الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قيل: فكيف تخرِّجون
التعزير
بالمائة على القياس؟
قيل: هذا من أسهل الأمور، فإن التعزير لا يتقدَّر بقدر معلوم، بل هو بحسب الجريمة في جنسه وصفتها وكبرها وصغرها. وعمر بن الخطاب قد تنوَّع تعزُيره في الخمر: فتارةً بحلق الرأس
(1)
، وتارةً بالنفي
(2)
، وتارةً بزيادة أربعين سوطًا على الحدِّ الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
(3)
، وتارةً بتحريق حانوت الخمار
(4)
. وكذلك تعزير الغالِّ، وقد جاءت السنة بتحريق متاعه
(5)
.
(1)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (17047)، و «أخبار المدينة» لعمر بن شبّة (3/ 241)، و «مسند الفاروق» لابن كثير (2/ 388 - 389).
(2)
رواه النسائي (5676)، وفي «السنن الكبرى» (5166) من طريق سعيد بن المسيب، وقال ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 386):«هذا إسنادٌ جيّدٌ غريبٌ» . ويُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (17043، 17044).
(3)
سيأتي تخريجه في (2/ 411).
(4)
رواه ابن وهب في «الجامع» (62 - 64)، وعبد الرزاق (10051، 17035، 17036، 17039)، وأبو عبيد في «الأموال» (267، 287)، وابن زنجويه في «الأموال» (410)، وعمر بن شبّة في «أخبار المدينة» (1/ 250)، والدولابي في «الكنى» (2/ 584).
(5)
رواه أحمد (144)، وأبو داود (2713)، والترمذي (1461) من حديث عمر مرفوعا. قال علي ابن المديني:«هذا حديث منكر، يُنكره أصحاب الحديث» . وقال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ» . ثم نقل عن البخاري إعلاله بصالح بن محمد بن زائدة (وهو منكر الحديث)، وبأن أكثر الأحاديث ليس فيها إحراق متاع الغالّ. وأعلّه أيضًا أبو داود (2714)، والبيهقي (9/ 102). وأغرب الحاكم فصححه (2/ 127 - 128).
ويُنظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (4/ 291)، و «ترتيب العلل الكبير للترمذي» (431)، و «السنن الكبير» للبيهقي (9/ 103)، و «معرفة السنن والآثار» له (7/ 44)، و «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي (1/ 310 - 312)، و «مسند الفاروق» لابن كثير (2/ 300 - 301)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 603 - 606)، و «فتح الباري» لابن حجر (6/ 187).
ورواه أبو داود (2715) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، وصححه الحاكم (2/ 130 - 131)، مع أن في سنده زهير بن محمد التميمي، ورواية الشاميين عنه منكرة جدّا (وهذه منها)، وقد اضطرب في هذا الحديث، فكان يُسنده تارة، وأحيانًا يجعله من قول عمرو بن شعيب، وقد بيّن ذلك أبو داود.
وتعزيرُ مانع الصدقة بأخذِها وأخذِ شطر ماله معها
(1)
، وتعزيرُ كاتم الضالَّة الملتقطة بإضعاف الغُرم عليه
(2)
. وكذلك عقوبةُ سارقِ ما لا قطعَ فيه يُضعَف عليه الغُرم
(3)
. وكذلك قاتل الذمي عمدًا أضعفَ عليه عمر
(1)
رواه أحمد (20016، 20038، 20041)، وأبو داود (1575)، والنسائي (2444، 2449) من حديث معاوية بن حيدة القشيري مرفوعا. وصححه ابن خزيمة (2266)، والحاكم (1/ 397 - 398). ويُنظر:«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (3/ 241)، و «المُحرَّر» لابن عبد الهادي (568)، و «البدر المنير» لابن النحوي (5/ 480 - 486).
(2)
رواه أبو داود (1718) من طريق معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة: أحسبه عن أبي هريرة (فذكره مرفوعا). وعمرو هذا ليّن الحديث، وقد رواه عبد الرزاق (17300) عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس وعكرمة مرسلا، ولم يذكر (أبا هريرةَ). ورواه عبد الرزاق (18600) من طريق ابن طاوس، عن أبيه مقطوعًا. فرفعُ الحديث ووصلُه منكرٌ لا يصحّ.
(3)
رواه أحمد (6683، 6936)، وأبو داود (1710 - 1713)، والنسائي (4958، 4959) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا. وأصله عند الترمذي (1289) محسَّنًا. وخرّجه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» (4/ 381) محتجًّا به محتفلًا. ويُنظر: «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (7/ 290)، و «البدر المنير» لابن النحوي (8/ 653 - 655).
وعثمان
(1)
ديته
(2)
، وذهب إليه أحمد وغيره.
فإن قيل: فما تصنعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله»
(3)
؟
قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة، ولا منافاة بينه وبين شيء مما ذكرنا. فإنَّ الحدَّ في لسان الشارع أعمُّ منه في اصطلاح الفقهاء، فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدَّرة بالشرع خاصة. والحدُّ في لسان الشارع أعمُّ من ذلك، فإنه يراد [262/ب] به هذه العقوبة تارةً، ويراد به نفس الجناية تارةً، كقوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وقوله:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، فالأول حدود الحرام، والثاني حدود الحلال. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله حدَّ حدودًا، فلا تعتدُوها»
(4)
. وفي حديث النوَّاس بن سَمعان الذي تقدَّم في أول الكتاب
(5)
: «والسوران حدود الله» . ويراد به تارةً جنس العقوبة وإن لم تكن مقدَّرةً. فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله» يريد به الجناية التي هي حقٌّ لله.
فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذ كان المراد بالحدِّ الجناية؟
(1)
«وعثمان» ساقط من ت، ع.
(2)
يُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (10224، 18492، 18493، 18495)، و «السنن» للدارقطني (3289، 3290، 3498)، و «السنن الكبير» للبيهقي (8/ 32، 100).
ويَحْسُن تدبُّرُ ما في كتاب «الأم» للإمام الشافعي (9/ 138 - 141).
(3)
أخرجه البخاري (6848) ومسلم (1708) من حديث أبي بردة الأنصاري.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
انظر (1/ 463).
قيل: في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره، للتأديب ونحوه، فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط. فهذا أحسن ما خُرِّج عليه الحديث، وبالله التوفيق.
فصل
(1)
وأما المضيُّ في الحج الفاسد فليس مخالفًا للقياس، فإن الله سبحانه أمر بإتمام الحج والعمرة، فعلى من شرَع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعًا بالدخول باتفاق الأئمة، وإن تنازعوا فيما سواه من التطوعات: هل تلزم بالشروع أم لا؟ فقد وجب عليه بالإحرام أن يمضي فيه إلى حين يتحلَّل. ووجب عليه الإمساك عن الوطء، فإذا وطئ فيه لم يُسقِط وطؤه ما وجب عليه من إتمام النسك، فيكون ارتكابه ما حرَّمه الله عليه سببًا لإسقاط الواجب عليه. ونظير هذا: الصائم إذ أفطر عمدًا لم يُسقِط عنه فطرُه ما وجب عليه من إتمام الإمساك. ولا يقال له: قد بطل صومك، فإن شئت أن تأكل فكُلْ. بل يجب عليه المضيُّ [263/أ] فيه وقضاؤه، لأن الصائم له حدٌّ محدود وهو غروب الشمس
(2)
.
فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في الصلاة إذا أفسدها، وقلتم: يمضي فيها، ثم يعيدها.
قيل: من هاهنا ظنَّ من ظنَّ أن المضيَّ في الحج الفاسد على خلاف القياس. والفرق بينهما أن الحج له وقت محدود وهو يوم عرفة، كما
(1)
من بداية هذا الفصل بدأ النقل مرة أخرى من جواب شيخ الإسلام. انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 568).
(2)
«لأن الصائم
…
الشمس» ساقط من ت، ع.
للصائم
(1)
وقت محدود وهو الغروب. وللحج مكان مخصوص لا يمكن إحلال المحرَّم قبل وصوله إليه، كما لا يمكن فطر الصائم قبل وصوله إلى وقت الفطر، فلا يمكنه فعلُه ولا فعلُ الحج ثانيًا في وقته، بخلاف الصلاة فإنه يمكنه فعلها ثانيًا في وقتها. وسرُّ الفرق أن وقت الصيام والحج بقدر فعلِه، لا يسع غيره؛ ووقت الصلاة أوسع منها، فيسع غيرها، فيمكنه تداركُ فعلها إذا فسدت في أثناء الوقت. ولا يمكن تدارك الصيام والحج إذا فسدا إلا في وقت آخر نظير الوقت الذي أفسدهما فيه. والله أعلم.
فصل
وأما من أكل في صومه ناسيًا، فمن قال:«عدمُ فطره ومضيُّه في صومه على خلاف القياس» ظن أنه من باب ترك المأمور ناسيًا، والقياس
(2)
أنه يلزمه الإتيان بما تركه، كما لو أحدث ونسي حتى صلَّى. والذين قالوا:«بل هو على وفق القياس» حجتهم أقوى، لأن قاعدة الشريعة أن من فعل محظورًا ناسيًا فلا إثم عليه، كما دلَّ عليه قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء، وقال: قد فعلتُ
(3)
. [263/ب] وإذا ثبت أنه غير آثم فلم يفعل في صومه محرَّمًا فلم يبطل صومه. وهذا محض القياس، فإن العبادة إنما تبطل بفعل محظور أو ترك مأمور.
(1)
في النسخ المطبوعة: «للصيام» .
(2)
ع: «المأمور باتساق القياس» ، تحريف طريف.
(3)
أخرجه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وطردُ هذا القياس: أن من تكلم في صلاته ناسيًا لم تبطل صلاته. وطردُه أيضًا أن من جامع في إحرامه أو صيامه ناسيًا لم يبطل صيامه ولا إحرامه. وكذلك من تطيَّب، أو لبِس، أو غطَّى رأسه، أو حلَق رأسه، أو قلَّم ظفره= ناسيًا، فلا فدية عليه؛ بخلاف قتل الصيد، فإنه من باب ضمان المتلفات فهو كدية القتيل. وأما اللباس والطيب فمن باب الترفه. وكذلك الحلق والتقليم ليس من باب الإتلاف، فإنه لا قيمة له في الشرع ولا في العرف.
وطردُ هذا القياس: أن من فعل المحلوف عليه ناسيًا لم يحنث، سواء حلف بالله، أو بالطلاق، أو بالعتاق، أو غير ذلك؛ لأن القاعدة أن من فعل المنهيَّ عنه ناسيًا لم يُعَدَّ عاصيًا. والحنث في الأيمان كالمعصية في الإيمان. فلا يُعَدُّ حانثًا مَن فعل المحلوف عليه ناسيًا.
وطردُ هذا أيضًا: أن من باشر النجاسة في الصلاة ناسيًا لم تبطل صلاته، بخلاف من ترك شيئًا من فروض الصلاة ناسيًا، أو ترك الغسل من الجنابة، أو الوضوءَ، أو الزكاة، أو شيئًا من فروض الحج= ناسيًا فإنه يلزمه الإتيان به، لأنه لم يؤدِّ ما أُمِر به، فهو في عهدة الأمر. وسرُّ الفرق أن من فعل المحظور ناسيًا يجعل وجوده كعدمه، ونسيان [264/أ] ترك المأمور لا يكون عذرًا في سقوطه، كما كان فعلُ المحظور ناسيًا عذرًا في سقوط الإثم عن فاعله.
فإن قيل: فهذا الفرق حجة عليكم، لأن ترك المفطرات في الصوم من باب المأمورات، ولهذا تشترط فيه النية. ولو كان فعلُ المفطرات من باب المحظور لم يحتج إلى نية كترك
(1)
سائر المحظورات.
قيل: لا ريب أن النية في الصوم شرط، ولولاها لما كان عبادة، ولا أُثِيبَ
(1)
ع، د:«كفعل» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وهو خطأ.
عليه؛ لأن الثواب لا يكون إلا بالنية، فكانت النية شرطًا في كون هذا الترك عبادة. ولا يختص ذلك بالصوم، بل كلُّ تركٍ لا يكون عبادة ولا يثاب عليه إلا بالنية، ومع ذلك فلو فعله ناسيًا لم يأثم به. فإذا نوى تركَها لله، ثم فعَلَها ناسيًا لم يقدح نسيانه في أجره، بل يثاب على قصدِ تركها لله، ولا يأثم بفعلها ناسيًا. وكذلك الصوم.
وأيضًا فإن فعل الناسي غير مضاف إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أكل أو شرب ناسيًا فَلْيُتِمَّ صومَه، فإنما أطعمه الله وسقاه»
(1)
. فأضاف فعله ناسيًا إلى الله، لكونه لم يُرِده ولم يتعمَّده. وما يكون مضافًا إلى الله لم يدخل تحت قدرة العبد، ولم
(2)
يكلَّف به؛ فإنه إنما يكلَّف بفعله، لا بما يفعل فيه. ففعلُ الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير.
وكذلك لو احتلم الصائم [264/ب] في منامه، أو ذَرَعه القيءُ في اليقظة، لم يفطر. ولو استدعى ذلك أفطر به. فلو كان ما يوجد بغير قصده، كما يوجد بقصده، لأفطر بهذا وهذا.
فإن قيل: فأنتم تفطِّرون المخطئ، كمن أكل يظنُّه ليلًا فبانَ نهارًا.
قيل: هذا فيه نزاع معروف بين السلف والخلف، والذين فرَّقوا بينهما قالوا: فعلُ المخطئ يمكن الاحتراز منه، بخلاف الناسي. ونُقِل عن بعض السلف أنه يفطر في مسألة الغروب، دون مسألة الطلوع كما لو استمر الشك.
قال شيخنا
(3)
: وحجة من قال: لا يفطر في الجميع أقوى، ودلالة
(1)
أخرجه البخاري (1933) ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في النسخ المطبوعة: «فلم» .
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 572)، ولفظه فيه:«والذين قالوا لا يفطر في الجميع قالوا: حجتنا أقوى، ودلالة الكتاب والسنة على قولنا أظهر» .
الكتاب والسنة على قولهم أظهر؛ فإن الله سبحانه سوَّى بين الخطإ والنسيان في عدم المؤاخذة، ولأن فعل محظورات الحج يستوي فيه المخطئ والناسي، ولأن كلَّ واحد منهما غير قاصد للمخالفة. وقد ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس. ولم يثبت في الحديث أنهم أُمِروا بالقضاء، ولكن هشام بن عروة سئل عن ذلك، فقال: أَوَ بدٌّ من القضاء
(1)
؟ وأبوه عروة أعلم منه، وكان يقول: لا قضاء عليهم
(2)
.
