الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمرهم ويختاروا لأنفسهم
(1)
.
فإن قيل: هذه العلة باطلة، فإن المختلعة، والمفسوخَ نكاحُها بسبب من الأسباب، والمطلَّقةَ ثلاثًا، والموطوءةَ بشبهة، والمزنيَّ بها= تعتدُّ بثلاثة أقراء، ولا رجعة هناك. فقد وُجِد الحكم بدون علته، وهذا يُبطِل كونها علَّةً.
قيل: شرطُ النقض أن يكون الحكم في صورة ثابتًا بنص أو إجماع. وأما كونه قولًا لبعض العلماء، فلا يكفي في النقض به. وقد اختلف الناس في
عدَّة المختلعة
، فذهب إسحاق وأحمد في أصحِّ الروايتين عنه دليلًا أنها تعتدُّ بحَيضة واحدة
(2)
. وهو مذهب عثمان بن عفان
(3)
، وعبد الله بن عباس
(4)
. وقد حُكي إجماعُ الصحابة، ولا يعلم لهما مخالف. وقد دلَّت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة دلالةً صريحةً. وعذرُ من خالفها أنها لم تبلغه، [288/ب] أو لم تصح عنده، أو ظنَّ الإجماعَ على خلاف موجَبها.
وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر
(5)
. أما رجحانه أثرًا، فإن النبي
(1)
يشير إلى قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: 2].
(2)
انظر: «مسائل الكوسج» (4/ 1601 - 1603) و (4/ 1694 - 1695)، و «الإشراف» لابن المنذر (5/ 360)، و «المغني» (11/ 195).
(3)
رواه ابن ماجه (2058)، والنسائي (3498). ويُنظر:«المصنف» لعبد الرزاق (11859)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (18776، 18778).
(4)
رواه ابن أبي شيبة (18780).
(5)
وانظر: «مجموع الفتاوى» (32/ 110، 290، 328) و (33/ 10) و «زاد المعاد» (5/ 601).
- صلى الله عليه وسلم لم يأمر المختلعة قطُّ أن تعتدَّ بثلاث حِيَض، بل قد روى أهل السنن عنه من حديث الربيِّع بنت معوِّذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته، فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أُبَيّ
(1)
. فأتى أخوها يشتكيه
(2)
إلى رسول الله. فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت، فقال:«خُذ الذي لها عليك، وخَلِّ سبيلها» . قال: نعم. فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربَّص حيضةً واحدةً، وتلحق بأهلها
(3)
.
وذكر أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أُمِرَتْ أن تعتدَّ بحَيضة
(4)
. قال الترمذي: «الصحيح أنها أُمِرت أن تعتدَّ بحَيضة» .
وهذه الأحاديث لها طرقٌ يصدِّق بعضُها بعضًا. وأُعِلَّ الحديثُ بعلَّتين. إحداهما: إرساله، والثانية
(5)
: أن الصحيح فيه «أُمِرت» بحذف الفاعل. والعلَّتان غير مؤثِّرتين، فإنه قد روي من وجوه متصلة، ولا تعارُضَ بين «أُمِرَتْ» و «أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، إذ من المحال أن يكون الآمر لها بذلك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته. وإذا كان الحديث قد روي بلفظ محتمل، ولفظ صريح يفسِّر المحتملَ ويبيِّنه، فكيف يُجعَل المحتملُ معارضًا للمفسِّر، بل مقدَّمًا [289/أ] عليه؟
(1)
في المطبوع زيادة بعده: «بن سلول» .
(2)
ع: «يشتكي» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
رواه النسائي (3497). ويُنظر: «السنن» لأبي داود (2228).
(4)
رواه أبو داود (2229)، والترمذي عَقِبَ الحديث (1185)، وقال:«حسنٌ غريبٌ» . وصححه الحاكم (2/ 206). ويُنظر: «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 415 - 416).
(5)
ح: «والثاني» .
ثم يكفي في ذلك فتاوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو جعفر النحاس في كتاب «الناسخ والمنسوخ»
(1)
: هو إجماع من الصحابة.
وأما اقتضاء النظر له، فإن المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدَّة، وقد ملكت نفسَها، وصارت أحقَّ ببُضْعها. فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها، فصارت العدَّة في حقِّها بمجرد براءة الرحم. وقد رأينا الشريعة جاءت في هذا النوع بحيضة واحدة، كما جاءت بذلك في المسبيَّة، والمملوكة بعقد معاوضة أو تبرُّع، والمهاجرة من دار الحرب. ولا ريب أنها جاءت بثلاثة أقراء في الرجعية. والمختلعة فرعٌ متردِّدٌ بين هذين الأصلين، فينبغي إلحاقها بأشبههما بها. فنظرنا، فإذا هي بذوات الحيضة أشبه.
ومما يبيِّن حكمة الشريعة في ذلك أن الشارع قسم النساء إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: المفارقة قبل الدخول، فلا عدَّة عليها ولا رجعة لزوجها فيها.
الثاني: المفارقة بعد الدخول إذا كان لزوجها عليها رجعة، فجعل عدّتها ثلاثة قروء. ولم يذكر سبحانه العدة بثلاثة قروء إلا في هذا القسم، كما هو مصرَّح به في القرآن في قوله تعالى:{فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي} [البقرة: 228]. وكذا في سورة الطلاق لما ذكر الاعتداد بالأشهر الثلاثة في حقِّ من إذا [289/ب] بلغت أجلَها خُيِّر
(1)
(ص 229) ولفظه: «ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه» . وقد أحال المصنف في «الزاد» (5/ 594) أيضًا على كتاب أبي جعفر.
زوجها بين إمساكها
(1)
بمعروف أو مفارقتها بإحسان، وهي الرجعيَّة قطعًا. فلم يذكر الأقراء وبدلها في حقِّ بائنٍ البتة.
القسم الثالث: من بانت عن زوجها، وانقطع حقُّه عنها بسبي، أو هجرة، أو خلع؛ فجعل عدَّتها حيضةً للاستبراء. ولم يجعلها ثلاثًا، إذ لا رجعة للزوج. وهذا في غاية الظهور والمناسبة.
وأما الزانية والموطوءة بشبهة، فموجَب الدليل أنها تستبرأ بحَيضةٍ فقط. ونصَّ عليه أحمد في الزانية
(2)
. واختاره شيخنا في الموطوءة بشبهة
(3)
، وهو الراجح. وقياسهما على المطلَّقة الرجعية من أبعد القياس وأفسده.
فإن قيل: فهَبْ أن هذا قد سلِم لكم فيما ذكرتم من الصور، فإنه لا يسلَم معكم في المطلَّقة ثلاثًا؛ فإن الإجماع منعقد على اعتدادها بثلاثة قروء مع انقطاع حقِّ زوجها من الرجعة، والقصدُ مجرَّدُ استبراء رحمها.
قيل: نعم، هذا سؤال وارد. وجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه قد اختلف في عدتها: هل هي بثلاثة قروء أو بقرء واحد؟ فالجمهور ــ بل الذي لا يعرف الناس سواه ــ أنها ثلاثة قروء. وعلى هذا فيكون وجهه أن الطلقة الثالثة لما كانت من جنس الأوليين
(4)
أعطيت حكمهما، ليكون باب الطلاق كلُّه بابًا واحدًا، فلا يختلف حكمه. والشارع إذا
(1)
في النسخ المطبوعة: «إمساك» .
(2)
فيما حكاه ابن أبي موسى. وعنه رواية أخرى: أن عدَّتها عدة المطلقة. انظر: «الهداية» (ص 485) و «المغني» (9/ 564).
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (32/ 111، 340).
(4)
ت: «الأولتين» . وفي ح، ع بالإهمال. وفي ف بالتاء والياء معًا.
علَّق الحكمَ بوصف لمصلحة عامة لم يكن تخلُّفُ تلك المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعًا من ترتُّب الحكم، [290/أ] بل هذه قاعدة الشريعة وتصرُّفها في مصادرها ومواردها.
