث عبد الرحمن بن يحيى منكرة» . ذكره ابن دقيق العيد في كتاب «الإمام» (4/ 63 - 64).
(4)
رواه أحمد (17144، 17145)، وأبو داود (4607) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعًا .. وصححه الترمذي (2676)، وأبو العباس الدغولي ــ كما في «ذم الكلام» لأبي إسماعيل الهروي (3/ 125) ــ، وابن حبان (3144)، والحاكم (1/ 96 = 98)، وأبو نعيم في «المستخرج على صحيح مسلم» (1/ 36)، وغيرُهم، وحسنه أبو إسماعيل الهروي (3/ 122)، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 205). ورواه النسائي (1578) من حديث جابر رضي الله عنه
مرفوعًا. ويُنظر: «المسند الصحيح» مسلم (867)، و «السنن» لابن ماجه (42، 45، 46).
(5)
أخرجه البخاري (6021) من حديث جابر، ومسلم (1005) من حديث حذيفة.
(6)
أخرجه البخاري (2371) ومسلم (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر، فقال: «ما أنزل عليَّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة:
…
». والفاذَّة: المنفردة.
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8][201/ب]. ومن هذا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، فدخل في الخمر كلُّ مسكِر، جامدًا كان أو مائعًا، من العنب أو من غيره. ودخل في الميسِر كلُّ أكلِ مالٍ بالباطل، وكلُّ عملٍ محرَّم يُوقِع في العداوة والبغضاء، ويصُدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة.
ودخل في قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] كلُّ يمين منعقدة. ودخل في قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] كلُّ طيِّب من المطاعم والمشارب والملابس والفروج. ودخل في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 4]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ما لا تحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها، حتَّى اللطمة والضربة والكَسْعة، كما فهم الصحابة.
ودخل في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] تحريمُ كلِّ فاحشة ظاهرة وباطنة، وكلِّ ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عِرض، وكلِّ شرك بالله وإن دقَّ في قول أو عمل أو إرادة بأن يجعل الله عِدْلًا لغيره
(1)
في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد، وكلِّ قولٍ على
(1)
في النسخ المطبوعة: «لله عدلًا بغيره» .
الله لم يأت به نصٌّ عنه ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل أو إيجاب أو إسقاط أو خبر عنه باسم أو صفة نفيًا أو إثباتًا، أو خبرٍ
(1)
عن فعله، فالقولُ عليه بلا علم حرامٌ في أفعاله [202/أ] وصفاته ودينه
(2)
.
ودخل في قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وجوبُه في كلِّ جُرحٍ يمكن القصاص منه. وليس هذا تخصيصًا، بل هو مفهوم من قوله:{قِصَاصٌ} وهو المماثلة. ودخل في قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وجوبُ نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته على كلِّ وارث قريب أو بعيد. ودخل في قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] جميعُ الحقوق التي للمرأة وعليها، وأن مردَّ ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معروفًا لا منكرًا، والقرآن والسنة كفيلان بهذا
(3)
أتمَّ كفالة.
فصل
(4)
الفرقة الثانية: قابلت هذه الفرقة، وقالت: القياس كلُّه باطل، محرَّم في الدين، ليس منه. وأنكروا القياس الجليَّ الظاهر حتى فرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئًا لحكمةٍ أصلًا. ونفَوا تعليل خلقه وأمره، وجوَّزوا، بل جزَموا بأنه يفرِّق بين المتماثلين، ويقرُن
(5)
بين المختلفين في
(1)
في النسخ المطبوعة: «خبرًا» .
(2)
ما عدا ع: «وأفعاله ودينه» ، بتكرار «أفعاله» .
(3)
ت: «بذلك» .
(4)
انظر: «جامع المسائل» (2/ 276 - 282).
(5)
ع: «تفريق بين المتماثلين وتقرين» ، تحريف.
القضاء والشرع. وجعلوا كلَّ مقدور فهو
(1)
عدل، والظلمُ عندهم هو الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين.
وهذا وإن كان قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنَّة في إثبات القدر، وخالفوا القدرية النُّفاة
(2)
، فقد أصابوا في إثبات القدر وتعلُّقِ
(3)
المشيئة الإلهية بأفعال العباد الاختيارية كما تتعلَّق بذواتهم وصفاتهم، وأصابوا في بيان
(4)
تناقض القدرية النفاة؛ ولكن ردُّوا من الحقِّ المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سلَّطوا عليهم به خصومَهم، وصاروا [202/ب] ممن ردَّ بدعة ببدعة، وقابلَ الفاسد بالفاسد، ومكنوا خصومهم بما نفَوه من الحقِّ من الردِّ عليهم، وبيان تناقضهم، ومخالفتهم للشرع
(5)
والعقل.
فصل
(6)
الفرقة الثالثة: قوم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب، وأقرُّوا بالقياس كأبي الحسن الأشعري وأتباعه، ومن قال بقوله من الفقهاء أتباع الأئمة. وقالوا: إن عِلَلَ الشرع إنما هي مجرَّد أمارات وعلامات محضة، كما قالوه في ترك الأسباب. وقالوا: إن الدعاء علامة محضة على حصول المطلوب، لا أنه سبب فيه. والأعمال الصالحة والقبيحة علامات محضة ليست سببًا
(1)
ت: «هو» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «والنفاة» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «وتعليق» ، ولعل من غيَّر ظنَّ أن «تعلّق» معطوف على «إثبات» .
(4)
في النسخ المطبوعة: «إثبات» .
(5)
ع: «الشرع» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
انظر: «جامع المسائل» (2/ 277 - 278).
في حصول الخير والشر. وكذلك جميع ما وجدوه من الخلق والأمر مقترنًا بعضه ببعض، قالوا: أحدهما دليل على الآخر، مقارن له اقترانًا عاديًّا، وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجه من الوجوه.
وليس عند أكثر الناس غير أقوال هؤلاء الفرق الثلاث
(1)
، وطالبُ الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب، ومناقضة بعضها لبعض، ومعارضة بعضها ببعضٍ
(2)
= بقي في الحيرة، فتارةً يتحيَّز إلى فرقة منها، له ما لها وعليه ما عليها، وتارةً يتردَّد بين هذه الفِرَق تميميًّا
(3)
مرّةً وقيسيًّا أخرى! وتارةً يُلقي الحربَ بينهما، ويقِف في النظّارة. وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب [203/أ] كالإسلام في الأديان، وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون: مِن إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره، وإثباتِ لام التعليل وباء السببيَّة في القضاء والشرع، كما دلَّت عليه النصوص، مع صريح العقل والفطرة؛ فاتفق
(4)
عليه الكتاب والميزان.
ومن تأمَّلَ كلامَ سلف الأمة وأئمة السنَّة
(5)
رآه ينكر قولَ الطائفتين
(1)
ت: «الثلاثة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: «لبعض» .
(3)
ما عدا ع: «يمنيًّا» ، ولعله تصحيف. قال المبرِّد في «الكامل» (3/ 1091):«ومن كلام العرب: أتميميًّا مرةً وقيسيًّا أخرى» . فنصَّ على أن المثل هكذا جاء في كلام العرب، وإلا يجوز ما ورد في النسخ لما كان بين القيسية واليمانية من الصراع في عهد بني أمية.
(4)
في النسخ المطبوعة: «واتفق» .
(5)
في النسخ المطبوعة: «وأئمة أهل السنة» .
المنحرفتين عن الوسط. فينكر قولَ المعتزلة المكذِّبين بالقدر، وقولَ الجهمية المنكِرين للحِكَم والأسباب والرحمة. فلا يرضَون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية، ولا بقول القدرية الجبرية نُفاةِ الحكمة والرحمة والتعليل. وعامّةُ البدع الحادثة
(1)
في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية.
والجهمية رؤوس الجبرية. وأئمتهم أنكروا حكمة الله ورحمته، وإن أقرُّوا بلفظ مجرَّد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة. والقدرية النُّفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته. فأولئك أثبتوا نوعًا من المُلك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من الحمد بلا مُلك. فأنكر أولئك عمومَ حمده، وأنكر هؤلاء عمومَ ملكه. وأثبت له الرسلُ وأتباعُهم عمومَ الملك وعمومَ الحمد، كما أثبته لنفسه. فله كمال الملك، وكمال الحمد. فلا يخرج عين ولا فعل عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كلِّ ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحِقُّ عليها الحمد. وهو في عموم قدرته ومشيئته [203/ب] وملكه على صراط مستقيم، وهو حمدُه الذي يتصرَّف في ملكه به ولأجله.
والمقصود: أنهم كما انقسموا إلى ثلاثِ فِرَق في هذا الأصل، انقسموا في فرعه ــ وهو القياس ــ إلى ثلاثِ فِرَق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحِكَم والتعليل والمناسبات
(2)
. والفرقتان أخْلَت
(3)
النصوصَ
(1)
ع: «المحدثة» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي «جامع المسائل» (2/ 278) كما أثبت من النسخ.
(2)
ع: «والأسباب» ، وكذا في المطبوع.
(3)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة بالإفراد بدلًا من «أخْلَتا» . وانظر ما يأتي في (2/ 516).
عن تناولها لجميع أحكام المكلَّفين وأنها
(1)
أحالت على القياس. ثم قالت غلاتهم: أحالت عليه أكثرَ الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرًا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها
(2)
إلا به.
والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلَّها، والنصوص كافية وافية بها. والقياس الصحيح حقٌّ مطابقٌ للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان. وقد تخفى دلالة النص، أو لا تبلغ العالِمَ فيعدل إلى القياس. ثم قد يظهر موافقًا للنصِّ فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له، فيكون فاسدًا. وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته
(3)
.
فصل
(4)
وكلُّ فرقة من هؤلاء
(5)
الفرق الثلاث سدُّوا على نفوسهم
(6)
طريقًا من طرُق الحق، فاضطُرُّوا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله. فنفاة القياس لما سدُّوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح ــ وهو [204/أ] من الميزان والقسط الذي أنزله الله ــ احتاجوا إلى
(1)
يعني: وزعمتا أن النصوص
…
(2)
ت: «بيانها» .
(3)
«ولكن عند المجتهد
…
» إلى هنا ساقط من ع.
(4)
انظر: «جامع المسائل» (2/ 281 وما بعدها).
(5)
ع: «هذه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
ع: «أنفسهم» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
توسعة الظاهر والاستصحاب، فحمَّلوهما فوق الحاجة ووسَّعوهما أكثر مما يسَعانه. فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموه
(1)
منه نفَوه، وحمَّلوه الاستصحابَ
(2)
. وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد. وأحسنوا في ردِّ الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقضَ أهلها في نفس القياس وتركِهم له، وأخذِهم بقياسٍ وتركِهم ما هو أولى منه. ولكن أخطؤوا من أربعة أوجه
(3)
:
أحدها: ردُّ القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علّته التي يجري النصُّ عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ. ولا يتوقَّف عاقل في أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم لمَن
(4)
لعن عبدَ الله حمارًا على كثرة شربه للخمر: «لا تلعنه، فإنه يحبُ الله ورسوله»
(5)
بمنزلة قوله: لا تلعنوا كلَّ من يحبُّ الله ورسوله، وفي أنَّ قوله: «إن الله ورسوله ينهاكم
(6)
عن لحوم الحُمُر، فإنها رجس»
(7)
(1)
في النسخ المطبوعة: «لم يفهموا» .
(2)
في «جامع المسائل» (2/ 281): «
…
وأثبتوا الأمر على موجب الاستصحاب». وفي ف: «وحملوا الاستصحاب» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في «جامع المسائل» : «ثلاثة أوجه» . وهي الثلاث الأولى هنا.
(4)
في النسخ المطبوعة: «لما» ، وهو خطأ.
(5)
أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر رضي الله عنه.
(6)
في النسخ المطبوعة: «ينهيانكم» بالتثنية، وهو لفظ البخاري ومسلم. وفي النسخ الخطية كما أثبت بالإفراد. وهو لفظ النسائي (69، 4340) و «مصنف ابن أبي شيبة» (24331). يعني: إن الله ينهاكم ورسوله. كما قال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} .
(7)
أخرجه البخاري (4198) ومسلم (1940) من حديث أنس رضي الله عنه.
بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كلِّ رجس، وفي أنَّ قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] نهىٌ عن كلِّ رجس، وفي أنَّ قوله في الهِرِّ:«ليست بنجَس، إنها من الطوّافين عليكم والطوّافات»
(1)
بمنزلة قوله: كلُّ ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس. ولا يستريب أحد في أنَّ من قال لغيره: «لا تأكل هذا
(2)
الطعام، فإنه مسموم» نهْي له
(3)
عن كلِّ طعام [204/ب] كذلك، وإذا قال:«لا تشرب هذا الشراب، فإنه مسكِر» نهي له عن كلِّ مسكِر، و «لا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة» وأمثال ذلك.
الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص. فكم من حكمٍ دلَّ عليه النصُّ ولم يفهموا دلالته عليه! وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرَّد ظاهر اللفظ، دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعُرفه عند المخاطبين. فلم يفهموا من قوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
(4)
ضربًا ولا سبًّا ولا إهانةً غير لفظة «أفٍّ» ، فقصَّروا في فهم الكتاب، كما قصَّروا في اعتبار الميزان.
الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقُّه، وجزمهُم بموجَبه، لعدم علمهم بالناقل، وليس عدمُ العلم علمًا بالعدم.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
في النسخ المطبوعة: «من هذا» .
(3)
كذا في النسخ هنا وفي الجملة التالية، ومقتضى السياق:«نهاه» أو «نهَى» فقط دون زيادة «له» .
(4)
في النسخ الخطية: «ولا تقل
…
».
وقد تنازع الناس في الاستصحاب، ونحن نذكر أقسامه ومراتبها. فالاستصحاب: استفعال من الصحبة، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتًا أو نفيِ ما كان منتفيًا
(1)
. وهو ثلاثة أقسام: استصحابُ البراءة الأصلية، واستصحابُ الوصفِ المثبِت الحكمَ
(2)
الشرعي حتى يثبُتَ خلافُه، واستصحابُ حكم الإجماع في محلِّ النزاع.
فأما النوع الأول فقد تنازع الناس فيه. فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين: إنه يصلح للدفع لا للإبقاء، كما قاله بعض الحنفية. ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يُدفَع به من ادَّعى تغييرَ الحال، لا لإبقاءِ
(3)
الأمر على ما كان، فإنَّ بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم، لا إلى عدم المغيِّر له. فإذا [205/أ] لم نجد دليلًا نافيًا ولا مثبِتًا أمسكنا، لا نُثبِت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من يُثبته
(4)
. فيكون حال المتمسِّك بالاستصحاب كحال المعترِض مع المستدِلّ، فهو يمنعه الدلالةَ حتى يُثبتها، لا أنه يقيم دليلًا على نفي ما ادَّعاه. وهذا غير حال المعارِض، فالمعارض لون والمعترض لون. فالمعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلِّم دلالته ويقيم دليلًا على نقيضه.
(1)
في النسخ المطبوعة: «منفيًّا» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «للحكم» .
(3)
هكذا في جميع النسخ. وزيدت في المطبوع بين حاصرتين. وفي الطبعات التي سبقته: «تغيير الحال لإبقاء
…
» بإسقاط لا النافية، وكذا في «جامع المسائل» (2/ 282)، والظاهر أن القراءة الصحيحة في هذه الصورة: «تغييرَ الحال، لا بَقاءَ
…
».
(4)
في النسخ المطبوعة: «أثبته» .
وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه. قالوا: لأنه إذا غلب على الظن انتفاءُ الناقل غلب على الظن بقاءُ الأمر على ما كان عليه.
ثم النوع الثاني: استصحاب الوصف المثبِت للحكم حتى يثبت خلافه، وهو حجة، كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدَث، واستصحاب بقاء النكاح وبقاء المِلك وشَغْل الذمة بما تشتغل
(1)
به حتى يثبت خلاف ذلك. وقد دلَّ الشارعُ على تعليق الحكم به في قوله في الصيد: «وإن وجدتَه غريقًا فلا تأكله، فإنك لا تدري: الماءُ قتَله أو سهمُك»
(2)
، وقوله:«وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل، فإنك إنما سمَّيتَ على كلبك، ولم تسمِّ على غيره»
(3)
. لما كان
(4)
الأصل في الذبائح التحريم، وشكَّ هل وُجِد الشرط المبيح أم لا= بقَّى
(5)
الصيدَ على أصله في التحريم. ولما كان الماء طاهرًا في الأصل بقَّاه
(6)
على طهارته ولم يُزِلْها بالشكّ. ولما كان الأصل بقاء المتطهِّر [205/ب] على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشكِّ في الحدث، بل
(1)
س: «تشغل» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
أخرجه البخاري (5484) ومسلم (1929) من حديث عدي بن حاتم.
(3)
انظر الحديث السابق في «صحيح البخاري» (175) و «صحيح مسلم» (1929/ 3، 5).
(4)
هذا آخر ما في نسخة برنستون (س) الناقصة الآخر.
(5)
يعني: الشارع. ورسم الكلمة فيما عدا ع: «بقا» بالألف الممدودة، والقراءة الصحيحة للجملة كما أثبت. وفي النسخ المطبوعة:«بقي الصيدُ» ، وانظر التعليق التالي.
(6)
في جميع النسخ كما أثبت. وفي النسخ المطبوعة: «فالأصل بقاؤه» ، ولعله تغيير من بعض الناشرين لما قرأ «بقاه»: بقاؤه.
قال: «لا ينصرِفْ حتى يسمعَ صوتًا أو يجد ريحًا»
(1)
. ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته أمرَ الشاكَّ أن يبني على اليقين، ويطرح الشكَّ
(2)
.
ولا يعارض هذا رفعُه للنكاح المتيقَّن بقول الأمة السوداء: إنها أرضعت الزوجين
(3)
. فإن أصل الأبضاع على التحريم، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية. وقد عارض هذا الظاهرَ ظاهرٌ مثلُه أو أقوى منه، وهو الشهادة. فإذا تعارضا تساقطا، وبقي أصلُ التحريم لا معارض له. فهذا الذي حكم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو
(4)
عين الصواب ومحض القياس. وبالله التوفيق.
ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع، وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذُب المسألةِ أصلين متعارضين. مثاله: أن مالكًا منع الرجلَ إذا شكَّ هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ؛ لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة، فإن أصلَ
(5)
بقاءِ الصلاة في ذمته. فإن قلتم: لا نُخرجه من الطهارة [بالشك]
(6)
، قال مالك: ولا نُدخِله في الصلاة بالشك، فيكون قد خرج منها بالشكِّ. فإن قلتم: يقين الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك، قال منازعكم
(7)
:
(1)
أخرجه البخاري (137) ومسلم (361) من حديث عبد الله بن زيد.
(2)
انظر حديث أبي سعيد الخدري في «صحيح مسلم» (571).
(3)
يشير إلى قصة عقبة بن الحارث. وقد سبق تخريجها.
(4)
ت: «وهو» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
ع: «الأصل» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
ما بين الحاصرتين من النسخ المطبوعة.
(7)
ت: «منازعوهم» . ح، ف:«منازعهم» . والمثبت من ع، وأشار إليه ناسخ ح في طرتها.
ويقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا يعود بالشك. قالوا: والحديث الذي تحتجُّون به من أكبر حججنا، فإنه منع المصلِّيَ بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقَّنة أن يخرج منها بالشك، فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك؟
(1)
.
ومن ذلك: لو شكَّ هل طلق واحدةً أو ثلاثًا، فإنّ مالكًا [206/أ] يُلزِمه بالثلاث، لأنه تيقَّن طلاقًا، وشكَّ هل هو مما تُزيل أثرَه الرجعةُ أم لا؟ وقول الجمهور في هذه المسألة أصح، فإن النكاح متيقَّن، فلا يزول بالشك. ولم يعارض يقينَ النكاح إلا شكٌّ محضٌ، فلا يزول به. وليس هذا نظير الدخول في الصلاة بالطهارة التي شكَّ في انتقاضها، فإن الأصل هناك شغلُ الذمة، وقد وقع الشكُّ في فراغها. ولا يقال هنا: الأصلُ
(2)
التحريمُ بالطلاق وقد شككنا في الحِلِّ، فإن التحريم قد زال بنكاح متيقَّن، وقد حصل الشكُّ فيما يرفعه. فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقَّن، ثم شكَّ في زواله. فإن قيل: هو متيقِّن للتحريم بالطلاق شاكٌّ في الحِلِّ بالرجعة، فكان جانبُ التحريم أقوى. قيل: ليست الرجعية بمحرَّمة، وله أن يخلو بها، ولها أن تتزيَّن له وتتعرَّض له، وله أن يطأها. والوطء رجعة عند الجمهور، وإنما خالف في ذلك الشافعيُّ وحده
(3)
. وهي زوجه
(4)
في جميع الأحكام إلا في القَسْم خاصّة. ولو سُلِّم أنها محرَّمة، فقولكم:«إنه متيقِّن للتحريم» إن أردتم
(1)
وانظر: «إغاثة اللهفان» (1/ 318 - 320).
(2)
في النسخ المطبوعة: «إن الأصل» .
(3)
«وحده» ساقط من ع.
(4)
ت، ع:«زوجة» . وفي النسخ المطبوعة: «زوجته» .
به التحريم المطلق، فهو
(1)
غير متيقَّن، وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث، فإن مطلق التحريم أعمُّ من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث، ولا يلزم من ثبوت الأعمِّ ثبوتُ الأخصِّ. وهذا في غاية الظهور.
فصل
(2)
القسم الثالث: استصحاب حكم الإجماع في محلِّ النزاع. وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة؟ على قولين:
أحدهما: أنه [206/ب] حجة، وهو قول المزَني، والصَّيرفي
(3)
، وابن شاقْلا، وابن حامد
(4)
، وأبي عبد الله الرازي
(5)
.
والثاني: ليس بحجة، وهو قول أبي حامد
(6)
، وأبي الطيب الطبري، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الخطاب، والحُلْواني
(7)
، وابن
(1)
ع: «فإنه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
انظر: «جامع المسائل» (2/ 292 - 295)، فالمصنف صادر عن كلام شيخه.