وثبت في «الصحيحين»
(3)
أن بعض الصحابة أكلوا حتى ظهر لهم الحبل
(4)
الأسود من الأبيض، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء وكانوا مخطئين.
وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر، ثم تبيَّن النهار، فقال: لا نقضي، فإنَّا
(5)
لم نتجانف لإثم
(6)
.
(1)
رواه البخاري (1959). وقوله: «أَوَ بدٌّ من القضاء» كذا في ح مع تنوين همزة «القضاء» ، فأخشى أن يكون بعضهم زاد لام التعريف في «القضاء» . وفي ت، ع:«وبُدّ من قضاء» . في رواية أبي ذر: «لابدَّ من القضاء» ، وفي غيرها:«بُدٌّ من قضاء» وتقديره: هل بدٌّ من قضاء. انظر: «فتح الباري» (4/ 200) و «عمدة القاري» (11/ 68).
(2)
يُوازَنُ بما في «المصنف» لعبد الرزاق (7390 - 7389).
(3)
البخاري (1917) ومسلم (1091) من حديث سهل بن سعد.
(4)
في النسخ المطبوعة: «الخيط» .
(5)
في النسخ المطبوعة: «لأنا» .
(6)
رواه عبد الرزاق (7395)، وابن أبي شيبة (9145، 9143)، ويعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 765). ويُنظر:«المعرفة والتاريخ» (2/ 768)! و «السنن الكبير» للبيهقي (4/ 217).
وروي [265/أ] عنه أنه قال: نقضي
(1)
. وإسناد الأول أثبت. وصحَّ عنه أنه قال: الخطب يسير
(2)
. فتأوَّلَ ذلك من تأوَّله على أنه أراد خفة أمر القضاء. واللفظ لا يدل على ذلك.
قال شيخنا
(3)
: وبالجملة فهذا القول أقوى أثرًا ونظرًا، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس.
قلت له: فالنبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل يحتجم، فقال:«أفطَر الحاجمُ والمحجوم»
(4)
. ولم يكونا عالمين بأن الحجامة تفطِّر، ولم يبلغهما قبل ذلك قوله:«أفطر الحاجم والمحجوم» . ولعل الحكم إنما شُرِع ذلك اليومَ.
(1)
رواه عبد الرزاق (7393، 7394)، ويعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 766 - 767). ويُنظر:«المصنف» لابن أبي شيبة (9138 - 9140).
(2)
رواه مالك (1071) ــ وعنه الشافعي في «الأم» (3/ 238 - 239) ــ، وعبد الرزاق (7392)، وابن أبي شيبة (9149)، ويعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 767 - 768، 768).
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 573)، والكلام متصل بما سبق.
(4)
رواه أحمد (17112)، وأبو داود (2368، 2369)، وابن ماجه (1681)، والنسائي في «السنن الكبرى» (3126، 3127، 3129 - 3143) من حديث شدّاد بن أوس مرفوعا. وصححه غير واحد؛ منهم: علي ابن المديني، وإسحاق الحنظلي، وأحمد ابن حنبل، والبخاري، وعثمان الدارمي، وابن حبان، والحاكم. ويُنظر:«الجامع» للترمذي (774)، و «ترتيب العلل الكبير للترمذي» (208 - 212)، و «السنن الكبرى» للنسائي (3120 - 3183، 3195 - 3199)، و «المختصر» لابن خزيمة (1962 - 1965، 1983، 1984)، و «المسند الصحيح» لابن حبان (6908 - 6911)، و «المستدرك» للحاكم (1/ 427 - 430)، و «السنن الكبير» للبيهقي (4/ 264 - 268)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (3/ 253 - 271).
فأجابني بما مضمونه أن الحديث اقتضى أن ذلك الفعل مفطر، وهذا كما لو رأى إنسانًا يأكل أو يشرب فقال: أفطرَ الآكل والشارب. فهذا فيه بيان السبب المقتضي للفطر، ولا تعرض فيه للمانع. وقد عُلِم أن النسيان مانع من الفطر بدليل خارج، فكذلك الخطأ والجهل. والله أعلم
(1)
.
فصل
(2)
ومما يُظَنّ
(3)
أنه على خلاف القياس ما حكم به الخلفاء الراشدون في امرأة المفقود. فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أجَّلَ امرأته أربع سنين، وأمرها أن تتزوج. فقدِم المفقود بعد ذلك، فخيَّره عمُر بين امرأته وبين مهرها
(4)
.
فذهب الإمام أحمد إلى ذلك. وقال: ما أدري مَن ذهب إلى غير ذلك، إلى أيِّ شيء يذهب؟
(5)
وقال أبو داود في «مسائله»
(6)
: سمعت أحمد ــ وقيل له: في نفسك شيء من المفقود؟ ــ فقال: ما في نفسي [265/ب] منه
(1)
وانظر: «تهذيب السنن» (2/ 26 - 31).
(2)
انظر هذا الفصل في «مجموع الفتاوى» (20/ 576 - 582) باختلاف يسير.
(3)
ت، ع:«ظن» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
رواه عبد الرزاق (12322)، وسعيد بن منصور (1755).
ويُنظر: «المصنف» لعبد الرزاق (12317 - 12324)، و «السنن» لسعيد بن منصور (1752 - 1754)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (16985، 16987 - 16989)، و «مسند الفاروق» لابن كثير (2/ 240).
(5)
انظر نحوه في «المغني» (11/ 248).
(6)
انظر: نشرة طارق بن عوض الله (ص 244).
شيء. هذا خمسةٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروها أن تتربَّص. قال أحمد: هذا من ضيق علم الرجل أن لا يتكلَّم في امرأة المفقود
(1)
.
وقد قال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد: إن مذهب عمر في المفقود يخالف القياس. والقياس أنها زوجة القادم بكلِّ حال، إلا أن نقول: الفرقة تنفذ ظاهرًا وباطنًا، فتكون زوجة الثاني بكلِّ حال. وغلا بعض المخالفين لعمر في ذلك، فقالوا: لو حكَم حاكم بقول عمر في ذلك لنُقِضَ حكمُه، لبعده عن القياس.
وطائفة ثالثة: أخذت ببعض قول عمر، وتركوا بعضه، فقالوا: إذا تزوجت ودخل بها الثاني فهي زوجته، ولا تُرَدُّ إلى الأول. وإن لم يدخل بها رُدَّت إلى الأول.
قال شيخنا
(2)
: من خالف عمر
(3)
لم يهتد إلى ما اهتدى إليه عمر، ولم يكن له من الخبرة بالقياس الصحيح مثل خبرة عمر. وهذا إنما يتبيَّن بأصل، وهو وقفُ العقود إذا تصرَّف الرجلُ في حقِّ الغير بغير إذنه، هل يقع تصرفه مردودًا أو موقوفًا على إجازته؟ على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد: إحداهما أنها تقف على الإجازة، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. والثانية أنها لا تقف، وهو أشهر قولي الشافعي، وهذا في النكاح والبيع والإجارة.
(1)
لم ترد أقوال أحمد في «مجموع الفتاوى» في هذا الفصل.
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 576).
(3)
ع: «قول عمر» ، بزيادة «قول» ولم ترد في غيرها ولا «مجموع الفتاوى» .
وظاهر مذهب أحمد التفصيل. وهو أن المتصرف إذا كان معذورًا لعدم تمكُّنه من الاستئذان وكان به حاجة إلى [266/أ] التصرُّف وقف العقدُ على الإجازة بلا نزاع عنده. وإن أمكنه الاستئذان أو لم تكن به حاجة إلى التصرُّفُ ففيه النزاع. فالأول مثل من عنده أموال لا يعرف أصحابها كالغصوب والعواري ونحوها، فإذا تعذَّر عليه معرفةُ أرباب الأموال ويئس منها، فإن مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يتصدَّق بها عنهم. فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيَّرين بين الإمضاء وبين التضمين.
وهذا مما جاءت به السنة في اللقطة، فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرَّف فيها، ثم إن جاء صاحبها كان مخيَّرًا بين إمضاء تصرُّفه وبين المطالبة بها. فهو تصرُّف موقوف لما تعذَّر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرُّف. وكذلك الموصي بما زاد على الثلث، وصيتُه موقوفة على الإجازة عند الأكثرين، وإنما يخيَّرون بعد الموت.
فالمفقود المنقطع خبره، إن قيل: إن امرأته تبقى إلى أن يُعلمَ خبرُه= بقيَتْ لا أيِّمًا ولا ذات زوج إلى أن تبقى من القواعد أو تموت. والشريعة لا تأتي بمثل هذا. فلما أُجِّلت أربع سنين ولم يُكشفَ خبرُه حُكِم بموته ظاهرًا.
فإن قيل: يسوغ للإمام أن يفرِّق بينهما للحاجة، فإنما ذلك بعد اعتقاد موته، وإلا فلو علمت حياته لم يكن مفقودًا. وهذا كما ساغ التصرُّفُ في الأموال التي تعذَّر معرفةُ أصحابها، فإذا قدِم الرجل تبيَّنَّا أنه كان حيًّا، كما إذا ظهر صاحب المال، والإمام قد تصرَّف في زوجته [266/ب] بالتفريق، فيبقى هذا التفريق موقوفًا على إجازته. فإن شاء أجاز ما فعله الإمام، وإن شاء ردَّه. وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه. ولو أذن للإمام أن يفرِّق بينهما ففرَّق وقعت الفرقة بلا ريب، وحينئذ فيكون نكاح الثاني صحيحًا. وإن لم يُجِزْ ما فعله الإمام كان التفريق باطلًا، فكانت باقية على نكاحه فتكون زوجته؛ فكان القادم مخيَّرًا بين إجازة ما فعله الإمام وردِّه. وإذا أجاز فقد أخرج البُضْع عن ملكه.
وخروجُ البضع من ملك الزوج متقوِّم عند الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في أنَصِّ الروايتين. والشافعي يقول: هو مضمون بمهر المثل. والنزاع بينهم فيما إذا شهد شاهدان أنه طلَّق امرأته، ثم رجعا عن الشهادة. فقيل: لا شيء عليهما، بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج ليس بمتقوِّم. وهذا قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه. وقيل: عليهما مهر المثل. وهو قول الشافعي، وهو وجه في مذهب أحمد. وقيل: عليهما المسمَّى، وهو مذهب مالك. وهو أشهر في نصِّ أحمد
(1)
، وقد نصَّ على ذلك فيما إذا أفسد نكاح امرأته برضاع أنه يرجع بالمسمَّى. والكتاب والسنة يدلان على هذا القول، فإن الله تعالى قال:{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ [267/أ] حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10 - 11]. وهذا هو المسمَّى دون مهر المثل. وكذلك
(2)
أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم زوج المختلعة أن يأخذ ما أعطاها دون مهر المثل
(3)
. وهو سبحانه إنما يأمر في
(1)
ع: «مذهب أحمد» . وفي «مجموع الفتاوى» (20/ 579): «نصوص أحمد» .
(2)
ت: «ولذلك» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
رواه أحمد (27444)، وأبو داود (2227)، والنسائي (3462) من حديث حبيبة بنت سهل مرفوعا. وصححه ابن حبان (1393).
المعاوضات المطلقة بالعدل. فحكمُ أمير المؤمنين في المفقود ينبني على هذا الأصل.
والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة. ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة، ولم يُعلَم أن أحدًا منهم أنكر ذلك، مثل قضية ابن مسعود في تصدُّقه عن سيد الجارية التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في الذمة لما تعذَّرت عليه معرفته
(1)
، وكتصدُّق الغالِّ بالمال المغلول من الغنيمة لما تعذَّر قَسْمُه بين الجيش، وإقرار معاوية
(2)
على ذلك وتصويبه له
(3)
، وغير ذلك من القضايا؛ مع أن القول بوقف العقود مطلقًا هو الأظهر في الحجة، وهو قول الجمهور. وليس في ذلك ضرر أصلًا، بل هو صلاح بلا فساد
(4)
؛ فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره، أو يبيع له، أو يستأجر له،
(1)
رواه عبد الرزاق (18631)، وسعيد بن منصور ــ كما في «تغليق التعليق» لابن حجر (4/ 469) ــ والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 139)، وفي «بيان المشكل» (12/ 127)، والطبراني (9721) من طرق عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة.
وعامر فيه لينٌ، لكن الظن به ألا يخطئ في رواية مثل هذه القصّة، وليس عامرٌ ابنًا لشقيق، خلافًا لما ظنّه الإمام الشافعي في «الأم» (8/ 452)، وفات البيهقيَّ تعقّبُه في «السنن الكبير» (6/ 187)، وفي «معرفة السنن والآثار» له (5/ 30).
(2)
في النسخ المطبوعة بعده: «له» ، ولا وجود له في النسخ ولا في «مجموع الفتاوى» (20/ 580).
(3)
رواه أبو إسحاق الفزاري في «السِّيَر» (422) ــ ومن طريقه ابن عساكر (29/ 138 - 139) ــ، وسعيد بن منصور (2732) من رواية حوشب بن سيف به، وقد وثّقه العجلي.
(4)
ع: «إصلاح بلا إفساد» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي «مجموع الفتاوى» كما أثبتنا من النسخ الأخرى.
أو يؤجر
(1)
له؛ ثم يشاوره، فإن رضي وإلا لم يحصل له ما يضرُّه. وكذلك في تزويج وليّته ونحو ذلك، وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه.
فمسألة المفقود هي مما يوقف فيها تفريق الإمام على إذن الزوج [267/ب] إذا جاء، كما يقف تصرُّفُ الملتقط على إذن المالك إذا جاء.
والقولُ بردِّ المهر إليه لخروج
(2)
بُضْع امرأته عن ملكه، ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجع به: هل هو ما أعطاها هو، أو ما أعطاها الثاني؟ وفيه روايتان عن أحمد: إحداهما يرجع بما مهرها الثاني، لأنها هي التي أخذته. والصواب أنه إنما يرجع بما مهرها هو، فإنه الذي يستحقه. وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حقَّ له فيه.