الوجه الثاني: أن الشارع حرَّمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره، عقوبةً له؛ ولعن المحلِّل والمحلَّل له لمناقضتهما ما قصده الله سبحانه من عقوبته. وكان من تمام هذه العقوبة أن طوَّل مدةَ تحريمها عليه، فكان ذلك أبلغ فيما قصده الشارع من العقوبة. فإنه إذا علِم أنها لا تحِلُّ له حتى تعتدَّ بثلاثة قروء، ثم يتزوجها آخرُ نكاحَ رغبةٍ مقصودٍ
(1)
، لا تحليلٍ موجِبٍ للعنة، ويفارقها، وتعتدُّ من فراقه ثلاثة قروء أُخَر= طال عليه الانتظار، وعِيلَ صبرُه، فأمسك عن الطلاق الثلاث. وهذا واقع على وفق الحكمة والمصلحة والزجر، فكان التربُّص بثلاثة قروء في الرجعية نظرًا للزوج ومراعاةً لمصلحته لما لم يوقع الثالثة المحرِّمة لها، وهاهنا كان تربُّصُها عقوبةً له وزجرًا لما أوقع الطلاق المحرِّم لما أحلَّ الله له. وأُكِّدت هذه العقوبة بتحريمها عليه إلا بعد زوج وإصابة وتربُّص ثان.
وقيل: بل عدَّتها حيضة واحدة، وهي اختيار أبي الحسين بن اللبَّان
(2)
.
(1)
كذا في النسخ الخطية، فإن صح كان «مقصودٍ» مجرورًا بالجوار. وفي النسخ المطبوعة أصلحت العبارة بإدخال الباء على «نكاح»:«بنكاحِ رغبةٍ مقصودٍ» .
(2)
ذكره عنه ابن أبي يعلى. انظر: «زاد المعاد» (5/ 597). وهو محمد بن عبد الله بن الحسن البصري (ت 402). قال الخطيب في «تاريخ بغداد» (3/ 507): «انتهى إليه عِلْمُ الفرائض وقسمة المواريث» . وله في الفرائض مؤلفات منها «الإيجاز في علم الفرائض» ، وقد حقِّق في الجامعة الإسلامية سنة 1433.
فإن كان مسبوقًا بالإجماع، فالصواب اتباع الإجماع، وأن لا يُلتفت إلى قوله. وإن لم يكن في المسألة إجماعٌ، فقوله قوي ظاهر. والله أعلم.
فإن قيل: فقد جاءت السنة بأن المخيَّرة تعتدُّ ثلاثَ حِيض، كما رواه ابن ماجه من حديث عائشة قالت: أُمِرت بريرةُ أن تعتدَّ ثلاثَ حِيَض
(1)
.
قيل: ما أصرحه من حديثٍ لو ثبت! ولكنه حديث منكر بإسناد مشهور. وكيف يكون عند أم المؤمنين هذا الحديث وهي تقول: الأقراء: الأطهار؟ فإن صحَّ الحديث وجب القول به، ولم تَسُغْ
(2)
مخالفته، ويكون حكمه حكم المطلقة ثلاثًا في اعتدادها بثلاثة قروء، ولا رجعة لزوجها عليها؛ فإن الشارع يخصِّص بعض الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ببعض الأحكام، وإن لم يظهر لنا موجب التخصيص. فكيف وهو ظاهر في مسألة المخيَّرة، فإنها لو جُعلت عدَّتُها حيضةً واحدةً لبادرت إلى التزوج بعدها، وأيس منها زوجها؟ فإذا جُعِلت ثلاث حيض طال زمن انتظارها وحبسها عن
(1)
رواه ابن ماجه (2077)، وجوّد سنده ابن التركماني في «الجوهر النقي» (7/ 426)، وصححه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (2/ 130). وأغرب ابن حجر في «فتح الباري» (9/ 405)، فقطع أنه على شرط الشيخين! بل قال:«هو في أعلى درجات الصحة» ! مع قوله في «بلوغ المرام» (1115): «ورواتُه ثقات، لكنه معلول» . وأُراه تبع الحافظ النقّاد ابنَ عبد الهادي القائلَ في «المُحرَّر» (1084): «رواته ثقات، وقد أُعِلَّ» . وكأنه يُشِير إلى إعلال شيخه ابن تيمية إياه، وله في ذلك بيانٌ متينٌ؛ فليُنظر في «مجموع فتاويه» (32/ 111 - 112)، وقد أفاد منه المصنِّف هنا في إعلال هذا الخبر. ويُنظر أيضًا:«تهذيب السنن» للمصنف (1/ 545).
(2)
كذا في ع، والمطبوع. وفي النسخ الخطية والطبعات الأخرى:«ولم تَسَعْ» بإهمال العين، وهو أيضًا صحيح.
الأزواج. ولعلها تتذكر زوجها فيها، وترغب في رجعته، ويزول ما عندها من الوحشة. ولو قيل:«إن اعتداد المختلعة بثلاث حِيَض لهذا المعنى بعينه» لكان حسنًا على وفق حكمة الشارع. ولكن هذا مفقود في المسبيَّة والمهاجِرة والزانية والموطوءة بشبهة.
فإن قيل: فَهبْ أن هذا كلَّه قد سلِم لكم، فكيف يسلَم لكم في الآيسة والصغيرة التي لا يوطأ مثلها؟
قيل: هذا إنما يرِد على من جعَل علةَ العدَّة مجرد براءة الرحم فقط. ولهذا أجابوا عن هذا السؤال بأن العدة هاهنا شُرعت تعبدًا محضًا غيرَ معقول المعنى. وأما مَن جعل هذا بعض مقاصد العدَّة، وأن [291/أ] لها مقاصد أُخَر من تكميل شأن هذا العقد، واحترامه وإظهار خطره وشرفه= فجُعِل له
(1)
حريمٌ بعد انقطاعه بموت أو فرقة. فلا فرق في ذلك بين الآيسة وغيرها، ولا بين الصغيرة والكبيرة؛ مع أن المعنى الذي طُوِّلت له العدَّةُ في الحائض في الرجعية والمطلقة ثلاثًا موجودٌ بعينه في حقِّ الآيسة والصغيرة. وكان مقتضى الحكمة التي تضمَّنت النظر في مصلحة الزوج في الطلاق الرجعي، وعقوبته وزجره في الطلاق المحرَّم التسويةَ بين النساء في ذلك. هذا ظاهرٌ جدًّا، وبالله التوفيق.
(1)
يعني: «للعقد» . في النسخ المطبوعة: «لهم» ، وكأنَّ من غيَّر «له» أراد إصلاح السياق بإعادة الضمير إلى «من جعل» ، وكون الفاء في «فجعل» داخلة على جواب «أمَّا». والحق أنه زاد السياق اختلالًا. ويبدو لي ــ والله أعلم ــ أن «وأن» في قوله:«وأن لها مقاصد أخر» تصحيف «قال» . فيكون السياق هكذا: «وأما من جعل هذا بعض مقاصد العدَّة قال: لها مقاصد أخر
…
».
فصل
وأما تحريم المرأة على الزوج بعد الطلاق الثلاث وإباحتها له بعد نكاحها للثاني، فلا يعرف حكمته إلا من له معرفة بأسرار الشريعة وما اشتملت عليه من الحِكم والمصالح الكلِّيّة. فنقول وبالله التوفيق:
لما كان إباحة فرج المرأة للرجل بعد تحريمه عليه ومنعه منه من أعظم نِعَم الله عليه وإحسانه إليه كان جديرًا بشكر هذه النعمة ومراعاتها، والقيام بحقوقها وعدم تعرُّضها
(1)
للزوال. وتنوَّعت الشرائع في ذلك بحسب المصالح التي علِمَها الله في كلِّ زمان ولكلِّ أمة. فجاءت شريعة التوراة بإباحتها له بعد الطلاق ما لم تتزوج. فإذا تزوجت حَرُمت عليه، ولم يبق له سبيل إليها. وفي ذلك من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى. فإن الزوج إذا علِم أنه إذا طلَّق المرأةَ وصار
(2)
أمرها [291/ب] بيدها، وأن لها أن تنكح غيره، وأنها إذا نكحت غيره حَرُمت عليه أبدًا= كان تمسُّكُه بها أشدَّ، وحذرُه من مفارقتها أعظم. وشريعة التوراة جاءت بحسب الأمة الموسوية، فيها من الشدة والإصر ما يناسب حالهم. ثم جاءت شريعة الإنجيل بالمنع من الطلاق بعد التزوج البتة، فإذا تزوج بامرأة فليس له أن يطلِّقها.
ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمدية، التي هي أكملُ شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلُّها وأفضلها وأعلاها وأقوَمها بمصالح العباد في المعاش والمعاد، بأحسن من ذلك كلِّه وأكملِه وأوفقِه للعقل
(1)
في النسخ المطبوعة: «تعريضها» .
(2)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. والظاهر أن الواو قبل «صار» مقحمة.
والمصلحة؛ فإن الله سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها، وأتمَّ عليها نعمته، وأباح لها من الطيبات ما لم يُبِحه لأمة غيرها. فأباح للرجل أن ينكح من أطايب النساء أربعًا، وأن يتسرَّى من الإماء بما شاء، وليس التسرِّي في شريعة أخرى غيرها. ثم أكمل لعبده شرعَه، وأتمَّ عليه نعمته، بأن ملَّكه أن يفارق امرأته ويأخذ غيرها، إذ لعل الأولى لا تصلح له ولا توافقه، فلم يجعلها غُلًّا في عنقه، وقيدًا في رِجله، وإصرًا على ظهره. وشرع له فراقها على أكمل الوجوه لها وله، بأن يفارقها واحدةً، ثم تتربَّص ثلاثةَ قروء، والغالب أنها في ثلاثة أشهر. فإن تاقت نفسه إليها، وكان له فيها رغبة، وصرَف مقلبُ القلوب قلبَه إلى محبتها= وجد السبيلَ إلى ردِّها ممكنًا، والبابَ مفتوحًا، فراجع حبيبته
(1)
، [292/أ] واستقبل أمره، وعاد إلى يده ما أخرجته يدُ الغضب ونزغات الشيطان منها. ثم لا تؤمن غلَباتُ الطباع ونزَغاتُ الشيطان من المعاودة، فمُكِّن من ذلك أيضًا مرة ثانية. ولعلها أن تذوق من مرارة الطلاق وخراب البيت ما يمنعها من معاودة ما يُغضبه، ويذوق هو من ألم فراقها ما يمنعه من التسرُّع إلى الطلاق. فإذا جاءت الثالثة جاء ما لا مردَّ له من أمر الله، وقيل له: قد اندفعت حاجتك بالمرة الأولى والثانية، ولم يبق لك عليها بعد الثالثة سبيل. فإذا علم أن الثالثة فراقُ بينه وبينها وأنها القاضية أمسك عن إيقاعها.
فإنه إذا علم أنها بعد الثالثة لا تحِلُّ له إلا بعد تربُّص ثلاثة قروء، وتزوُّجٍ بزوجٍ راغبٍ في نكاحها وإمساكها، وأن الأول لا سبيل له إليها حتى يدخل بها الثاني دخولًا كاملًا يذوق فيه كلُّ واحد منهما عُسَيلةَ صاحبه بحيث يمنعهما ذلك من تعجيل الفراق، ثم يفارقها بموت أو طلاق أو خلع،
(1)
ح: «حبيبه» .
ثم تعتدُّ من ذلك عدّةً كاملةً= تبيَّن له حينئذ يأسُه بهذا الطلاق الذي هو من أبغض الحلال إلى الله، وعلِمَ كلُّ واحد منهما أنه لا سبيل له إلى العود بعد الثالثة، لا باختياره ولا باختيارها. وأكَّد هذا المقصود بأن لعن الزوج الثاني إذا لم ينكِح نكاحَ رغبةٍ يقصد فيه الإمساك، بل نكَح نكاحَ تحليل؛ ولعن الزوجَ الأول إذا ردَّها بهذا النكاح. بل ينكحها الثاني كما نكحها الأول، ويطلِّقها كما [292/ب] طلَّقها الأول. وحينئذ فتباح للأول، كما تباح لغيره من الأزواج.
وأنت إذا وازنت بين هذا وبين الشريعتين المنسوختين، ووازنت بينه وبين الشريعة المبدَّلة المبيحة ما لعنَ اللهُ ورسولُه فاعلَه= تبيَّن لك عظمة هذه الشريعة وجلالتها، وهيمنتها على سائر الشرائع، وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمِّها وأحسنها وأنفعها للخلق، وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدَّلة، فإن الله سبحانه شرعهما في وقت، ولم يشرع المبدَّلة أصلًا.
وهذه الدقائق ونحوها مما يختصُّ الله سبحانه بفهمه من شاءَ
(1)
؛ فمن وصل إليها فليحمد الله، ومن لم يصل إليها فليسلِّم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين، وليعلم أن شريعته فوقَ عقول العقلاء، ووَفْقَ
(2)
فِطَرِ الألبَّاء
(3)
.
وقل للعيون الرُّمْدِ لا تتقدَّمي
…
إلى الشمس واستغشِي ظلامَ اللياليا
(1)
في النسخ المطبوعة: «يشاء» .
(2)
في المطبوع: «وفوق» متابعةً لنشرة الشيخ عبد الرحمن الوكيل. والواو قبل «وفق» ساقطة من نشرة الشيخ محمد محيي الدين.
(3)
ع: «الأولياء» ، تحريف.
وسامِحْ ولا تنكِرْ عليها وخَلِّها
…
وإن أنكرت حقًّا فقُلْ خَلِّ ذا ليا
(1)
غيره
(2)
:
عاب التفقُّهَ قومٌ لا عقول لهم
…
وما عليه إذا عابوه من ضَرَرِ
ما ضرَّ شمسَ الضحى والشمسُ طالعةٌ
…
أن لا يرى ضوءَها مَن ليس ذا بَصَرِ
(3)
فصل
وأما إيجابه لغسل المواضع التي لم تخرج منها الريح، وإسقاطه غسل الموضع الذي خرجت منه، فما أوفقه للحكمة، وما أشدَّه مطابقةً للفطرة! فإن حاصل السؤال: لم كان الوضوء في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة، [293/أ] مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين؟ وهذا سؤال معكوس، من قلب منكوس
(4)
؛ فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة، وكان أحقُّها به إمامَها ومقدَّمَها في الذكر والفعل، وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب. وبعده اليدان، وهما آلة البطش والتناول والأخذ، فهما أحقُّ الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه. ولما كان الرأسُ مجمعَ الحواسِّ وأعلى البدن وأشرفَه كان أحقَّ بالنظافة، لكن لو شَرَع غسلَه في الوضوء
(1)
البيتان مع خلاف في اللفظ من قصيدة في «مدارج السالكين» (3/ 33) يبدو أنها للمؤلف نفسه. والبيت الأول في «زاد المعاد» (3/ 37) أيضًا.
(2)
«غيره» من ت وحدها.
(3)
البيتان لمنصور الفقيه في «شعره» (ص 103).
(4)
«من قلب منكوس» ساقط من ع.
لعظمت المشقة، واشتدَّت البلية، فشرَع مسحَ جميعه، وأقامه مقامَ غسله تخفيفًا ورحمةً، كما أقام المسحَ على الخفين مقام غسل الرجلين.
ولعل قائلًا يقول: وما يجزئ
(1)
مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة؟ ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء امتثالًا لأمر الله وطاعةً له وتعبُّدًا يؤثِّر في نظافته وطهارته ما لا يؤثِّر غسلُه بالماء والسِّدر بدون هذه النية، والتحاكمُ في هذا إلى الذوق السليم والطبع المستقيم؛ كما أنَّ مَعْكَ الوجهِ بالتراب امتثالًا للأمر وطاعةً وعبوديةً تُكْسِبه وضاءةً ونظافةً وبهجةً تبدو على صفحاته للناظرين. ولما كانت الرجلان تمسُّ الأرض غالبًا، وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقيةُ الأعضاء= كانت أحقَّ بالغسل. ولم يوفَّق للفهم عن الله ورسوله مَن اجتزأ بمسحهما [293/ب] من غير حائل.
فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس. وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله، وبها يُعصَى الله سبحانه ويطاع. فاليد تبطش، والرِّجل تمشي، والعين تنظر، والأذن تسمع، واللسان يتكلم. فكان في غسل هذه الأعضاء امتثالًا لأمر الله، وإقامةً لعبوديته ما يقتضي إزالةَ ما لحقها من دَرَن المعصية ووسخها.
وقد أشار صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه إلى هذا المعنى بعينه حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في «صحيحه»
(2)
عن عمرو بن عَبَسة قال: قلت: يا رسول الله حدِّثني عن الوضوء. قال: «ما
(1)
ح، ف:«يجدي» بالدال.
(2)
برقم (832).
منكم من رجل يقرِّب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر [إلا خرَّت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسَل وجهه كما أمره الله]
(1)
إلا خرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرَّت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح برأسه إلا خرَّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرَّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء. فإن هو قام، فصلَّى، فحمِد الله وأثنى عليه ومجَّده بالذي هو له أهل
(2)
وفرَّغ قلبه لله= إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمُّه».
وفي «صحيح مسلم»
(3)
أيضًا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ العبد المسلم ــ أو المؤمن ــ فغسَلَ وجهَه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظَر [294/أ] إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخرِ قَطْرِ الماء. فإذا غسل يديه خرج من يديه كلُّ خطيئة كان بطشَتْها يداه مع الماء أو مع آخر قَطْرِ الماء. فإذا غسل رجليه خرجت كلُّ خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قَطْرِ الماء؛ حتى يخرج نقيًّا من الذنوب» .
(4)
عن عقبة بن عامر قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور، وعليه عُقَد. فيتوضأ، فإذا وضَّأ يديه انحلَّت عقدة، وإذا وضَّأ وجهَه انحلَّت عقدة، وإذا مسحَ رأسه انحلَّت عقدة، وإذا وضَّأ رجليه انحلَّت عقدة. فيقول
(1)
الظاهر أن ما بين الحاصرتين ساقط من النسخ لانتقال النظر.
(2)
ت: «بالذي هو أهله» . وفي النسخ المطبوعة: «بالذي هو أهله أو هو له أهل» !
(3)
برقم (244).
(4)
برقمي (17458، 17791)، وصححه ابن حبان (193).
الربُّ عز وجل للذي
(1)
وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا، يعالج نفسَه. ما سألني عبدي هذا فهو له».
وفيه
(2)
أيضًا عن أبي أمامة يرفعه: «أيُّما رجلٍ قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفَّيه نزلت خطيئته من كفَّيه مع أول قطرة. فإذا مضمض
(3)
واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة. فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة. فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلِمَ من كلِّ ذنب هو له ومن كلِّ خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه. فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته، وإن قعد قعد سالمًا».
وفيه أن مقصود المضمضة كمقصود غسل الوجه واليدين سواء، وأن
(4)
حاجة [294/ب] اللسان والشفتين إلى الغسل كحاجة بقية الأعضاء. فمَن أنكَسُ قلبًا وأفسَدُ فطرةً وأبطَلُ قياسًا ممن يقول: إن غسل باطن المقعدة أولى من غسل هذه الأعضاء، وإن الشارع فرَّق بين المتماثلين؟ هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبُّد لله من انشراح القلب وقوته، واتساع الصدر، وفرح النفس، ونشاط الأعضاء؛ فتميزت عن سائر الأعضاء بما أوجب غسلَها دون غيرها. وبالله التوفيق.
(1)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، و «صحيح ابن حبان» (1052، 2555). وفي «مسند أحمد» : «الذين» ، وكذا في «موارد الظمآن» (168).
(2)
برقم (22267)، وفي سنده شهر بن حوشب، وفيه لِينٌ. ويُنظر:«السنن الكبرى» للنسائي (10575).
(3)
في النسخ المطبوعة: «تمضمض» .
(4)
ضبطت في ح بكسر الهمزة: «إن» .
فصل
وأما اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه، دون غيره؛ فيقال: أين في نصوص الشارع هذا التفريق؟ بل نصُّه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه، إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق الأولى؛ فإنه إذا دفَعت توبتُه عنه حدَّ حِرابه
(1)
مع شدة ضررها وتعدِّيه، فلأن تدفع التوبةُ ما دون حدِّ الحِراب بطريق الأولى والأحرى. وقد قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
(2)
. والله تعالى جعل الحدودَ عقوبةً لأرباب الجرائم، ورفَع العقوبةَ عن التائب شرعًا وقدرًا، فليس في شرع الله ولا قدره عقوبةُ تائب البتة.
وفي «الصحيحين»
(3)
من حديث أنس قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا فأقِمْه عليَّ، قال: ولم يسأله عنه. فحضرت [295/أ] الصلاة، فصلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل، فأعاد قوله. قال:«أليس قد صلَّيتَ معنا؟» . قال: نعم. قال: «فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك» . فهذا لما جاء تائبًا بنفسه من غير أن يُطلَب غفَر الله له، ولم يُقَمْ عليه الحدُّ الذي اعترف به. وهذا
(4)
أحد القولين
(1)
في المطبوعة: «دُفعت توبته عند حد حرابه» ، وهو خطأ.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
البخاري (6823) ومسلم (2764).
(4)
في النسخ المطبوعة: «وهو» .
في المسألة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب
(1)
.
فإن قيل: فماعزٌ جاء تائبًا والغامديةُ جاءت تائبةً، وأقام عليهما الحد.
قيل: لا ريب أنهما جاءا تائبين، ولا ريب أن الحدَّ أقيم عليهما، وبهذا احتجَّ أصحاب القول الآخر. وسألتُ شيخنا عن ذلك، فأجاب بما مضمونه أنَّ الحدَّ مطهِّر، والتوبة
(2)
مطهِّرة، وهما اختارا التطهير بالحدِّ على التطهير بمجرد التوبة، وأبَيا إلا أن يطهَّرا بالحدّ. فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحدِّ، فقال في حقِّ ماعز:«هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه»
(3)
. ولو تعيَّن الحدُّ بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مخيَّر بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به:«اذهَبْ، فقد غفر الله لك» وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبَيَا إلا التطهير به. ولذلك ردَّهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرارًا، وهما يأبيان
(1)
انظر: «الروايتين والوجهين» (2/ 304) و «مجموع الفتاوى» (16/ 31). وستأتي المسألة مرة أخرى في كتابنا هذا.
(2)
في النسخ المطبوعة: «بأن الحد مطهر وأن التوبة» .
(3)
رواه أحمد (21890، 21892)، وأبو داود (4419)، والنسائي في «السنن الكبرى» (7234) من طرق عن يزيد بن نعيم الأسلمي، عن أبيه به. وصححه الحاكم (4/ 363)، وحسنه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (4/ 107).
ويُنظر: «المسند» لأحمد (15555، 21891)، و «التاريخ» لابن أبي خيثمة (2491 - السِّفْر الثاني)، و «السنن» لأبي داود (4420)، و «الجامع» للترمذي (1428)، و «السنن الكبرى» للنسائي (7235 - 7240)، و «معجم الصحابة» لابن قانع (3/ 150، 208)، و «معرفة الصحابة» لأبي نعيم (6390، 6572، 6573)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 535 - 536).
إلا إقامته عليهما. وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول: لا أثر للتوبة في [295/ب] إسقاطه البتة. وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط، والله أعلم.
فصل
وأما قوله: «وقبل شهادة العبد عليه صلى الله عليه وسلم بأنه قال: كذا وكذا، ولم يقبل شهادته على واحد من الناس بأنه قال: كذا وكذا» . فمضمون السؤال أن رواية العبد مقبولة دون شهادته.
والجواب: أنه لا يلزم الشارعَ قولُ فقيه معيَّن
(1)
ولا مذهب معيَّن. وهذا المقام لا يُنتصَر
(2)
فيه إلا لله
(3)
ورسوله فقط. وهذا السؤال كذِبٌ على الشارع، فإنه لم يأت عنه حرف واحد أنه قال: لا تقبلوا شهادة العبد، بل رُدُّوها، ولو كان عالمًا مفتيًا
(4)
من أولياء الله، ومن أصدق الناس لهجة؟ بل الذي دلَّ عليه كتابُ الله، وسنةُ رسوله، وإجماعُ الصحابة، والميزانُ العادلُ= قبولُ شهادة العبد فيما تقبل فيه شهادةُ الحُرِّ، فإنه من رجال المؤمنين، فيدخل في قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] كما دخل في قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]. وهو عدلٌ بالنص والإجماع، فيدخل في قوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
(1)
في المطبوع: «بعينه» !