(3)
غير محرر في ح، فحذفه ناسخ ف. وهو أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي من أئمة الشافعية توفي سنة 330. ترجمته في «طبقات الشافعية» (3/ 186).
(4)
أبو عبد الله الحسن بن حامد البغدادي المتوفى سنة 403. كان إمام الحنابلة في زمانه. ترجمته في «طبقات الحنابلة» (3/ 309).
(5)
هو الفخر الرازي صاحب التفسير.
(6)
الغزالي.
(7)
أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن علي الحلواني الحنبلي، صاحب كتاب «الهداية» في أصول الفقه. توفي سنة 546. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 39).
الزاغوني. وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محلِّ النزاع، كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة. فأما بعد الرؤية فلا إجماع، فليس هناك ما يُستصحَب، إذ يمتنع دعوى الإجماع في محلِّ النزاع. والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيستصحب ثبوته، أو لأمرٍ منتفٍ فيستصحب نفيه.
قال الأولون: غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محلِّ النزاع. وهذا حق، ونحن لم ندَّعِ الإجماع في محلِّ النزاع، بل استصحبنا حال المجمَع عليه حتى يثبت ما يزيله.
قال الآخرون: الحكم إذا كان إنما ثبت بالإجماع، وقد زال الإجماع، زال الحكم لزوال دليله. فلو ثبت الحكم بعد ذلك لثبَتَ بغير دليل.
قال المثبتون: الحكم كان ثابتًا، وعلمنا بالإجماع ثبوته، فالإجماع ليس هو علة ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتَّى يلزمَ من زوال العلة زوالُ معلولها، ومن زوال السبب زوالُ حكمه. وإنما الإجماع دليل عليه، وهو في نفس الأمر مستند إلى نصٍّ أو معنى نصٍّ؛ فنحن نعلم أن الحكم المجمَع عليه ثابت في نفس الأمر. والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من انتفاء الإجماع انتفاء الحكم، بل يجوز أن يكون باقيًا [207/أ] ويجوز أن يكون منتفيًا. لكن الأصل بقاؤه، فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث، ولكن يفتقر إلى بقاء سبب ثبوته. وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل الأول
(1)
، وإلى ما يُحدث الثاني، وإلى ما يُبقيه
(2)
، فكان ما يفتقر إليه الحادث أكثر مما يفتقر
(1)
في النسخ المطبوعة: «الحكم الأول» .
(2)
في المطبوع: «يبينه» ، وفي الطبعات السابقة:«ينفيه» . والصواب ما أثبت من النسخ. وكذا في «جامع المسائل» .
إليه الباقي، فيكون البقاء أولى من التغيير
(1)
. وهذا مثل استصحاب حال براءة الذمة، فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يُظنّ
(2)
أنه شاغل، ومع هذا فالأصل البراءة.
والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة. ولكن
(3)
لا يجوز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل، ولا يجوز الاستدلال به
(4)
لمن لم يعرف الأدلّة الناقلة، كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن لم يعرف
(5)
الأدلة الناقلة.
وبالجملة، فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل. فإن قطَع المستدلُّ بانتفاء الناقل قطَع بانتفاء الحكم، كما يقطع ببقاء شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها
(6)
غير منسوخة. وإن ظنَّ انتفاءَ الناقل، أو ظنَّ انتفاءَ دلالته= ظنَّ انتفاء النقل. وإن كان الناقل معنًى مؤثِّرًا
(7)
، وتبيَّن له عدمُ
(1)
ع: «التغير» ، وكذا في النسخ المطبوعة. والمثبت موافق لما في «جامع المسائل» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «يظن به» . ولا وجود لزيادة «به» في «جامع المسائل» أيضًا.
(3)
في ت: «من» ، وفي غيرها والنسخ المطبوعة:«ومن» ، ولكن في الجملة التالية في ح، ف، ت:«ولا يجوز» ، فلم يتم الكلام، فحذف واو العطف في ع، وأثبت في النسخ المطبوعة:«فلا يجوز» . والنص منقول من كلام شيخ الإسلام بحروفه تقريبًا، وفيه: «ولكن لا يجوز
…
ولا يجوز»، فالظاهر أن «ومن» في النسخ تحريف.
(4)
«إلا بعد معرفة
…
به» ساقط من ع لانتقال النظر.
(5)
في ع والنسخ المطبوعة: «لمن يعرف» بإسقاط «لم» .
(6)
ع: «فإنها» .
(7)
ع: «مؤيدا» ، تصحيف.
اقتضائه= تبيَّن له بقاءُ
(1)
النقل، مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض الوضوء، وإلا فمع تجويزه لكونه ناقضًا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء.
وهكذا كلُّ من وقع النزاعُ في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه، فإن الأصل بقاء طهارته؛ كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين، وبالخارج النادر منهما، وبمسِّ [207/ب] النساء لشهوة وغيرها، وبأكل ما مسَّته النار، وغسلِ الميت، وغير ذلك= لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتبيَّن
(2)
له بطلانُ ما يوجب الانتقال، وإلا بقي شاكًّا. وإن لم يتبيَّن له صحة الناقل ــ كما لو أخبره فاسق بخبر ــ فإنه مأمور بالتبيُّن والتثبُّت، لم يؤمر بتصديقه
(3)
ولا تكذيبه
(4)
، فإن كليهما ممكن منه. وهو مع خبره لا يستدلُّ باستصحاب الحال، كما كان يستدلُّ به بدون خبره. ولهذا جُعِل لَوْثًا وشبهةً. وإذا شهد مجهولُ الحال فإنه هناك شاكٌّ في حال الشاهد، ويلزم منه الشكُّ في حال المشهود به. فإذا تبيَّن كونُه عدلًا تمَّ الدليل. وعند شهادة المجهولين تضعُف البراءةُ أعظمَ مما تضعُف عند شهادة الفاسق، فإنه في الشاهد قد يكون دليلًا ولكن لا تُعرَف دلالتُه، وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل، لكن يمكن وجودُ المدلول
(5)
في هذه الصورة، فإنَّ صدقَه ممكن.
(1)
في النسخ الخطية والمطبوعة: «انتفاء» ، والصواب ما أثبت من «جامع المسائل» .
(2)
في النسخ الخطية والمطبوعة: «يتيقَّن» ، وهو تصحيف ما أثبت من «جامع المسائل» ، ويؤيده قوله بعده:«له» .
(3)
في «جامع المسائل» : «لم يؤثر تصديقَه» .
(4)
ع: «بتكذيبه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
ع: «المدلول عليه» . ولم ترد زيادة «عليه» في غيرها ولا في «جامع المسائل» .
فصل
ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محلِّ النزاع حجَّة: أنَّ تبدُّلَ حال المحلِّ المجمَع على حكمه أولًا كتبدُّلِ زمانه ومكانه وشخصه، وتبدُّلُ هذه الأمور وتغيُّرها لا يمنع استصحابَ ما ثبت له قبل التبدُّل
(1)
. فكذلك تبدُّلُ وصفه وحاله لا يمنع الاستصحابَ حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلًا للحكم مثبتًا لضدِّه؛ كما جعل الدِّباغَ ناقلًا لحكم نجاسة الجلد، وتخليلَ الخمرة
(2)
ناقلًا لحكم تحريمها
(3)
، وحدوثَ الاحتلام ناقلًا لحكم البراءة الأصلية. وحينئذ فلا يبقى التمسُّك بالاستصحاب [208/أ] صحيحًا.
وأما مجرَّدُ النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع. والنزاعُ في رؤيةِ الماء في الصلاة، وحدوثِ العيب عند المشتري، واستيلادِ الأمة= لا يوجب رفعَ ما كان ثابتًا قبل ذلك من الأحكام. فلا يُقبَل قولُ المعترض: إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث، فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم، فلا يمكن المعترضَ رفعُه إلا أن يقيم دليلًا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم. وحينئذ فيكون معارضًا في الدليل، لا قادحًا في الاستصحاب. فتأمَّلْه، فإنه التحقيق في هذه المسألة.
(1)
في المطبوع أثبت: «التبديل» هنا وفيما سبق.
(2)
ع: «تخلل الخمر» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «للحكم بتحريمها» .
فصل
الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلَّها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه. فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم، بلا برهان من الله، بناءً على هذا الأصل.
وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه. وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكمٌ بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرَّمه الله
(1)
، ولا تأثيم إلا ما أثَّم الله ورسوله به فاعلَه؛ كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه، ولا حرام إلا ما حرَّمه
(2)
، ولا دين إلا ما شرَعه. فالأصل
(3)
في العبادات: البطلان [208/ب] حتّى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات: الصحة حتّى يقوم دليل على البطلان والتحريم.
والفرق بينهما: أن الله سبحانه لا يُعبَد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقُّه على عباده، وحقُّه الذي أحقَّه هو، ورضي به، وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفوٌ حتى يحرِّمها. ولهذا نعَى الله سبحانه على المشركين مخالفةَ هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرِّمه، والتقرُّب إليه بما لم يشرعه. وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه
(1)
في النسخ المطبوعة زيادة: «ورسوله» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «أوجبه الله
…
حرّمه الله».
(3)
ع: «والأصل» .
لكان
(1)
عفوًا لا يجوز الحكمُ بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحلَّه الله، والحرام ما حرَّمه، وما سكت عنه فهو عفو. فكلُّ شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها، فإنه سكت عنها رحمةً منه، من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرَّحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرَّمه؟
وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلِّها، فقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]. وقال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]. وقال: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. وهذا كثير في القرآن.
وفي «صحيح مسلم»
(2)
من حديث الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو [209/أ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعٌ مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا. ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعَها: إذا حدَّث كذَب، وإذا عاهد غدَر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجَر» .
(1)
ع: «لكان ذلك» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
برقم (58). وأخرجه البخاري أيضًا برقم (34، 2459، 3178).
وفيه
(1)
من حديث سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من علامات المنافق ثلاث، وإن صلَّى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان» .
وفي «الصحيحين»
(2)
من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يُرفَع لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة بقدر غدرته، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» .
وفيهما
(3)
من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحقَّ الشروط أن تُوفُوا بها ما استحللتم به الفروجَ» .
وفي «سنن أبي داود»
(4)
عن أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيتُه أُلقِيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، والله إني لا أرجع إليهم أبدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أَخِيسُ بالعهد
(5)
، ولا أحبِس البُرُدَ
(6)
. ولكن ارجعْ إليهم، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن، فارجع». قال: فذهبتُ، ثم أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأسلمتُ
(7)
.
(1)
برقم (59).
(2)
البخاري (3188) ومسلم (1735).
(3)
البخاري (2721) ومسلم (1418).
(4)
برقم (2758).
(5)
أي لا أنقضه.
(6)
البُرُد: جمع بريد، وهو الرسول. قال الخطّابي في «معالم السنن» (2/ 317):«يشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابًا، والجواب لا يصل إلى المرسل إلا على لسان الرسول بعد انصرافه، فصار كأنه عقد له العهد مدة مجيئه ورجوعه» .
(7)
رواه أحمد (23857)، وأبو داود (2758)، والنسائي في «السنن الكبرى» (8621) من حديث أبي رافع رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (3672).
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن حذيفة قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلّا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيلٌ، فأخَذَنا كفارُ قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منَّا عهدَ [209/ب] الله وميثاقَه لَننصرفَنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه. فأتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبرَ، فقال:«انصرفا نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم» .
وفي «سنن أبي داود»
(2)
عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمِّي يومًا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتها، فقالت: تعالَ أُعطِك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أردتِ أن تعطيه؟» . فقالت: أُعطيه تمرًا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمَا، إنكِ لو لم تعطيه شيئًا كُتِبَتْ عليكِ كَذْبةٌ» .
وفي «صحيح البخاري»
(3)
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أَعطَى بي، ثم غدَر. ورجل باع حُرًّا، فأكل ثمنه
(4)
. ورجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يعطه أجره».
(1)
برقم (1787).
(2)
برقم (4991). ورواه أحمد (15702).
وفي سنده مولى عبد الله بن عامر، وقد سمّاه يحيى بن أيوب المصري زيادًا، كما في «المعرفة والتاريخ» ليعقوب بن سفيان (1/ 251)، و «معجم الصحابة» لأبي القاسم البغوي (2176). وأورده الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (9/ 483)، مع أن زيادًا هذا مجهول. ولعل الضياء قوّاه، للأحاديث التي تشهد لصحّة معناه. وينظر:«السلسلة الصحيحة» (748)، و «المقاصد الحسنة» (ص 534، 863).
(3)
برقم (2227).
(4)
«فأكل ثمنه» ساقط من ح، ت.
وأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يوفي بالنذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلةً عند المسجد الحرام
(1)
. وهذا كان عُقِد
(2)
قبل الشرع.
وقال ابن وهب: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَأْيُ
(3)
المؤمنِ واجب»
(4)
.
قال ابن وهب: وأخبرني إسماعيل
(5)
بن عياش، عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:«ولا تَعِدْ أخاك عِدةً وتُخلِفَه، فإن ذلك يُورِث بينك وبينه عداوة» .
قال ابن وهب: وأخبرني الليث بن سعد، عن عُقَيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لصبيٍّ: تعال، هاهْ لك
(6)
؛
(1)
أخرجه البخاري (2043) ومسلم (1656) من حديث ابن عمر.
(2)
في النسخ المطبوعة: «عقدٌ كان» .
(3)
الوأي: الوعد.
(4)
رواه أبو داود في «المراسيل» (523) من طريق ابن وهب به. وزيد بن أسلم من صغار التابعين.
(5)
كذا نقله تبعًا لابن حزم في «المحلى» (8/ 29)، وإنما رواه ابن وهب في «الجامع» (208) عن مسلمةَ وغيرِه، عن رجل، عن أبي إسحاق (فذكره مرسلا). ومسلمة هذا هو ابن علي الخشني، وهو واهٍ متروك، ومتابِعُ مسلمةَ وشيخُهما مبهَمان، لم يُسَمَّيَا.
وإنما روى ابن وهب (207) عن إسماعيل بن عياش أثرًا آخر عن أبي الدرداء، ساقه معضلًا. ورفعُ الحديثِ من طريق أبي إسحاق غريبٌ؛ فقد رواه عبد الرزاق (20593) عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
…
(فذكره من كلام داود عليه السلام. ويُنظر: «الجامع» للترمذي (1995)، و «الصمت» لابن أبي الدنيا (518)، و «الجامع لشعب الإيمان» للبيهقي (10529).
(6)
كذا في النسخ و «المحلَّى» ومنه نقل المصنف هذا الأثر وغيرَه هنا. وفي النسخ المطبوعة: «هذا لك» . وفي «المسند» : «هاكَ» .
ثم لم يُعطه [210/أ] شيئًا= فهي كَذْبة»
(1)
.
وفي «السنن» من حديث كثير بن عبد الله بن زيد
(2)
بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جدِّه، يرفعه: «المسلمون
(3)
عند شروطهم».
وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البَيْلَماني، عن أبيه، عن ابن عمر يرفعه:«الناس على شروطهم ما وافق الحقَّ»
(4)
.
(1)
رواه ابن وهب في «الجامع» (514) عن الليث به. ورواه أحمد (9836) عن حجاج (وهو المصيصي)، عن الليث به. ورواه ابن أبي الدنيا في «الصمت» (519)، وفي «مكارم الأخلاق» (149) من طريق أبي النضر، عن الليث به. وخالفهم ابن المبارك، فرواه في «الزهد» (375) عن الليث به موقوفًا. وهو منقطع على كلّ حال، والزهري لم يسمع من أبي هريرة.
(2)
كذا لفّق بين اسم رجليْن، تبعًا لابن حزم في المحلى (8/ 162، 163، 414). والحق أنه قد روى هذا الحديث رجلان: الأول: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المُزني ــ وهو واهٍ جدًّا ــ، رواه عن أبيه، عن جدِّه مرفوعًا. ومن طريقه أخرجه الترمذي (1352) وصحّحه! وأصل الحديث عند ابن ماجه (2353). والثاني: سَمِيُّه كثير بن زيد، رواه عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة مرفوعًا. ومن طريقه أسنده أحمد (8784)، وأبو داود (3594).
(3)
في النسخ المطبوعة: «المؤمنون» .
(4)
رواه البزار في «المسند» (5408)، والعقيلي في «الضعفاء» (6/ 231)، وفي سنده محمد ابن البيلماني واهٍ، والراوي عنه محمد بن الحارث الحارثي ضعيف، على أن عبد الرحمن ابن البيلماني (والد محمد) ليّن الحديث، ولم يثبت سماعُه من ابن عمر. ورُوِيَ من حديث عائشة وأنس، رواه الدارقطني (2893، 2894)، والحاكم (2/ 49 - 50)، والبيهقي وضعّفه. والحق أنه مختلقٌ مصنوع، آفتُه عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري البالسي. ورواه الدارقطني (2891) بسندٍ كالشمس من حديث أبي هريرة مرفوعًا، ركّبه عبد الله بن الحسين المصيصي، وعفا الله عن الحاكم الذي أخرج حديثه هذا (2/ 50) ووثّق هذا التالف، وصحّح حديثه هذا على شرط الشيخين!
ويُنظر: «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (3/ 130 - 131، 526 - 527)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 40 - 42)، و «البدر المنير» لابن النحوي (6/ 552 - 554، 685 - 689).
وليست العمدة على هذين الحديثين، بل على ما تقدم.
فصل
وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج: تارةً بنسخها، وتارةً بتخصيصها ببعض العهود والشروط، وتارةً بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه، وتارةً بمعارضتها بنصوص أخر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. كتاب الله أحقُّ، وشرطُ الله أوثق»
(1)
، وكقوله:«من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»
(2)
، وبقوله
(3)
تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] ونظائر هذه الآية.
قالوا: فصحَّ بهذه النصوص إبطالُ كلِّ عهد وعقد ووعد وشرط ليس في
(1)
أخرجه البخاري (2168) ومسلم (1504) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
السياق: «بمعارضتها بنصوص أخر كقول النبي صلى الله عليه وسلم
…
وبقوله تعالى». وفي ع والنسخ المطبوعة: «وكقوله» .
كتاب الله الأمرُ به أو النصُّ على إباحته. قالوا: وكلُّ شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن
(1)
فيه، فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة: إما أن يكون صاحبُه قد التزم فيه إباحة ما حرَّم الله ورسوله، أو تحريم ما أباحه، أو إسقاط ما أوجبه، أو إيجاب ما أسقطه؛ ولا خامس لهذه الأقسام البتة. فإن ملَّكتم المشترط والمعاقد والمعاهد [210/ب] جميعَ ذلك انسلختم من الدين، وإن ملَّكتموه البعض دون البعض تناقضتم، وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملكه؟ ولن تجدوا إليه سبيلًا.
فصل
قال الجمهور: أما دعواكم النسخ فإنها دعوى باطلة، تتضمَّن أن هذه النصوص ليست من دين الله، ولا يحِلُّ العمل بها، وتجب مخالفتها. وليس معكم برهان قاطع بذلك، فلا تُسمَع دعواه، وأين التحاكم
(2)
إلى الاستصحاب والتشبُّث
(3)
به ما أمكنكم؟
وأما تخصيصها، فلا وجه له. وهو يتضمن إبطال ما دلَّت عليه من العموم، وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله.
وأما ضعفُ بعضها من جهة السند، فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة.
(1)
ح، ف:«الإيذان» .
(2)
ع: «التجاؤكم» .
(3)
ع: «التسبب» ، وفي المطبوع:«التثبت» ، وكلاهما تصحيف.
وأما معارضتها بما ذكرتم، فليس بحمد الله بينها وبينه تعارض. وهذا إنما يُعرَف بعد معرفة المراد بكتاب الله في قوله:«ما كان من شرط ليس في كتاب الله» . ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعًا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل عُلِمت من السنة. فعُلِم أن المراد بكتاب الله حكمه، كقوله:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كتابُ الله: القصاص»
(1)
في كسر السِّنِّ. فكتابه سبحانه يطلق على كلامه، وعلى حكمه الذي حكَم به على لسان رسوله. ومعلوم أن كلَّ شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له، فيكون باطلًا. فإذا كان الله ورسوله قد حكم بأن الوَلاء [211/أ] للمُعتِق، فشُرِط خلافُ ذلك كان
(2)
شرطًا مخالفًا لحكم الله. ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلًا حرامًا؟
(3)
وتعدِّي حدود الله هو تحريم ما أحلَّه الله، أو إباحة ما حرَّمه، أو إسقاط ما أوجبه؛ لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه. بل تحريمه هو نفس تعدِّي حدوده.
وأما ما ذكرتم من تضمُّن الشرط لأحد تلك الأمور الأربعة، ففاتكم قسم خامس، وهو الحقُّ، وهو ما أباح الله سبحانه للمكلَّف تنويعَ أحكامه بالأسباب التي ملَّكه إياها، فيباشر من الأسباب ما يُحِلُّه له بعد أن كان حرامًا عليه، أو يحرِّمه عليه بعد أن كان حلالًا له، أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبًا، أو يُسقطه بعد وجوبه. وليس في ذلك تغيير لأحكامه، بل كلُّ ذلك من أحكامه سبحانه. فهو الذي أحلَّ وحرَّم، وأوجب وأسقط؛ وإنما إلى
(1)
أخرجه البخاري (2703) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
في النسخ المطبوعة: «يكون» ، كأن بعضهم قرأ:«فشرطُ خلافِ ذلك» ، فغيَّر الفعل.
(3)
زِيد في المطبوع بعده بين حاصرتين: «وتعدِّيًا لحدوده» .
العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا. فكما أن شِرى
(1)
الأمة ونكاح المرأة يُحِلُّ له ما كان حرامًا عليه قبله، وطلاقها وبيعها بالعكس يحرِّمها عليه ويُسقط عنه ما كان واجبًا عليه من حقوقها= كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط. فإذا ملَك تغيير الحكم بالعقد ملَكه بالشرط الذي هو تابع له. وقد قال تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فأباح التجارة التي تراضى بها المتبايعان. فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك، ولا يجوز إلغاؤه، وإلزامهما بما لم يلتزماه، ولا ألزمهما الله ورسوله
(2)
به. فلا يجوز
(3)
إلزامهما بما لم يُلزمهما الله ورسوله به ولا هما التزماه. ولا إبطالُ ما شرطاه مما لم يحرِّم الله
(4)
عليهما شرطه. ومحرِّم الحلال كمحلِّل الحرام.
فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين ما لم يُلْغِه الله ورسوله، وقابلهم آخرون من القيَّاسين
(5)
، فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله
(6)
ورسوله. وكلا القولين خطأ، بل الصواب: إلغاءُ كلِّ شرط خالف حكم الله، واعتبارُ كلِّ شرط لم يحرِّمه
(7)
ولم يمنع منه. وبالله التوفيق.
(1)
في النسخ المطبوعة: «شراء» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «ولا رسوله» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «ولا يجوز» .
(4)
في النسخ المطبوعة زيادة: «ورسوله» .
(5)
في النسخ المطبوعة: «القياسيين» كالعادة.
(6)
بعده في ع: «عليهما شرطه ورسوله» .
(7)
في النسخ المطبوعة: «لم يحرمه الله» .
فصل
وأما أصحاب الرأي والقياس، فإنهم لما
(1)
لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافيةً بالأحكام ولا شاملةً لها، وغلاتُهم على أنها لم تَفِ بعُشْر معشارها= وسَّعوا
(2)
طرق الرأي والقياس، وقالوا بقياس الشَّبَه، وعلَّقوا الأحكام بأوصاف لا يُعلم أن الشارع علَّقها بها، واستنبطوا عِللًا لا يُعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها. ثم اضطرَّهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا، فتارة يقدِّمون القياس، وتارةً يقدِّمون النص، وتارةً يفرِّقون بين النص المشهور وغير المشهور. واضطرَّهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شُرِعت على خلاف القياس، فكان خطؤهم من خمسة أوجه:
أحدها: ظنُّهم قصورَ النصوص عن بيان جميع الحوادث.
الثاني: معارضة كثير من [212/أ] النصوص بالرأي والقياس.
الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس. والميزان هو العدل، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام.
الرابع: اعتبارهم عللًا وأوصافًا لم يُعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم
(1)
«لما» ساقطة من ع.
(2)
بإزائها في حاشية ع ثلاث نقاط علامة الإشكال، لأجل سقوط «لما» منها. وفي النسخ المطبوعة:«فوسعوا» ، ولعل بعضهم زاد الفاء لإزالة الإشكال المذكور، لكن هذه الطبعات جمعت بين «لما» والفاء!
عللًا وأوصافًا اعتبرها الشارع، كما تقدَّم بيانه.
الخامس: تناقضهم في نفس القياس، كما تقدَّم أيضًا.
ونحن نعقد هاهنا
(1)
ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس.
الفصل الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس وبطلانها مع وجود النص.
الثالث
(2)
: في بيان أن أحكام الشرع كلَّها على وفق القياس الصحيح، وليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح.
وهذه الفصول الثلاثة من أهمِّ فصول الكتاب، وبها يتبيَّن للعالم المنصف مقدارُ الشريعة وجلالتها، وهيمنتها، وسعتها، وفضلها وشرفها على جميع الشرائع؛ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو عامُّ الرسالة إلى كلِّ مكلَّف، فرسالته عامة في كلِّ شيء من الدين: أصوله وفروعه، ودقيقه وجليله. فكما لا يخرج أحد عن رسالته، فكذلك لا يخرج حكمٌ تحتاج إليه الأمة عنها وعن بيانه له. ونحن نعلم أنا لا نوفِّي هذه الفصول حقَّها ولا نقارب، وأنها أجلُّ من علومنا وفوق إدراكنا، ولكن ننبِّه أدنى تنبيه، ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح [212/ب] أبوابها ويُنْهِج طرقَها. والله المستعان، وعليه التكلان.
(1)
ت: «نعقد لها» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «الفصل الثالث» .
الفصل الأول
في شمول النصوص وإغنائها عن القياس
وهذا يتوقف على بيان مقدمة، وهي أن دلالة النصوص نوعان: حقيقية، وإضافية. فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف. والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجَودة قريحته
(1)
، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ
(2)
ومراتبها. وهذه الدلالة تختلف اختلافًا متباينًا بحسب تباين السامعين في ذلك.
وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمرو
(3)
أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له. وكان الصدِّيق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما، بل عبد الله بن عباس أيضًا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمرو
(4)
. وقد أنكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عمر فهمَه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله: «إنك ستأتيه وتتطوَّف به»
(5)
، فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على
(1)
أضاف بعضهم في ح باء الجر: «بقريحته» إذ قرأ: «جُوده» . ولهذا الخطأ في قراءة الكلمة أثبت في ع: «جوده وقريحته» . والصواب ما أثبت، وهو المقترح في حاشية ف. وفي النسخ المطبوعة:«وجودة فكره وقريحته» ، والظاهر أن من أضاف كلمة فكره كانت نسخته موافقة لنسخة ع.
(2)
ع: «ومعرفة الألفاظ» .
(3)
ت: «عمر» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
هنا في ت أيضًا كما أثبت من غيرها. ولكن في النسخ المطبوعة: «عمر» .
(5)
انظر حديث صلح الحديبية. أخرجه البخاري (2731) ولفظه: «فإنك آتيه ومطوِّف به» . وفي ع: «تطوف» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
تعيين العام الذي يأتونه فيه. وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفسَ العِقالين
(1)
. وأنكر على من فهم من قوله: «لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقالُ ذرَّة
(2)
من كِبْر» شمولَ لفظه لحسن الثوب وحسن النعل، وأخبرهم أنه «بطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس»
(3)
.
وأنكر على من فهم من قوله: «من أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ اللهُ لقاءه، ومن كرِه لقاءَ الله كره اللهُ لقاءه»
(4)
أنه كراهة الموت، وأخبرهم أن هذا للكافر [213/أ] إذا احتُضِر وبُشِّر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاءَ الله، واللهُ يكره لقاءه؛ وأن المؤمن إذا احتُضِر وبُشِّر بكرامة الله أحبَّ لقاء الله، وأحبَّ الله لقاءه.
وأنكر على أم سلمة
(5)
إذ فهمت من قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الإنشقاق: 8] معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عُذِّب»
(6)
وبيَّن لها أن الحساب اليسير هو العرض، أي حساب العرض لا حساب المناقشة
(7)
.
وأنكر على من فهم قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ع: «كان في قلبه مثقال حبة» ، وفي النسخ المطبوعة «كان
…
حبة خردلة».
(3)
أخرجه مسلم (147) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4)
أخرجه البخاري (6507) من حديث عبادة بن الصامت. ومسلم (2684) من حديث عائشة. وانظر: «درء التعارض» (2/ 132).
(5)
كذا في النسخ، والصواب:«عائشة» كما في «الصحيحين» .
(6)
أخرجه البخاري (4939) ومسلم (2876) من حديث عائشة.
(7)
وانظر: «الصواعق المرسلة» (3/ 1053)، و «درء تعارض العقل» (7/ 48).
أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة، وأنه لا يسلَم أحد من عمل السوء؛ وبيَّن أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهمِّ والحزن والمرض والنَّصَب
(1)
، وغير ذلك من مصائبها. وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة.
وأنكر على من فهم من قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] أنه ظلم النفس بالمعاصي، وبيَّن أنه الشرك، وذكر قول لقمان لابنه:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
(2)
[لقمان: 13]، مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقَّه من التأمل يبيِّن ذلك، فإن الله سبحانه لم يقل: ولم يظلموا أنفسهم، بل قال:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} . ولبسُ الشيء بالشيء: تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطِّي الإيمانَ ويحيط به ويلبسه إلا الكفر. ومن هذا: قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81][213/ب] فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدًا، فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به. ومع أن سياق قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
(1)
رواه أحمد (68) من طريق أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه مرفوعا، وابن أبي زهير هذا مستور الحال، ولم يسمع من الصدِّيق. ومع ذلك ساق ابن حبان حديثَه هذا في «المسند الصحيح» (570، 4413)، وصححه أيضًا الحاكم (3/ 74 - 75). وأورده الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (1/ 159 - 161)، لكنه أشار إلى انقطاع سنده.
(2)
أخرجه البخاري (32) ومسلم (124) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
بِالْأَمْنِ}
(1)
[الأنعام: 81]، ثم حكم الله أعدلَ حكمٍ وأصدقَه أن من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحقُّ بالأمن والهدى، فدلَّ على أن الظلم: الشرك
(2)
.
وسأله عمر بن الخطاب عن الكلالة، وراجعه فيها مرارًا، فقال:«تكفيك آية الصيف»
(3)
. واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمُها، وفهِمَها الصدِّيق
(4)
.
وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تُخمَّس
(5)
. وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حَمولةَ القوم وظهرَهم
(6)
. وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوَّالَ القرية
(7)
. وفهم علي بن أبي طالب وكبار الصحابة ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي، وصرَّح بعلَّته من كونها رجسًا
(8)
.
وفهمت المرأة من قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] جواز المغالاة في الصَّداق، فذكرته لعمر، فاعترف به
(9)
.
(1)
في النسخ المطبوعة أكملت الآية.
(2)
وانظر: «الصواعق المرسلة» (3/ 1057).
(3)
يعني التي في آخر سورة النساء، وقد نزلت في الصيف.
(4)
أخرجه مسلم (567، 1617) عن معدان بن أبي طلحة.
(5)
أخرجه البخاري (3155) ومسلم (1937) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.
(6)
أخرجه البخاري (4227) ومسلم (1939) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(7)
انظر حديث ابن أبي أوفى في «صحيح البخاري» (4220).
(8)
في حديث أنس بن مالك. أخرجه البخاري (5528). وانظر: «زاد المعاد» (3/ 303).
(9)
رواه عبد الرزاق (10420) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي، لكن في السند إليه قيس بن الربيع، وهو ضعيف، على أن أبا عبد الرحمن السلمي لم يسمع من عمر رضي الله عنه. ورواه سعيد بن منصور (598) ــ ومن طريقه الطحاوي في «بيان المشكل» (13/ 57) ــ من رواية مجالد، عن الشعبي. ومجالد ضعيف، والشعبي لم يُدرك عمر رضي الله عنه. ويُنظر:«التاريخ» لابن أبي خيثمة (4064، 4065 - السِّفْر الثالث)، و «العلل» للدارقطني (2/ 238 - 239)، و «مسند الفاروق» لابن كثير (2/ 498 - 499).
ويَحْسُنُ تدبُّر ما في «السنن» لسعيد بن منصور (599)، و «السنن الكبير» للبيهقي (7/ 233).
وانظر: «الصواعق المرسلة» (2/ 521) و «زاد المعاد» (5/ 476).
وفهم ابن عباس من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تلد لستَّة أشهر. ولم يفهمه عثمان، فهمَّ برَجْم امرأةٍ ولَدت لها، حتى ذكَّره به ابن عباس فأقرَّ به.
(1)
.
ولم يفهم عمر من قوله: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني [214/أ] دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها» قتالَ
(1)
رواه عبد الرزاق (13446) ــ ومن طريقه ابن جرير في «جامع البيان» (4/ 202)، وعمر بن شبة في «أخبار المدينة» (3/ 977) من رواية أبي عبيد (وهوسعد بن عبيد). وسنده صحيح، وقد صحّحه الحافظ عبد العزيز بن محمد النخشبي في تخريج «الفوائد الحنائيات» (2/ 1296)، وابن النحوي في «البدر المنير» (8/ 132)، وابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 440). ويُنظر:«المصنف» لعبد الرزاق (13447)، و «السنن» لسعيد بن منصور (2075)، و «أخبار المدينة» عمر بن شبة (3/ 978 - 980)، و «التفسير» لابن أبي حاتم (2265، 18566).
مانعي الزكاة حتى بيَّنه
(1)
له الصديق، فأقرَّ به
(2)
.
وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}
(3)
[المائدة: 93] رفعَ الجناح عن الخمر، حتى بيَّن له عمر أنه لا يتناول الخمر
(4)
. ولو تأمَّل سياقَ الآية لَفهِم المراد منها، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعِموه مُتَّقين له فيه. وذلك إنما يكون باجتناب ما حرَّمه من المطاعم، فالآية لا تتناول المحرَّم بوجه ما.
وقد فهم مَن فهِم
(5)
من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] انغماس الرجل في العدو، حتى بيَّن له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضات الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو تركُ الجهاد
(6)
والإقبالُ على الدنيا وعمارتها
(7)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: «بيَّن» .
(2)
انظر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه البخاري (1399، 1400) ومسلم (20).
(3)
في النسخ المطبوعة زيادة: «إذا ما اتقوا وآمنوا» .
(4)
رواه النسائي في «السنن الكبرى» (5270) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وله شاهد من رواية عبد الله بن عامر بن ربيعة، رواه عبد الرزاق (17076) ــ ومن طريقه البيهقي (8/ 315) ــ، وعمر بن شبة في «أخبار المدينة» (3/ 842 - 844). وطرفُه الأولُ عند البخاري في «الصحيح» (4011)، لكنه اختصره، ولم يَسُقْ محلّ الشاهد، ويَحْسُنُ تدبُّرُ صنيعِه في «التاريخ الأوسط» (1/ 388).
(5)
«مَن فهِم» ساقط من النسخ المطبوعة.
(6)
في المطبوع أخّر «ترك الجهاد» على «وعمارتها» . وانظر: «زاد المعاد» (3/ 79).
(7)
رواه أبو داود (2512)، والترمذي (2972) ــ وصحّحه ــ، والنسائي في «السنن الكبرى» (10961، 10962) من طريق أسلم أبي عمران، عن أبي أيوب رضي الله عنه.
وصححه أيضًا ابن حبان (4278)، والحاكم (2/ 84 - 85، 275).
وقال الصدِّيق رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، تضعونها
(1)
على غير مواضعها
(2)
: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعُمَّهم الله بعقابٍ
(3)
من عنده»
(4)
. فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلافَ ما أريد بها
(5)
.
وأشكل على ابن عباس أمرُ الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نُهِيت عنه من اليهود: هل عُذِّبوا أو نجَوا، حتى بيَّن له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذَّبين
(6)
. وهذا هو الحق، لأنه سبحانه قال عن [214/ب] الساكتين:
(1)
في النسخ المطبوعة: «وتضعونها» .
(2)
ح، ف:«موضعها» .
(3)
ت، ع:«بعذاب» .
(4)
رواه أحمد (1، 16، 29، 30، 53)، وأبو داود (4338)، والترمذي (2168، 3057) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (4005)، والنسائي في «السنن الكبرى» (11092). وصححه أيضًا ابن حبان (4511، 4512)، وأورده الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (1/ 143 - 149). ويُنظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1788)، و «العلل» للدارقطني (1/ 250 - 252)، و «الفصل للوصل المدرج في النقل» للخطيب (1/ 139 - 145).
(5)
وانظر: «الداء والدواء» (ص 121).
(6)
رواه عبد الرزاق في «التفسير» (953) ــ ومن طريقه ابن جرير (10/ 515) ــ وفي سنده رجلٌ مُبْهَمٌ لم يُسَمَّ، وله طريق أخرى عند ابن جرير في «جامع البيان» (10/ 514).
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164]، فأخبر أنهم أنكروا فعلَهم، وغضبوا عليهم. وإن لم يواجهوهم بالنهي، فقد واجههم به مَن أدَّى الواجب عنهم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين، فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم. وأيضًا فإنه
(1)
سبحانه إنما عذَّب الذين نَسُوا ما ذُكِّروا به، وعتَوا عما نُهوا عنه. وهذا لا يتناول الساكتين قطعًا. فلما بيَّن عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذَّبين كساه بُردةً، وفرح به.
وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} السورة؟ قالوا: أمر الله نبيَّه إذا فَتَح عليه أن يستغفره. فقال لابن عباس: ما تقول أنت؟ قال: هو أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلَمَه إياه. فقال: ما أعلم منها غيرَ ما تعلم
(2)
. وهذا من أدقِّ الفهم وألطَفه، ولا يدركه كلُّ أحد. فإنه سبحانه لم يعلِّق الاستغفار بعمله
(3)
، بل علَّقه بما يُحدثه هو سبحانه من نعمة، مِن فتحِه على رسوله ودخولِ الناس في دينه. وهذا ليس بسبب للاستغفار
(4)
، فعُلِم أن سبب الاستغفار غيره، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقُه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه
(5)
، ليلقى ربه طاهرًا مطهَّرًا من كلِّ ذنب، فيقدَم عليه مسرورًا راضيًا مرضيًّا عنه.
(1)
في النسخ المطبوعة: «فإن الله» .
(2)
أخرجه البخاري (4294).
(3)
في المطبوع: «بعلمه» ، وهو خطأ.
(4)
ت، ع:«الاستغفار» .
(5)
يعني: بين يدي الأجل.
ويدل عليه أيضًا قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}
(1)
وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائمًا. [215/أ] فعُلِم أن المأمور به من التسبيح
(2)
بعد الفتح ودخول الناس في الدين
(3)
أمرٌ أكبر
(4)
من ذلك المتقدِّم، وذلك مقدمةٌ بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى؛ وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقِّيه إلى ذلك المقام بقيةٌ، فأمره بتوفيتها.
ويدل عليه أيضًا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال. فشرَعها في خاتمة الحج، وقيام الليل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم
(5)
استغفر ثلاثًا
(6)
وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول: «اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين»
(7)
. فعُلِمَ أن التوبة مشروعة عقيب
(1)
في ت زيادة: «واستغفره» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: «ذلك التسبيح» .
(3)
ت: «والدخول في الدين» . وفي النسخ المطبوعة: «هذا الدين» ، فزادوا هنا:«هذا» ، كما زادوا من قبل:«ذلك» .
(4)
ح، ف:«أكثر» .
(5)
زيد بعده في النسخ المطبوعة: «من الصلاة» .
(6)
أخرجه مسلم (591) من حديث ثوبان.
(7)
رواه الترمذي (55) من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا، وأَعَلَّ الحديث بالاضطراب. لكن الراجح أن أصل الحديث صحيح، صحّحه مسلمٌ (234) وغيرُه، لكن زيادة: «اللهم اجعلني
…
» منكرة، لا تصح. وأما تطريق أبي علي الغساني في «تقييد المهمل» (3/ 789) احتمال الوهم فيه إلى الترمذي؛ فأمر عجيب، والصواب ما حرّره ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 241، 238). وروى الزيادة أيضًا الطبراني في «المعجم الأوسط» (4895)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (32) من حديث ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا، ولا يصح. ويُنظر:«السنن الصغير» للبيهقي (1/ 51)، ونتائج الأفكار لابن حجر (1/ 238 - 244).
الأعمال الصالحة. فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجًا. فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأدَّاها، فشَرع له الاستغفار عقيبَها
(1)
.
والمقصود: تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمَين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرَّد اللفظ، دون سياقه ودون إيمائه وتنبيهه
(2)
وإشارته واعتباره.
وأخَصُّ من هذا وألطَف ضمُّه إلى نصٍّ آخر متعَلِّق به، فيفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك اللفظ بمفرده. وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبَّه
(3)
له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلُّقِه به.
وهذا كما فهم ابن عباس من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله:{وَالْوَالِدَاتُ [215/ب] يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر
(4)
.
وكما فهم الصدِّيق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة
(1)
وانظر: «مدارج السالكين» (1/ 192 - 193) و (3/ 402 - 404).
(2)
ع: «وإشارته وتنبيهه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ع: «ينتبه» ، وكذا في المطبوع.
(4)
سبق تخريجه قريبًا.
من لا ولد له ولا والد، وأسقط الإخوة بالجد
(1)
.
وقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة، وراجعه السؤال فيها مرارًا، فقال:«يكفيك آية الصيف»
(2)
. وإنما أشكل على عمر قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} الآية [النساء: 176]، فدلَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ما يبيِّن له المراد منها، وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف، فإنه ورَّث فيها ولد الأم في الكلالة السدس، ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد، وإن علا.
ونحن نذكر عدة مسائل مما اختلف فيها السلف ومن بعدهم، وقد بيَّنتها النصوص؛ ومسائل قد احتُجَّ فيها بالقياس، وقد بيَّنها النصُّ وأغنى فيها عن القياس.
المسألة الأولى: المشرَّكة
(3)
. وقد دلَّ القرآن على اختصاص ولد الأم فيها بالثلث، بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ
(1)
يُنظر: «السنن الكبير» للبيهقي (6/ 231).
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
في النسخ المطبوعة: «المشتركة في الفرائض» ، وكأن بعض الناشرين تصرَّف في النص. وهي التي اجتمع فيها زوج وأم ــ أو جدَّة ــ واثنان فصاعدًا من ولد الأم وعصبةٌ من ولد الأبوين. وتسمَّى أيضًا «الحمارية» لقول بعضهم لعمر بن الخطاب: هَبْ أن أبانا كان حمارًا، أليست أمُّنا واحدةً؟ انظر:«المغني» لابن قدامة (9/ 24). وقارن بكلام شيخ الإسلام في «قاعدة شمول النصوص» ضمن «جامع المسائل» (2/ 296 - 305).
شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وهؤلاء ولد الأم. فلو أدخلنا معهم ولد الأبوين لم يكونوا شركاء في الثلث، بل يزاحمهم فيه غيرهم. فإن قيل: بل ولد الأبوين منهم، إلغاء لقرابة الأب. قيل: هذا وهم، لأن الله سبحانه قال في أول الآية:{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ، ثم قال:{فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}
(1)
فذكَر حكمَ واحدهم وجماعتهم [216/أ] حكمًا يختصُّ به الجماعة منهم كما يختصُّ به واحدهم. وقال في ولد الأبوين: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
فذكَر حكمَ ولد الأب والأبوين واحدِهم وجماعتِهم، وهو حكمٌ يختصُّ به جماعتهم كما يختصُّ به واحدهم، فلا يشاركهم فيه غيرهم، فكذا حكم ولد الأم. وهذا يدل على أن أحد الصنفين غير الآخر، فلا يشارك أحد الصنفين الآخر. وهذا الصنف الثاني هو ولد الأبوين والأب
(2)
بالإجماع، والأول هو ولد الأم بالإجماع، كما فسَّرته قراءة بعض الصحابة:«من أم»
(3)
. وهي تفسير وزيادة إيضاح، وإلا فذلك معلوم من السياق.