وإذا ضمن الثاني للأول المهرَ، فهل يرجع به عليها؟ فيه روايتان
(3)
:
إحداهما: يرجع، لأنها هي التي أخذته، والثاني قد أعطاها المهر الذي عليه، فلا يضمن مهرين. بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فراق الأول
(4)
ونكاح الثاني، فعليها أن تردَّ المهر؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها.
والثانية: لا يرجع، لأن المرأة تستحقُّ المهر بما استحلَّ من فرجها. والأول يستحق المهر بخروج البُضْع عن ملكه، فكان على الثاني.
(1)
«أو يؤجر له» ساقط من ع. وفي النسخ المطبوعة: «يؤجر له أو يستأجر له» .
(2)
ع: «المهر إلى الخروج» . وفي النسخ المطبوعة: «إلى الزوج بخروج» . والصواب ما أثبت، وكذا في «مجموع الفتاوى» .
(3)
في النسخ المطبوعة زيادة: «عن أحمد» خلافًا للنسخ و «مجموع الفتاوى» .
(4)
في النسخ المطبوعة: «الزوج الأول» ، خلافًا للنسخ الخطية و «مجموع الفتاوى» .
وهذا المأثور عن عمر في مسألة المفقود. وهو عند طائفة من الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس، حتى قال بعض الأئمة: لو حكَم به حاكمٌ نُقِضَ حكمُه. وهو مع هذا أصحُّ الأقوال وأجراها
(1)
في القياس، وكلُّ قول قيل سواه فهو خطأ. فمن قال: إنها تعاد إلى الأول بكلِّ حال، أو تكون مع الثاني بكلِّ حال= فكلا القولين خطأ، إذ كيف تعاد إلى الأول، وهو لا يختارها ولا يريدها، [268/أ] وقد فُرِّق بينه وبينها تفريقًا سائغًا في الشرع، وأجاز هو ذلك التفريق؟ فإنه وإن تبيَّن للإمام أن الأمر بخلاف ما اعتقده، فالحقُّ في ذلك للزوج. فإذا أجاز ما فعله الإمام زال المحذور.
وأما كونها زوجةَ الثاني بكلِّ حال مع ظهورِ زوجها وتبيُّنِ أن الأمر بخلاف ما فعل الإمام، فهو خطأ أيضًا، فإنه مسلمٌ لم يفارق امرأته، وإنما فُرِّق بينهما بسببٍ ظهر أنه لم يكن كذلك، وهو يطلب امرأته، فكيف يُحال بينه وبينها؟ وهو لو طلب ماله أو بدله رُدَّ إليه فكيف لا تُردُّ إليه امرأته، وأهلُه أعزُّ عليه من ماله؟
وإن قيل: حقُّ الثاني تعلَّق بها. قيل: حقُّه سابق على حقِّ الثاني، وقد ظهر انتقاض السبب الذي به استحقَّ الثاني أن تكون زوجة له. وما الموجب لمراعاة حقِّ الثاني دون الأول؟
فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولهذا تعجَّب أحمد ممن خالفه. وإذا
(2)
ظهر صحةُ ما قاله الصحابة وصوابُه في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثلُ أبي حنيفة ومالك والشافعي،
(1)
في النسخ المطبوعة: «أحراها» بالحاء المهملة، وهو تصحيف.
(2)
ع: «فإذا» بإهمال الفاء. وكذا في النسخ المطبوعة.
فلَأن يكون الصوابُ معهم فيما وافقهم هؤلاء بطريق الأولى.
قال شيخنا
(1)
: وقد تأمّلتُ من هذا الباب ما شاء الله، فرأيتُ الصحابة أفقهَ الأمة وأعلمَها. اعتبِرْ هذا بمسائل الأيمان والنذور والعتق وغير ذلك، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط. فالمنقول فيها عن الصحابة [268/ب] هو أصح الأقوال، وعليه يدل الكتاب والسنة والقياس الجلي، وكل قول سوى ذلك فمخالف للنصوص مناقض للقياس. وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن الملاعنة، ومسألة ميراث المرتد، وما شاء الله من المسائل، لم أجد أجودَ الأقوال فيها إلا أقوال الصحابة. وإلى ساعتي هذه ما علمتُ قولًا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه، لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجَلِّ العلوم. وإنما يعرف ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام. والله أعلم. انتهى
(2)
.
فصل
ومما أشكل على كثير من الفقهاء من قضايا الصحابة وجعلوه من أبعد الأشياء عن القياس: مسألة التزاحم، وسقوط المتزاحمين في البئر، وتسمَّى «مسألة الزُّبْيَة» .
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 582)، والكلام موصول بالسابق واللاحق.
(2)
يعني: كلام شيخ الإسلام. انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 583) وقد بدأ النقل منه في (ص 233) من نشرتنا هذه.
وأصلها أن قومًا من أهل اليمن حفروا زبيةً للأسد، فاجتمع الناس على رأسها، فهوَى فيها واحد، فجذب ثانيًا، فجذب الثاني ثالثًا، فجذب الثالثُ رابعًا، فقتلهم الأسد. فرُفِع ذلك إلى علي بن أبي طالب
(1)
وهو على اليمن، فقضى للأول بربع الدية، وللثاني بثلثها، وللثالث بنصفها، وللرابع بكمالها، وقال: أجعل الدية على مَن حضَر رأس [269/أ] البئر. فرُفِع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هو كما قال» . رواه سعيد بن منصور في «سننه» ، ثنا أبو عوانة وأبو الأحوص، عن سِماك بن حرب، عن حَنَش الصنعاني
(2)
عن علي
(3)
. فقال أبو الخطاب وغيره: ذهب أحمد إلى هذا توقيفًا على خلاف القياس
(4)
.
والصواب أنه مقتضى القياس والعدل. وهذا يتبيَّن بأصل، وهو أن الجناية إذا حصلت من فعل مضمونٍ ومهدَرٍ سقط ما يقابل المهدر، واعتُبِر ما يقابل المضمون؛ كما لو قتل عبدًا مشتركًا بينه وبين غيره، أو أتلف مالًا مشتركًا، أو حيوانًا= سقط ما يقابل حقَّه، ووجب عليه ما يقابل حقَّ شريكه. وكذلك لو اشترك اثنان في إتلافِ مال أحدهما أو قتلِ عبده أو حيوانه سقط
(1)
في النسخ المطبوعة: «أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في الجنة» .
(2)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. وكذا في «المغني» لابن قدامة (12/ 87 - 88) ومنه ينقل المصنف.
(3)
رواه ابن أبي شيبة (28451، 29706) عن أبي الأحوص، عن سماك، عن حَنَشِ بن المعتمر الكناني به. ورواه أحمد (573، 574، 1063، 1310) من طريقيْن آخريْن عن سماك، عن حنش
…
وقد تكلّموا في حنشٍ، وفي حديثه هذا. ويُنظر:«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (6/ 249 - 250).
(4)
انظر: «الهداية» لأبي الخطاب (ص 515).
عن المشارك ما يقابل فعله، ووجب على الآخر من الضمان بقسطه. وكذلك لو اشترك هو وأجنبيٌّ في قتل نفسه كان على الأجنبي نصف الضمان. وكذلك لو رمى ثلاثةً بالمنجنيق فأصاب الحجرُ أحدهم فقتَله، فالصحيح أن ما قابل فعل المقتول ساقط، ويجب ثلثا ديته على عاقلة الآخرين. هذا مذهب الشافعي، واختيار صاحب «المغني» ، والقاضي أبي يعلى في «المجرَّد»
(1)
.
وهو الذي قضى به عليٌّ في مسألة القارصة والواقصة. قال الشعبي: وذلك أنَّ ثلاثَ جوارٍ اجتمعن، فركبت إحداهن على عنق الأخرى، فقرَصت الثالثةُ المركوبةَ، فقمَصَت
(2)
، فسقطت الراكبة [269/ب] فوقَصت
(3)
عنقها، فماتت. فرُفِع ذلك إلى عليٍّ، فقضى بالدية أثلاثًا على عواقلهن، وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة، لأنها أعانت على قتل نفسها
(4)
.
وإذا ثبت هذا فلو ماتوا بسقوط بعضهم فوق بعض كان الأول قد هلك بسبب مركَّب من أربعة أشياء: سقوطه، وسقوط الثاني، والثالث، والرابع. وسقوطُ الثلاثة فوقه مِن فعله. وجنايتهُ على نفسه تُسقِط
(5)
ما يقابله وهو
(1)
انظر: «المغني» (12/ 83) والمصنف صادر عنه. ومنه نقل قول الشعبي الآتي.
(2)
أي نفرت.
(3)
في النسخ المطبوعة بعده: «أي كسرت» .
(4)
رواه الشافعي في «الأم» (8/ 446)، وأبو عبيد في «غريب الحديث» (3/ 77) ــ ومن طريقه الزجاجي في «الأخبار = الأمالي الوسطى» (ص 208)، والبيهقي (8/ 112) ــ من حديث مجالد، عن الشعبي به، ومجالد (وهو ابن سعيد) فيه لِينٌ.
ويُوازَنُ السند المُثْبَتُ في «الأم» بما في «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (6/ 250).
(5)
كذا في النسخ بإهمال حرف المضارع. وفي النسخ المطبوعة: «فسقط» .
ثلاثة أرباع الدية. وبقي الربع الآخر لم يتولَّد من فعله وإنما تولَّد من التزاحم فلم يُهدَر. وأما الثاني فلأن هلاكه كان من ثلاثة أشياء: جذبِ مَن قبله له، وجذبه هو لثالث، ورابع. فسقط ما يقابل جذبَه، وهو ثلثا الدية، واعتُبِر ما لا صنع له فيه، وهو الثلث الباقي. وأما الثالث فحصل تلفه بشيئين: جذبِ مَن قبله له، وجذبِه هو للرابع، فسقط فعلُه دون السبب الآخر، فكان لورثته النصف. وأما الرابع فليس منه فعل البتة، وإنما هو مجذوب محض، فكان لورثته كمال الدية. وقضى بها على عواقل الذين حضروا البئر لتدافعهم وتزاحمهم.
فإن قيل: على هذا سؤالان: أحدهما أنكم لم توجبوا على عاقلة الجاذب شيئًا مع أنه مباشر، وأوجبتم على عاقلة من حضر البئر ولم يباشر، وهذا خلاف القياس. الثاني: أنَّ هذا هَبْ أنه يتأتى
(1)
لكم فيما إذا ماتوا بسقوط بعضهم على بعض، فكيف يتأتَّى لكم [270/أ] في مسألة الزُّبية، وإنما ماتوا بقتل الأسد، فهو كما لو تجاذبوا، فغرقوا في البئر؟
قيل: هذان سؤالان قويَّان. وجواب الأول أن الجاذب لم يباشر الإهلاك، وإنما تسبَّب إليه. والحاضرون تسبَّبوا بالتزاحم، وكان تسبُّبهم أقوى من تسبُّب الجاذب؛ لأنه ألجئ إلى الجذب. فهو كما لو ألقى إنسانٌ إنسانًا على آخر، فنفَضه عنه لئلا يقتله، فمات، فالقاتل هو الملقي.
وأما السؤال الثاني، فجوابه أن المباشر للتلف كالأسد والماء والنار، لما لم يمكن الإحالة عليه أُلغي فعله، وصار الحكم للسبب. ففي مسألة
(1)
ت: «هب أن هذا يتأنّى» . وأخشى أن يكون إصلاحًا للنص.
الزبية ليس للرابع فعلٌ البتة، وإنما هو مفعول به محض، فله كمال الدية. والثالث فاعل ومفعول به، فأُلغي ما يقابل فعلَه واعتُبر فعلُ الغير به، فكان قسطه نصف الدية. والثاني كذلك إلا أنه جاذب لواحد، والمجذوبُ جاذبٌ لآخر؛ فكان الذي حصل عليه من تأثير الغير فيه ثلثُ السبب، وهو جذبُ الأول له، فله ثلث الدية. وأما الأول فثلاثة أرباع السبب من فعله، وهو سقوط الثلاثة الذين سقطوا بجذبه مباشرةً وتسبُّبًا، وربعُه من وقوعه بتزاحم الحاضرين، فكان حظُّه ربع الدية.
وهذا أولى من تحميل عاقلة القتيل ما يقابل فعله، ويكون لورثته. وهذا هو خلاف القياس، لأن الدية شُرِعت مواساةً وجبرًا، فإذا كان الرجل هو القاتلَ لنفسه أو مشاركًا في قتله لم يكن فعلُه بنفسه مضمونًا، كما [270/ب] لو قطَع طرفَ نفسه أو أتلفَ مال نفسه. فقضاءُ عليٍّ أقرب إلى القياس من هذا بكثير.
وهو أولى أيضًا من أن يُحمَل فعلُ المقتول على عواقل الآخرين، كما قاله أبو الخطاب في مسألة المنجنيق: أنه يلغى فعلُ المقتول في نفسه، وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين. وهذا أبعد عن القياس مما قبله، إذ كيف تتحمل العاقلة والأجانب جناية الإنسان على نفسه، ولو تحملتها العاقلة لكانت عاقلته أولى بتحمُّلها. وكلا القولين يخالف القياس، فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين رضي الله عنه.
وهو أحسن أيضًا
(1)
من تحميل دية الرابع لعاقلة الثالث، وتحميل دية الثالث لعاقلة الثاني، وتحميل دية الثاني لعاقلة الأول، وإهدار دية الأول
(1)
ع: «أيضًا أحسن» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
بالكلية. فإن هذا القول وإن كان له حظٌّ من القياس، فإن الأول لم يَجْنِ عليه أحد، وهو الجاني على الثاني فديته على عاقلته، والثاني على الثالث، والثالث على الرابع، والرابعُ لم يَجْنِ على أحد فلا شيء عليه. فهذا قد تُوُهِّمَ
(1)
أنه في ظاهر القياس أصحُّ من قضاء أمير المؤمنين، ولهذا ذهب إليه كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم؛ إلا أن ما قضى به عليٌّ أفقه، فإن الحاضرين ألجؤوا الواقفين بمزاحمتهم لهم، فعواقلهم أولى بحمل الدية من عواقل الهالكين، وأقرب إلى العدل من أن يجمع عليهم بين هلاك أوليائهم وحمل دياتهم، فتتضاعف عليهم المصيبة، ويُكسَروا [271/أ] من حيث ينبغي جبرُهم. ومحاسن الشريعة تأبى ذلك، وقد جعل الله سبحانه لكلِّ مصاب حظًّا من الجبر، وهذا أصلُ شرعِ حملِ العاقلة الدية جبرًا للمصاب وإعانةً له.