(2)
ح، ف:«ينصر» .
(3)
في المطبوع: «لا يَقضِ فيه إلا الله» !
(4)
في ع زيادة: «فقيهًا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
[الطلاق: 2] كما دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه»
(1)
. ويدخل في قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وفي قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] وفي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الآية [النساء: 135]، كما دخل في جميع ما فيها من [296/أ] الأوامر. ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:«فإن شهد ذوا عدلٍ فصُوموا وأفطروا»
(2)
.
وقال أنس بن مالك: ما علمتُ أحدًا رَدَّ شهادةَ العبد. رواه الإمام أحمد عنه
(3)
. وهذا أصحُّ من غالب الإجماعات التي يدعيها المتأخرون.
فالشهادة على الشارع بأنه أبطَلَ شهادةَ العبد وردَّها شهادةٌ بلا علم. ولم يأمر الله بردِّ شهادة صادقٍ أبدًا، وإنما أمرَ بالتثبُّت في شهادة الفاسق.
فصل
وأما إيجاب الشارع الصدقةَ في السائمة وإسقاطها عن العوامل، فقد اختُلِفَ في هذه المسألة للاختلاف في الحديث الوارد فيها. وفي الباب حديثان:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في «المسند» (960)، والدارقطني في «السنن» (2193) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن بعض الصحابة مرفوعا. وهو عند أحمد (18895)، والنسائي (2116) بمعناه. ويُنظر:«السنن» للدارقطني (2191، 2192)، و «تحفة الأشراف» للمزي (11/ 178)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (3/ 216)، و «بغية الباحث» للهيثمي (316).
(3)
سبق تخريجه.
أحدهما: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه يرفعه:«ليس في الإبل العوامل صدقة» . رواه الدارقطني
(1)
من حديث غالب بن عبيد الله عن عمرو.
والثاني: حديث علي بن أبي طالب مرفوعًا: «ليس في البقر العوامل شيء» . رواه أبو داود
(2)
: حدثنا النُفَيلي، ثنا زُهَير، ثنا أبو إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة وعن الحارث عن علي، قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على العوامل شيء» . قال أبو داود: وروى حديث النفيلي شعبة وسفيان
(3)
وغيرهما عن أبي إسحاق، عن عاصم
(4)
، عن علي، لم يرفعوه.
ورواه نُعَيم بن حماد: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي موقوفًا: ليس في الإبل العوامل، ولا في البقر
(1)
برقم (1938)، ورواه أيضًا ابن عدي في «الكامل» (7/ 111 - 112) ــ ومن طريقه البيهقي (4/ 116) ــ. ووقع عندهم:(غالب القطان)، فقال الدارقطني:«كذا قال: (غالب القطان)، وهو عندي: (غالب بن عبيدالله)، والله أعلم» .وغالب بن عبيد الله هذا تالف هالك. ويُنظر: مقدمة «المسند الصحيح» لمسلم (1/ 18)، و «البدر المنير» (5/ 460 - 461)، و «إتحاف المهرة» (9/ 480)، و «التلخيص الحبير» (2/ 307).
(2)
في «السنن» (1572)، وصححه ابن خزيمة (2270) وابن القطان الفاسي في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 285). ويُنظر:«الأموال» لابن زنجويه (1473، 1475)، و «العلل» للدارقطني (4/ 73 - 75)، و «السنن» له (1941)، و «السنن الكبير» للبيهقي (4/ 116)، و «معرفة السنن والآثار» له (3/ 260)، و «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي (2/ 152 - 154)، و «التلخيص الحبير» لابن حجر (2/ 307).
(3)
رواه عبد الرزاق (6829) عن معمر والثوري، عن أبي إسحاق به موقوفًا.
(4)
زِيد بعده في النسخ المطبوعة: «بن ضمرة» .
العوامل صدقة
(1)
.
ورواه الدارقطني
(2)
من [296/ب] حديث صقر بن حبيب: سمعتُ أبا رجاء، عن ابن عباس، عن عليٍّ مرفوعًا
(3)
.
قال ابن حبان
(4)
: ليس هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يُعرَف بإسناد منقطع فقلبه
(5)
الصقر
(6)
على أبي رجاء
(7)
، وهو يأتي بالمقلوبات.
(1)
رواه البيهقي (4/ 116)، وفي «معرفة السنن والآثار» (3/ 260) من طريق نُعيم به.
وتابع نُعيمًا على طرفه الثاني: أبو عبيد في «الأموال» (969)، وابن أبي شيبة (10046)، والحسين بن أبي زيد (منصور الدبّاغ) عند الدارقطني (1941).
(2)
في «السنن» (1907)، وفي «المؤتلف والمختلف» (3/ 1182 - 1183) ــ ومن طريقه ابن الجوزي في «التحقيق» (954، 964) وفي «العلل المتناهية» (822) ــ، وفي سنده أحمد بن الحارث الغساني الغنوي البصري، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 2):«فيه بعض النظر» . وقال أبو حاتم كما في «الجرح والتعديل» (2/ 47): «متروك» . وشيخُه ابن حبيب، قال ابن حبان:«يُخالف الثقات في الروايات، ويأتي بالمقلوبات عن الأثبات» . ويُنظر: «معرفة المجروحين» لابن حبان (1/ 375)، و «تعليقات الدارقطني عليه» (ص 136)، و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (3/ 426 - 427)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (3/ 41 - 42).
(3)
ع: «موقوفًا» ، وكذا في الطبعات القديمة، وهو خطأ.
(4)
في «معرفة المجروحين» (1/ 375)، ولكن المؤلف صادر هنا عن كتاب «التحقيق» لابن الجوزي (2/ 34).
(5)
ع: «نقله» ، وكذا في الطبعات القديمة. وفي غيرها:«يقلبه» ، وكذا في المطبوع. وهو تصحيف ما أثبتّه من مصدر النقل. وفي «المجروحين»:«فقلب هذا الشيخ على أبي رجاء» .
(6)
كذا، وإنما سمّاه ابن حبان في «معرفة المجروحين» (1/ 375) الصعق، فقال الدارقطني في «تعليقاته عليه» (ص 136):«هو الصقر بن حبيب» .
(7)
ع: «عن أبي رجاء» . وكذا في النسخ المطبوعة.
وروي من حديث جابر
(1)
، وابن عباس
(2)
مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أشبه.
وبعدُ، فللعلماء في المسألة قولان: فقال مالك في «موطئه»
(3)
: النواضح والبقر السواني وبقر الحرث، إني أرى أن يؤخذ من ذلك كلِّه الزكاة إذا وجبت فيه الصدقة. قال ابن عبد البر
(4)
: «وهذا قول الليث بن سعد، ولا أعلم أحدًا قال به من فقهاء الأمصار غيرَهما. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه
(5)
والأوزاعي وأبو ثور وأحمد وأبو عبيد وإسحاق وداود: لا زكاة في البقر العوامل، ولا الإبل العوامل
(6)
، وإنما الزكاة في السائمة منها. وروي قولهم ذلك عن طائفة من الصحابة، منهم
(1)
رواه الدارقطني (1944) ومن طريقه ابن الجوزي في «التحقيق» (960). ورفعُه منكر ظاهر النكارة، والمحفوظ بذاك السندِ نفسِه: موقوفٌ. وقال البيهقي (4/ 116): «وفي إسناده ضعفٌ، والصحيحُ: موقوفٌ» . وسيأتي تخريجه بعد حديثين.