ولهذا ذكر سبحانه ولد الأم في آية الزوجين، وهم أصحاب فرض مقدَّر
(1)
في النسخ الخطية: «وإن كانوا
…
».
(2)
في النسخ المطبوعة: «أو الأب» .
(3)
رواه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 297)، وسعيد بن منصور (592 التفسير)، والدارمي (3018)، وابن جرير في «جامع البيان» (6/ 483)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (4936)، والبيهقي في «السنن الكبير» (6/ 379).
لا يخرجون عنه، ولا حظَّ لأحد منهم في التعصيب. ولم يذكر فيها أحدًا من العصبة، بخلاف من ذُكِر في آية العمودين الآية التي قبلها، فإن لجنسهم حظًّا في التعصيب. ولهذا قال في آية الإخوة من الأم والزوجين:{غَيْرَ مُضَارٍّ} ولم يقل ذلك في آية العمودين، فإن الإنسان كثيرًا ما يقصد ضرار الزوج وولد الأم، لأنهم ليسوا من عصبته؛ بخلاف أولاده وآبائه فإنه لا يضارُّهم في العادة. فإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث لم يجُز تنقيصهم منه. وأما ولد الأبوين فهم جنس آخر، وهم عصبته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألحِقُوا [216/ب] الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأولى رجُلٍ ذكَرٍ»
(1)
. وفي هذه المسألة لم تُبْقِ الفرائض شيئًا، فلا شيء للعصبة بالنص.
وأما قول القائس: «هَبْ أن أبانا كان حمارًا» ، فقول باطل حسًّا وشرعًا، فإن الأب لو كان حمارًا لكانت الأم أتانًا. وإذا قيل: يقدَّر وجوُده كعدمه، قيل: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون كالمعدوم. وأما بطلانه شرعًا، فإن الله سبحانه حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم.
فإن قيل: الأب إن لم ينفعهم لم يضرَّهم.
قيل: بلى
(2)
! قد يضرُّهم كما ينفعهم، فإنَّ ولدَ الأم لو كان واحدًا وولدَ الأبوين مائةً، وفضَل نصفُ سُدُسٍ انفرد ولدُ الأم بالسدس، واشترك ولد الأبوين في نصف السدس. فهلَّا قبلتم قولهم هاهنا: هَبْ أن أبانا كان حمارًا! وهلَّا قدَّرتم الأب معدومًا، فخرجتم عن القياس كما خرجتم عن النص! وإذا جاز أن ينقصهم الأب جاز أن يحرمهم.
(1)
أخرجه البخاري (6732) ومسلم (1615) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
في النسخ المطبوعة: «بل» .
وأيضًا فالقرابة المتصلة الملتئمة من الذكر والأنثى لا تفرَّق أحكامُها. هذه قاعدة النسب في الفرائض وغيرها، فالأخ من الأبوين لا نجعله كأخ من أب، وأخ من أم؛ فنعطيه السدس فرضًا بقرابة الأم، والباقي تعصيبًا بقرابة الأب.
فإن قيل: فقد فرَّقتم أحكامَ القرابتين
(1)
، فقلتم في ابني عَمٍ أحدُهما أخٌ لأم: يعطى الأخ للأم بقرابة الأم السدس، ويقاسم ابن العم بقرابة العمومة.
قيل: نعم، هذا قول الجمهور، وهو الصواب؛ وإن كان شُريحٌ ومن قال بقوله أعطى الجميع لابن العمِّ الذي هو أخٌ لأم [217/أ]، كما لو كان ابنَ عمٍّ لأبوين. والفرق بينهما على قول الجمهور أن كليهما في بنوة العم سواء، وأما الأخوة للأم فمستقلَّة، ليست مقترنة بأبوة، حتى يجعل كابن العم للأبوين. فهنا قرابة الأم منفردة عن قرابة العمومة، بخلاف قرابة الأم في مسألتنا فإنها متحدة بقرابة الأب.
ومما يبيِّن أن عدم التشريك هو الصحيح: أنه لو كان فيها أخوات لأب لَفُرِض لهن الثلثان، وعالت الفريضة. فلو كان معهن أخوهن سقطن به، ويسمَّى الأخَ المشؤومَ. فلما كنَّ بوجوده يصِرن عصَبةً صار تارةً ينفعهن، وتارةً يضرُّهن، ولم يُجعل وجودُه كعدمه في حال الضِّرار. فكذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عصَبةً صار ينفعهم تارة ويضرُّهم أخرى. وهذا شأن العُصوبة
(2)
، فإنَّ العصبة تارةً تحوز المال، وتارةً تحوز أكثره، وتارةً
(3)
(1)
في النسخ المطبوعة: «بين القرابتين» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «العصبة» .
(3)
في النسخ المطبوعة بعدها زيادة: «تحوز» .
أقلَّه، وتارة تخيب. فمن أعطى العصَبةَ مع استغراق الفروض المال خرج عن قياس الأصول وعن موجَب النص.
فإن قيل: فهذا استحسان.
قيل: لكنه استحسان يخالف الكتاب والميزان، فإنه ظلمٌ للإخوة من الأم، حيث يؤخذ حقُّهم، فيُعطاه
(1)
غيرُهم. وإن كانوا يعقِلون عن الميِّت وينفقون عليه لم يلزم من ذلك أن يشاركوا من لا يعقِل ولا يُنفق في ميراثه. فعاقلة المرأة من أعمامها وبني عمِّها وإخوتها يعقلون عنها، وميراثها لزوجها وولدها، كما قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
. فلا يمتنع أن يعقِل ولد الأبوين، ويكون الميراث لولد الأم.
المسألة الثانية: [217/ب] العُمَريتان
(3)
. والقرآن يدل على قول جمهور الصحابة فيها كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت: إنَّ للأم ثلثَ ما يبقى بعد فرض الزوجين
(4)
. وهاهنا طريقان:
أحدهما: بيان عدم دلالته على إعطائها الثلث كاملًا مع الزوجين، وهذا
(1)
في النسخ المطبوعة: «ويعطاه» .
(2)
أخرجه البخاري (6740) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
هما زوج وأبوان، وزوجة وأبوان. ونسبت المسألتان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقضائه فيهما بما يأتي. وقارن بكلام شيخ الإسلام في القاعدة المذكورة ضمن «جامع المسائل» (2/ 307 - 317).
(4)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (19014 - 19017، 19020، 19021)، و «السنن» لسعيد بن منصور (5 - 15)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (31697 - 31704، 31708).
أظهر الطريقين.
والثاني: دلالته على إعطائها ثلث الباقي، وهو أدقُّ وأخفى من الأول.
أما الأول، فالله
(1)
سبحانه إنما أعطاها الثلث كاملًا إذا انفرد الأبوان بالميراث، فإن قوله سبحانه:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} شرطان في استحقاق الثلث: عدمُ الولد، وتفرُّدُهما بميراثه. فإن قيل: ليس في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ما يدل على أنهما تفرَّدا بميراثه. قيل: لو لم يكن تفرُّدُهما شرطًا لم يكن في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فائدة، وكان تطويلًا يغني عنه قوله:«فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث» . فلما قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عُلِم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على الأمرين. وهو سبحانه ذكر أحوال الأم كلَّها نصًّا وإيماءً، فذكر أن لها السدس مع الإخوة، وأن لها الثلث كاملًا مع عدم الولد وتفرُّدِ الأبوين بالميراث. بقي لها حال
(2)
ثالثة، وهي مع عدمِ الولد وعدمِ تفرُّد الأبوين بالميراث. وذلك لا يكون إلا مع الزوج والزوجة، فإما أن تعطى في هذه الحال الثلث كاملًا، وهو خلاف مفهوم القرآن؛ وإما أن تعطى السدس، فالله سبحانه لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الإخوة. وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرض الزوجين هو المال الذي يستحقُّه الأبوان، [218/أ] ولا يشاركهما فيه مشارك. فهو بمنزلة المال كلِّه إذا لم يكن زوج ولا زوجة. فإذا تقاسماه أثلاثًا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك.
(1)
في النسخ المطبوعة: «فإن الله» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «حالة» .
فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا ورثته الأم ومَن دون الأب كالجدِّ والعمِّ والأخ وابنه؟
قيل: إذا كانت تأخذ الثلث مع الأب، فأخذُها له مع من دونه من العصبات أولى. وهذا من باب التنبيه.
فإن قيل: فمن أين أعطيتموها الثلث كاملًا إذا كان معها ومع هذا
(1)
العصبة الذي هو دون الأب زوج أو زوجة، والله سبحانه إنما جعل لها الثلث كاملًا إذا انفرد الأبوان بميراثه على ما قرَّرتموه. فإذا كان جدّ وأمّ، أو عمّ وأمّ، أو أخ وأمّ، أو ابن عمٍّ أو ابن أخ مع أحد الزوجين= فمن أين أُعطِيت الثلث كاملًا، ولم ينفرد الأبوان بالميراث؟
قيل: بالتنبيه ودلالة الأَولى، فإنها إذا أخذت الثلث كاملًا مع الأب، فلَأن تأخذه مع ابن العمِّ أولى. وأما إذا كان أحد الزوجين مع هذا العصبة فإنه ليس له إلا ما بقي بعد الفروض. ولو استوعبت الفروض المالَ سقط، كأم وزوج وأخ لأم، بخلاف الأب.
فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا كان مع العصبة ذو فرض غير البنات والزوجة؟
قيل: لا يكون ذلك إلا ولد الأم
(2)
أو الأخوات للأبوين أو للأب، واحدة أو أكثر والله تعالى قد أعطاها السدس مع الإخوة، فدلَّ على أنها تأخذ الثلث [218/ب] مع الواحد إذ ليس بإخوة.
(1)
في النسخ المطبوعة هنا وفيما يأتي: «هذه» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «مع ولد الأم» ، زادوا كلمة «مع» .
بقي
(1)
الأختان والأخوان، فهذا مما تنازع فيه الصحابة، فجمهورهم أدخلوا الاثنين في لفظ الإخوة، وأبى ذلك ابن عباس
(2)
. ونظره أقرب إلى ظاهر اللفظ. ونظر الصحابة أقرب إلى المعنى وأولى به، فإن الإخوة إنما حجبوها إلى السدس لزيادة ميراثهم على ميراث الواحد، ولهذا لو كانت واحدةً أو أخًا واحدًا لكان لها الثلث معه. فإذا كان الإخوة ولد أمٍّ كان فرضهم الثلث، اثنين كانا أو مائة؛ فالاثنان والجماعة
(3)
سواء. وكذلك لو كنَّ أخواتٍ لأب أو لأب وأمٍّ، ففرضُ الثنتين وما زاد واحد. فحجبُها عن الثلث إلى السدس باثنين كحجبها بثلاثة سواء، لا فرق بينهما البتة. وهذا الفهم في غاية اللطف، وهو من أدقِّ فهم القرآن. ثم طردُ ذلك في الذكور من ولد الأب والأبوين لمعنًى يقتضيه، وهو توفير السدس الذي حجبت عنه لهم لزيادتهم على الواحد نظرًا لهم
(4)
ورعايةً لجانبهم.
وأيضًا فإن قاعدة الفرائض أنَّ كلَّ حكمٍ اختصَّ به الجماعة عن الواحد اشترك فيه الاثنان وما فوقهما كولد الأم والبنات وبنات الابن والأخوات للأبوين أو للأب. والحجب هاهنا قد اختصَّ به الجماعة، فيستوي فيه الاثنان وما زاد عليهما. وهذا هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة
(1)
أثبت في ع: «أما» مع علامة «ظ» فوقها، وكتب في الحاشية:«في الأصل: بقي» .
(2)
رواه ابن جرير في «جامع البيان» (6/ 465)، وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 392)، والحاكم (4/ 335)، وابن حزم في «المحلى» (9/ 258)، والبيهقي (6/ 227)، ولا يصح، وآفتُه شعبة مولى ابن عباس، وهو ضعيف. ويُنظر:«تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (2/ 228)، و «تحفة الطالب» له (ص 352 - 353).
(3)
في النسخ المطبوعات زيادة: «في ذلك» .
(4)
ع: «إليهم» .
الكتاب وفهم أكابر الصحابة.
وأيضًا فإن الأمة مُجمعة على أن قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11][219/أ] يدخل في حكمه الثنتان، وإن اختلفوا في كيفية دخولهما في الحكم كما سيأتي. فهكذا دخول الأخوين في الإخوة.
وأيضًا فإن لفظ الإخوة كلفظ الذكور والإناث والبنات والبنين، وهذا كلُّه قد يُطلق ويراد به الجنس الذي جاوز الواحد، وإن لم يزد على اثنين. فكلُّ حكم عُلِّق بالجمع من ذلك دخل فيه الاثنان كالإقرار والوصية والوقف وغير ذلك. فلفظ الجمع قد يراد به الجنس المتكثِّر أعمَّ من تكثيره بواحد أو اثنين، كما أن لفظ المثنى قد يراد به المتعدِّد أعمَّ من أن يكون تعدُّده بواحد أو أكثر، نحو:{ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]، ودلالتهما حينئذ على الجنس المتكثِّر.
وأيضًا فاستعمالُ الاثنين في الجمع بقرينة، واستعمالُ الجمع في الاثنين بقرينة= جائز، بل واقع.
وأيضًا فإنه سبحانه قال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]. وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة، كما يتناول ما
(1)
فوقهما.
ولفظ الإخوة وسائر ألفاظ الجمع قد يُعنى به الجنس، من غير قصد
(1)
في النسخ المطبوعة: «من» .
التعدُّد
(1)
، كقوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]. وقد يعنى به العدد من غير قصد لعدد معيَّن، بل لجنس التعدُّد. وقد يعنى به الاثنان وما زاد. والثالث يتناول الثلاثة فما زاد عند إطلاقه، وإذا قُيِّد اختصَّ بما قُيِّد به.
ومما يدل على أن قوله [219/ب] تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} أن المراد به الاثنان فصاعدًا: أنه سبحانه قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. فقوله: {كَانُوا} ضمير جمع. ثم قال: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فذكَّرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله: {فَهُمْ} ، والمظهر وهو قوله:{شُرَكَاءُ} . ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} . فذكر حكمَ الواحد، وحكمَ اجتماعه مع غيره، وهو يتناول الاثنين قطعًا، فإن قوله:{أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي أكثر من أخ أو أخت. ولم يُرد أكثر من مجموع الأخ والأخت
(2)
، بل أكثر من الواحد. فدلَّ على أن صيغة الجمع في الفرائض تتناول العدد الزائد على الواحد مطلقًا، ثلاثة كان أو أكثر منه. وهذا نظير قوله:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
ومما يوضِّح ذلك أن لفظ الجمع قد يختصُّ بالاثنين مع البيان وعدم اللَّبْس، كالجمع المضاف إلى اثنين مما يكون المضاف فيه جزءً من
(1)
ما عدا ع: «تعدد» .
(2)
ع: «الأخت والأخ» .
المضاف إليه أو كجزئه، نحو «قلوبهما» ، و «أيديهما». فكذلك يتناول الاثنين فما فوقهما مع البيان بطريق الأولى. وله ثلاثة أحوال:
أحدها: اختصاصه بالاثنين.
الثانية: صلاحيته لهما.
الثالثة: اختصاصه بما زاد عليهما. وهذه الحال له عند إطلاقه، وأما عند تقييده فبحسب ما قُيِّد به. وهو حقيقة في الموضعين، فإن اللفظ تختلف دلالته بالإطلاق [220/أ] والتقييد، وهو حقيقة في الاستعمالين.
فظهر أن فهم جمهور الصحابة أحسن من فهم ابن عباس في حجب الأم بالاثنين، كما فهمهم في العمريتين أتمُّ من فهمه. وقواعد الفرائض تشهد لقولهم، فإنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في طبقة واحدة كالابن والبنت، والجدِّ والجدَّة، والأب والأمِّ، والأخ والأخت= فإما أن يأخذ الذكر ضِعْفَ
(1)
الأنثى أو يساويها. فأما أن تأخذ الأنثى ضعف الذكر فهذا خلاف قاعدة الفرائض التي أوجبها شرع الله وحكمته. وقد عهدنا الله سبحانه أعطى الأبَ ضعف ما أعطى الأم إذا انفرد الأبوان بميراث الولد، وساوى بينهما مع
(2)
وجود الولد، ولم يفضِّلها عليه في موضع واحد= فكان جعلُ الباقي بينهما بعد نصيب أحد الزوجين أثلاثًا هو الذي يقتضيه الكتاب والميزان؛ فإن ما يأخذه الزوج أو الزوجة من المال كأنه مأخوذ بدَين أو وصية إذ لا قرابة بينهما، وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة، فصارا هما المستقلَّين بميراث
الولد بعد فرض الزوجين، وهما في طبقة واحدة، فقُسم الباقي بينهما أثلاثًا.
فإن قيل: فهاهنا سؤالان. أحدهما: أنكم هلَّا أعطيتموها ثلث جميع المال في مسألة زوجة وأبوين، فإن الزوجة إذا أخذت الربع وأخذت هي الثلث كان الباقي للأب، وهو أكثر من الذي أخذته. فوفيتم حينئذ بالقاعدة، وأعطيتموها الثلث كاملًا؟ والثاني: أنكم هلَّا جعلتم لها ثلث الباقي إذا كان بدل الأب في المسألتين جدٌّ؟
قيل: قد ذهب إلى كلِّ واحد من هذين المذهبين ذاهبون من السلف الطيِّب. فذهب إلى الأول محمد بن سيرين ومن وافقه، وإلى الثاني عبد الله بن مسعود
(1)
. ولكن أبى ذلك جمهور الصحابة والأئمة بعدهم، وقولهم أصحُّ في الميزان، وأقربُ إلى دلالة الكتاب؛ فإنَّا لو أعطيناها الثلث كاملًا بعد فرض الزوجة كنَّا قد خرجنا عن قياس الفرائض وقاعدتها
(2)
، وعن دلالة الكتاب. فإن الأب حينئذ يأخذ ربعًا وسدسًا، والأم لا تساويه، ولا تأخذ شطره، وهي في طبقته. وهذا لم يشرعه الله قط، ودلالة الكتاب لا تقتضيه.
وأما في مسألة الجدِّ فإن الجدَّ أبعد منها، وهو يحجب بالأب، فليس في طبقتها، فلا يحجبها عن شيء من حقِّها. فلا يمكن أن تُعطَى ثلث الباقي ويفضَّل الجدُّ عليها بمثل ما تأخذ، فإنها أقرب منه، وليس في درجتها؛ ولا يمكن أن تُعطى السدسَ، فكان فرضها الثلث كاملًا.
(1)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (19072)، و «السنن الكبير» للبيهقي (6/ 250).
(2)
ع: «قاعدة الفرائض وقياسها» . وكذا في النسخ المطبوعة.
وهذا مما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النصوص بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل، أو بالاعتبار الأولى، أو بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به، أو تنبيه اللفظ وإشارته
(1)
وفحواه، أو بدلالة التركيب، وهي ضمُّ نصٍّ إلى نصٍّ آخر، وهي غير دلالة الاقتران، بل هي ألطف منها وأدقُّ وأصحُّ كما تقدَّم.
فالقياس المحض والميزان الصحيح: أن الأم مع الأب كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد. وقد أعطى الله سبحانه الزوج ضعف [221/أ] ما أعطى الزوجة تفضيلًا لجانب الذكورية، وإنما عدل عن هذا في ولد الأم، لأنهم يُدْلون بالرَّحِم المجرَّد ويُدْلون بغيرهم وهو الأم، وليس لهم تعصيب بحال، بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم يُدْلون بأنفسهم، وسائر العصبة يُدْلون بذكر كولد البنين وكالإخوة للأبوين أو للأب، فإعطاء الذكر مثلَ حظِّ الأنثيين معتبر فيمن يُدلي بنفسه أو بعصبة. وأما من يدلي بالأمومة كولد الأم فإنه لا يفضَّل ذكرُهم على أنثاهم. وكان الذكر كالأنثى في الأخذ، وليس الذكر كالأنثى في باب الزوجية ولا في باب الأبوة ولا البنوة ولا الأخوة. فهذا هو الاعتبار الصحيح، والكتاب يدل عليه كما تقدَّم بيانه.
وقد تناظر ابن عباس وزيد بن ثابت في العُمَريتين
(2)
، فقال له ابن
(1)
في النسخ المطبوعة: «أو إشارته» .
(2)
رواه عبد الرزاق (19020) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (7/ 396) ــ، وابن أبي شيبة (31710)، والبيهقي (6/ 228).
عباس: أين في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال زيد: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث كلَّه مع الزوجين، أو كما قال. بل كتاب الله يمنع إعطاءها الثلث مع أحد الزوجين، فإنه لو أعطاها الثلث مع الزوج لقال: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث، فكانت تستحقُّه مطلقًا. فلما خصَّ الثلث ببعض الأحوال عُلِم أنها لا تستحقه مطلقًا. ولو أعطيته مطلقًا لكان قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} زيادةً في اللفظ ونقصًا في المعنى، وكان ذكره عديم الفائدة. ولا يمكن أن تعطى السدس، لأنه إنما جُعِل لها مع الولد أو الإخوة. فدلَّ القرآن على أنها لا تعطى السدس مع أحد الزوجين ولا تعطى الثلث، وكان قسمة ما بقي بعد فرض الزوجين بين الأبوين مثل قسمة أصل المال [221/ب] بينهما. وليس بينهما فرق أصلًا، لا في القياس ولا في المعنى.