وأيضًا فالثاني والثالث كما هما مجنيٌّ عليهما، فهما جانيان على أنفسهما وعلى من جذَباه، فحصل هلاكهم بفعل بعضهم ببعض، فألغى ما قابل فعلَ كلِّ واحد بنفسه، واعتبر جناية الغير عليه.
وهو أيضًا أحسن من تحميل دية الرابع لعواقل الثلاثة، ودية الثالث لعاقلة الثاني والأول، ودية الثاني لعاقلة الأول خاصة؛ وإن كان له أيضًا حظٌّ من قياس تنزيلًا لسبب السبب منزلة السبب. وقد اشترك في هلاك
(2)
الرابع الثلاثة الذين قبله، وفي هلاك الثالث الاثنان، وانفرد بهلاك الثاني الأول. ولكن قول عليٍّ أدقُّ وأفقَهُ.
(1)
لم يعجم حرف المضارعة في ح. وفي المطبوع: «يوهم» .
(2)
ما عدا ع: «هذا» .
فصل
ومما يُظَن أنه يخالف القياس: ما رواه عليُّ بن رباح اللَّخْمي أن رجلًا كان يقود أعمى، فوقعا في بئر، فخرَّ البصير، ووقع الأعمى فوقه، فقتله. فقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى. فكان الأعمى يدور في الموسم، ويُنشد:
يا أيها الناس لقيتُ منكَرا
هل يعقِل الأعمى الصحيحَ المُبْصِرا
خرَّا معًا كلاهما تكسَّرا
(1)
وقد اختلف الناس في هذه المسألة، فذهب إلى قضاء عمر هذا عبد الله بن الزبير، وشريح، وإبراهيم النخعي، والشافعي، وإسحاق، وأحمد.
وقال بعض الفقهاء: القياس [271/ب] أنه ليس على الأعمى
(2)
ضمان البصير، لأنه الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه، وكان سبب وقوعه عليه.
(1)
رواه الدارقطني (3154) ــ ومن طريقه البيهقي (8/ 112) ــ، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (15/ 310 - 311). ورواه ابن أبي شيبة (28457) لكن الخبر عنده مختصَرٌ معتصَرٌ جدًّا، بيد أن وكيعًا تداركه بالشرح والإيضاح! خلافًا لأبي صالح وابن الحُباب ساقا الحكاية مُجوَّدةً على نَسَقٍ. وقد حسّن ابنُ كثيرٍ سندَ القصّة في «مسند الفاروق» (2/ 274)، مع أنّ السندَ منقطعٌ. وللقصّة طريق أخرى رواها ابن وهب عن الليث بن سعد، لكنها معضلةٌ ظاهرةُ الإعضالِ. ويُنظر:«المحلى» لابن حزم (10/ 506)، و «التلخيص الحبير» لابن حجر (4/ 69).
(2)
في «المغني» (12/ 85) ــ وهو مصدر النقل ــ: «ولو قال قائل: ليس على الأعمى» .
ولذلك
(1)
لو فعله قصدًا
(2)
لم يضمنه بغير خلاف، وكان عليه ضمان الأعمى. ولو لم يكن سببًا لم يلزمه ضمانٌ بقصده. قال أبو محمد المقدسي في «المغني»
(3)
: لو قيل هذا لكان له وجه، إلا أن يكون مجمعًا عليه فلا يجوز مخالفة الإجماع.
والقياسُ حكمُ عمر، لوجوه
(4)
:
أحدها: أن قوده له مأذون فيه من جهة الأعمى، وما تولَّد من مأذون فيه لم يضمن كنظائره.
الثاني: أنه
(5)
قد يكون قوده له مستحبًّا أو واجبًا. ومَن فعَلَ ما وجب عليه أو نُدِب إليه لم يلزمه ضمانُ ما تولَّد منه.
الثالث: أنه قد اجتمع على ذلك الإذنان: إذن الشارع، وإذن الأعمى. فهو محسِن بامتثال أمر الشارع، محسِن إلى الأعمى بقوده له، وما على المحسنين من سبيل. وأما الأعمى فإنه سقط على البصير، فقتله، فوجب عليه ضمانه؛ كما لو سقط إنسان من سطح على آخر، فقتله. فهذا هو القياس.
وقولهم: «هو الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه» ، فهذا لا يوجب
(1)
ع: «وكذلك» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي «المغني» كما أثبت.
(2)
في النسخ المطبوعة بعده: «منه» . ولم يرد في «المغني» ولا النسخ الخطية.
(3)
انظر: (12/ 84 - 85) والكلام متصل. وبدايته من قوله: «علي بن رباح اللخمي أن رجلًا
…
».
(4)
الوجهان الأولان مأخوذان من «المغني» .
(5)
«أنه» ساقط من النسخ المطبوعة.
الضمان
(1)
؛ لأن قوده مأذون فيه من جهته ومن جهة الشارع. وقولهم: «ولذلك
(2)
لو فعله قصدًا لم يضمنه»، فصحيحٌ لأنه مسيء وغير مأذون له في ذلك، لا من جهة الأعمى ولا من جهة الشارع.
فالقياس المحض قول عمر. وبالله التوفيق.
فصل
ومما
(3)
أشكل على جمهور الفقهاء [272/أ] وظنوه في غاية البعد عن القياس: الحكم الذي حكم به عليُّ بن أبي طالب في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد، ثم تنازعوا الولد، فأقرَعَ بينهم فيه
(4)
.
ونحن نذكر هذه الحكومة، ونبيِّن مطابقتها للقياس. فذكر أبو داود والنسائي
(5)
من حديث عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم قال: كنت
(1)
يعني: على البصير.
(2)
في النسخ المطبوعة: «وكذلك» ، والصواب ما أثبت كما سبق.
(3)
ح، ف:«وما» .
(4)
وانظر: «زاد المعاد» (5/ 384 - 387) و «تهذيب السنن» (1/ 561 - 564) و «الطرق الحكمية» (2/ 614 - 620).
(5)
رواه أحمد (19342، 19344)، وأبو داود (2269)، والنسائي (3489، 3490)، وفي «السنن الكبرى» (5653، 5995) من طرق عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد الله بن (أبي) الخليل، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه. وعبد الله هذا مجهول الحال، والأجلح هو ابن عبد الله الكندي، وهو صدوقٌ، فيه لِينٌ، وقد اختُلف عليه في سنده، فرواه على هذا الوجه، ورُوي أيضًا عنه، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، كذا رواه أحمد (19329). وقد خالفه الثقة الثبت المُتقِن سلمة (وهو ابنُ كُهَيْلٍ)، فرواه عن الشعبي، عن (أبي) الخليل ــ أو ابن (أبي) خليل ــ فذكره موقوفا، ولم يرفعه، ولا أسنده عن زيد بن أرقم، ولا ذكر (اليمن)، ولا قوله:«طِيبَا بالولد» . كذا رواه أبو داود (2271)، والنسائي (3492)، وفي «السنن الكبرى» (5656) من طريق شعبة (وهو ابن الحجّاج)، عن سلمة به. وقال النسائي:«وسلمة بن كُهيل أثبتُهم، وحديثُه أولى بالصواب، والله أعلم» . وكذا رجّح هذا أبو حاتم الرازي [كما في «العلل» لابنه عبد الرحمن (1204)]، والبيهقي (10/ 267). ونقل ابن عبد الهادي في المحرر (1081) قول الإمام أحمد:«هو حديث منكر» . أما الحاكم، فصحّحه (2/ 207).
ويُنظر: «الضعفاء» للعقيلي (1/ 357، 358، 3/ 302 - 303)، و «العلل» لابن أبي حاتم (2317)، و «العلل» للدارقطني (3/ 117 - 119)، و «السنن الكبير» للبيهقي (10/ 267 - 268).
جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليًّا يختصمون إليه في ولد، قد وقعوا على امرأة في طهر واحد. فقال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، فغلَبا
(1)
. ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، فغلَبا ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، فقالا: لا. فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مُقرع بينكم، فمن قرَع فله الولد، وعليه لصاحبيه ثلثا الدية. فأقرع بينهم، فجعله لمن قرَع. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه.
وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح، ولا يحتج بحديثه.
لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلُّهم ثقات إلى عبد خير عن زيد بن أرقم، قال: أُتي عليٌّ بثلاثة ــ وهو باليمن ــ وقعوا على امرأة في طهر واحد،
(1)
كذا في النسخ الخطية هنا وفيما بعد. وكذا في بعض نسخ «سنن أبي داود» كما في «عون المعبود» (6/ 257). واللفظ المشهور: «فغلَيا» من الغليان. وفي النسخ المطبوعة: «فقالا: لا» ، والظاهر أنه تصرف من بعض النساخ أو الناشرين.
فقال لاثنين: أتقِرَّان لهذا؟ قالا: لا، حتى سألهم جميعًا. فجعل كلَّما سأل اثنين قالا: لا. فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت له القرعة، وجعل
(1)
عليه ثلثي
(2)
الدية. فذُكِر ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت [272/ب] نواجذه
(3)
.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم فيكون مرسلًا. قال النسائي: وهذا أصوب. قلت: وهذا ليس بعلة، ولا يوجب إرسالًا في الحديث، فإن عبد خير سمع من علي، وهو صاحب القصة. فهَبْ أن زيد بن أرقم لا ذكر له في المتن، فمن أين يجيء الإرسال؟
وبعد، فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث. فذهب إلى القول به
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة «لصاحبيه» .
(2)
في النسخ الخطية: «ثلثا» ، ويصح نائب فاعل، ولكن السياق يقتضي ما أثبت من «السنن» .
(3)
رواه أبو داود (2270) وابن ماجه (2348)، والنسائي (3488)، وفي «السنن الكبرى» (5652، 5993)، وهذا الوجه ممّا أغرب به عبد الرزاق عن الثوري! وقد قال البيهقي (10/ 267):«هذا الحديث ممّا يُعَدُّ في أفراد عبد الرزاق عن سفيان الثوري» . وعفا الله عن ابن حزم القائل في «المحلى» (10/ 150): «وهذا خبرٌ مستقيم السند» ! وتبعه عبد الحق الإشبيلي، فقال في «الأحكام الوسطى» (3/ 220):«إسناده صحيح» . وصحّحه أيضًا ابن القطان الفاسي في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 433). وقد أغرب عبد الرزاق عن الثوري أيضًا بوجهٍ آخرَ، ساقه عنه أحمد (19329). وقد قال النسائي في «السنن الكبرى» عَقِبَ الحديث (5654):«هذه الأحاديث كلّها مضطربة الأسانيد» . وذكر نحوَه العقيلي في «الضعفاء» (3/ 303).
إسحاق بن راهويه، وقال: هو السنة في دعوى الولد
(1)
. وكان الشافعي يقول به في القديم
(2)
. وأما الإمام أحمد فسئل عنه فرجَّح عليه حديث القافة، وقال: حديث القافة أحبُّ إلي
(3)
.
وهاهنا أمران. أحدهما: دخول القرعة في النسب. والثاني: تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه. وكلٌّ منهما بعيد عن القياس، فلذلك قالوا: هذا من أبعد شيء عن القياس.
فيقال: القرعة قد تستعمل عند فقدان مرجِّحٍ سواها من بينة أو إقرار أو قافة. وليس ببعيد تعيينُ المستحق بالقرعة في هذه الحال، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى. ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة، فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرَّد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى.
وأما أمر الدية فمشكل جدًّا، فإن هذا ليس بقتل يوجب الدية، وإنما هو تفويت [273/أ] نسبه بخروج القرعة له. فيمكن أن يقال: وطءُ كلِّ واحدٍ صالحٌ لجعل الولد له، فقد فوَّته كلُّ واحد منهم على صاحبه بوطئه، ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم. فلما أخرجته القرعة لأحدهم صار مفوِّتًا لنسبه عن
(4)
صاحبيه، فأُجري ذلك مجرى إتلاف الولد، ونُزِّل الثلاثة منزلة أب واحد، فحصة المتلِف منه ثلث الدية، إذ قد عاد الولد له، فيغرم لكلٍّ من
(1)
انظر: «مسائل الكوسج» (4/ 1677). والنقل من «معالم السنن» (3/ 277).
(2)
«معالم السنن» (3/ 277).
(3)
«مسائل الكوسج» (4/ 1667). وانظر: «معالم السنن» (3/ 277).
(4)
في النسخ المطبوعة: «على» .
صاحبيه ما يخصُّه، وهو ثلث الدية.
ووجه آخر أحسن من هذا: أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوقِ الولد به وجب عليه ضمانُ قيمته. وقيمة الولد شرعًا هي ديته، فلزمه لهما ثلثا قيمته وهي ثلثا الدية. وصار هذا كمن أتلف عبدًا بينه وبين شريكين له، فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه. فإتلافُ الولد الحرِّ عليهما بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم.
ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة لما فات رقُّهم على السيد بحريتهم، وكانوا بصدد أن يكونوا أرِقَّاء له. وهذا من ألطف ما يكون من القياس وأدقِّه، ولا يهتدي إليه إلا أفهام الراسخين في العلم. وقد ظن طائفة أن هذا أيضًا على خلاف القياس، وليس كما ظنوه
(1)
، بل هو محض الفقه، فإن الولد تابع للأم في الحرية والرق، ولهذا ولدُ الحرِّ من أمة الغير رقيق، وولدُ العبد من الحُرَّة حُرّ.
قال الإمام أحمد
(2)
: إذا تزوج الحُرُّ بالأمة رقَّ نصفُه، وإذا تزوج [273/ب] العبدُ بالحرة عتَق نصفُه. فولد الأمة المزوَّجة بهذا المغرور كانوا بصدد أن يكونوا أرِقَّاء لسيدها، ولكن لما دخل الزوج على حرية المرأة دخل على أن يكون أولاده أحرارًا، والولد يتبع اعتقاد الواطئ، فانعقد ولده أحرارًا. وقد فوَّتهم على السيد، وليس مراعاة أحدهما بأولى من مراعاة الآخر، ولا تفويتُ حقِّ أحدهما بأولى من حق صاحبه. فحفِظ الصحابةُ الحقَّين، وراعوا الجانبين، فحكموا بحرية الأولاد وإن كانت أمهم رقيقة؛
(1)
في النسخ المطبوعة: «ظنوا» .
(2)
في رواية ابن هانئ. انظر «مسائله» (ص 249).