(2)
رواه الطبراني (10974)، وابن عدي (4/ 534)، والدارقطني (1939) ــ ومن طريقه ابن الجوزي في «التحقيق» (959) ــ من رواية سوار بن مصعب، عن ليث، عن مجاهد وطاوس، عن ابن عباس مرفوعا! وآفتُه سوار بن مصعب، وهو متروك، والمحفوظ عن ليث روايتُه إيّاه عن طاوس مقطوعا، وعن طاوس عن معاذ موقوفا منقطعا. على أن ليثًا (وهو ابن أبي سُليم) ضعيفٌ صاحبُ تخليط، لكن البليّة في رفع هذا الحديث من سوار.
(3)
طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (1/ 262).
(4)
في «الاستذكار» (3/ 193).
(5)
لم يرد «وأصحابه» في مطبوعة «الاستذكار» .
(6)
«ولا الإبل العوامل» لم يرد في مطبوعة «الاستذكار» .
علي
(1)
وجابر
(2)
ومعاذ بن جبل
(3)
. وكتب عمر بن عبد العزيز أنه ليس في البقر العوامل صدقة
(4)
»
(5)
.
وحجة هؤلاء مع الأثر النظر، فإنَّ ما كان من المال مُعَدًّا
(6)
لنفع صاحبه به، كثياب بِذلته، وعَبيد خدمته، وداره التي يسكنها، ودابته التي يركبها، وكتبه التي ينتفع بها وينفَع
(7)
= فليس فيها زكاة. ولهذا لم يكن في حُلِيِّ المرأة التي تلبسه وتعيره زكاة. فطردُ هذا أنه لا زكاة في بقر حرثه وإبله التي يعمل فيها [297/أ] بالدولاب وغيره. فهذا محض القياس، كما أنه موجب النصوص. والفرق بينها وبين السائمة ظاهر، فإن هذه مصروفة عن جهة النماء إلى العمل، فهي كالثياب والعبيد والدار. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه عبد الرزاق (6829)، وأبو عبيد في «الأموال» (969)، وابن أبي شيبة (10046)، وابن زنجويه في «الأموال» (1473، 1475)، والدارقطني في «السنن» (1941)، والبيهقي في «السنن الكبير «» (4/ 116) وفي «معرفة السنن والآثار» (3/ 260).
(2)
رواه عبد الرزاق (6828)، وأبو عبيد في «الأموال» (975، 976)، وابن أبي شيبة (10055)، وابن زنجويه في «الأموال» (1447، 1448، 1476)، والدارقطني (1942)، والبيهقي (4/ 116، 117) موقوفًا، وصححه ابن خزيمة (2271)، والبيهقي (4/ 116، 117) وفي «معرفة السنن والآثار» (3/ 261).
(3)
رواه عبد الرزاق (6830)، وابن أبي شيبة (10047)، وابن زنجويه في «الأموال» (1474).
(4)
رواه أبو عبيد في «الأموال» (972، 973)، وابن أبي شيبة (10049)، وابن زنجويه في «الأموال» (1450، 1483).
(5)
هنا انتهى النقل من «الاستذكار» .
(6)
في المطبوع: «معدٌّ» ، وهو غلط.
(7)
«وينفع» ساقط من ع. وفي النسخ المطبوعة: «وينفع غيره» بزيادة «غيره» .
فصل
وأما قوله: «وجعل الحرَّةَ القبيحةَ الشوهاءَ تُحْصِن الرجلَ، والأَمةَ البارعةَ الجمال لا تُحْصنه» ، فتعبير سيِّئ عن معنى صحيح؛ فإن حكمة الشارع اقتضت وجوب حدِّ الزنا على من كملت عليه نعمة الله بالحلال، فتخطَّاه إلى الحرام. ولهذا لم يوجب كمال الحدِّ على من لم يحصن، واعتبر للإحصان أكمل أحواله، وهو أن يتزوج بالحرة التي يرغب الناس في مثلها، دون الأمة التي لم يُبِح الله نكاحها إلا عند الضرورة، فالنعمة بها ليست كاملة؛ ودون التسرِّي الذي هو في الرتبة دون النكاح، فإن الأمة ــ ولو كانت ما عسى أن تكون ــ لا تبلغ رتبةَ الزوجة، لا شرعًا ولا عرفًا ولا عادةً، بل قد جعل الله لكلٍّ منهما رتبةً. والأمة لا تراد لما تراد له الزوجة، ولهذا كان له أن يملك من لا يجوز له نكاحها
(1)
، ولا قَسْم عليه في ملك يمينه. فأمته تجري في الابتذال والامتهان والاستخدام مجرى دابته وغلامه، بخلاف الحرائر. وكان من محاسن الشريعة أن اعتبرت في كمال النعمة على من يجب عليه الحدُّ أن يكون قد عقَد على حُرَّةٍ ودخل بها، إذ بذلك يقضي كمال وطره، ويعطي شهوته حقَّها، ويضعها مواضعها. هذا هو [297/ب] الأصل ومنشأ الحكمة.
ولا يعتبر ذلك في كلِّ فردٍ فردٍ من أفراد المحصنين. ولا يضرُّ تخلُّفه في كثير من المواضع، إذ شأن الشرائع الكلية أن تراعي الأمور العامة المنضبطة، ولا ينقضها تخلُّفُ
(2)
الحكمة في أفراد الصور، كما هذا شأن الخلق. فهو موجَب حكمة الله في خلقه وأمره في قضائه وشرعه. وبالله التوفيق.
(1)
في النسخ الخطية: «نكاحه» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ الخطية: «بتخلف» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.
فصل
وأما قوله: «ونقض الوضوء بمسِّ الذكر دون سائر الأعضاء، ودون مسِّ العذِرة والبول» ، فلا ريب أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمرُ بالوضوء من مسِّ الذكر
(1)
، وروي عنه خلافه، وأنه سئل عنه، فقال للسائل:«هل هو إلا بضعة منك»
(2)
.
وقد قيل: إن هذا الخبر لم يصح. وقيل: بل هو منسوخ. وقيل: بل هو محكم دالٌّ على عدم الوجوب. وحديث الأمر دالٌّ على الاستحباب. فهذه ثلاثة مسالك للناس في ذلك.
وسؤال السائل ينبني على صحة حديث الأمر بالوضوء وأنه للوجوب. ونحن نجيبه على هذا التقدير، فنقول: هذا من كمال الشريعة وتمام محاسنها. فإن مسَّ الذكر مُذَكِّر بالوطء، وهو في مظنة الانتشار غالبًا، والانتشار الصادر عن المسِّ في مظنة خروج المذي ولا يشعر به. فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائها وكثرة وجودها، كما أقيم النوم مقام
(1)
رواه أحمد (27293)، وأبو داود (181)، والترمذي (82، 83، 84) وصححه، وابن ماجه (479)، والنسائي (163، 164) من حديث بُسرة بنت صفوان مرفوعا.
وصححه أيضًا جماعة من الحفاظ؛ منهم: الإمام أحمد، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وابن خزيمة (33)، وابن حبان (988 - 993)، والحاكم (1/ 136، 138). ويُنظر: «مسائل أبي داود الإمامَ أحمد» (1966)، و «مسائل الكوسج» عن أحمد وإسحاق (53، 109)، و «العلل» للدارقطني (15/ 313 - 356)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (1/ 268 - 274)، و «التلخيص الحبير» لابن حجر (1/ 213 - 221).
(2)
سبق تخريجه.
الحدث، وكما أقيم لمسُ المرأة لشهوةٍ
(1)
مقام الحدَث.
وأيضًا فإن مسَّ الذكر يوجب [298/أ] انتشار حرارة الشهوة وثورانها في البدن، والوضوء يطفئ تلك الحرارة، وهذا مشاهَد بالحسِّ. ولم يكن الوضوء من مسِّه لكونه نجسًا، ولا لكونه مجرى النجاسة حتى يورد السائل مسَّ العَذِرة والبول. ودعواه بمساواة مسِّ الذكر للأنف من أكذب الدعاوي وأبطل القياس. وبالله التوفيق.
فصل
وأما قوله: «أوجب الحدَّ في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول» ، فهذا أيضًا من كمال هذه الشريعة، ومطابقتها للعقول والفطر، وقيامها بالمصالح. فإن ما جعل الله سبحانه في طباع الخلق النفرةَ
(2)
عنه ومجانبتَه اكتفى بذلك عن الوازع عنه بالحدِّ، لأن الوازعَ الطَّبْعيَّ
(3)
كافٍ في المنع منه.