فإن قيل: فهل هذه دلالة خطابية لفظية أو قياسية محضة؟
قيل: هي ذات وجهين. فهي لفظية من جهة دلالة الخطاب، وضمِّ بعضه إلى بعض، واعتبار بعضه ببعض. وقياسية من جهة اعتبار المعنى، والجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين. وأكثر دلالات النصوص كذلك كما في قوله:«من أعتق شِرْكًا له في عبد»
(1)
، وقوله:«أيُّما رجلٍ وجد متاعَه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقُّ به»
(2)
، وقوله:«من باع شِرْكًا له في أرض أو رَبْعة أو حائط»
(3)
حيث يتناول الحوانيت، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
(1)
أخرجه البخاري (2491) ومسلم (1501) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (1608).
الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] فخصَّ الإناث في اللفظ
(1)
، إذ كن سبب النزول، فنصَّ عليهن بخصوصهن. وهذا أصحُّ مِن فهم مَن قال من أهل الظاهر: المراد بالمحصنات: الفروج المحصَنات؛ فإن هذا لا يفهمه السامع من هذا اللفظ، ولا من قوله:{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]، ولا من قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24]، ولا من قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23]. بل هذا من عرف الشارع، حيث يعبِّر باللفظ الخاص عن المعنى العام. وهذا غير باب القياس.
وهذا تارةً يكون لكون اللفظ الخاص صار في العرف عامًّا [222/أ] كقوله: «لا يملكون نقيرًا» ، و {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49] ونحوه، وتارةً لكونه قد عُلِم بالضرورة من خطاب الشارع تعميمُ المعنى لكلِّ ما كان مماثلًا للمذكور، وأن التعيين في اللفظ لا يراد به التخصيص بل التمثيل، أو لحاجة المخاطب إلى تعيينه بالذكر، أو لغير ذلك من الحكم.
فصل
المسألة الثالثة: ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عَصبة
(2)
. فإن القرآن يدل عليه، كما أوجبته السنة الصحيحة؛ فإن الله سبحانه قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
(1)
في النسخ المطبوعة: «باللفظ» .
(2)
قارن بكلام شيخ الإسلام في القاعدة المذكورة ضمن «جامع المسائل» (2/ 318 - 332)
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]. وهذا دليل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال كلَّه مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك، إذ لو كان كذلك لكان قوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} زيادةً في اللفظ، ونقصًا في المعنى، وإيهامًا لغير المراد؛ فدلَّ على أنها مع الولد لا ترث النصف، والولد إما ذكر وإما أنثى، فأما الذكر فإنه يُسقِطها كما يُسقِط الأخ بطريق الأولى.
ودلَّ قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} على أن الولد يُسقِطه كما يُسقطها. وأما الأنثى فقد دلَّ القرآن على أنها إنما تأخذ النصف، ولا تمنع
(1)
الأخ عن النصف الباقي إذا كان
(2)
بنت وأخ. بل دلَّ القرآن مع السنة والإجماع أن الأخ يفوز بالنصف الباقي، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ [222/ب]
…
وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألحِقُوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ»
(3)
. وليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت مع إناث الولد بغير جهة الفرض، وإنما صريحُه ينفي أن يكون فرضها النصف مع الولد. فبقي هاهنا ثلاثة أقسام: إما أن يُفرَض لها أقلُّ من النصف، وإما أن تُحرَم بالكلية، وإما أن تكون عصَبة. والأول محال، إذ ليس للأخت فرض مقدَّر غير النصف، فلو فرضنا لها أقلَّ منه لكان ذلك
(1)
ح، ف:«فلا تمنع» .
(2)
ت: «كانت» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
سبق تخريجه.
وضعَ شرع جديد. فبقي إما الحرمان، وإما التعصيب. والحرمان لا سبيل إليه، فإنها وأخاها في درجة واحدة، وهي لا تزاحم البنت؛ فإذا لم يسقط أخوها بالبنت لم تسقط هي بها أيضًا. فإنها لو سقطت بالبنت ولم يسقط أخوها بها لكان أقوى منها وأقرب إلى الميت، وليس كذلك.
وأيضًا فلو أسقطتها البنت إذا انفردت عن أخيها لأسقطتها مع أخيها، فإن أخاها لا يزيدها قوة، ولا يُحصِّل لها نفعًا في موضع واحد. بل لا يكون إلا مضرًّا لها ضررَ نقصان أو ضررَ حرمان، كما إذا خلَّفت زوجًا وأمًّا وأخوين لأم وأختًا لأب وأم، فإنها يُفرَض لها النصف عائلًا، وإن كان معها أخوها سقطا معًا، ولا تنتفع به في الفرائض في موضع واحد. فلو أسقطتها البنت إذا انفردت لأسقطتها بطريق الأولى مع من يُضْعِفها ولا يقوِّيها.
وأيضًا فإن البنت إذا لم تُسقط ابن الأخ وابن العمِّ
(1)
وابن عمِّ الأب والجدِّ وإن بعد، فأَن لا تُسقِط الأخت مع قربها بطريق الأولى.
وأيضًا فإن قاعدة الفرائض [223/أ] إسقاط البعيد بالقريب، وتقديم الأقرب على الأبعد. وهذا عكس ذلك، فإنه يتضمن تقديم الأبعد جدًّا الذي بينه وبين الميت وسائط كثيرة، على الأقرب الذي ليس بينه وبين الميت إلا واسطة الأب وحده. فكيف يرث ابنُ عمِّ جدِّ الميت مثلًا مع البنت، وبينه وبين الميت وسَاطات
(2)
كثيرة، وتُحرَم الأخت القريبة التي ركضت معه في صلب أبيه ورحم أمه؟ هذا من المحال الممتنع شرعًا.
(1)
«وابن العم» ساقط من ح، ف.
(2)
كذا في النسخ كلها. وفي النسخ المطبوعة: «وسائط» .
فهذا من جهة الميزان
(1)
.
وأما من جهة فهم النصِّ، فإن الله سبحانه قال في الأخ:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ولم يمنع ذلك ميراثَه منها إذا كان الولد أنثى. فهكذا قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} لا ينفي أن ترث غير النصف مع إناث الولد، أو ترث الباقي إذا كان نصفًا؛ لأن هذا غير الذي أعطاها إياه فرضًا مع عدم الولد. فتأمَّلْه، فإنه ظاهر جدًّا.
وأيضًا فالأقسام ثلاثة: إما أن يقال: يفرض لها النصف مع البنت. أو يقال: تسقط معها بالكلية. أو يقال: تأخذ ما فضَل بعد فرض البنت أو البنات. والأول ممتنع للنص
(2)
والقياس، فإن الله سبحانه إنما فرض لها النصف مع عدم الولد، فلا يجوز إلغاءُ هذا الشرط، وفرضُ النصف لها مع وجوده. والله سبحانه إنما أعطاها النصف إذا كان الميت كلالةً، لا ولد له ولا والد. فإذا كان له ولد لم يكن الميت كلالةً، فلا يُفرَض لها معه. وأما القياس فإنها لو فُرض لها النصف مع وجود البنت لنقصت البنت [223/ب] عن النصف إذا عالت الفريضة كزوجة أو زوج وبنت وأخت وإخوة. والإخوة لا يزاحمون الأولاد، لا بفرض ولا تعصيب، فإن الأولاد أولى منهم، فبطل فرض النصف، وبطل سقوطها بما ذكرناه. فتعيَّن القسم الثالث، وهو أن تكون عصَبة لها ما بقي، وهي أولى به من سائر العصبات الذين هم أبعد منها. وبهذا جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
ت: «الميراث» ، تصحيف.
(2)
ع: «بالنص» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
فوافق قضاؤه لكتاب
(1)
ربه وللميزان الذي أنزله مع كتابه. وبذلك قضى الصحابة بعده كابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهما.
فإن قيل: لكن خرجتم عن قوله صلى الله عليه وسلم: «ألحِقُوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأَولى رجلٍ ذكرٍ» . فإذا أعطينا البنت فرضَها وجب أن يعطى الباقي لابن الأخ أو العم أو ابنه دون الأخت، فإنه رجل ذكَر. فأنتم عدلتم عن هذا النص وأعطيتموه الأنثى، فكنَّا أسعد بالنص منكم. وعملنا به وبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
حيث أعطى البنت النصف، وبنت الابن
(3)
السدس، والباقي للأخت إذا لم يكن هناك أولى رجل ذكر، فكانت الأخت عصَبة. وهذا توسُّط بين قولكم وبين قول من أسقط الأخت بالكلية. وهذا مذهب إسحاق بن راهويه، وهو اختيار أبي محمد بن حزم
(4)
.
وسقوطُها بالكلية مذهب ابن عباس، كما قال عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلَمة: قيل لابن عباس: رجل ترَك ابنته، وأختَه [224/أ] لأبيه وأمِّه؛ فقال: لابنته النصف
(5)
، وليس لأخته شيء مما ترك، وهو
(1)
كذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «كتاب» دون اللام، على الجادَّة.
(2)
أخرجه البخاري (6742) من حديث ابن مسعود.
(3)
ع: «وبنت البنت» . وكذا كان في ح. مع «كذا» فوق كلمة «البنت» . ثم ضرب عليها وكتب في الحاشية: «لعله الابن» .
(4)
انظر: «المحلَّى» (8/ 268).
(5)
في النسخ الخطية والمطبوعة جميعًا بعد النصف: «ولأمه السدس» . ولا أدري كيف أقحمت هذه الزيادة؟ ولا شك أن الذي أقحمها قرأ المسألة هكذا: «بنته، وأختَه لأبيه، وأمَّه» ، فعطف كلمة الأم على الأخت. ولكن لم ترد عبارة «ولأمه السدس» في مصادر التخريج، ثم هو مخالف للسياق.
لعصَبته. فقال له السائل: إن عمر قضى بغير ذلك: جعل للبنت النصف، وللأخت النصف. فقال ابن عباس: أأنتم أعلم أم الله؟ قال معمر: فذكرتُ ذلك لابن طاوس، فقال لي: أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: قال الله عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فقلتم أنتم: لها النصف، وإن كان له ولد
(1)
.
وقال ابن أبي مُلَيكة عن ابن عباس: أمر ليس في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستجدونه في الناس كلِّهم: ميراث الأخت مع البنت
(2)
.
فالجواب: أن نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّها حقٌّ يصدِّق بعضها بعضًا، ويجب الأخذ بجميعها، ولا يُترك له نصٌّ إلا بنصٍّ آخر ناسخ له، لا يُترَك بقياس ولا رأي ولا عمل أهل بلد ولا إجماع. ومحال أن تُجمِع الأمة على خلاف نصٍّ له إلا أن يكون له نصٌّ آخر ينسخه. فقوله صلى الله عليه وسلم:«فما أبقت الفرائض فلأَولى رجلٍ ذكرٍ» عامٌّ قد خُصَّ منه قوله صلى الله عليه وسلم: «تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنَت عليه»
(3)
.
(1)
رواه عبد الرزاق (19023) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (7/ 455 - 456) ــ، والحاكم (4/ 339) ــ وصحّحه ــ، والبيهقي (6/ 233).
(2)
رواه ابن عيينة في «التفسير» ــ ومن طريقه القاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي [كما في «المحلى» لابن حزم (9/ 257)]، والحاكم (4/ 337) ــ وصحّحه ــ، والضياء المقدسي (11/ 120) ــ عن مصعب بن عبد الله بن الزبرقان، عن ابن أبي مليكة به، ومصعب مجهول، وإنْ ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/ 479).
(3)
رواه أحمد (16004، 16011)، وأبو داود (2906)، والترمذي (2115) وحسّنه، وابن ماجه (2742)، والنسائي في «السنن الكبرى» (6326، 6327، 6387) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعا، وفي سنده عمر بن رؤبة فيه لِينٌ، وذكر ابن عدي في «الكامل» (6/ 103) أنهم أنكروا عليه حديثه عن عبد الواحد النصري (وحديثُه هذا عنه)، وضعّفه البيهقي (6/ 240، 259)، وفي «معرفة السنن والآثار» (5/ 74 - 75)، واستظهر أن الشافعي أيضًا ضعّفه.
وقال ابن المنذر في «الأوسط» (7/ 565): «لا يثبت عند أهل المعرفة بالأخبار» .
أما الحاكم، فصحّحه (4/ 340 - 341).
وأجمع الناس على أنها عصبة عتيقها، واختلفوا في كونها عصبة لقيطها وولدها المنفيِّ باللعان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصل بين المتنازعين. فإذا خُصَّت منه هذه الصور [224/ب] بالنصِّ، وبعضُها مجمَع عليه، خُصَّت منه هذه الصورة بما ذكرناه من الدلالة.
فإن قيل: قوله: «فلأولى رجل ذكر» إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب وهذا لا تخصيص فيه.
قيل: فأنتم تقدِّمون المعتِق على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، فخالفتم النصَّين معًا. وهو صلى الله عليه وسلم قال:«لأولى رجل ذكر» ، فأكَّده بالذكورة ليبيِّن أن العاصب بنفسه المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يُرد بلفظ الرجل ما يتناول الذكر والأنثى، كما في قوله:«من وجد متاعه عند رجل قد أفلس»
(1)
ونحوه مما يُذكَر فيه لفظ «الرجل» ، والحكم يعُمُّ النوعين. وهو نظير قوله في حديث الصدقات:«فابنُ لبون ذكَر»
(2)
ليبيِّن أن المراد الذكر دون الأنثى. ولم يتعرَّض في الحديث للعاصب بغيره، فدلَّ قضاؤه الثابت عنه في إعطاء الأخت مع البنت وبنت الابن
(3)
ما بقي أن الأخت عصبة
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (1448) من حديث أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما.
(3)
ت، ع:«بنت البنت» . وكذا كان في ح، ثم حُكَّ وكتب «الابن» .
بغيرها. فلا تنافي بينه وبين قوله: «فلأولى رجل ذكر» ، بل هذا
(1)
إذا لم يكن ثَمَّ عصبة بغيره، بل كان العصبة عصبةً بأنفسهم، فيكون أولاهم وأقربُهم إلى الميِّت أحقَّهم بالمال. وأما إذا اجتمع العصبتان، فقد دلَّ حديث ابن مسعود الصحيح أن تعصيب الأخت أولى من تعصيب من هو أبعد منها، فإنه أعطاها الباقي ولم يعطه لابن عمِّه مع القطع بأنَّ
(2)
العرب بنو عمٍّ، بعضُهم لبعض، فقريب وبعيد؛ ولا سيما إن كان ما حكاه ابن [225/أ] مسعود من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءً عامًّا كُلِّيًّا، فالأمر حينئذ يكون أظهر وأظهر.
فصل
ومما يبيِّن صحة قول الجمهور: أن قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد. والمفهومُ إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلًا للحكم في المنطوق. فإذا كان فيه تفصيلٌ حصل بذلك مقصود المخالفة، فلا يجب أن يكون كلُّ صورة من صور المسكوت مخالفةً لكلِّ صور المنطوق. ومن توهَّم ذلك فقد توهَّم باطلًا، فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص، والحكمُ إذا ثبت لعلة فانتفت في بعض الصور أو جميعها جاز أن يخلُفَها علة أخرى.
وأما قصد التخصيص فإنه يحصل بالتفصيل. وحينئذ فإذا نفَينا إرثها مع ذكور الولد، أو نفَينا إرثها النصف فرضًا
(3)
مع إناثهم= وفَّينا بدليل الخطاب.
(1)
«هذا» ساقط من ح، ف.
(2)
في النسخ المطبوعة: «القطع، فإن» .
(3)
«فرضًا» ساقط من ع.
فصل
ومما يبيِّن أن المراد بقوله: «فلأولى رجل ذكر» العصبة بنفسه لا بغيره: أنه لو كان بعد الفرائض إخوة وأخوات، أو بنون وبنات، أو بنات ابن وبنو ابن= لم ينفرد الذكر بالباقي دون الإناث بالنص والإجماع، فتعصيب الأخت بالبنت كتعصيبها بأخيها. فإذا لم يكن قوله:«فلأولى رجل ذكر» موجبًا لاختصاص أخيها دونها لم يكن موجِبًا لاختصاص ابن عم الجدِّ بالباقي دونها. يوضِّحه أنه لو كان معها أخوها لم تسقط، وكان الباقي بعد فرض البنات بينها وبين أخيها.
هذا، وأخوها أقرب إلى الميت من الأعمام وبنيهم، فإذا لم يسقطها الأخ فَلَأن لا يُسقطها [225/ب] ابن عمِّ الجدِّ بطريق الأولى والأحرى. وإذا لم يُسقطها ورثت دونه، لكونها أقرب منه، بخلاف الأخ فإنها تشاركه، لاستوائهما في القرب من الميت. فهذا محض القياس والميزان الموافق لدلالة الكتاب ولقضاء النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذه الطريق فلا تخصيص في الحديث، بل هو على عمومه. وهذه الطريق أفقه وألطف.
يوضِّح ذلك: أن قاعدة الفرائض أن جنس أهل الفروض فيها مقدَّمون على جنس العصبة، سواء كان ذا فرض محض، أو كان له مع فرضه تعصيب في حال إما بنفسه وإما بغيره، والأخوات من جنس أهل الفرائض، فيجب تقديمهن على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض كالأعمام وبنيهم وبني الإخوة. والاستدلال بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات كالاستدلال على حرمانهن مع إخوتهن وحرمان بنات الابن، بل البنات أنفسهن مع إخوتهن. وهذا باطل بالنص والإجماع، فكذا الآخر.
ومما يوضِّحه: أنا رأينا قاعدة الفرائض أن البعيد من العصبات يعصِّب من هو أقرب منه إذا لم يكن له فرض، كما إذا كان بنات وبنات ابن وأسفل منهن ابن ابن ابن، فإنه يعصِّبهن، فيحصل لهن الميراث بعد أن كن محرومات. وأما أن البعيد من العصبات يمنع الأقرب من الميراث بعد أن كان وارثًا، فهذا ممتنع شرعًا وعقلًا، وهو عكس قاعدة الشريعة. والله الموفِّق.
وفي الحديث مسلك آخر، وهو أن قوله:«ألحقوا الفرائض بأهلها» المراد به مَن كان مِن أهلها في الجملة، وإن لم يكن في هذا الحال من أهلها، كما في اللفظ [226/أ] الآخر:«اقسموا المال بين أهل الفرائض»
(1)
. وهذا أعمُّ من كونه من أهل الفرائض بالقوة أو بالفعل. فإذا كانوا كلُّهم من أهل الفرائض بالفعل كان الباقي للعصَبة. وإن كان فيهم من هو من أهل الفرائض بالقوة وإن حُجِب عن الفرض بغيره دخل في اللفظ الأول، ولم يكن
(2)
لأولى رجل ذكر معه شيء، وإنما يكون له إذا كان أهل الفرائض مطلقًا معدومين. والله أعلم.
فصل
المسألة الرابعة: ميراث البنات
(3)
. وقد دلَّ صريحُ النص على أن للواحدة النصف، ولأكثر من اثنتين الثلثين. بقي الثنتان
(4)
، فأشكل دلالة
(1)
أخرجه مسلم (1615) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
في النسخ المطبوعة: «وإن لم يكن» .
(3)
قارن بكلام شيخ الإسلام في القاعدة المذكورة ضمن «جامع المسائل» (2/ 333 - 340).
(4)
ع، ف:«البنتان» ، والكلمة مهملة في ح، ت.
القرآن على حكمهما على كثير من الناس، فقالوا: إنما أثبتناه بالسنة الصحيحة. وقالت طائفة: بالإجماع. وقالت طائفة: بالقياس على الأختين.
قالوا: والله سبحانه نصَّ على الأختين دون الأخوات، ونصَّ على البنات دون البنتين، فأخذنا حكم كلِّ واحدة من الصورتين المسكوت عنها من الأخرى.
وقالت طائفة: بل أُخِذ من نصِّ القرآن. ثم تنوَّعت طرقهم في الأخذ، فقالت طائفة: أخذناه من قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. فإذا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث عُلِم قطعًا أن حظَّ الأنثيين الثلثان. وقالت طائفة: إذا كان للواحدة مع الذكر الثلث، لا الربع، فأن يكون لها الثلث مع الأنثى أولى وأحرى. وهذا من تنبيه النصِّ بالأدنى على الأعلى.
وقالت طائفة: أخذناه من قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، فقيَّد النصف بكونها واحدة، فدلَّ بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا في حال وحدتها. فإذا [226/ب] كان معها مثلها فإما أن تنقصها عن النصف وهو محالٌ، أو يشتركان فيه، وذلك يُبطل الفائدة في قوله:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} ويجعل ذلك لغوًا مُوهِمًا خلاف المراد
(1)
، وهو محال. فتعيَّن القسم الثالث، وهو انتقال الفرض
(2)
من النصف إلى ما فوقه وهو الثلثان.
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «به» .
(2)
ح، ف:«الفروض» .
فإن قيل: فأي فائدة في التقييد بقوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} والحكم لا يختص بما فوقهما؟
قيل: حسنُ ترتيب الكلام وتأليفه ومطابقة مضمره لظاهره أوجَبَ ذلك، فإنه سبحانه قال:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فالضمير في: «كن» مجموع يطابق الأولاد، أي فإن كان الأولاد نساءً، فذكر لفظ «الأولاد» وهو جمع، وضمير:«كن» وهو ضمير جمع، و «نساء» وهو اسم جمع= فلم يكن بدٌّ من «فوق اثنتين» .
وفيه نكتة أخرى، وهو
(1)
أنه سبحانه قد ذكر ميراث الواحدة نصًّا وميراث الاثنين تنبيهًا كما تقدَّم، فكان في ذكر العدد الزائد على الاثنتين دلالة على أن الفرض لا يزيد بزيادتهن على الاثنتين، كما زاد بزيادة الواحدة على الأخرى.
وأيضًا فإن ميراث الاثنتين قد عُلِم من النص، فلو قال:«فإن كانتا اثنتين» كان تكريرًا، ولم يُعلَم منه حكمُ ما زاد عليهما، فكان ذكرُ الجمع في غاية البيان والإيجاز، وتطابق أول الكلام وآخره، وحسن تأليفه وتناسبه.