لأن الزوج إنما دخل على حرية أولاده، ولو توهم رقَّهم لم يدخل على ذلك. ولم يضيِّعوا حقَّ السيد، بل حكموا على الواطئ بفداء أولاده، وأعطَوا العدل حقَّه؛ فأوجبوا فداءهم بمثلهم تقريبًا لا بالقيمة. ثم وفوا العدل بأن مكَّنوا المغرور من الرجوع بما غرِمه على من غرَّه؛ لأن غُرمه كان بسبب غروره. والقياس والعدل يقتضي أن من تسبَّب إلى إتلاف مال شخص أو تغريمه أنه يضمن ما غرِمه، كما يضمن ما أتلفه؛ إذ غايته أنه إتلافٌ بسبب، وإتلافُ المتسبِّب
(1)
كإتلاف المباشر في أصل الضمان.
فإن قيل: وبعد ذلك كلّه، فهذا خلاف القياس أيضًا. فإن الولد كما هو بعض الأم وجزء منها، فهو بعض الأب. وبعضيَّتُه للأب أعظم من بعضيَّته للأم. ولهذا إنما يذكر الله سبحانه في كتابه تخليقه من ماء الرجل كقوله:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) [274/أ] خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7]، وقوله:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] ونظائرها من الآيات التي إن لم تختص بماء الرجل فهي فيه أظهر. وإذا كان جزءً من الواطئ وجزءً من الأم فكيف كان ملكًا لسيِّد الأم دون سيِّد الأب؟ ويخالف القياس من وجه آخر، وهو أن الماء بمنزلة البَذْر، ولو أن رجلًا أخذ بذرَ غيره، فزرَعه في أرضه، كان الزرع لصاحب البذر، وإن كان عليه أجرة الأرض.
قيل: لا ريب أن الولد منعقد من ماء الأب كما هو منعقد من ماء الأم، ولكن إنما تكوَّن وصار مالًا متقوِّمًا في بطن الأم. فالأجزاء التي صار بها
(1)
في المطبوع: «المسبِّب» .
كذلك من الأم أضعاف أضعاف الجزء الذي من الأب، مع مساواتها له في ذلك الجزء؛ فهو إنما تكوَّن في أحشائها من لحمها ودمها. ولما وضعه الأب لم يكن له قيمة أصلًا، بل كان كما سمَّاه الله ماءً مهينًا لا قيمة له. ولهذا لو نزا فحلُ رجل على رَمَكةِ آخر كان الولد لمالك الأم باتفاق المسلمين. وهذا بخلاف البذر فإنه مال متقوِّم، له قيمة قبل وضعه في الأرض يعاوض عليه بالأثمان، وعَسْبُ الفحل لا يعاوض عليه، فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس.
فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في النسب، وجعلتموه للأم كما جعلتموه للأب!
قيل: قد اتفق المسلمون على أن النسب للأب، كما اتفقوا على أنه يتبع الأم في الحرية والرق. وهذا هو الذي تقتضيه حكمة الله شرعًا وقدرًا، [274/ب] فإن الأب هو المولود له، والأم وعاء وإن تكوَّن فيها. والله سبحانه جعل الولد خليفة أبيه، ونسخته
(1)
، والقائم مقامه، ووضع الأنساب بين عباده. فيقال: فلان بن فلان، ولا تتم مصالحهم وتعارفهم ومعاملاتهم إلا بذلك، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. فلولا ثبوت الأنساب من قبل الآباء لما حصل التعارف، ولفسد نظام العباد. فإن النساء محتجبات مستورات عن
(1)
في النسخ المطبوعة: «شجنته» . وما أثبت من النسخ الخطية موافق لما جاء في «الطرق الحكمية» (2/ 578): «فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بكون الولد نسخة أبيه» .
العيون، فلا يمكن في الغالب أن تعرف عينُ الأم، ليُشهد
(1)
على نسب الولد منها. فلو جعلت الأنساب للأمهات لضاعت وفسدت، وكان ذلك مناقضًا للحكمة والرحمة والمصلحة.
ولهذا إنما يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم، لا بأمهاتهم. قال البخاري في «صحيحه»
(2)
: «باب يدعى الناس بآبائهم يوم القيامة» . ثم ذكر حديث: «لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان»
(3)
.
فكان من تمام الحكمة أن جعل الحرية والرق تبعًا للأم، والنسب تبعًا للأب. والقياس الفاسد إنما يجمع بين ما فرَّق الله بينه، أو يفرِّق بين ما جمع الله بينه.
فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في الولاء، بل جعلتموه لموالي الأم، والولاءُ لُحمةٌ كلُحمة النسب!
قيل: لما كان الولاء من آثار الرِّقِّ وموجباته كان تابعًا له في حكمه، فكان لموالي الأم. ولما كان فيه شائبة النسب، وهو لُحمةٌ كلُحمته، رجع إلى موالي الأب عند [275/أ] انقطاعه عن موالي الأم، فرُوعِيَ فيه الأمران، ورُتِّب عليه الأثران.
(1)
في النسخ المطبوعة: «فيشهد» .
(2)
قبل الحديث برقم (6177).
(3)
هذا اللفظ ملفق من حديث ابن عمر عند البخاري (6177) ومسلم (1735) وحديث أبي سعيد عند مسلم (1738) وأحمد (6093) والترمذي (2191).
فإن قيل: فهلا جعلتم الولد في الدين تابعًا لمن له النسب، بل ألحقتموه بأبيه تارةً وبأمه تارةً!
قيل: الطفل لا يستقلُّ بنفسه، بل لا يكون إلا تابعًا لغيره. فجعله الشارع تابعًا لخير أبويه في الدين تغليبًا لخير الدِّينَين، فإنه إذا لم يكن له بدٌّ من التبعية لم يجُز أن يتبع مَن هو على دين الشيطان، وتنقطع تبعيته عمن هو على دين الرحمن؛ فهذا محال في حكمة الله تعالى وشرعه.
فإن قيل: فاجعلوه تابعًا لسابيه في الإسلام وإن كان معه أبواه أو أحدهما، فإن تبعيته لأبويه قد انقطعت، وصار السابي
(1)
أحقَّ به.
قيل: نعم، وهكذا نقول سواء. وهو قول إمام أهل الشام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ونصَّ عليه أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
. وقد أجمع الناس على أنه يُحكَم بإسلامه تبعًا لسابيه إذا سُبي وحده. قالوا: لأن تبعيته قد انقطعت عن أبويه وصار تابعًا لسابيه.
واختلفوا فيما إذا سُبي مع أحدهما على ثلاثة مذاهب
(3)
:
أحدها: يُحكَم بإسلامه. نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين، وهي المشهورة من مذهبه. وهو قول الأوزاعي.
والثاني: لا يحكم بإسلامه، لأنه لم ينفرد عن أبويه.
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «هو» .
(2)
انظر: «مختصر الفتاوى المصرية» (ص 505).
(3)
انظر: «المغني» (13/ 112).
والثالث: أنه إن سُبي مع الأب تبعه في دينه. وإن سُبي مع الأم وحدها فهو مسلم. وهو قول مالك.
وقول الأوزاعي وفقهاء الثغر
(1)
أصح وأسلم من [275/ب] التناقض، فإن السابي قد صار أحقَّ به، وقد انقطعت تبعيته لأبويه، ولم يبق لهما عليه حكم. فلا فرق بين كونهما في دار الحرب، وبين كونهما أسيرين في أيدي المسلمين. بل انقطاعُ تبعيته لهما في حال أسرهما وقهرهما وإذلالهما واستحقاق قتلهما أولى من انقطاعها حال قوة شوكتهما وخوف معرَّتهما. فما الذي يسوِّغ له الكفر بالله والشرك به وأبواه أسيران في أيدي المسلمين، ومنعَه من ذلك وأبواه في دار الحرب؟ وهل هذا إلا تناقض محض؟
وأيضًا، فيقال لهم: إذا سُبي الأبوان ثم قُتلا، فهل يستمرُّ الطفل على كفره عندكم، أو تحكمون بإسلامه؟ فمن قولكم: أنه يستمر على كفره كما لو ماتا. فيقال: وأيُّ كتاب أو سنة أو قياس صحيح أو معنى معتبر أو فرق مؤثِّر بين أن يُقتلا في حال الحرب أو بعد الأسر والسبي؟ وهل يكون
(2)
المعنى الذي حُكم بإسلامه لأجله إذا سُبي وحده زائلًا بسبائهما ثم قتلهما بعد ذلك؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلين؟
وأيضًا فهل تعتبرون وجود الطفل والأبوين في ملك سابٍ واحدٍ، أو يكون معهما في جملة العسكر؟ فإن اعتبرتم الأول طولبتم بالدليل على ذلك. وإن اعتبرتم الثاني، فمن المعلوم انقطاعُ تبعيته لهما واستيلائهما عليه، واختصاصُه بسابيه، ووجودُهما بحيث لا يُمَكَّنان منه ومن تربيته وحضانته.
(1)
في النسخ المطبوعة: «أهل الثغر» بزيادة كلمة «أهل» .
(2)
«يكون» ساقط من ح، ف.
واختصاصُهما به لا أثر له، وهو كوجودهما في دار الحرب سواء.
وأيضًا فإن الطفل [276/أ] لما لم يستقِلَّ بنفسه لم يكن
(1)
بدٌّ من جعلِه تابعًا لغيره. وقد دار الأمر بين أن يُجعل تابعًا لمالكه وسابيه ومن هو أحقُّ الناس به، وبين أن يُجعل تابعًا لأبويه ولا حقَّ لهما فيه بوجه. ولا ريب أن الأول أولى.
وأيضًا فإن ولاية الأبوين قد زالت بالكلية، وقد انقطع الميراث وولاية النكاح وسائر الولايات، فما بال ولاية الدين الباطل باقية وحدها؟ وقد نصَّ الإمام أحمد
(2)
على منع أهل الذمة أن يشتروا رقيقًا من سبي المسلمين. وكتب بذلك عمر بن الخطاب إلى الأمصار
(3)
، واشتهر ولم ينكره منكر فهو إجماع من الصحابة، وإن نازع فيه بعض الأئمة. وما ذاك إلا أن في تمليكه للكافر ونقله عن يد المسلم قطعًا
(4)
لما كان بصدده من مشاهدة معالم الإسلام وسماعه للقرآن
(5)
. فربما دعاه ذلك إلى اختياره، فلو كان تابعًا لأبويه على دينهما لم يُمْنَعا من شِراه
(6)
، وبالله التوفيق.
(1)
في النسخ الخطية: «ولم يكن» .
(2)
في رواية ابنه عبد الله. انظر: «مسائله» (ص 249).
(3)
قال الإمام أحمد: «ويُروى عن إسماعيل بن عياش بإسنادٍ له: أن عمر كتب ينهى أن تُباع النصرانية من النصراني» . انظر: «مسائل عبد الله» (ص 249) و «أحكام أهل الملل» من «الجامع» للخلال (691).
(4)
في المطبوع: «قطع» بالرفع!
(5)
في النسخ المطبوعة: «القرآن» .
(6)
في المطبوع: «شراء» ، ولعله من أخطاء الطبع.
فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو مات الأبوان أن تحكموا بإسلام الطفل لانقطاع تبعيته للأبوين، ولا سيما وهو مسلم بأصل الفطرة، وقد زال معارض الإسلام، وهو تهويد الأبوين وتنصيرهما.
قيل: قد نصَّ على ذلك الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه
(1)
، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم:«ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» . فإذا لم يكن له [276/ب] أبوان، فهو على أصل الفطرة، فيكون مسلمًا.
فإن قيل: فهل تطردون هذا فيما لو انقطع نسبه عن الأب مثل كونه ولد زنًا أو منتفيًا
(2)
بلعان؟
قيل: نعم، لوجود المقتضي لإسلامه بالفطرة، وعدم المانع وهو وجود الأبوين. ولكن الراجح في الدليل قول الجمهور، وأنه لا يُحكَم بإسلامه بذلك. وهو الرواية الثانية عنه، اختارها شيخ الإسلام
(3)
.
وعلى هذا، فالفرق بين هذه المسألة ومسألة المسبيِّ أن المسبي قد انقطعت تبعيته لمن هو على دينه، وصار تابعًا لسابيه المسلم؛ بخلاف من مات أبواه أو أحدهما، فإنه تابع لأقاربه أو وصي أبيه. فإن انقطعت تبعيته لأبويه، فلم تنقطع لمن يقوم مقامها من أقاربه وأوصيائه
(4)
. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبر
(1)
انظر: «الروايتين والوجهين» (2/ 370) و «أحكام أهل الذمة» (2/ 935).
(2)
ت: «منفيًّا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
انظر: «اختيارات البعلي» (ص 612).
(4)
في النسخ المطبوعة: «أو أوصيائه» .
عن تهويد الأبوين وتنصيرهما بناءً على الغالب، وهذا لا مفهوم له لوجهين: أحدهما أنه مفهوم لقب. الثاني
(1)
: أنه خرج مخرج الغالب.
ومما يدل على ذلك: العمل المستمرّ من عهد الصحابة وإلى اليوم بموت أهل الذمة وتركهم الأطفال. ولم يتعرَّض أحد من الأئمة ولا ولاة الأمور لأطفالهم، ولم يقولوا: هؤلاء مسلمون. ومثل هذا لا يُهمله الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين
(2)
.
فإن قيل: فهل تطردون هذا الأصل في جعله تبعًا للمالك، فتقولون: إذا اشترى المسلم طفلًا كافرًا يكون مسلمًا تبعًا له، أو تتناقضون فتفرِّقون بينه وبين السابي؟ وصورة المسألة فيما إذا زوَّج الذميُّ [277/أ] عبدَه الكافر من أمته فجاءت بولد، أو تزوج الحرُّ منهم بأمة، فأولدها= ثم باع السيِّد هذا الولد لمسلم.
قيل: نعم نطرده، ونحكم بإسلامه. قاله شيخنا قدَّس الله روحه. ولكن جادة المذهب أنه باقٍ على كفره كما لو سُبِيَ مع أبويه وأولى. والصحيح قول شيخنا، لأن تبعيته للأبوين قد زالت، وانقطعت الموالاة والميراث والحضانة بين الطفل والأبوين، وصار المالك أحقَّ به، وهو تابع له، فلا يُفرَد عنه بحكم، فكيف يُفرَد عنه في دينه؟ وهذا طردُ الحكم بإسلامه في مسألة السباء. وبالله التوفيق.