وأما ما يشتدُّ تقاضي الطباع له فإنه غلَّظ العقوبة عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له، وسدَّ الذريعة إليه من قرب وبعد، وجعل ما حوله حِمًى، ومنع من قربانه. ولهذا عاقب في الزنا بأشنع القتلات، وفي السرقة بإبانة اليد، وفي الخمر بتوسيع الجلد ضربًا بالسوط، ومنع
(4)
قليل الخمر وإن
(1)
في النسخ المطبوعة: «بشهوة» .
(2)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة بدلًا من «من النفرة» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «الطبيعي» .
(4)
زاد بعده في المطبوع: «من» .
كان لا يُسكِر، إذ قليلُه داعٍ إلى كثيره. ولهذا كان من أباح من نبيذ التمر المسكِر القدرَ الذي لا يُسكِر خارجًا عن محض القياس والحكمة وموجب النصوص.
وأيضًا فالمفسدةُ التي في شُربِ الخمر والضررُ المختصُّ والمتعدِّي أضعافُ الضرر والمفسدة التي في شرب [298/ب] البول وأكل القاذورات، فإن ضررها مختصُّ بمتناوِلها.
فصل
وأما قوله: «وقصَر عددَ المنكوحات على أربع، وأباح ملك اليمين بغير حصر» ، فهذا من تمام نعمته وكمال شريعته، وموافقتها للحكمة والرحمة والمصلحة. فإن النكاح يراد للوطء وقضاء الوطر، ثم من الناس من يغلب عليه سلطان هذه الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة، فأطلق له ثانية وثالثة ورابعة. وكان هذا العدد موافقًا لعدد طباعه وأركانه، وعدد فصول سنته، ولرجوعه إلى الواحدة بعد صبر ثلاث عنها. والثلاث أول مراتب الجمع، وقد علَّق الشارع بها عدَّة أحكام، ورخَّص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه
(1)
ثلاثًا
(2)
، وأباح للمسافر أن يمسح على خفيه ثلاثًا
(3)
، وجعل حدَّ
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «بمكة» .
(2)
أخرجه البخاري (3933) ومسلم (1353) من حديث العلاء بن الحضرمي.
(3)
رواه أحمد (18091، 18093 - 18095، 18097)، والترمذي (96) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (478)، والنسائي (126، 127) من حديث صفوان بن عسّال مرفوعًا.
وصححه أيضًا ابن خزيمة (17، 193، 196)، وابن حبان (1267، 1268، 3926، 5593)، واختاره الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (8/ 31 - 42).
وله شواهد كثيرة جدًّا، منها حديث علي مرفوعا، رواه مسلم (276)، وابن ماجه (552)، والنسائي (128، 129). ومنها حديث أبي بكرة الثقفي مرفوعا، رواه ابن ماجه (556)، وصححه ابن خزيمة (192).
الضيافة المستحبة أو الواجبة
(1)
ثلاثًا
(2)
، وأباح للمرأة أن تُحِدَّ على غير زوجها ثلاثًا
(3)
. فرحم الضرَّةَ بأن جعل غاية انقطاع زوجها عنها ثلاثًا، ثم يعود. فهذا محض الحكمة والرحمة
(4)
والمصلحة.
وأما الإماء فلما كنَّ بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرها لم يكن لقصر المالك على أربعة منهن أو غيرها من العدد معنًى. فكما ليس في حكمة الله ورحمته أن يقصر السيد على أربعة عبيد أو أربع
(5)
دوابّ وثياب ونحوها، فليس في حكمته أن يقصره على أربع
(6)
إماء.
وأيضًا فللزوجة حقٌّ على الزوج اقتضاه عقدُ النكاح، يجب على الزوج القيام [299/أ] به؛ فإن شاركها غيرُها وجب عليه العدل بينهما. فقصَر الأزواج على عدد يكون العدل فيه أقرب مما زاد عليه، ومع هذا فلا يستطيعون العدل ولو حرصوا عليه. ولا حقَّ لإمائه عليه في ذلك، ولهذا لا يجب لهن قَسْمٌ. ولهذا قال تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]. والله أعلم.
(1)
ع: «الموجبة» . وفي ت: «المستحقة أو المستحبة» .
(2)
أخرجه البخاري (6019) ومسلم (48) من حديث أبي شريح العدوي.
(3)
أخرجه البخاري (1281) من حديث أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
في النسخ المطبوعة: «الرحمة والحكمة» .
(5)
في النسخ الخطية: «أربعة» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.
(6)
ما عدا ع: «أربعة» .
فصل
وأما قوله: «وإنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات، ولم يُبِح للمرأة أن تتزوج بأكثر من زوج واحد» ، فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعاية مصالحهم. ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك، وينزَّه شرعه أن يأتي بغير هذا. ولو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثرَ لفسَد العالم، وضاعت الأنساب، وقتل الأزواج بعضهم بعضًا، وعظمت البلية، واشتدت الفتنة، وقامت سوق الحرب على ساق. وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون؟ وكيف يستقيم حال الشركاء فيها؟ فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمة الشارع ورحمته وعنايته بخلقه.
فإن قيل: فكيف رُوعي جانبُ الرجل، وأُطلِق له أن يُسِيمَ طرفه ويقضي وطره، وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته؛ وداعي المرأة داعيه، وشهوتها شهوته؟
قيل: لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبَّأةً وراء
(1)
الخدور
(2)
، محجوبة في كِسْرِ
(3)
بيتها، [299/ب] وكان مزاجها أبرد من مزاج الرجل، وحركتها الظاهرة والباطنة أقلَّ من حركته؛ وكان الرجل قد أعطي من القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثرَ مما أعطيته المرأة، وبُلِي بما لم تُبْلَ
(1)
في النسخ المطبوعة: «من وراء» بزيادة «من» .
(2)
في المطبوع: «الخُدُر» بضم الخاء والدال!
(3)
كِسْر البيت: جانبه. وفي ع: «كِنّ» ، وكذا في النسخ المطبوعة مع زيادة الواو قبل «محجوبة» .
به = أُطلِق له من عدد المنكوحات ما لم يُطلَق للمرأة. وهذا مما خصَّ الله به الرجال، وفضَّلهم به على النساء، كما فضَّلهم عليهن بالرسالة والنبوة والخلافة والملك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك. وجعل الرجال قوَّامين على النساء ساعين في مصالحهن، يدأبون في أسباب معيشتهن، ويركبون الأخطار، يجوبون القفار، ويعرِّضون أنفسهم لكلِّ بلية ومحنة في مصالح الزوجات. والربُّ تعالى شكور حليم، فشكر لهم ذلك، وجبَرهم بأن مكَّنهم مما لم يمكِّن منه الزوجات. وأنت إذا قايستَ بين تعب الرجال وشقائهم وكدِّهم ونَصَبهم في مصالح النساء وبين ما ابتلي به النساء من الغيرة وجدتَ حظَّ الرجال من تحمُّل ذلك التعب والنصب والدأب أكثرَ من حظِّ النساء من تحمُّل الغيرة. فهذا من كمال عدل الله وحكمته ورحمته، فله الحمد كما هو أهله.
وأما قول القائل: «إن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل» ، فليس كما قال. والشهوة منبعها الحرارة، وأين حرارة الأنثى من حرارة الذكر؟ ولكن المرأة ــ لفراغها وبطالتها وعدم معاناتها لما يشغلها عن أمر شهوتها [300/أ] وقضاء وطرها ــ يغمُرها سلطانُ الشهوة، ويستولي عليها، ولا يجد
(1)
عندها ما يعارضه، بل يصادف قلبًا فارغًا ونفسًا خاليةً، فيتمكَّن منها كلَّ التمكُّن، فيظن الظانُّ أن شهوتها أضعاف شهوة الرجل، وليس كذلك. ومما يدل عليه
(2)
أن الرجل إذا جامع امرأةً
(3)
أمكنه أن يجامع غيرها في الحال. وكان
(1)
في النسخ الخطية: «ولم يجد» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.