وهذا بخلاف سياق آخر السورة، فإنه قال:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} فلم يتقدَّم اسمُ جمع ولا ضميرُ جمع يقتضي أن يقول:
(1)
كذا في النسخ الخطية والطبعات القديمة. كأنه ظن أنه قال: «وفيه سرٌّ آخر» . وأثبت في المطبوع: «وهي» .
فإن كنَّ
(1)
فوق اثنتين.
وقد ذكر ميراث الواحدة وأنه النصف، فلم يكن بدٌّ من ذكر ميراث الأختين [227/أ] وأنه الثلثان، لئلا يُتوهَّم أن الأخرى إذا انضمَّت إليها أخذت نصفًا آخر. ودلَّ تشريكُه بين البنات وإن كثُرن في الثلثين، على تشريكه بين الأخوات وإن كثرن في ذلك، بطريق الأولى؛ فإن البنات أقرب من الأخوات، ويُسقِطن فرضهن. فجاء بيانه سبحانه في كلٍّ من الآيتين من أحسن البيان، فإنه لما بيَّن ميراث الاثنتين بما تقرَّر بين ميراث ما زاد عليهما، وفي آية الإخوة والأخوات لمَّا بيَّن ميراث الأخت والأختين لم يحتج أن يبيِّن ميراث ما زاد عليهما، إذ قد عُلِم بيان الزائد على الاثنتين في مَن هن أولى بالميراث من الأخوات؛ ثم بيَّن حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم. فاستوعب بيانُه جميع الأقسام.
فصل
المسألة الخامسة: ميراث بنت الابن السدس مع البنت، وسقوطها إذا استكمل البنات الثلثين
(2)
. ودلالة القرآن على هذا أخفى من سائر ما تقدَّم. وبيانها أنه تعالى قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . وقد عُلِم أن الخطاب يتناول ولد البنين، دون ولد البنات، وأن قوله:{أَوْلَادِكُمْ} يتناول مَن ينتسب إلى
(1)
ت: «كن نساء» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
قارن بكلام شيخ الإسلام في القاعدة المذكورة ضمن «جامع المسائل» (2/ 346 - 348).
الميِّت، وهم ولده وولد بنيه؛ وأنه يتناولهم على الترتيب، فيدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب. فإذا لم يكن إلا بنت فلها النصف، وبقي من نصيب البنات السدس. فإذا كان ابن ابن أخذ الباقي كلَّه بالتعصيب للنص. فإن كان معه أخواته شاركنه في الاستحقاق؛ لأنهن معه عصبة. وهذا أحد ما يدل على أن قوله:«فلأولى رجل ذكر» لا يمنع أن تأخذ الأنثى إذا كانت [227/ب] عصبةً
(1)
بغيرها. ولهذا أخذت الأخت مع البنت الباقي بالتعصيب؛ لأنها عصبة بها. وإن لم يكن مع البنت إلا بنات ابن، فقد كنَّ بصدد أخذ الثلثين لولا البنت، فإذا أخذت النصف، فالسدسُ الباقي لا مانع لهن من أخذه، فيفُزْن به. ألا ترى أنه إذا استكمل البنات الثلثين لم يكن لهن شيء، ولو لم يكن بنات أخذن جميع الثلثين. فإذا قُدِّمت البنت عليهن بالنصف أخذن بقية الثلثين اللذين كن يفزن بهما جميعًا لولا البنت. وهكذا
(2)
حكَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم سواء.
فإن قيل: فمن أين أعطيتم بنات الابن إذا استكمل البنات الثلثين وكان معهن أخوهن، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل الباقي لأولى رجل ذكر؟ قيل: قد تقدَّم بيان ذلك مستوفًى، وأن هذا حكم كلِّ عصبة معه وارث من جنسه في درجته، كالأولاد والإخوة، بخلاف الأعمام وبني الإخوة.
فإن قيل: فكيف عصَّب ابنُ ابن الابن مَن فوقه، وليس في درجته؟
قيل: إذا كان يعصِّب من هو في درجته مع أنه أنزَلُ ممن فوقه ولا يُسقِطه، فتعصيبه لمن هو فوقه وأقربُ منه إلى الميِّت بطريق الأولى. فإذا
(1)
أثبت في المطبوع هنا وفيما يتلو: «عصبية» خلافًا للنسخ الخطية والمطبوعة!
(2)
ع: «وهذا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
كان الأنزل لا يقوى هو على إسقاطه، فكيف يقوى على إسقاط الأعلى؟ على أن عبد الله بن مسعود لا يعصِّب به مَن في درجته ولا مَن فوقه، بل يخصُّه بالباقي
(1)
. ووجه قوله أنها لا ترث مفردةً، فلا ترث مع أخيها، كالمحجوبة برِقٍّ أو كفر، بخلاف ما إذا كانت وارثة كبنت وبنت ابن معها أخوها، فإنه يعصِّبها اتفاقًا، لأنها وارثة.
وقول الجمهور أصح، فإنها وارثة في الجملة، وهي ممن يستفيد التعصيب بأخيها. وهنا إنما سقط ميراثها [228/أ] بالفرض لاستكمال مَن فوقها الثلثين. ولا يلزم من سقوط الميراث بالفرض سقوطُه بالتعصيب مع قيام موجبِه، وهو وجود الأخ. وإذا كان وجود الأخ يجعلها عصبةً، فيمنعها الميراث بالكلِّيَّة، ولولاه ورثت بالفرض، وهو الأخ المشؤوم= فالعدل يقتضي أن يجعلها عصبةً، فيورثها إذا لم ترِث بالفرض، وهو الأخ النافع. فهذا محض القياس والميزان، وقد فهمت دلالة الكتاب عليه.
والنزاع في الأخت للأب مع الأخت أو الأخوات للأبوين، كبنت الابن مع البنت والبنات سواء. وبالله التوفيق.
فصل
المسألة السادسة: ميراث الجد مع الإخوة
(2)
. والقرآن يدل على قول الصدِّيق ومن معه من الصحابة كأبي موسى وابن عباس وابن الزبير وأربعة
(1)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (19012)، و «السنن» لسعيد بن منصور (19)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (31728)، و «السنن الكبير» للبيهقي (6/ 230).
(2)
قارن بكلام شيخ الإسلام في القاعدة المذكورة ضمن «جامع المسائل» (2/ 305 - 307).
عشر منهم. ووجه دلالة القرآن على هذا القول قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} إلى آخر الآية [النساء: 176]، فلم يجعل للإخوة ميراثًا إلا في الكلالة.
وقد اختلف الناس في الكلالة، والكتاب يدل على قول الصديق: إنها ما عدا الوالد والولد. فإنه سبحانه قال في ميراث ولد الأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فسوَّى بين ميراث الإخوة في الكلالة، وإن فرَّق بينهم في جهة الإرث ومقداره. فإذا كان [228/ب] وجودُ الجدِّ مع الإخوة للأم لا يُدخلهم في الكلالة، بل يمنعهم من صدق اسم الكلالة على الميت أو عليهم أو على القرابة، فكيف أدخل ولد الأب في الكلالة، ولم يمنعهم وجودُه صدقَ اسمها؟ وهل هذا إلا تفريق محض بين ما جمع الله بينه؟
يوضِّحه الوجه الثاني: وهو أن ولد الولد يمنع الإخوة من الميراث، ويُخرج المسألة عن كونها كلالة، لدخوله في قوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] ونسبةُ أبي الأب
(1)
إلى الميت كنسبة ولد ولده إليه. فكما أن الولد وإن نزل يُخرج المسألة عن الكلالة، فكذلك أبو الأب
(2)
وإن علا، ولا فرق بينهما البتة.
(1)
ما عدا ع: «أب الأب» ، وهو شائع أيضًا في كتب الفقه.
(2)
ت: «أب الأب» .
يوضِّحه الوجه الثالث
(1)
: أن نسبة الإخوة إلى الجد كنسبة الأعمام إلى أبي الجد، فإن الأخ ابن الأب، والعم ابن الجد. فإذا خلَّف عمَّه وأبا جده فهو كما لو خلَّف أخاه وجدَّه سواء. وقد أجمع المسلمون على تقديم أبي الجد على العم، فكذلك يجب تقديم الجد على الأخ، وهذا من أبيَن القياس. وإن لم يكن هذا قياسًا جليًّا، فليس في الدنيا قياس جلي!
يوضِّحه الوجه الرابع: وهو أن نسبة ابن الأخ إلى الأخ كنسبة أبي الجد إلى الجد. فإذا قال الأخ: أنا أرث مع الجدِّ، لأني ابن أبي الميت، والجد أبو أبيه، فكلانا في القرب إليه سواء= صاح ابنُ الأخ مع أبي الجد، وقال: أنا ابنُ ابنِ أبي الميت، فكيف حرمتموني مع أبي أبي أبيه، ودرجتنا واحدة؟ وكيف سمعتم قول أبي مع الجد، ولم تسمعوا قولي مع أبي الجد؟
فإن قيل: أبو الجدِّ جدٌّ وإن علا، وليس ابنُ الأخ [229/أ] أخًا.
قيل: فهذا حجة عليكم؛ لأنه إذا كان أبو الأب أبًا، وأبو الجدِّ جدًّا، فما للإخوة ميراث مع الأب بحال.
فإن قلتم: نحن نجعل أبا الجدِّ جدًّا، ولا نجعل أبا الأب أبًا.
قيل: هكذا فعلتم، وفرَّقتم بين المتماثلين، وتناقضتم أبين تناقض، وجعلتموه أبًا في موضع، وأخرجتموه عن الأبوة في موضع.
يوضِّحه الوجه الخامس: وهو أن نسبة الجدِّ إلى الأب في العمود الأعلى كنسبة ابن الابن إلى الابن في العمود الأسفل. فهذا أبو أبيه، وهذا ابن ابنه. فهذا يُدلي إلى الميت بأبي الميت، وهذا يدلي إليه بابنه. فكما كان
(1)
زيد بعده في النسخ المطبوعة: «وهو» .
ابن الابن ابنًا، فكذلك يجب أن يكون أبو الأب أبًا. فهذا هو الاعتبار الصحيح من كلِّ وجه. وهذا معنى قول ابن عباس: ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا؟
يوضِّحه الوجه السادس
(1)
:أن الله سبحانه سمَّى الجدَّ أبًا في قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، وقوله:{كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وقوله: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76]، وقول يوسف:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]. وفي حديث المعراج: «هذا أبوك آدم، وهذا أبوك إبراهيم»
(2)
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود:«من أبوكم؟» قالوا: فلان. قال: «كذبتم، بل أبوكم فلان» . قالوا: صدقتَ
(3)
.
وسُمِّي ابنُ الابن ابنًا، كما في قوله:{يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]، و {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ارمُوا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا»
(4)
. والأبوة والبنوة من الأمور المتلازمة المتضايفة، يمتنع ثبوت أحدهما بدون [229/ب] الآخر، فيمتنع ثبوت البنوة لابن الابن إلا مع ثبوت الأبوة لأبي الأب.
يوضِّحه الوجه السابع: وهو أن الجدَّ لو مات ورِثَه بنو بنيه، دون إخوته
(1)
هنا أيضًا في النسخ المطبوعة زيادة: «وهو» .
(2)
أخرجه البخاري (3887) من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (3169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (2899) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
باتفاق الناس، فهكذا الأب إذا مات يرثه أبو أبيه، دون إخوته. وهذا معنى قول عمر لزيد: كيف يرثني أولادُ عبد الله دون إخوتي، ولا أرثهم دون إخوتهم؟ فهذا هو القياس الجلي، والميزان الصحيح، الذي لا مغمز فيه ولا تطفيف.
يوضِّحه الوجه الثامن
(1)
: أن قاعدة الفرائض وأصولها أنه إذا كان قرابة المُدْلي من الواسطة من جنس قرابة الواسطة كان أقوى مما إذا اختلف جنس القرابتين. مثال ذلك أن الميت يُدلي إليه ابنُه بقرابة البنوة، وأبوه يُدلي إليه بقرابة الأبوة، فإذا أدلى إليه واحد ببنوة البنوة وإن بعدت كان أقوى ممن يُدلي إليه بقرابة بنوة الأبوة وإن قربت. فكذلك قرابة أبوة الأبوة وإن علت أقوى من قرابة بنوة الأب وإن قربت. وقد ظهر اعتبار هذا في تقديم جدِّ الجدِّ وإن علا على ابن الأخ وإن قرب، وعلى العم؛ لأن القرابة التي يدلي بها الجدُّ من جنس واحد وهي الأبوة، والقرابة التي يدلي بها الأخ وبنوه من جنسين وهي بنوة الأبوة. ولهذا قُدِّمت قرابة ابن الأخ على قرابة ابن الجد، لأنها قرابة بنوة أب، وتلك قرابة بنوة أبي أب. فبين ابن الأخ فيها وبين الميت جنس واحد وهي الأخوة، فبواسطتها وصل إليه؛ بخلاف العمِّ، فإنَّ بينه وبينه [230/أ] جنسين
(2)
: أحدهما الأبوة، والثاني بنوتها. وعلى هذه القاعدة بناء باب العصبات.
يوضِّحه الوجه التاسع: وهو أن كلَّ بني أبٍ أدنى وإن بعدوا عن الميت يقدَّمون في التعصيب على بني الأب الأعلى وإن كانوا أقرب إلى الميت.
(1)
هنا أيضًا في النسخ المطبوعة زيادة: «وهو» .
(2)
ما عدا ع: «جنسان» .
فابنُ ابنِ ابنِ الأخ يقدَّم على العم القريب، وابنُ ابنِ ابنِ العم وإن نزل يقدَّم على عمِّ الأب. وهذا مما يبيِّن أن الجنس الواحد يقوم أقصاه مقام أدناه، ويقدَّم الأقصى على من يقدَّم عليه الأدنى. فيقدَّم ابنُ ابنِ الابن على من يقدَّم عليه الابن، وابنُ ابن الأخ على من يقدَّم عليه الأخ، وابنُ ابن العم على من يقدَّم عليه العم؛ فما بال أبي الأب وحده خرج من هذه القاعدة، ولم يقدَّم على من يقدَّم عليه الأب؟
وبهذا يظهر بطلان تمثيل الأخ والجدّ بالشجرة التي خرج منها غصنان، والنهر الذي خرج منه ساقيتان. فإن القرابة التي من جنس واحد أقوى من القرابة المركَّبة من جنسين. وهذه القرابة البسيطة مقدَّمة على تلك المركَّبة، بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح. ثم قياسُ القرابة على القرابة، والأحكامِ الشرعية على مثلها= أولى من قياس قرابة الآدميين على الأشجار والأنهار، مما ليس في الأصل حكم شرعي
(1)
. ثم نقول: بل النهر الأعلى أولى بالجدول من الجدول الذي
(2)
اشتُقَّ منه، وأصلُ الشجرة أولى بغصنها من الغصن الآخر، فإنَّ هذا صنوه ونظيره الذي لا يحتاج إليه، وذاك [230/ب] أصله وحامله الذي يحتاج إليه، واحتياج الشيء إلى أصله أقوى من احتياجه إلى نظيره، فأصله أولى به من نظيره.
يوضِّحه الوجه العاشر
(3)
: أن هذا القياس لو كان صحيحًا لوجب طرده، ولما انتقض. فإنَّ طرده تقديم الإخوة على الجد، فلما اتفق
(1)
كذا بالرفع في النسخ. والعائد على الموصول محذوف، يعني: مما ليس فيه
…
(2)
في المطبوع: «التي» .
(3)
بعده في النسخ المطبوعة زيادة: «وهو» .
المسلمون على بطلان طرده عُلِم أنه فاسد في نفسه.
يوضِّحه الوجه الحادي عشر
(1)
: أن الجدَّ يقوم مقام الأب في التعصيب في كلِّ صورة من صوره، ويقدَّم على كلِّ عصبة يقدَّم عليه الأب، فما الذي أوجب استثناء الإخوة خاصة من هذه القاعدة؟
يوضِّحه الوجه الثاني عشر: أنه إن كان الموجب لاستثنائهم
(2)
قربهم وجب تقديمهم عليه. وإن كان مساواتهم له في القرب وجب اعتبارها في بنيهم وآبائه لاشتراكهم في السبب الذي اشترك فيه هو والإخوة. وهذا ممَّا لا جواب
(3)
عنه.
يوضِّحه الوجه الثالث عشر: وهو أنه قد اتفق الناس على أن الأخ لا يساوي الجد، فإن لهم قولين. أحدهما: تقديم الجدِّ
(4)
عليه. والثاني: توريثه معه. والمورِّثون لا يجعلونه كأخ مطلقًا، بل منهم من يقاسم به الإخوة إلى الثلث، ومنهم من يقاسمهم به إلى السدس. فإن نقصته المقاسمة عن ذلك أعطوه إياه فرضًا، وأدخلوا النقص عليهم، أو حرموهم، كزوج وأمٍّ وجدٍّ وأخ. فلو كان الأخ مساويًا للجَدِّ أو أولى
(5)
منه، كما ادَّعى المورثون أنه القياس، لَساواه في هذا السدس، وقُدِّم عليه. فعُلِم أن الجدَّ أقوى، [231/أ] وحينئذ فقد اجتمع عصبتان، وأحدهما أقوى من الآخر، فيقدَّم عليه.
(1)
هنا أيضًا زيد في النسخ المطبوعة: «وهو» ، وكذا بعد «الوجه الثاني عشر» .
(2)
في النسخ الخطية: «لاستثنائه» ، وهو سهو.
(3)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «لهم» .
(4)
سقط «الجد» من ع. ومن هنا جاء ــ فيما يظهر ــ في النسخ المطبوعة: «تقديمه» .
(5)
في النسخ المطبوعة: «وأولى» .
يوضِّحه الوجه الرابع عشر
(1)
: أن المورِّثين للإخوة لم يقولوا في التوريث قولًا يدل عليه نصٌّ ولا إجماع ولا قياس، مع تناقضهم.
وأما المقدِّمون له على الإخوة، فهم أسعدُ
(2)
بالنص والإجماع والقياس وعدم التناقض. فإن من المورِّثين من يزاحم به إلى الثلث، ومنهم من يزاحم به إلى السدس، وليس في الشريعة من يكون عصبةً يقاسم عصبة نظيره إلى حَدٍّ، ثم يُفرَض له بعد ذلك الحدِّ. فلم يجعلوه معهم عصبةً مطلقًا، ولا ذا فرض مطلقًا، ولا قدَّموه عليهم مطلقًا، ولا ساوَوه بهم مطلقًا. ثم فرضوا له سدسًا أو ثلثًا بغير نصٍّ ولا إجماع ولا قياس، ثم حسبوا عليه الإخوة من الأب، ولم يعطوهم شيئًا إذا كان هناك إخوة لأبوين. ثم جعلوا الأخوات معه عصبة إلا في صورة واحدة فرضوا فيها للأخت. ثم لم يهنَؤوها
(3)
بما فرضوا لها، بل عادوا عليها بالإبطال، فأخذوه وأخذوا ما أصابه، فقسموه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. ثم أعالوا هذه المسألة خاصَّةً من مسائل الجد والإخوة، ولم يعيلوا غيرها، ثم ردُّوها بعد العَول إلى التعصيب.
وسَلِم المقدِّمون له على الإخوة من هذا كلِّه، مع فوزهم بدلالة الكتاب والسنة والقياس ودخولهم في حزب الصدِّيق.
يوضِّحه الوجه الخامس عشر: أن الصدِّيق لم يختلف عليه أحد من الصحابة في عهده [231/ب] أنه مقدَّم على الإخوة. قال البخاري في
(1)
هنا وبعد «الخامس عشر» زيد في النسخ المطبوعة: «وهو» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «أسعد الناس» ، فزيدت كلمة «الناس» .
(3)
يعني: لم يدَعُوها تفرح بذلك.
«صحيحه» في باب ميراث الجد مع الإخوة: وقال أبو بكر
(1)
وابن عباس
(2)
وابن الزبير: الجدُّ أبٌ. وقرأ ابن عباس: {يَابَنِي آدَمَ} ، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]
(3)
. ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون. وقال ابن عباس: يرثني ابنُ ابني دون إخوتي، ولا أرث أنا ابنَ ابني؟
(4)
. ويُذكَر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد
(5)
أقاويل مختلفة
(6)
، انتهى.
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة
(7)
يحدِّث أن ابن الزبير كتب إلى أهل العراق إن الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنتُ متخذًا خليلًا حتى ألقى الله سوى الله لاتخذتُ أبا بكر خليلًا» كان
(1)
رواه البخاري (3658، 6738). ويُنظر: «السنن» لسعيد بن منصور في السنن (40 - 48).
(2)
رواه عبد الرزاق (19053 - 19056)، وسعيد بن منصور (46، 49 - 52)، وأحمد (3385). ويُنظر:«الجامع الصحيح» للبخاري (6738).
(3)
رواه عبد الرزاق (19053)، وسعيد بن منصور (49).
(4)
يُنظر: «السنن» لسعيد بن منصور (49).
(5)
في النسخ المطبوعة: «زيد بن ثابت» .
(6)
يُنظر: «تغليق التعليق» لابن حجر (5/ 218 - 222).
(7)
في المطبوع من «المصنف» لعبد الرزاق (19049) عن ابن جريج قال: سمعتُ من أبي يُحَدِّثُ أن ابن الزبير
…
وأراه خطأ من الناسخ؛ فليُنظَر: «المسند» لأحمد (16112)، و «المعجم الكبير» للطبراني (14856)، و «المحلى» لابن حزم (9/ 287). ورواه البخاري (3658) من طريق أيوب السختياني، عن ابن أبي مليكة بنحوه.
يجعل الجدَّ أبًا.
وقال الدارمي في «صحيحه»
(1)
:
ثنا سالم
(2)
بن إبراهيم، ثنا وهيب، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جعله الذي قال
(3)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنتُ متخذًا خليلًا لاتخذته خليلًا، ولكن أخوة الإسلام أفضل» ، يعني: أبا بكر= جعله أبًا.