فصل
فهذه نبذة يسيرة تُطلعك على ما وراءها، من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجودًا وعدمًا؛ كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجودًا وعدمًا، فلم يخبر الله ولا رسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل.
ولنفاة الحكم والتعليل والقياس هاهنا سؤال مشهور، وهو أن الشريعة قد فرَّقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين؛ فإن الشارع
(1)
:
فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمدًا وهو طاهر، دون البول والمذي وهو نجس.
وأوجب غسلَ الثوب من بول الصبية، والنضحَ من بول الصبي، مع تساويهما.
ونقَص الشطرَ من صلاة المسافر الرُّباعية، وأبقى الثلاثية [277/ب] والثنائية على حالهما.
وأوجب الصوم
(2)
على الحائض دون الصلاة، مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها.
(1)
انظر جملة من المسائل الآتية في «الفصول» للجصاص (4/ 85) و «المحصول» للرازي (5/ 107) و «الإحكام» للآمدي (4/ 8، 59).
(2)
في النسخ المطبوعة: «قضاء الصوم» ، والظاهر أن الزيادة من تصرف بعض النساخ أو الناشرين. وانظر:«الإحكام» للآمدي (4/ 8) وهو مصدر النقل.
وحرَّم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرةً، وجوَّزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال.
وقطع سارق ثلاثة دراهم، دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها؛ ثم جعل ديتها خمسمائة دينار، فقطعها في ربع دينار، وجعل ديتها هذا القدر الكبير.
وأوجب حدَّ الفرية على من قذف غيره بالزنا، دون من قذفه بالكفر وهو شرٌّ منه.
واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا، والقتلُ أكبر من الزنا.
وجلَد قاذف الحُرّ الفاسق، دون العبد العفيف الصالح.
وفرَّق في العدَّة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما.
وجعل عدّة الحرة ثلاث حِيَض، واستبراء الأمة بحيضة، والمقصود العلم ببراءة الرحم.
وحرَّم المطلَّقة ثلاثًا على الزوج المطلِّق، ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره، وحالُها في الموضعين واحدة.
وأوجب غسل غير الموضع الذي خرجت منه الريح، ولم يوجب غسله.
ولم يعتبر توبة القاتل وندمه قبل القدرة عليه، واعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه.
وقبل شهادة العبد والمملوك عليه بأنه صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، ولم يقبل شهادته على آحاد الناس أنه قال كذا وكذا.
وأوجب الصدقة في السوائم، وأسقطها عن العوامل.
وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تُحَصِّن [278/أ] الرجلَ، والأمة البارعة الجمال لا تُحَصِّن.
ونقَض الوضوءَ بمسِّ الذكر، دون مسِّ سائر الأعضاء، ودون مسِّ العذِرة والدم.
وأوجب الحدَّ في القطرة الواحدة من الخمر، ولم يوجبه بالأرطال الكثيرة من الدم والبول.
وقصر عدد المنكوحات على أربع، وأطلق ملك اليمين من غير حَصْر.
وأباح للرجل أن يتزوج أربعًا، ولم يبح للمرأة إلا رجلًا واحدًا، مع وجود الشهوة وقوة الداعي من الجانبين.
وجوَّز للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وغيره، ولم يجوِّز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره.
وفرَّق بين الطلقة الثالثة والثانية في تحريمها على المطلِّق بالثالثة دون الثانية.
وفرَّق بين لحم الإبل ولحم الغنم والبقر والجواميس وغيرها، فأوجب الوضوء من لحم الإبل وحده.
وفرَّق بين الكلب الأسود والأبيض في قطع الصلاة بمرور الأسود وحده.
وفرَّق بين الريح الخارجة من الدبر، فأوجب بها الوضوء؛ وبين الجشوة الخارجة من الحلق، فلم يوجب بها الوضوء.
وأوجب الزكاة في خمس من الإبل، وأسقطها عن عدَّة آلاف من الخيل.
وأوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العُشْر، وفي الزروع والثمار العُشْرَ أو نصفه، وفي المعدن الخُمْس.
وأوجب في أول نصاب من الإبل من غير جنسها، وفي أول نصاب من البقر والغنم من [278/ب] جنسه.
وقطع يدَ السارق لكونها آلة المعصية، فأذهب العضو الذي تعدَّى به على الناس، ولم يقطع اللسان الذي يقذف به المحصنات الغافلات، ولا الفرج الذي يرتكب به المحارم
(1)
.
وأوجب على الرقيق نصفَ حدِّ الحُرِّ، مع أن حاجته إلى الزجر عن المحارم كحاجة الحُرِّ.
وجعل للقاذف إسقاط الحَدِّ باللعان في الزوجة دون الأجنبيه، وكلاهما قد ألحق به
(2)
العار.
وجوَّز للمسافر المترفِّه في سفره رخصةَ القصر والفطر، دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة في سببه
(3)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: «المحرم» .
(2)
في النسخ: «بها» ، وكذا في المطبوع. والمثبت من الطبعات القديمة. وكذا في النسخ:«كلاهما» .
(3)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة.
وأوجب على كلِّ من نذر لله طاعةً الوفاءَ بها، وجوَّز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفِّر يمينه؛ وكلاهما قد التزم فعلَها لله.
وحرَّم الذئب والقرد وما له ناب من السباع، وأباح الضبع
(1)
ولها ناب تكسِر به.
وجعل شهادة خزيمة بن ثابت وحده بشهادتين، وغيرُه من الصحابة أفضل منه، وشهادته بشهادةٍ
(2)
.
ورخَّص لأبي بُردَة بن نِيَار في التضحية بالعَناق، وقال:«لن تجزئ عن أحد بعدك»
(3)
.
وفرَّق بين صلاة الليل والنهار في السرِّ والجهر، ثم شرع الجهرَ في بعض صلاة النهار كالجمعة والعيدين.
وورَّث ابنَ ابنِ العَمِّ وإن بعدت درجته، دون الخالة التي هي شقيقة الأم.
وحرَّم أخذ مال الغير إلا بطيب نفسه، وسلَّطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة. ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر [279/أ] الشركة بقسمته، دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان، وهو أولى بالشفعة.
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «على قول» ، ولعلها كانت حاشية فدخلت في النص.
(2)
في النسخ المطبوعة: «بشهادة واحد» .
(3)
أخرجه البخاري (955) ومسلم (1961) من حديث البراء بن عازب. والعناق: الأنثى من ولد المعز.
وحرَّم صومَ أولِ يومٍ من شوال، وفرض صومَ آخرِ يومٍ من رمضان، مع تساوي اليومين.
وحرَّم على الإنسان نكاح بنت أخته وأخيه
(1)
، وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وأخت أمه.
وحمل العاقلة ضمان جناية الخطأ على النفوس، دون الجناية على الأموال.
وحرَّم وطء الحائض لأذى الدم، وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى.
ومنع بيعَ مُدِّ حنطةٍ بمُدٍّ وحُفنة، وجوَّز بيعَ مدِّ حنطة بصاع فأكثر من الشعير. فحرَّم ربا الفضل في الجنس الواحد، دون الجنسين.
ومنع المرأة من الإحداد على أبيها وابنها فوق ثلاثة أيام، وأوجب عليها أن تُحِدَّ على الزوج وهو أجنبي أربعة أشهر وعشرًا.
وسوَّى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والغسل والصلاة والصوم والزكاة والحج وفي العقوبات كالحدود، ثم جعلها على النصف من الرجل في الدية والشهادة والميراث والعقيقة.
وخصَّ بعض الأزمنة على بعض
(2)
وبعض الأمكنة على بعض بخصائص مع تساويها. فجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وجعل
(1)
ت، ع:«أخيه وأخته» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. وكأنه ضمَّن «خصَّ» معنى التفضيل.
شهر رمضان سيد الشهور، ويوم الجمعة سيد الأيام، ويوم عرفة ويوم النحر وأيام منى أفضل الأيام، وجعل مكان البيت أفضل بقاع الأرض.
قالوا: وإذا كانت الشريعة قد [279/ب] جاءت بالتفريق بين المتماثلاث والجمع بين المختلفات، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال وفي قتل الصيد، وجمعت بين العاقل والمجنون والطفل والبالغ في وجوب الزكاة، وجمعت بين الهرة والفأرة في طهارة كلٍّ منهما، وجمعت بين الميتة وذبيحة المجوسي في التحريم، وبين ما مات من الصيد أو ذبحه المحرم في ذلك، وبين الماء والتراب في التطهير= بطل القياس، فإن مبناه على هذين الحرفين، وهما أصل قياس الطرد وقياس العكس.
والجواب أن يقال: الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله. وآن لحزب الحق أن لا تأخذه
(1)
في الله لومة لائم، وأن لا يتحيَّزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا الله ورسوله بكلِّ قولٍ حقٍّ قاله من قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنًا من كان، ويردُّون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا ما كان. فهذه طريقة أهل العصبية وحمية الجاهلية
(2)
. ولَعمرُ الله إن صاحب هذه الطريقة لَمضمونٌ له الذمُّ، وغير ممدوح إن أصاب. وهذه
(3)
حالٌ لا يرضى بها مَن نصح نفسَه وهُديَ لرشده، والله الموفق.
(1)
ت، ع:«تأخذهم» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: «أهل الجاهلية» بزيادة كلمة «أهل» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «وهذا» .
وجواب هذا السؤال من طريقين: مجمل ومفصل:
أما المجمل فهو أن ما ذكرتم من الصور وأضعافها وأضعاف أضعافها فهو من أبيَن الأدلة [280/أ] على عظم هذه الشريعة وجلالتها، ومجيئها على وفق العقول السليمة والفِطَر المستقيمة، حيث فرَّقت بين أحكام هذه الصور المذكورة، لافتراقها في الصفات التي اقتضت افتراقَها في الأحكام. ولو ساوت بينها في الأحكام لتوجَّه السؤالُ، وصعُبَ الانفصال، وقال القائل: قد ساوت بين المختلفات، وقرنت
(1)
الشيء إلى غير شِبهه في الحكم. وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنًى قام بها أوجَبَ اختصاصَها بذلك الحكم، ولا اشتركت صورتان في حكمٍ إلّا لاشتراكهما في المعنى المقتضى لذلك الحكم. ولا يضرُّ افتراقُهما في غيره كما لا ينفع اشتراكُ المختلفين في معنًى لا يوجب الحكم. فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعاني التي لأجلها شُرِعت تلك الأحكام وجودًا وعدمًا.
وقد اختلفت أجوبة الأصوليين عن هذا السؤال بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة. فأجاب ابن الخطيب عنه بأن قال
(2)
: «غالبُ أحكام الشرع
(3)
معلَّلة برعاية المصالح المعلومة، والخصمُ إنما بيَّن خلاف ذلك في صور قليلة جدًّا. وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن، كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرًا لا يقدح في
(1)
ح، ف:«وقربت» .
(2)
في كتاب «المحصول» (5/ 114).
(3)
في النسخ المطبوعة: «الشريعة» .
نزول المطر منه».
وهذا الجواب لا يُسْمِن ولا يغني من جوع، وهو جواب أبي الحسين البصري بعينه
(1)
.
وأجاب عنه [280/ب] أبو الحسن الآمدي
(2)
بأن التفريق بين الصور المذكورة في الأحكام «إما لعدم صلاحية ما وقع جامعًا، أو لمعارضٍ له في الأصل أو الفرع. وأما الجمع بين المختلفات فإنما كان لاشتراكهما في معنى جامع صالح للتعليل، أو لاختصاص كلِّ صورة بعلَّة صالحة للتعليل، فإنه لا مانع عند اختلاف الصور ــ وإن اتحد نوعُ الحكم ــ أن يعلَّل بعلل مختلفة» .
وأجاب عنه أبو بكر الرازي الحنفي بأن قال
(3)
: «لا معنى لهذا السؤال، فإنا لم نقل بوجوب القياس من حيث اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها وأسمائها، ولا أوجبنا المخالفة بينها من حيث اختلفت في الصور والأعيان والأسماء. وإنما يجب القياس بالمعاني التي جُعِلت أماراتٍ للحكم، وبالأسباب
(4)
الموجبة له؛ فنعتبرها في مواضعها، ثم لا نبالي باختلافها ولا اتفاقها من وجوه أُخَر غيرها. مثال ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرَّم التفاضل في البرّ بالبرّ من جهة الكيل، وفي الذهب بالذهب من جهة الوزن، استدللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرة من جهة الكيل والوزن مع الجنس، فحيث
(1)
انظر: «المعتمد» (2/ 231، 292).
(2)
في «الإحكام في أصول الأحكام» (4/ 14).
(3)
في «الفصول في الأصول» (4/ 86).
(4)
لم ترد واو العطف قبل «بالأسباب» في مطبوعة «الفصول» .
وُجِدا أوجبنا تحريم التفاضل، وإن اختلف المبيعان
(1)
من وجوه أُخَر، كالجِصِّ
(2)
وهو مكيل فحكمُه حكمُ البُرّ من حيث كونه مكيلًا، وإن خالفه من وجوه أخر؛ وكالرصاص وهو موزون، فحكمُه حكمُ
(3)
الذهب في تحريم التفاضل وإن خالفه في أوصاف [281/أ] أُخَر. فمتى عُقِل المعنى الذي به تعلَّق الحكمُ، وجُعِل علامةً له، وجب اعتباره حيث وُجِد؛ كما رجم ماعزًا لزناه، وحكَم بإلقاء الفأرة وما حولها لما ماتت في السمن، فعقَلنا عمومَ المعنى لكلِّ زانٍ، وعمومَ المعنى لكلِّ مائع جاور النجاسة؛ إلا أن المعنى تارةً يكون جليًّا ظاهرًا، وتارةً يكون خفيًّا غامضًا، فيستدل عليه بالدلائل التي نصبها الله عليه».
وأجاب عنه القاضي أبو يعلى بأن قال
(4)
: «العقل إنما يمنع أن يُجمَع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والبياض، وأن يفرَّق بين المثلين
(5)
فيما تماثلا
(6)
فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجري مجرى ذلك. وأما ما عدا ذلك، فإنه لا يمتنع أن يُجمَع بين المختلفين في الحكم الواحد. ألا ترى أن السواد
(1)
في النسخ الخطية والطبعات القديمة: «اختلفت المبيعات» ، والظاهر أنه تصحيف ما أثبت من «الفصول» .