ثنا محمد بن يوسف، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة قال: لقيتُ مروان بن الحكم بالمدينة، فقال: يا ابن أبي موسى ألم أُخْبَر أن الجدَّ لا ينزل فيكم منزلة الأب، وأنت لا تنكر؟ قال: قلتُ: لو كنتَ أنت لم تنكر. قال مروان: فأنا أشهد على عثمان بن عفان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجدَّ أبًا إذا لم يكن دونه أب
(4)
.
ثنا يزيد بن هارون، أنا أشعث، عن الحسن
(5)
قال: إن الجدَّ قد مضت
(1)
برقم (2953) عن مسلم بن إبراهيم، عن وُهيب به.
ورواه البخاري (6738) من طريق عبد الوارث (وهو ابن سعيد)، عن أيوب (وهو السختياني) به.
(2)
كذا في النسخ الخطية والطبعات القديمة، والصواب:«مسلم» كما أثبت في المطبوع، وهو الأزدي البصري.
(3)
في النسخ المطبوعة زيادة: «له» ، ولعل الذي زاد بحَث عن العائد على الاسم الموصول قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
رواه الدارمي (3088 - فتح المنان للغمري).
(5)
ع: «أشعث عن عروة عن الحسن» ، وكذا في النسخ المطبوعة، بل أثبت «عروة» في المطبوع بين حاصرتين، وقال في التعليق إنَّه ساقط من (ق) و (ك)! وإنما هو مقحم في السند، وكأن نظر الناسخ انتقل إلى السند الآتي بعد هذا.
فيه سنّة، وإن أبا بكر جعل الجدَّ أبًا، ولكن الناس [232/أ] تحيَّروا
(1)
.
وقال حماد بن سلمة: أنا هشام بن عروة، عن عروة، عن مروان قال: قال لي عثمان بن عفان: إن عمر قال لي: إني قد رأيت في الجدِّ رأيًا، فإن رأيتم أن تتبعوه، فاتبعوه. فقال عثمان: إن نتبع رأيك فإنه
(2)
رُشد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعِمَ ذو الرأي كان! قال: وكان أبو بكر يجعله أبًا
(3)
.
والموِّرثون للإخوة بعدهم: عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن مسعود.
فأما عمر فإن أقواله اضطربت فيه
(4)
. وكان قد كتب كتابًا في ميراثه، فلما طُعِن دعا به، فمحاه
(5)
.
وقال الخُشَني: عن محمد بن بشار
(6)
، عن محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب قال: قال عمر حين طُعِن: إني لم أقضِ في الجدِّ شيئًا
(7)
.
(1)
رواه الدارمي (2955).
(2)
في المطبوع: «فرأيك» .
(3)
رواه الدارمي (655) من طريق حمادِ بن سلمة به. ويُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (19052)، و «المسند» للدارمي (2959)، و «أخبار المدينة» لعمر بن شبّة (3/ 924)، و «المستدرك» للحاكم (4/ 340).
(4)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (19043 - 19045)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (31915)، و «السنن الكبير» للبيهقي (6/ 245).
(5)
رواه ابن أبي شيبة (31920)، والدارمي (2941) من طريقين عن سعيد بن المسيب، عنه.
(6)
ع: «يسار» ، تصحيف.
(7)
رواه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 128). وينظر: «مصنف عبد الرزاق» (19046) و «الطبقات» لابن سعد (3/ 327).
وقال وكيع: عن أبي بِشر، عن سعيد بن جبير قال: مات ابن لابن عمر بن الخطاب، فدعا زيد بن ثابت فقال: شَعِّبْ ما كنتَ تُشعِّب! إني لأعلم أني أولى به منهم
(1)
.
وأما عليٌّ، فقال عبد الرزاق
(2)
: عن معمر، ثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، عن رجل من مراد قال: سمعت عليًّا يقول: من سرَّه أن يتقحَّم جراثيمَ جهنم فليقضِ بين الجدِّ والإخوة.
وأما عثمان وابن مسعود، فقال البغوي: ثنا حجاج بن المنهال، ثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ليث بن أبي سليم، عن طاوس أن عثمان وعبد الله بن مسعود قالا: الجدُّ بمنزلة الأب
(3)
.
فهذه أقوال المورِّثين ــ كما ترى ــ قد اختلفت في أصل توريثهم معه،
(1)
أشار الإمام أحمد إلى رواية وكيع هذه فيما نقله عنه ابنُه عبد الله في «العلل ومعرفة الرجال» (1868)، وذكر اختلاف غندر ووكيع في ضبط كلمة (شعب)
…
ورواه سعيد بن منصور (53) عن هُشيم، عن أبي بشر به.
(2)
في «المصنف» (19048)، وسعيد بن منصور (56، 57)، وابن أبي شيبة (31917، 31921)، والدارمي (2944)، والبيهقي (6/ 245 - 246) من طريقين عن سعيد بن جبير به، وشيخُه المراديُّ مُبْهَمٌ، لم يُسَمَّ.
(3)
رواه ابن المنذر في «الأوسط» (7/ 435) عن علي بن عبد العزيز (وهو البغوي)، عن حجاج بن منهال به. ورواه يزيد بن هارون [في كتاب «الفرائض»] عن حماد بن سلمة به، كما في «التوضيح» لابن النحوي (30/ 481). وسنده ضعيف منقطع، وليث بن أبي سليم ضعيف مخلّط.
واضطربت في كيفية التوريث، وخالفت دلالة الكتاب والسنة والقياس الصحيح، بخلاف قول الصدِّيق ومن معه.
يوضِّحه الوجه السادس عشر
(1)
: أن [232/ب] الناس اليوم قائلان: قائل بقول أبي بكر، وقائل بقول زيد؛ ولكن قول الصدِّيق هو الصواب. وقول زيد بخلافه، فإنه يتضمن تعصيب الجدِّ للأخوات، وهو تعصيبُ الرجل جنسًا آخر ليسوا من جنسه، وهذا لا أصل له في الشريعة. إنما يُعرف في الشريعة تعصيب الرجال للنساء إذا كانوا من جنس واحد، كالبنين والبنات، والإخوة والأخوات. ولا ينتقض هذا بالأخوات مع البنات، فإن الرجال لم يعصِّبوهن، وإنما عصَّبهن البنات، ولما كان تعصيب البنين أقوى كان الميراث لهم دون الأخوات؛ بخلاف قول من عصَّب الأخوات بالجد، فإنه عصَّبهن بجنس آخر أقوى تعصيبًا منهن، وهذا لا عهد به في الشريعة البتة.
يوضِّحه الوجه السابع عشر: أن الجدَّ والإخوة لو اجتمعوا في التعصيب لكانوا إما من جنس واحد أو من جنسين، وكلاهما باطل.
أما الأول فظاهر البطلان لوجهين. أحدهما: اختلاف جهة التعصيب. والثاني: أنهم لو كانوا من جنس واحد لاستووا في الميراث والحرمان كالإخوة والأعمام وبنيهم إذا انفردوا. هذا
(2)
هو التعصيب المعقول في الشريعة.
(1)
زيد في النسخ المطبوعة: «وهو» هنا وفي الوجوه الآتية إلى الوجه التاسع عشر، وقد سبق مثله.
(2)
ع: «وهذا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
وأما الثاني فبطلانه أظهر، إذ قاعدة الفرائض أن العصبة لا يرثون في المسألة إلا إذا كانوا من جنس واحد، وليس لنا عصبة من جنسين يرثان مجتمعين قط. بل هذا محال، فإن العصبة حكمُه أن يأخذ ما بقي بعد الفروض، فإذا كان [233/أ] هذا حكم هذا الجنس وجب أن يأخذ دون الآخر، وكذلك الجنس الآخر، فيفضي أخذهما
(1)
إلى حرمانهما، واشتراكهما ممتنع لاختلاف الجنس. وهذا ظاهر جدًّا.
يوضِّحه الوجه الثامن عشر: أن الجدَّ أبٌ في باب الشهادة وفي باب سقوط القصاص، وأبٌ في باب المنع من دفع الزكاة إليه، وأبٌ في باب وجوب إعفافه
(2)
على ولد ولده، وأبٌ في باب سقوط القطع في السرقة، وأبٌ عند الشافعي في باب الإجبار في النكاح، وفي باب الرجوع في الهبة، وفي باب العتق بالملك، وفي باب الإجبار على النفقة، وفي باب إسلام ابن ابنه تبعًا لإسلامه، وأبٌ عند الجميع في باب الميراث عند عدم الأب فرضًا وتعصيبًا في غير محلِّ النزاع. فما الذي أخرجه عن أبوته في باب الجدِّ والإخوة؟ فإن اعتبرنا تلك الأبواب فالأمرُ في أبوته في محلِّ النزاع ظاهر، وإن اعتبرنا بابَ الميراث فالأمر أظهر وأظهر.
يوضِّحه الوجه التاسع عشر: أن الذين ورَّثوا الإخوة معه إنما ورَّثوهم لمساواة تعصيبه لتعصيبهم، ثم نقضوا الأصل، فقدَّموا تعصيبهم على تعصيبه في باب الولاء، وأسقطوه بالإخوة لقوة تعصيبهم عندهم. ثم نقضوا ذلك أيضًا، فقدَّموا الجدَّ عليهم في باب ولاية النكاح، وأسقطوا تعصيبهم
(1)
ما عدا ح: «أحدهما» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: «إعتاقه» . وكلمة «وجوب» ساقطة من ت.
بتعصيبه. وهذا غاية التناقض، والخروج عن القياس لا لنصٍّ
(1)
ولا إجماع.
يوضِّحه الوجه العشرون: [233/ب] وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألحِقُوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأَولى رجل ذكر»
(2)
. فإذا خلَّفت المرأة زوجَها وأمَّها وجدَّها وأخاها
(3)
، فإن كان الأخ أولى رجل ذكر فهو أحقُّ بالباقي. وإن كانا سواء في الأولوية وجب اشتراكهما فيه. وإن كان الجدُّ أولى ــ وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه ــ فهو أولى به. وإذا كان الجدُّ أولى رجل ذكر وجب أن ينفرد بالباقي بالنص. وهذا الوجه وحده كافٍ، وبالله التوفيق.
وليس القصد هذه المسألة بعينها، بل بيان دلالة النص والاكتفاء به عما عداه، وأن القياس شاهد وتابع، لا أنه مستقل في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص.
ومن ذلك: الاكتفاء بقوله: «كلُّ مسكِر خمر» عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم، كما فعله من لم يحسن الاستدلال بالنص.
ومن ذلك: الاكتفاء بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] عن إثبات قطع النبَّاش بالقياس اسمًا أو حكمًا، إذ السارق يعُمُّ في لغة العرب وعرف الشارع سارقَ ثياب الأحياء والأموات.
ومن ذلك: الاكتفاء بقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] في تناوله لكلِّ يمين منعقدة يحلف بها المسلمون، من غير تخصيص إلا
(1)
ع: «نص» . وفي النسخ المطبوعة: «بنص» .
(2)
سبق تخريجه.
(3)
في النسخ المطبوعة: «وأخاها وجدها» .
بنصٍّ أو إجماع. وقد بيَّن ذلك سبحانه في قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]. فهذا صريح في أن كلَّ يمين منعقدة، فهذا كفارتها. وقد [234/أ] أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات والحلف بأحبِّ القربات المالية إلى الله وهو العتق، كما ثبت ذلك عن ستة منهم
(1)
ولا مخالف لهم من بقيتهم. وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف له منهم. فالواجب تحكيمُ هذا النص العام، والعملُ بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعًا متيقَّنًا على خلافه، فالأمة لا تُجمع على خطأ البتة.
ومن ذلك: الاكتفاء بقوله صلى الله عليه وسلم «من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»
(2)
في إبطال كلِّ عقد نهى الله ورسوله عنه، وحرَّمه، وأنه لغو لا يعتدُّ به، نكاحًا كان أو طلاقًا أو غيرَهما، إلا أن تُجمع الأمة إجماعًا معلومًا على أن بعض ما نهى الله ورسوله عنه وحرَّمه من العقود صحيح لازم معتَدٌّ به غير مردود، فهي لا تُجمع على خطأ. وبالله التوفيق.
(1)
يُنظر: «الموطأ» للإمام مالك (1752)، و «المصنف» لعبد الرزاق (15987 - 15989)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (12479)، و «السنن» لأبي داود (3272)، و «حديث علي بن الجعد ــ تخريج أبي القاسم البغوي» (2314، 2315)، و «الأوسط» لابن المنذر (12/ 109 - 111، 128 - 130)، و «المسند الصحيح» لابن حبان (4078)، و «السنن» للدارقطني (4331، 4332)، و «المستدرك» للحاكم (4/ 300)، و «السنن الكبير» للبيهقي (10/ 33، 65 - 67).
(2)
تقدَّم تخريجه.
ومن ذلك: الاكتفاء بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] مع قوله صلى الله عليه وسلم: «وما سكَت عنه فهو مما عفا عنه»
(1)
. فكلُّ ما لم يبيِّن الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله سبحانه قد فصَّل لنا ما حرَّم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلا بدّ أن يكون تحريمه مفصَّلًا. وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرَّمه
(2)
، فكذلك لا يجوز تحريمُ ما عفا عنه ولم يحرِّمه. وبالله التوفيق.
الفصل [234/ب] الثاني
في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يُظَنُّ مخالفته للقياس فأحدُ الأمرين لازم فيه، ولا بد: إما أن يكون القياس فاسدًا، أو يكون ذلك الحكمُ لم يثبت بالنص كونُه من الشرع.
وسألتُ شيخنا ــ قدَّس الله روحه ــ عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: «هذا خلاف القياس» لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم، وربما كان مجمعًا عليه، كقولهم: طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة خلاف
(3)
القياس، وتطهير النجاسة على خلاف القياس، والوضوء من لحوم الإبل، والفطر بالحجامة، والسَّلَم، والإجارة، والحوالة، والكتابة،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
في النسخ المطبوعة: «حرَّمه الله» بزيادة لفظ الجلالة.
(3)
ع: «بخلاف» ، وفي النسخ المطبوعة:«على خلاف» ، والظاهر أن «على» زيادة من بعض الناشرين، فإنها لم ترد في «مجموع الفتاوى» (19/ 504).
والمضاربة، والمزارعة، والمساقاة، والقرض، وصحة صوم الآكل ناسيًا
(1)
، والمضيُّ في الحج الفاسد= كلُّ ذلك على خلاف القياس. فهل ذلك صواب أم لا؟ فقال:«ليس في الشريعة ما يخالف القياس» . وأنا أذكر ما حصَّلته من جوابه بخطِّه ولفظه
(2)
، وما فتح الله سبحانه لي بيُمن إرشاده، وبركة تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه:
«أصلُ هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد. والصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمعُ بين المتماثلين، والفرقُ بين المختلفين. فالأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس. وهو من العدل الذي بعث الله به نبيَّه صلى الله عليه وسلم. فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلّة التي علِّق بها الحكم في الأصل موجودةً في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمَها. ومثل هذا القياس لا [235/أ] تأتي الشريعة بخلافه قطُّ
(3)
! وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو: أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثِّر في الشرع. فمثل هذا القياس أيضًا لا تأتي الشريعة بخلافه. وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكمٍ يفارق به نظائرَه، فلا بد أن يختصَّ ذلك النوع بوصفٍ يُوجِب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره. لكن الوصف الذي اختصَّ به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر. وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كلُّ أحد.
(1)
ع: «الناسي» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
انظر سؤال المصنف وجواب الشيخ في «مجموع الفتاوى» (20/ 505 - 583).
(3)
سبق التنبيه على استعمال «قطُّ» في غير محلِّه، فإنه خاصٌّ بالزمان الماضي.
فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر. وحيث علمنا أن النص [جاء]
(1)
بخلاف قياسٍ علمنا قطعًا أنه قياس فاسد، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يُظَنُّ أنها مثلُها بوصفٍ أوجبَ تخصيصَ الشارع لها بذلك الحكم. فليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا، ولكن [فيها ما]
(2)
يخالف القياس الفاسد، وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده. ونحن نبيِّن ذلك فيما
(3)
ذُكِر في السؤال.
فالذين قالوا: «المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس» ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة؛ لأنها عملٌ بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوَّض. فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غيرَ معلومين قالوا: هي على خلاف القياس. وهذا من غلطهم، فإن هذه العقود من جنس المشاركات، [235/ب] لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوَّض. والمشاركات جنسٌ غير جنس المعاوضات، وإن كان فيها
(4)
شَوبُ المعاوضة. وكذلك المقاسمة جنسٌ غير جنس المعاوضة المحضة، وإن كان فيها شوبُ المعاوضة، حتى ظنَّ بعض الفقهاء أنها بيعٌ يشترط فيها شروط البيع الخاص.
(1)
زيد ما بين الحاصرتين فوق السطر في ح. وهو في المتن في ف، وكذا في «مجموع الفتاوى» ، ولم يرد في ت، ع. وفي النسخ المطبوعة:«ورد» .
(2)
من «مجموع الفتاوى» .
(3)
في «مجموع الفتاوى» : «نبيِّن أمثلة ذلك مما» . وفي حاشية ح كتب بعضهم كلمة «أمثلة» ووضع علامةً قبل «ذلك» للدلالة على موضعها وأدخلها ناسخ ف في المتن.
(4)
في «مجموع الفتاوى» : «وإن قيل إن فيها» .
وإيضاح هذا: أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون العمل مقصودًا معلومًا مقدورًا على تسليمه. فهذه الإجارة اللازمة.
الثاني: أن يكون العمل مقصودًا، لكنه مجهول أو غرر. فهذه الجِعالة، وهي عقد جائز ليس بلازم. فإذا قال:«من ردَّ عبدي الآبق فله مائة» فقد يَقدِر على ردِّه، وقد لا يقدِر. وقد يرُدُّه من مكان قريب وبعيد
(1)
. فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة. فإن عمِل العملَ استحقَّ الجُعْل، وإلا فلا. ويجوز أن يكون الجُعْل فيها إذا حصل بالعمل جزءً شائعًا ومجهولًا جهالةً لا تمنع التسليم، كقول أمير الغزو:«من دلَّ على حصنٍ فله ثلثُ ما فيه» ، أو يقول للسَّرِيَّة التي يسير بها:«لكم خُمْسُ ما تغنمون أو رُبعه» .
وتنازعوا في السَّلَب: هل هو مستحَقٌّ بالشرع كقول الشافعي، أو بالشرط كقول أبي حنيفة ومالك؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد. فمن جعله مستحقًّا بالشرط جعله من هذا الباب. ومن ذلك إذا جعل للطبيب جُعْلًا على الشفاء جاز، كما أخذ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم القطيعَ من الشاء الذي جعله لهم سيّدُ الحيِّ، فرقاه بعضهم حتى برئ. والجُعْل كان [236/أ] على الشفاء، لا على القراءة. ولو استأجر طبيبًا إجارةً لازمةً على الشفاء لم يصح، لأن الشفاء غير مقدور له؛ فقد يشفيه الله، وقد لا يشفيه. فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجِعالة، دون الإجارة اللازمة.
(1)
كذا في النسخ. وفي «مجموع الفتاوى» : «وقد يردُّه من مكان بعيد» . وفي المطبوع: «بعيد أو قريب» . وفي الطبعات السابقة: «قريب أو بعيد» .
فصل
وأما النوع الثالث فهو: ما لا يُقصَد فيه العمل، بل المقصود فيه المال، وهو المضاربة، فإن ربَّ المال ليس له قصدٌ في نفس عمل العامل
(1)
كما للجاعل
(2)
والمستأجرِ له
(3)
قصدٌ في عمل العامل. ولهذا لو عمِل ما عمِل ولم يربح شيئًا لم يكن له شيء. وإن سُمِّي هذا جِعالةً بجزء مما يحصل من العمل كان نزاعًا لفظيًّا، بل هذه مشاركة: هذا بنفع ماله، وهذا بنفع بدنه. وما قسم الله من ربحٍ كان بينهما على الإشاعة. ولهذا لا يجوز أن يختص أحدهما بربح مقدَّر، لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة.
وهذا هو الذي نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المزارعة، فإنهم كانوا يشترطون لربِّ الأرض زرعَ بقعةٍ بعينها، وهو ما نبت على الماذِيَانات
(4)
وأقبال الجداول
(5)
ونحو ذلك، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه. ولهذا قال الليث بن سعد
(6)
(1)
في المطبوع: «نفس العمل» .
(2)
ع: «كالجاعل» .
(3)
يعني للمستأجر. ولم يرد «له» في «مجموع الفتاوى» .
(4)
فسَّرها صاحب الغريبين (6/ 1738) بالأنهار الكبار، مفردها ماذِيان، وقال:«إنها ليست بعربية، لكنها سوادية. والسواقي دون الماذيانات» . وقال المطرزي في «المغرب» (1/ 438): الماذيان «أصغر من النهر وأعظم من الجدول، فارسي معرب» . قلت: لم أجده في المعاجم الفارسية، ولعل كونها سوادية أصح.
(5)
يعني: أوائلها وما استقبل منها.
(6)
رواه البخاري في «الجامع الصحيح» (2346) عن الليث بمعناه.
وغيره: إن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إذا
(1)
نظَر فيه ذو البصر
(2)
بالحلال والحرام علِمَ أنه لا يجوز. فتبيَّن أن النهي عن ذلك موجَب القياس، فإن هذا لو شُرط في المضاربة لم يجُز، فإن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين، فإذا خُصَّ أحدُهما بربح دون الآخر لم يكن ذلك عدلًا؛ بخلاف ما إذا كان [236/ب] لكلٍّ منهما جزء شائع، فإنهما يشتركان في المغنم وفي
(3)
المغرم. فإن حصل ربحٌ اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم، وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا. ولهذا كانت الوضيعة على المال، لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال.
ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة ربحُ المثل
(4)
، فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثلُه، إما نصفه أو ثلثه. فأما أن يعطى شيئًا مقدَّرًا مضمونًا في ذمة المالك كما يعطى في الإجارة والجعالة، فهذا غلط ممن قاله. وسببُ غلطه ظنُّه أن هذه إجارة، فأعطاه في فاسدها عوضَ المثل، كما يعطيه في الصحيح المسمَّى. ومما يبيِّن غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر، فلو أُعطي أجرة المثل أعطي أضعافَ رأس المال، وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءً من الربح إن كان هناك ربح. فكيف يستحِقُّ في الفاسدة أضعافَ ما يستحقه في الصحيحة؟
(1)
ع: «لو» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ت: «البصيرة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ع: «والمغرم» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
في حاشية ح زيادة: «لا أجرة المثل» وأدخلها ناسخ ف في المتن. وكذا في «مجموع الفتاوى» .
وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنُّوا أنهما إجارة بعوض مجهول فأبطلوهما. وبعضهم صحَّح منهما ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها، وجوَّزوا من المزارعة ما يكون تبعًا للمساقاة إما مطلقًا وإما إذا كان البياض الثلث. وهذا كلُّه بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة، وإنما جُوِّزت للحاجة.
ومن أعطى النظرَ حقَّه علِم أن المزارعة أبعد عن الظلم والغَرر
(1)
من الإجارة بأجرة مسمَّاة [237/أ] مضمونة في الذمة، فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض، فإذا لزمته الأجرة، ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل، كان في هذا حصولُ أحد المعاوضين
(2)
على مقصوده دون الآخر. فأحدهما غانم ولا بد، والآخر متردِّد بين الغُنم والغُرم
(3)
. وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة.
والأصل في العقود كلِّها إنما هو: العدل الذي بُعثت به الرسل وأُنزلت به الكتب. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. والشارع نهى عن الربا لما
(1)
«مجموع الفتاوى» : «والقمار» .
(2)
ف: «المتعاوضين» ، وكذا أصلح في ح. وكذا في «مجموع الفتاوى» .
(3)
ع: «المغنم والمغرم» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
فيه من الظلم، وعن الميسِر لما فيه من الظلم، والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا، وكلاهما أكلُ المال بالباطل. وما نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المعاملات ــ كبيع الغَرر
(1)
، وبيع الثمر قبل بدوِّ صلاحه
(2)
، وبيع السنين
(3)
، وبيع حَبَل الحَبَلة
(4)
، وبيع المزابنة والمحاقلة
(5)
، وبيع الحصاة
(6)
، وبيع الملاقيح والمضامين
(7)
،
ونحو ذلك ــ هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (1486) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر.
(3)
أخرجه مسلم (1536) من حديث جابر بن عبد الله.
(4)
أخرجه البخاري (2143) ومسلم (1514) من حديث ابن عمر.
(5)
أخرجه البخاري (2186) ومسلم (1546) من حديث أبي سعيد الخدري.
(6)
أخرجه مسلم (1513) من حديث أبي هريرة.
(7)
رواه مالك (2411) عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلا. ورواه عبد الرزاق (14137) عن معمر، عن الزهري به. وزلّ صالح بن أبي الأخضر، فرواه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعا! رواه إسحاق بن راهويه في «المسند» ــ وعنه محمد بن نصر المروزي في «السنة» (210)، ومن طريقه أيضًا ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 34)، وابن أبي عاصم في كتاب «البيوع» ، والبزار في «المسند» (7785) من طريق صالح به، وأعلّه به. وهذا منكر جدّا. ورواه البزار (4828)، والطبراني (11581) من حديث ابن عباس مرفوعا، وفي سنده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، ولم يكن بالقوي، ثم إن رواية داودَ بن الحصين عن عكرمة منكرة. ويُنظر:«السنة» لمحمد بن نصر المروزي (206)، و «الكامل» لابن عدي (6/ 434)، و «العلل» للدارقطني (9/ 183)، و «البدر المنير» لابن النحوي (6/ 293 - 295) .. وما في «المصنف» لعبد الرزاق (14138) غريبٌ جدّا، لا يُدْرَى وَجْهُه، ويُوَازَنُ بـ «السنة» لمحمد بن نصر المروزي (214 - 216).
فالإجارة بالأجرة المجهولة، مثل أن يكريه الدارَ بما يكسبه المكتري في حانوته
(1)
من المال هو من الميسر.
وأما المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر، بل هي من أقوَم العدل. وهو مما يبيِّن لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من ربِّ الأرض. ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه [237/ب] وسلم يزارعون على هذا الوجه. وكذلك عامَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع
(2)
على أن يعملوها من أموالهم. والذين اشترطوا أن يكون البذر من ربِّ الأرض قاسوا ذلك على المضاربة، فقالوا: المضاربة فيها المال من واحد والعمل من آخر، فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البذر فيها من مالك الأرض، وهذا القياس ــ مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة - فهو من أفسد القياس، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه، ويقتسمان الربح، فهذا نظير الأرض في المزارعة.
وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه، بل يذهب كما يذهب نفع الأرض، فإلحاقُه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي. فالعامل إذا أخرج البذر ذهب عملُه وبذرُه، وربُّ الأرض يذهب نفعُ أرضه، وبدنُ هذا كأرض هذا. فمن جعل البذر كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه، كما قال مثل ذلك في المضاربة، فكيف ولو اشترط ربُّ البذر عود نظيره لم يجوِّزوا ذلك؟
(1)
كذا في النسخ و «مجموع الفتاوى» . وفي المطبوع: «من حانوته» .
(2)
أخرجه البخاري (2328) ومسلم (1551) من حديث ابن عمر.
فصل
وأما الحوالة، فالذين قالوا: إنها على خلاف القياس، قالوا: هي بيع دَين بدين، والقياس يأباه. وهذا غلط من وجهين:
أحدهما: أن بيع الدَّين بالدَّين ليس فيه نصٌّ عام ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ
(1)
، والكالئ: هو المؤخَّر الذي لم يُقبَض
(2)
، كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة، وكلاهما مؤخَّر، فهذا [238/أ] لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ.
(1)
رواه ابن أبي شيبة (22566)، وأحمد بن منيع، والبزار [كما في «كشف الأستار» للهيثمي (1280)، و «إتحاف الخيرة المهرة» للبوصيري (2855)]، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 119) ــ وقال:«وفي إسناده مقال» ــ، والطحاوي في «بيان المشكل» (2/ 265)، وفي «شرح المعاني» (4/ 21)، والعقيلي في «الضعفاء» (5/ 444)، من حديث ابن عمر مرفوعا، وفي سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. ورواه الطبراني (4375) من طريق محمد بن يعلى (زنبور)، عن موسى بن عبيدة، لكن جُعِل الحديثُ من مسند رافع بن خديج! وزنبور واهٍ؛ فروايته هذه منكرة جدّا. وتابع الربذيَّ: إبراهيمُ بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وعنه رواه عبد الرزاق (14440)، والأسلمي هذا واهٍ متروكٌ.
ويُوازَن «السنن» للدارقطني (3060، 3061)، و «المستدرك» للحاكم (2/ 57) بـ «العلل» للدارقطني (13/ 193)، و «السنن الكبير» للبيهقي (5/ 290 - 201)، و «معرفة السنن والآثار» له (4/ 303 - 304). ويُنظَر:«الكامل» لابن عدي (8/ 47)، و «نصب الراية» للزيلعي (4/ 39 - 40)، و «البدر المنير» لابن النحوي (6/ 567 - 569)، و «التلخيص الحبير» لابن حجر (3/ 62).
(2)
زاد بعضهم في ح تحت السطر: «بالمؤخر الذي لم يقبض» مع علامة «صح» بعده. وأدخله ناسخ ف في المتن. وكذا في «مجموع الفتاوى» .
وأما بيع الدَّين بالدَّين، فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرنا، وهو الممتنع. وينقسم إلى بيع ساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط
(1)
، وهذا فيه نزاع».
قلت: الساقط بالساقط في صورة المقاصَّة، والساقط بالواجب كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه، وهو بيع الدين ممن هو في ذمته. وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كُرِّ حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط عنه له
(2)
دين غيره. وقد حُكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه. قاله شيخنا، واختار جوازه. وهو الصواب، إذ لا محذور فيه. وليس بيعَ كالئ بكالئ، فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى. فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجَّل أحدهما ما يأخذه، فينتفع بتعجُّله
(3)
، وينتفع صاحب المؤخَّر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة.
وأما ما عداه من الصور الثلاث، فلكلٍّ منهما غرض صحيح ومنفعة مطلوبة. وذلك ظاهر في مسألة التقاصِّ، فإن ذمتهما تبرأ من أسرها، وبراءة الذمة مطلوب
(4)
لهما وللشارع. فأما في الصورتين الأخريَين
(5)
فأحدهما
(1)
«وواجب بساقط» ساقط من «مجموع الفتاوى» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «له عنه» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «بتعجيله» .
(4)
ت: «مطلوبة» .
(5)
في المطبوع: «الأخرتين» .
تعجَّل براءةَ ذمته، والآخر انتفع
(1)
بما يربحه. وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح ــ وذلك في بيع العين بالدين ــ جاز أن يُفرغها [238/ب] من دين ويشغلها بغيره. وكأنه شغَلها به ابتداءً إما بقرض أو بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل. وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك، لا بلفظه ولا بمعنى لفظه. بل قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإن الحوالة اقتضت نقلَ الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز. وبالله التوفيق.
رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام، قال: الوجه الثاني ــ يعني مما يبيِّن أن الحوالة على وفق القياس ــ: أن الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع؛ فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل. ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح:«مطلُ الغني ظلمٌ، وإذا أُتبِع أحدُكم على مليءٍ فَلْيَتْبَعْ»
(2)
. فأمر المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبيَّن أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليءٍ. وهذا كقوله تعالى:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أمَر المستحِقَّ أن يطالب بالمعروف، وأمر المؤدِّي
(1)
في النسخ المطبوعة: «ينتفع» ، وكأن بعضهم صحَّف في الفعل السابق، فقرأ «يعجِّل» ، فغيَّر هذا أيضًا إلى المضارع.
(2)
أخرجه البخاري (2287) ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أن يؤدِّي بإحسان. ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص، وإن كان فيه شوبُ [239/أ] المعاوضة.
وقد ظنَّ بعضُ الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين، بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمته للمدين
(1)
مثله، ثم يقاصُّ ما عليه بما له. وهذا تكلُّف أنكره جمهور الفقهاء، وقالوا: بل نفسُ المال الذي قبضه يحصل به الوفاء، ولا حاجة أن يقدِّر في ذمة المستوفي دينًا. وأولئك قصدوا أن يكون وفاء دين بدين
(2)
، وهذا لا حاجة إليه فإن الدين من جنس المطلق الكلي، والمعيَّن من جنس المعيَّن. فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلّي، فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة، وأيُّ معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق.
فصل
وأما القرض فمن قال: «إنه على خلاف القياس» ، فشبهته أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخُّر القبض. وهذا غلط، فإن القرض من جنس التبرُّع بالمنافع كالعارية. ولهذا سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم منيحةً، فقال:«أو منيحةَ ذهبٍ أو منيحةَ وَرِقٍ»
(3)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: «ذمة المدين» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «بدين مطلق» . ولم ترد كلمة «مطلق» في «مجموع الفتاوى» أيضًا.
(3)
رواه أحمد (18403) من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا. وله شاهد من حديث البراء بن عازب مرفوعا، رواه أحمد (18616، 18665، 18704)، وصححه الترمذي (1957)، وابن حبان (257). ويُنظر:«المسند» للبزار (3225).
وهذا من باب الإرفاق، لا من باب المعاوضات؛ فإن باب المعاوضات يعطي كلٌّ منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه، وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر مما يعطي فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلا فنظيره ومثله. فتارةً ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار، وتارة يمنحه ماشيةً ليشرب لبنها ثم يعيدها، أو شجرًا
(1)
ليأكل ثمرها ثم يعيدها، وتسمَّى «العَريَّة». فإنهم يقولون: أعراه الشجرَ، وأعاره المتاعَ، ومنحه الشاةَ، وأفقره الظهرَ [239/ب]، وأقرضه الدراهم.
واللبن والثمر لما كان يستخلف شيئًا بعد شيء كان بمنزلة المنافع، ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع. وليس هذا من باب البيع في شيء، بل هو من باب الإرفاق والتبرُّع والصدقة، وإن كان المقرض قد ينتفع أيضًا بالقرض كما في مسألة السُّفْتَجة، ولهذا كرهها من كرهها
(2)
. والصحيح أنها لا تُكره، لأن المنفعة لا تخُصُّ المقرض، بل ينتفعان بها
(3)
جميعًا.
فصل
وأما إزالة النجاسة، فمن قال: إنها على خلاف القياس، فقوله من أبطل الأقوال وأفسدها. وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسةً تنجَّس بها، ثم الثاني
(4)
(1)
في النسخ المطبوعة: «شجرة» ، وكذا في «مجموع الفتاوى» .
(2)
الجملة «ولهذا كرهها من كرهها» زيدت في حاشية ح، وهي في متن ف، وكذا في «مجموع الفتاوى» .
(3)
ح، ف، ت:«بهما» .
(4)
ع: «لاقي الثاني» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
والثالث كذلك، وهلم جرًّا، والنَّجِس لا يزيل نجاسةً. وهذا غلط، فإنه يقال: لمَ
(1)
قلتم: إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسةً نجُسَ؟ فإن قلتم: الحكم في بعض الصور كذلك، قيل: هذا ممنوع عند من يقول: الماءُ
(2)
لا ينجُس إلا بالتغير.
فإن قيل: فيقاس ما لم يتغيَّر على ما تغيَّر.
قيل: هذا من أبطل القياس حسًّا وشرعًا. وليس جعلُ الإزالة مخالفةً للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفًا للقياس. بل يقال: إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسةً لا ينجُس، كما أنه إذا لاقاها حالَ الإزالة لا ينجُس. فهذا القياس أصح من ذلك القياس، لأن النجاسة تزول بالماء حسًّا وشرعًا، وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص والإجماع
(3)
. وأما تنجيس الماء بالملاقاة فموردُ نزاع، فكيف يُجعل موردُ النزاع حجةً على مواقع الإجماع؟ والقياس يقتضي ردَّ موارد النزاع إلى مواقع الإجماع.
وأيضًا فالذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيِّره النجاسة لا ينجُس، فإنه باقٍ على أصل خلقته. وهو طيِّب، فيدخل في قوله:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة، فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح.
(1)
في النسخ المطبوعة: «فلم» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «إن الماء» .
(3)
«بالنص والإجماع» زيد فوق السطر في ح، وهو في متن ف. وفي «مجموع الفتاوى»:«لأن النجاسة تزول بالماء بالنص والإجماع» .
وقد تنازع الفقهاء: هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل، أو القياس يقتضي أنه لا ينجُس إذا لم يتغيَّر؟ على قولين، والأول قول أهل العراق، والثاني قول أهل الحجاز. وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا، ومنهم من يختار هذا.
وقول أهل الحجاز هو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص
(1)
والمعقول، فإن الله سبحانه أباح الطيبات وحرَّم الخبائث، والطيِّب والخبيث يثبت للمحلِّ
(2)
باعتبار صفات قائمة به، فما دامت تلك الصفة فالحكم تابع لها، فإذا زالت وخلَفتها الصفةُ الأخرى زال الحكم وخلَفه ضدُّه. فهذا هو محض القياس والمعقول. فهذا الماء والطعام كان طيِّبًا لقيام الصفة الموجبة لطيبه، فإذا زالت تلك الصفة وخلَفها
(3)
صفة الخبث عاد خبيثًا، فإذا زالت صفة الخبث عاد إلى ما كان عليه. وهذا كالعصير الطيب إذا تخمَّر صار خبيثًا، فإذا عاد خلًّا
(4)
عاد طيِّبًا. والماء الكثير إذا تغيَّر بالنجاسة صار خبيثًا، فإذا زال التغير عاد طيِّبًا. والرجل المسلم إذا ارتدَّ صار خبيثًا، فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيِّبًا.
والدليل على أنه طيِّب [240/ب]: الحسُّ والشرع. أما الحِسُّ فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثرٌ بوجهٍ ما، لا في لون ولا طعم ولا رائحة، ومحالٌ صدقُ المشتقِّ بدون المشتق منه. وأما الشرع فمن وجوه:
(1)
ت: «النصوص والأصول» .
(2)
في حاشية ح أن في نسخة: «للشيء» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «وخلفتها» .
(4)
في النسخ المطبوعة: «عاد إلى ما كان عليه» في موضع «عاد خَلًّا» ، وأُراه إصلاحًا من بعض الناشرين.
أحدها أنه كان طيِّبًا قبل ملاقاته لما يتأثر به، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه. وهذا يتضمَّن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة: استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربًا وطبخًا وعجنًا
(1)
، وملابسة استصحاب الحكم الثابت وهو الطهارة، واستصحاب حكم الإجماع في محلِّ النزاع.
الثاني: أنه لو شرب هذا الماء الذي قطرت فيه قطرةٌ من خمر مثل رأس الذبابة لم يُحَدَّ اتفاقًا. ولو شربه صبيٌّ وقد قطرت فيه قطرةٌ من لبن لم تنشر
(2)
الحرمة، فلا وجه للحكم بنجاسته، لا من كتاب ولا من سنة ولا قياس.
والذين قالوا: إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة، تناقضوا أظهر تناقض. ولم يمكنهم طردُ هذا الأصل، فمنهم من استثنى مقدار القلَّتين على خلافهم فيها، ومنهم من استثنى ما لا يمكن نزحُه. ومنهم من استثنى ما إذا حُرِّك أحدُ طرفيه لم يتحرَّك الآخر
(3)
، ومنهم من استثنى الجاري خاصَّةً. وفرَّقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة، وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق. منها: أنه وارد على النجاسة فهو فاعل، وإذا وردت عليه فهو مورود منفعل وهو أضعف. ومنها: أنه إذا كان واردًا فهو جارٍ والجاري له قوة. ومنها [241/ب] أنه إذا كان واردًا فهو في محلّ التطهير، وما دام في محلِّ التطهير فله عمل وقوة.
(1)
في النسخ المطبوعة: «أو طبخًا أو عجنًا» .
(2)
ف: «لم تنتشر» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «الطرف الآخر» .
والصواب أن مقتضى القياس
(1)
أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وأنه إذا تغيَّر في محلِّ التطهير فهو نجس أيضًا، وهو في حال تغيُّره لم يُزِلها، وإنما خفَّفها. ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغيِّر. وهذا هو القياس في المائعات كلِّها: أنَّ يسير النجاسة إذا استحالت في الماء، فلم يظهر لها فيها
(2)
لون ولا طعم ولا رائحة، فهي من الطيبات لا من الخبائث.
وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الماء لا ينجُس»
(3)
.
وصحَّ عنه أنه قال: «إن الماء لا يجنُب»
(4)
.
وهما نصَّان صريحان في أن الماء لا ينجُس بالملاقاة، ولا يسلُبه طهوريتَه استعمالُه في إزالة الحدث. ومن نجَّسه بالملاقاة أو سلبَ طهوريته بالاستعمال فقد جعله ينجُس ويجنُب. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في «صحيح
(1)
«أن مقتضى القياس» زيد في ح فوق السطر، وهو في متن ف، و «مجموع الفتاوى» .
(2)
يعني: في المائعات. وفي النسخ المطبوعة: «ولم يظهر لها فيه» .
(3)
رواه أحمد (11119)، أبو داود (66، 67)، والترمذي (66) ــ وحسنه ــ، والنسائي (326، 327) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا. ويُنظر: «العلل» للدارقطني (11/ 285 - 289)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (1/ 28 - 32)، و «البدر المنير» لابن النحوي (1/ 381 - 388). وله شاهد سيأتي عَقِبَ هذا.
(4)
رواه أبو داود (68)، والترمذي (65) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (370) من حديث ابن عباس مرفوعًا. وصححه أيضًا ابن حبان (2266، 3947). وأعلّه الإمام أحمد بالإرسال. ويُنظر: «المجتبى» للنسائي (325)، و «المختصر» لابن خزيمة (91)، و «العلل» للدارقطني (15/ 260)، و «المستدرك» للحاكم (1/ 159)، و «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي (12/ 11 - 16)، و «فتح الباري» لابن رجب (1/ 282 - 283).
البخاري»
(1)
أنه سئل عن فأرة وقعت في سَمْنٍ، فقال:«ألقُوها وما حولها، وكلوه» ، ولم يفصل بين أن يكون جامدًا أو مائعًا قليلًا أو كثيرًا. فالماء بطريق الأولى يكون هذا حكمه.
وحديث التفريق بين الجامد والمائع حديث معلول
(2)
. وهو غلط من معمر من عدّة وجوه بيَّنها البخاري في «صحيحه» والترمذي في «جامعه» وغيرهما. ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناس كلُّهم خلافَ ما رواه
(3)
عنه معمر، وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تُلقَى وما حولها، ويؤكل الباقي في [241/ب] الجامد والمائع والقليل والكثير، واستدلَّ بالحديث. فهذه فتياه، وهذا استدلاله، وهذه رواية الأئمة عنه. فقد اتفق على ذلك النص والقياس، ولا يصلح للناس سواه. وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبَه طردُه كما تقدَّم. فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النصَّ لا فيما جاء به النصُّ.
(1)
برقم (5538) من حديث ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
رواه أحمد (7177)، وأبو داود (3842) من حديث أبي هريرة مرفوعا. وهو حديثٌ غيرُ محفوظٍ، قد أعلّه الإمام البخاري، وأبو حاتم، والترمذي، وغيرُهم.
أما ابن حبان فصححه (4374، 4375، 4376). ويُنظر: «المسند» للحميدي (314)، و «الجامع الصحيح» للبخاري (5538 - 5540)، و «الجامع» للترمذي عَقِبَ الحديث (1798)، و «المجتبى» للنسائي (4260)، و «السنن الكبرى» له (4572)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1507)، و «العلل» للدارقطني (7/ 285 - 286)، و «الإمام» لابن دقيق العيد (3/ 467 - 468)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 82 - 83).
(3)
ت، ع:«روى عنه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.