(2)
في النسخ الخطية والطبعات القديمة: «كالحمص» ، وهو أيضًا تصحيف ما أثبت من «الفصول» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «كحكم» .
(4)
في «العدَّة» (4/ 1288).
(5)
ح، ف:«المتماثلين» . وما أثبت من ت، ع موافق لما في مصدر النقل.
(6)
في «العدَّة» : «تقابلا» .
والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجري مجراها من الألوان، وأن
(1)
القعود في الموضع الواحد قد يكون حسنًا إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه، وقد يكون قبيحًا إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفي عليه، وإن كان القعود
(2)
في ذلك الموضع متيقَّنًا
(3)
. وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسن بأن يكون في كلٍّ منهما نفع لا ضرر فيه، وإن كانا مختلفين؛ على أن ذلك يؤكِّد صحة القياس وذلك أن المثلين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما، لأن كلَّ واحد منهما قد ساوى الآخرَ فيما لأجله قد وجب [281/ب] له الحكم؛ إما لذاته كالسوادين، أو لعلَّةٍ أوجبت ذلك كالأسودين. وهكذا القول في المختلفين. وعلى هذه الطريقة بعينها يجري القياس، لأنا إنما نحكم للفرع بحكم الأصل إذا شاركه في علة الحكم، كما أن الله تعالى إنما نصَّ على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما أوجب الحكم فيهما. فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه».
وأجاب عنه القاضي عبد الوهاب المالكي بأن قال: «دعواكم بأن هذه الصور التي اختلفت أحكامها متماثلةٌ في نفسها دعوى! والأمثلة لا تشهد لها. ألا ترى أنه لا يمتنع أن يتفق الصوم والصلاة في امتناع أدائها من الحائض، ويفترقان في وجوب القضاء؛ والتماثل في العقليات لا يوجب التساوي في الأحكام الشرعيات. وأيضًا فهذا يوجب منع القياس في العقليات. وأيضًا فإن القياس جائز على العلة المنصوص عليها مع وجود
(1)
ح، ت، ف:«فإن» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي «العدّة» كما أثبت من ع.
(2)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة «المقصود» .
(3)
ت: «منتفيًا» . وفي «العدة» : «متفقًا» .
المعنى الذي ذكره».
فهذه أجوبة النظار. ونحن بعون الله وتوفيقه نفرد كلَّ مسألة منها بجواب مفصل، وهو المسلك الثاني الذي وعدنا به.
أما المسألة الأولى وهي إيجاب الشارع الغسلَ من المني دون البول؛ فهذا من أعظم محاسن الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة؛ فإن المني يخرج من جميع البدن، ولهذا سمَّاه الله سبحانه:{سُلَالَةٍ} ، لأنه يُسَلُّ
(1)
من جميع البدن. وأما البول [282/أ] فإنما هو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة، فتأثُّرُ البدن بخروج المني أعظم من تأثره بخروج البول.
وأيضًا فإن الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبدن والقلب والروح. بل جميع الأرواح القائمة بالبدن، فإنها تقوى بالاغتسال. والغسل يُخْلِف عليه ما تحلَّل منه بخروج المني، وهذا أمر يُعلَم
(2)
بالحس. وأيضًا فإن الجنابة توجب ثقلًا وكسلًا، والغسلُ يُحدِث له نشاطًا وخفّةً. ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة: كأنما ألقيتُ عنِّي جبلًا
(3)
.
وبالجملة فهذا أمر يدركه كلُّ ذي حسٍّ سليم وفطرة صحيحة، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب، مع ما تُحدثه الجنابة من بُعدِ القلب والروح عن الأرواح
(1)
ت: «يسيل» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف. وفي ع:«يخرج» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «يعرف» .
(3)
تقدم تخريجه.
الطيبة، فإذا اغتسل زال ذلك البعد. ولهذا قال غير واحد من الصحابة: إن العبد إذا نام عرجت روحه. فإن كان طاهرًا أُذِن لها بالسجود، وإن كان جنبًا لم يؤذن لها
(1)
، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب إذا نام أن يتوضأ
(2)
.
وقد صرَّح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، ويُخلف عليه ما تحلَّل منه، وأنه من أنفع شيء للبدن والروح، وتركُه مُضِرّ. ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه، وبالله التوفيق. على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظمُ حرج ومشقة [282/ب] على الأمة، تمنعه حكمةُ الله ورحمتُه وإحسانُه إلى خلقه.
فصل
وأما غسلُ الثوب من بول الصبية، ونضحُه من بول الصبي، إذا لم يطعما؛ فهذا للفقهاء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما يُغسلان جميعًا.
والثاني: يُنْضَحان.
والثالث: التفرقة. وهو الذي جاءت به السنة
(3)
. وهذا من محاسن الشريعة وتمام حكمتها ومصلحتها.
(1)
رواه ابن المبارك في «الزهد» (1245) من كلام أبي الدرداء. وفي سنده عثمان بن نعيم الرعيني مجهول، لم يَرْوِ عنه غير ابن لهيعة. وفيه أبو عثمان الأصبحي، مستور الحال، ولا يُعلم له سماع من أبي الدرداء.
(2)
أخرجه البخاري (287) ومسلم (306) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
سبق تخريجها.
والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه:
أحدها: كثرة حمل الرجال والنساء للذكر، فتعُمُّ البلوى ببوله، فيشُقُّ غسلُه.
الثاني
(1)
: أن بوله لا ينزل في مكان واحد، بل ينزل متفرِّقًا هاهنا وهاهنا، فيشقُّ غسلُ ما أصابه كله، بخلاف بول الأنثى.
الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر. وسببه حرارة الذكر ورطوبة الأنثى، فالحرارة تخفِّف من نتن البول، وتُذيب منها ما لا يحصل مع الرطوبة. وهذه معانٍ مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق.
فصل
وأما نقصُه الشطرَ من صلاة المسافر الرُّباعية دون الثلاثية والثنائية، ففي غاية المناسبة؛ فإن الرباعية تحتمل الحذف لطولها، بخلاف الثنائية، فلو حذف شطرَها لأجحَفَ بها، ولزالت حكمة الوتر الذي شُرِع خاتمةَ العمل. وأما الثلاثية فلا يمكن شطرُها
(2)
. وحذفُ ثلثيها مخِلٌّ بها، وحذفُ ثلثها يُخرجها عن حكمة شرعها وترًا، فإنها شُرعت ثلاثًا لتكون وتر النهار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«المغرب وتر النهار، فأوتِروا صلاةَ الليل»
(3)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: «والثاني» .
(2)
ت: «تشطرها» . وفي غيرها والطبعات القديمة ما أثبت. يعني: تنصيفها. وفي المطبوع: «حذف شطرها» بزيادة كلمة «حذف» .
(3)
رواه أحمد (4847، 4992، 5549)، والنسائي في «السنن الكبرى» (1386) من حديث ابن عمر مرفوعا. ويُنظر:«المصنف» لابن أبي شيبة (6775 - 6778)، و «السنن الكبرى» للنسائي (1387)، و «الكنى» للدولابي (1/ 244)، و «العلل» للدارقطني (13/ 190)، و «حلية الأولياء» لأبي نعيم (6/ 348)، و «فتح الباري» لابن رجب (9/ 168 - 169).
[283/أ] فصل
وأما إيجاب الصوم على الحائض دون الصلاة، فمن تمام محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح المكلَّفين. فإن الحيض لما كان منافيًا للعبادة لم يُشرَع فيه فعلُها، وكان في صلاتها أيام الطهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض؛ فيحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطهر، لتكرُّرها كلَّ يوم؛ بخلاف الصوم، فإنه لا يتكرر، وهو شهر واحد في العام، فلو سقط عنها فعلُه بالحيض لم يكن لها سبيل إلى تدارك نظيره، وفاتت عليها مصلحته. فوجب
(1)
عليها أن تصوم شهرًا في طهرها، لتحصل مصلحة الصوم التي هي من تمام رحمة الله بعبده وإحسانه إليه بشرعه. وبالله التوفيق.
فصل
وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرَّة الشوهاء القبيحة، وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال؛ فكذِبٌ على الشارع. فأين حرَّم الله هذا، وأباح هذا؟ والله سبحانه إنما قال:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظرَ إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حُرِّم عليه بلا ريب.
وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام
(1)
ع: «مصلحة الصوم ووجب» .
والابتذال. وأما إماءُ التسرِّي اللاتي جرت العادة بصَونهن وحجبهن، فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في [283/ب] الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذِنَ للرجال بالتمتُّع
(1)
بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة. وأكَّد هذا الغلطَ أن بعض الفقهاء سمع قولهم: إن الحرة كلَّها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبًا كالبطن والظهر والساق؛ فظنَّ أن ما يظهر غالبًا حكمُه حكمُ وجه الرجل. وهذا إنما هو في الصلاة، لا في النظر؛ فإن العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر
(2)
، فالحرَّةُ لها أن تصلِّي مكشوفةَ الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس
(3)
كذلك. والله أعلم.
فصل
وأما قطعُ يد السارق في ثلاثة دراهم، وتركُ قطع المختلس والمنتهب والغاصب؛ فمن تمام حكمة الشارع أيضًا. فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقُب الدورَ، ويهتِك الحِرزَ، ويكسر القفل؛ ولا يمكن صاحبَ المتاع الاحترازُ بأكثر من ذلك. فلو لم يُشَرع قطعُه لسرَق الناس بعضُهم بعضًا، وعظم الضرر، واشتدَّت المحنة بالسُرَّاق؛ بخلاف المنتهب والمختلس، فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرةً بمرأًى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلِّصوا حقَّ المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم. وأما المختلِس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلةٍ من مالكه
(1)
في النسخ المطبوعة: «في التمتع» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «في النظر وعورة في الصلاة» .
(3)
ت: «الرجال» .
وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط تمكَّن به المختلسُ من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس. فليس كالسارق، بل هو بالخائن [284/أ] أشبه.
وأيضًا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حِرز مثلِه غالبًا، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخلِّيك عنه وغفلتك عن حفظه. وهذا يمكن الاحتراز منه غالبًا، فهو كالمنتهب.
وأما الغاصب، فالأمر فيه ظاهر. وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كفُّ عدوان هؤلاء بالضرب والنَّكال، والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال، كما سيأتي.
فإن قيل: فقد وردت السنة بقطع جاحد العاريَّة، وغايته أنه خائن. والمعيرُ سلَّطَه على قبض ماله. والاحتراز منه ممكن بأن لا يدفع إليه المال، فبطَلَ ما ذكرتم من الفرق.
قيل: لعمرُ الله لقد صحَّ الحديث بأن امرأةً كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقُطِعت يدها
(1)
. فاختلف الفقهاء في سبب القطع: هل كان سرقتها؟ وعرَّفها الراوي بصفتها، لا أنَّ
(2)
المذكور سبب القطع كما يقوله الشافعي وأبو حنيفة ومالك، أو كان السبب المذكور هو سبب القطع كما يقوله أحمد ومَن وافقه؟ ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين البتة، فإن كان الصحيح قول الجمهور اندفع السؤال. وإن كان
(1)
أخرجه مسلم (1688) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
في المطبوع: «لأن» ، وهو خطأ.
الصحيح هو القول الآخر، فموافقته للقياس والحكمة والمصلحة ظاهرٌ جدًّا، فإن العاريَّة من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها، ولا غنى لهم عنها. وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانًا. ولا يمكن المعيرَ كلَّ وقت أن [284/ب] يُشْهِد على العارية، ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعًا وعادةً وعرفًا. ولا فرق في المعنى بين من توصَّل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة، وبين من توصَّل إليه بالعارية وجحدها. وهذا بخلاف جاحد الوديعة، فإن صاحب المتاع فرَّط حيث ائتمنه.
فصل
وأما قطعُ اليد في ربع دينار، وجعلُ ديتها خمسمائة دينار؛ فمن أعظم المصالح والحكمة، فإنه احتاط
(1)
في الموضعين للأموال والأطراف. فقطَعَها في ربع دينار حفظًا للأموال، وجعَلَ ديتها خمسمائة دينار حفظًا لها وصيانةً. وقد أورد بعضُ الزنادقة هذا السؤال، وضمَّنه بيتين، فقال
(2)
:
يدٌ بخمس مِئٍ من عسجدٍ وُدِيت
…
ما بالُها قُطِعت في ربع دينار
(3)
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له
…
ونستجير بمولانا من العار
(4)
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت
(1)
في المطبوع: «احتياط» .
(2)
ينسب البيتان إلى أبي العلاء. انظر: «شرح اللزوميات» (2/ 203).
(3)
هذا البيت في «شرح اللزوميات» متأخر على تاليه. ومِئٌ: جمع مائة. وفي الشرح: «بخمس مئينٍ عسجد» .
(4)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. وفي الشرح: «من النار» ، وهو المشهور.
هانت
(1)
. وضمَّنه الناظم
(2)
قوله:
يدٌ بخمس مِئٍ من عسجد وُديت
…
لكنها قُطعت في ربع دينار
حمايةُ الدم أغلاها، وأرخصها
…
صيانةُ المال فانظر حكمة الباري
(3)
فصل
وأما تخصيص القطع بهذا القدر، فلأنه لا بد من مقدار يُجعَل ضابطًا لوجوب القطع؛ إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فَلْسٍ أو حبَّةِ حنطة أو تمرة، ولا تأتي شريعة
(4)
بهذا، وتُنزَّه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك.
(1)
نسبه ابن كثير في «تفسيره» (3/ 110) إلى القاضي عبد الوهاب المالكي. وذكر البيجوري في «حاشيته على شرح ابن القاسم» (2/ 449) أنه من كلام ابن الجوزي.
(2)
نسب في «الوافي بالوفيات» (7/ 110) إلى علم الدين السخاوي، وفي «النور السافر» (ص 366) للشريف الرضي. والمشهور أنه للقاضي عبد الوهاب المالكي، والبيت يروى بألفاظ مختلفة. انظر:«فتح الباري» (12/ 98) و «فيض القدير» للمناوي» (1/ 231).
(3)
بعد هذا البيت في النسخ المطبوعة زيادة لم ترد في المخطوطات، والظاهر أنها حاشية لبعض القراء دخلت في المتن وهي:
وروي أن الشافعي ' أجاب بقوله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها
وهاهنا ظلمت هانت على الباري
وأجاب شمس الدين الكردي بقوله:
قل للمعرِّيِّ عارٌ أيما عارِ
لا تقدحَنَّ زناد الشعر عن حِكَمٍ
فقيمة اليد نصف الألف من ذهب
جهلُ الفتى وهو عن ثوب التُقى عارِ
شعائرُ الشرع لم تُقدَح بأشعار
فإن تعدَّت فلا تَسْوَى بدينار
(4)
في النسخ المطبوعة: «الشريعة» .
فلا بدَّ من ضابط، وكانت الثلاثةُ دراهمَ أول مراتب الجمع، [285/أ] وهي مقدار ربع دينار. وقال إبراهيم النخعي أو غيره
(1)
من التابعين
(2)
: «كانوا لا يقطعون في الشيء التافه» ؛ فإن عادة الناس التسامحُ في الشيء الحقير من أموالهم، إذ لا يلحقهم ضررٌ بفقده. وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة، فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن يمُونه غالبًا. وقوت اليوم للرجل وأهله له خطرٌ عند غالب الناس. وفي الأثر المعروف:«من أصبح آمنًا في سِرْبه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها»
(3)
.
فصل
وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون الكفر، ففي غاية
(1)
في النسخ المطبوعة: «وغيره» .
(2)
رواه ابن أبي شيبة (28693)، وإسحاق بن راهويه (738، 739)، والبيهقي (8/ 255، 256) من كلام عروة بن الزبير. ورواه ابن أبي شيبة (28697)، وأبو عوانة (6221) من طريق أخرى عن عروة، عن عائشة. والمحفوظ أنه من كلام عروة.
(3)
رواه الترمذي (2346) ــ وقال: «حديثٌ حسنٌ غريبٌ» ــ، وابن ماجه (4141) من حديث سلمة بن عبيدالله بن محصن، عن أبيه مرفوعا. وسلمة هذا مجهول، وابنُ أبي شميلةَ الراوي عنه مستورُ الحالِ، بادِيَ الرأيِ، على أنّ العقيليَّ أغرب جدًّا، فاستظهر في «الضعفاء» (2/ 552 - 553) أنه محمدُ بن سعيدٍ التالفُ المصلوبُ في الزندقة! وللحديثِ شواهدُ واهيةٌ، أشهرُها ما صحّحه ابن حبان (4578) من حديث أبي الدرداء مرفوعا، وآفتُه عبد الله بن هانئ بن عبد الرحمن بن أبي عبلة، وهو تالف، صاحب بواطيل.
المناسبة؛ فإن القاذف غيره بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه، فجُعِل حدُّ الفرية تكذيبًا له، وتبرئةً لعرض المقذوف، وتعظيمًا لشأن هذه الفاحشة التي يُجلَد من رمى بها مسلمًا. وأما من رمى غيره بالكفر، فإنَّ شاهدَ حال المسلم واطلاع المسلمين عليها كافٍ في تكذيبه، ولا يلحقه من العار بكذبه
(1)
عليه في ذلك ما يلحقه بكذبه عليه في الرمي بالفاحشة؛ ولا سيما إن كان المقذوف امرأة، فإنَّ العار والمعرَّة التي تلحقها بقذفِه بين أهلها، وتشعُّبِ ظنون الناس وكونِهم بين مصدِّق ومكذِّب= لا يلحق مثله بالرمي بالكفر.
فصل
وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا، ففي غاية الحكمة والمصلحة؛ فإن الشارع احتاط للقصاص [285/ب] والدماء، واحتاط لحدِّ الزنا. فلو لم يقبل في القتل إلا أربعةً لضاعت الدماء، وتواثب العادون، وتجرؤوا على القتل. وأما الزنا فإنه بالغَ في سَتْره كما قدَّر الله سترَه، فاجتمع على ستره شرعُ الله وقدرُه، فلم يقبل فيه إلا أربعة يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال. وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقلَّ من أربع مرات حرصًا على ستر ما قدَّر الله سترَه، وكرِه إظهارَه، والتكلُّمَ به، وتواعَدَ
(2)
مَن يُحِبُّ إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
(1)
في المطبوع: «في كذبه» .
(2)
كذا في النسخ الخطية، وسيأتي مرة أخرى (4/ 292). وقد استعمله المصنف بمعنى توعَّد في «طريق الهجرتين» (1/ 630) و «الداء والدواء» (ص 486) أيضًا. وفي النسخ المطبوعة:«وتوعَّد» ، ولعله من تصرف الناشرين.
فصل
وأما حدُّ
(1)
قاذف الحر دون العبد، فتفريقٌ لشرعه بين ما فرَّق الله بينهما بقدره. فما جعل الله سبحانه العبد كالحرِّ من كلِّ وجه لا قدرًا ولا شرعًا. وقد ضرب الله سبحانه لعباده الأمثال التي أخبر فيها بالتفاوت بين الحر والعبد، وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدهم في أرزاقهم. فالله سبحانه وتعالى فضَّل بعضَ خلقه على بعض، وفضَّلَ الأحرار على العبيد في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف، وجعل العبد مملوكًا والحُرَّ مالكًا، ولا يستوي المالك والمملوك.
وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب، فذلك موجب العدل والإحسان؛ فإنه يومَ الجزاء لا يبقى هناك عبد وحرّ، ولا مالك ومملوك.
فصل
وأما تفريقه في العدَّة بين الموت والطلاق، وعدَّة الحرة وعدَّة الأمة، [286/أ] وبين الاستبراء والعدّة، مع أن المقصود: العلمُ ببراءة الرحم في ذلك كلِّه. فهذا إنما يتبيَّن وجهُه إذا عُرفت الحكمة التي لأجلها شُرعت العدَّة، وعُرِف أجناسُ العِدَد وأنواعُها.
فأما المقام الأول، ففي شرع العِدَّة عدَّة حِكَم:
منها: العلم ببراءة الرحم، وأن لا يجتمع ماء الواطئين فأكثر في رحم واحد، فتختلط الأنساب وتفسد. وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعة والحكمة.
(1)
ت، ع:«جلد» ، وكذا سبق في سرد المسائل.
ومنها: تعظيم خطر هذا العقد، ورفع قدره، وإظهار شرفه.
ومنها: تطويل زمان الرجعة للمطلق، إذ لعله أن يندم ويفيء، فيصادف زمنًا يتمكَّن فيه من الرجعة.
ومنها: قضاء حقِّ الزوج، وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل. ولذلك شُرِع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد.
ومنها: الاحتياط لحقِّ الزوج، ومصلحة الزوجة، وحقِّ الولد، والقيام بحق الله الذي أوجبه. ففي العدَّة أربعة حقوق. وقد أقام الشارع الموتَ مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه، فإن النكاح مدته العمر. ولهذا أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق، وفي تحريم الربيبة، عند جماعة من الصحابة ومن بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت
(1)
وأحمد في إحدى الروايتين عنه
(2)
. فليس المقصود من العدة مجرد براءة الرحم، بل ذلك من بعض مقاصدها وحِكَمها.
المقام الثاني في أجناسها. وهي أربعة في كتاب الله، وخامس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الجنس الأول: أمُّ باب العدّة
(3)
{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
(1)
رواه ابن أبي شيبة (16530).
(2)
انظر: «الروايتين والوجهين» (2/ 99).
(3)
كذا في ح، ف، ع والطبعات القديمة. يعني: أصل الباب. وقد سقطت كلمة «أم» من ت. وفي حاشية ع: «لعله أرباب أو أبواب» . وأثبت في المطبوع: «أرباب العدة» ، ولا معنى له.
الثاني: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
الثالث: {فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ} [البقرة: 228].
الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4].
الخامس: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائلٌ حتى تُستبرأ بحَيضة»
(1)
.
ومقدَّمُ هذه الأجناس
(2)
الحاكمُ عليها كلِّها: وضعُ الحمل. فإذا وُجِد فالحكم له، ولا التفات إلى غيره. وقد كان بين السلف نزاع في المتوفَّى
(1)
رواه أحمد (11228، 11596، 11823)، وأبو داود (2157) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا. وفي سنده شريك النخغي، وهو ضعيف، وأغرب الحاكم، فصحح حديثَه هذا (2/ 195) قاطعًا أنه على شرط مسلم! لكن للحديث شواهد كثيرة تدلّ على ثبوت معناه، منها: حديث أبي الدرداء مرفوعا، رواه مسلم (1441).
وحديث رُويفع بن ثابت، وسيأتي تخريجُه قريبًا. وحديث العرباض بن سارية مرفوعا، رواه الترمذي (1564)، واستغربه، أما الحاكم، فصححه (2/ 135). وحديث أبي هريرة مرفوعا، رواه أحمد (8814)، وله طريق أخرى عنه ذكرها البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 239). وحديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا، صححه ابن حبان (2067). وحديث ابن عباس مرفوعا، رواه الدارقطني (3640)، وله طريقان آخران صححهما الحاكم (2/ 56، 137)، أحدهما عند النسائي (4645).
(2)
بعده في ت زيادة «كلها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
عنها أنها تتربَّص أبعدَ الأجلين، ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل. وأما عدة الوفاة فتجب بالموت، سواء دخل بها أو لم يدخل، كما دلَّ عليه عمومُ القرآن، والسنةُ الصحيحة
(1)
، واتفاق الناس. فإن الموت لما كان انتهاءَ العقد وانقضاءَه استقرَّت به الأحكام من التوارث، واستحقاق المهر. وليس المقصود بالعدة هاهنا مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء، لوجوبها قبل الدخول، ولحصول الاستبراء بحَيضة واحدة، ولاستواء الصغيرة والآيسة وذوات القروء في مدتها. فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: هي تعبُّد محض لا يُعقَل معناه. وهذا باطل لوجوه:
منها: أنه [287/أ] ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة، يعقله مَن عقَله، ويخفى على من خفي عليه.
ومنها: أن العِدَد ليست من باب العبادات المحضة، فإنها تجب في حقِّ الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية، ولا تفتقر إلى نية.
ومنها: أن رعاية حقِّ الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها.
فالصواب
(2)
أن يقال: هي حريم
(3)
لانقضاء النكاح لما كمل. ولهذا تجد فيها رعايةً لحق الزوج وحرمة له. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ورعايةِ حقوقه تحريمُ نسائه بعده. ولما كان
(4)
نساؤه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعًا، لم يحِلَّ لأحد أن يتزوج بهن بعده؛ بخلاف غيره، فإن هذا ليس
(1)
سبق تخريجُ حديثِ الفريعةِ بنتِ مالكٍ الدالِّ على ذلك.
(2)
ت، ع:«والصواب» .
(3)
يعني أنها تابعة له. وفي ت: «تحريم» ، وفي حاشية ع أنه كان كذا في أصلها.
(4)
في النسخ المطبوعة: «كانت» خلافًا للخطية.
معلومًا في حقِّه. فلو حُرِّمت المرأة على غيره لتضرَّرت ضررًا محقَّقًا بغير نفع معلوم، ولكن لو تأيَّمت على أولادها كانت محمودة على ذلك.
وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في احترام حقِّ الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غايةَ المبالغة، من تربُّص سنةٍ في شرِّ ثيابها وحِفْشِ
(1)
بيتها، فخفَّف الله ذلك عنهم
(2)
بشريعته التي جعلها رحمة وحكمة ومصلحة ونعمة. بل هي من أجلِّ نعمه عليهم على الإطلاق، فله الحمد كما هو أهله.
وكانت أربعة أشهر وعشرًا على وفق الحكمة والمصلحة، إذ لا بد من مدة مضروبة لها. وأولى المُدَد بذلك: المدّة التي يُعلَم فيها وجودُ حملِ
(3)
الولد وعدمه، فإنه يكون أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين علقة، ثم أربعين [287/ب] مضغة. فهذه أربعة أشهر. ثم يُنفَخ فيه الروح في الطور الرابع، فقُدِّر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل.
فصل
وأما عدَّة الطلاق، فلا يمكن تعليلها بذلك، لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق؛ ولا ببراءة الرحم، لأنه يحصل بحيضة كالاستبراء، وإن كان براءة الرحم بعض مقاصدها.
ولا يقال: «هي تعبُّد» ، لما تقدَّم. وإنما يتبيَّن حكمُها إذا عُرِف ما فيها من الحقوق ففيها حقُّ الله، وهو امتثال أمره وطلب مرضاته؛ وحقٌّ للزوج
(1)
الحِفش: البيت الصغير من بيوت الأعراب.
(2)
في النسخ المطبوعة: «عنهم ذلك» .
(3)
لفظ «حمل» ساقط من ت، ع. وفي المطبوع:«بوجود حمل» .
المطلق، وهو اتساع زمن الرجعة له؛ وحقٌّ للزوجة، وهو استحقاقها النفقة والسكنى ما دامت في العدة؛ وحقٌّ للولد، وهو الاحتياط في ثبوت نسبه وأن لا يختلط بغيره؛ وحقٌّ للزوج الثاني، وهو أن لا يسقي ماءه زرع غيره. ورتَّب الشارعُ على كلِّ واحد من هذه الحقوق ما يناسبه من الأحكام. فرتَّب على رعاية حقِّه هو لزومَ المنزل وأنها لا تَخْرُج ولا تُخْرَج، هذا موجَب القرآن ومنصوصُ إمام أهل الحديث وإمام أهل الرأي. ورتَّب على حقِّ المطلِّق تمكينَه من الرجعة ما دامت في العدة، وعلى حقِّها استحقاقَ النفقة والسكنى، وعلى حقِّ الولد ثبوتَ نسبه وإلحاقه بأبيه دون غيره، وعلى حقِّ الزوج الثاني دخوله على بصيرة ورحم بريء غير مشغول بولد لغيره. فكان في جعلها ثلاثةَ قروء رعايةٌ لهذه الحقوق، وتكميلٌ
(1)
لها.
وقد دلَّ القرآن على أن العدة حقٌّ للزوج [288/أ] عليها بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. فهذا دليل على أن العدَّة للرجل على المرأة بعد المسيس. وقال تعالى: {الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ}
(2)
[البقرة: 228]، فجعل الزوجَ أحقَّ بردِّها في العدة. فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربُّص لينظر في أمرها: هل يُمسكها بمعروف، أو يُسَرِّحها بإحسان؛ كما جعل الله سبحانه للمُؤْلي تربُّصَ أربعة أشهر لينظر في أمره: هل يفيء أو يطلِّق؛ وكما جعل مدة تسيير الكفار أربعة أشهر لينظروا في