(2)
ح، ف:«على» . وفي ع: «على ذلك» . وفي النسخ المطبوعة: «على هذا» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «امرأته» .
النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في الليلة الواحدة
(1)
. وطاف سليمان على تسعين امرأة في ليلة
(2)
، ومعلوم أن له عند كلِّ امرأة شهوةً وحرارةً باعثةً على الوطء. والمرأة إذا قضى الرجل وطره فترت شهوتها، وانكسرت نفسها، ولم تطلب قضاءها من غيره في ذلك الحين. فتطابقت حكمة الشرع والقدر
(3)
والخلق والأمر. ولله الحمد.
فصل
وأما قوله: «أباح للرجل أن يستمتع من أَمته بملك اليمين بالوطء وغيره، ولم يبح للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره» ، فهذا أيضًا من كمال هذه الشريعة وحكمتها. فإنَّ السيِّد قاهر لمملوكه، حاكم عليه، مالك له. والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها، وهي تحت سلطانه وحكمه، تُشبه الأسير. ولهذا مُنِع العبدُ من نكاح سيدته، للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها، وبين كونها سيدته وموطوءته. وهذا أمر مشهود بالفطرة والعقول قبحُه، وشريعة أحكم الحاكمين منزَّهة عن أن تأتي به.
فصل
وأما قوله: «فرَّق
(4)
بين الطلقات، فجعل بعضها محرِّمًا للزوجة
(1)
أخرجه البخاري (268) ومسلم (309) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (6639) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
، وفيه:«على مائة امرأة أو تسع وتسعين» . وفيه (3424): «على سبعين امرأة» . وفيه (7469) أنه «كان له ستون امرأة، فقال: لأطوفن
…
».
(3)
ع: «القدر والشرع» .
(4)
ع: «وفرَّق» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
وبعضها غير [300/ب] محرِّم»، فقد تقدَّم من بيان حكمة ذلك ومصلحته ما فيه كفاية.
فصل
وأما قوله: «وفرَّق
(1)
بين لحم الإبل وغيره من اللحوم في الوضوء»، فقد تقدَّم في الفصل الذي قبل هذا جواب هذا السؤال، وأنه على وَفْق الحكمة ورعاية المصلحة.
فصل
وأما قوله: «وفرَّق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة» ، فهذا سؤال أورده عبد الله بن الصامت على أبي ذر، وأورده أبو ذر على النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب عنه بالفرق المبين
(2)
، فقال:«الكلب الأسود شيطان»
(3)
. وهذا إن أريد به أن الشيطان يظهر في صورة الكلب الأسود كثيرًا كما هو الواقع فظاهر. وليس بمستنكر
(4)
أن يكون مرورُ عدوِّ الله بين يدي المصلي قاطعًا لصلاته، ويكون مروره قد جعل تلك الصلاةَ بغيضةً إلى الله مكروهةً له، فيؤمر المصلِّي بأن يستأنفها. وإن كان المراد به أن الكلب الأسود شيطان الكلاب، فإنَّ كلَّ جنس من أجناس الحيوانات فيها شياطين، وهي ما عتَا منها وتمرَّد، كما أن شياطين الإنس عُتاتهم ومتمرِّدوهم، والإبل شياطين
(1)
ت: «فرَّق» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «البيّن» .
(3)
أخرجه مسلم (510) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(4)
ت: «بمستكثر» .
الأنعام، وعلى ذروة كلِّ بعير شيطان
(1)
= فيكون مرورُ هذا النوع من الكلاب ــ وهو من أخبثها وشرِّها ــ مبغِّضًا لتلك الصلاة إلى الله، فيجب على المصلي أن يستأنفها. وكيف يُستبعد أن يقطع مرورُ العدوِّ [301/أ] بين الإنسان وبين وليِّه حكمَ مناجاته له، كما قطعها كلمةٌ من كلام الآدميين أو قهقهة أو ريح، أو ألقى عليه الغيرُ نجاسةً، أو نوَّمه الشيطان فيها؟
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن شيطانًا تفلَّت عليَّ البارحةَ ليقطع عليَّ صلاتي»
(2)
.
وبالجملة، فللشارع في أحكام العبادات أسرارٌ لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل، وإن أدركتها جملةً.
فصل
وأما قوله: «وفرَّق بين الريح الخارجة من الدبر وبين الجَشْوة، فأوجب الوضوء من هذه دون هذه» ، فهذا أيضًا من محاسن هذه الشريعة وكمالها، كما فرَّق بين البلغم الخارج من الفم وبين العَذِرة في ذلك. ومن سوَّى بين الريح والجشاء فهو كمن سوَّى بين البلغم والعَذِرة. والجشاءُ من جنس العطاس الذي هو ريح تحتبس في الدماغ، ثم تطلب لها منفذًا، فتخرج من الخياشيم، فيحدث العطاس. وكذلك الجشاء ريح تحتبس فوق المعدة فتطلب الصعود، بخلاف الريح التي تحتبس تحت المعدة. ومن سوَّى بين الجشوة والضرطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحِسّ.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (461) ومسلم (541) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فصل
وأما قوله: «أوجب الزكاة في خمس من الإبل، وأسقطها عن آلاف من الخيل» ؛ فلعَمْرُ الله، إنه أوجب الزكاة في هذا الجنس دون هذا، كما في «سنن أبي داود»
(1)
من حديث عاصم بن ضمرة، عن علي قال: قال [301/ب] رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد عفوتُ عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقَة
(2)
: من كلِّ أربعين درهمًا درهم. وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم».
ورواه سفيان عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي
(3)
.
وقال بقية: حدثني أبو معاذ الأنصاري، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة يرفعه:«عفوتُ لكم عن صدقة الجَبْهة، والكُسْعَة، والنُّخَّة»
(4)
. قال بقية: الجبهة: الخيل. والكُسْعة: البغال والحمير. والنُّخَّة:
(1)
برقم (1574). ورواه أحمد (711، 913)، والترمذي (620)، والنسائي (2477، 2478). وصححه ابن خزيمة (2284)، وحسنه البغوي في «شرح السنة» (6/ 47)، واختاره الضياء المقدسي (2/ 140 - 141).
(2)
هي الورِق، يعني: الفضة.
(3)
رواه أحمد (1097)، وابن ماجه (1790) من طريق سفيان الثوري به. ورواه ابن ماجه (1813) من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق به. ورواه ابن وهب في «الجامع» (191) عن السفيانَيْن معًا، ومن طريقه رواه البيهقي (4/ 118). ويُنظر:«العلل» للدارقطني (3/ 157 - 161).
(4)
رواه البيهقي (4/ 118) من طريق بقية به، وقال:«كذا رواه بقية بن الوليد عن أبي معاذ، وهو سليمان بن أرقم، متروك الحديث، لا يُحتجّ به، وقد اختُلِف عليه في إسناده؛ فقيل: هكذا. وقيل: عنه، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة» . ثمّ خرّجه، وكذا ابن عدي في «الكامل» (4/ 235)، ومحمد بن إبراهيم الجرجاني في «الأمالي» (307)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/ 1817) من طريق أبي عمرو الحراني، عن سليمان بن أرقم كذلك. ورواه أبو داود في «المراسيل» (114، 115) من طريقين عن كثير بن زياد، عن الحسن مرسلا. ورواه أبو عبيد في «غريب الحديث» (1/ 122 - 123) من طريق حماد بن زيد، عن كثير بن زياد معضلا. ويُنظر ما في «غريب الحديث» لأبي عبيد (1/ 124). وقد قال البيهقي (4/ 118):«أسانيد هذا الحديثِ ضعيفةٌ» .
المربَّيات
(1)
في البيوت.
وفي كتاب عمرو بن حزم: «لا صدقة في الجبهة والكُسْعة. والكسعة الحمير، والجبهة: الخيل»
(2)
.
وفي «الصحيحين»
(3)
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» .
والفرق بين الخيل والإبل أن الخيل تراد لغير ما تراد له الإبل، فإن الإبل تراد للدَّرِّ والنسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد. وأما الخيل فإنما خُلقت للكَرِّ والفَرِّ والطلب والهرب، وإقامة
(1)
ح، ف:«المزينات» ، تصحيف.
(2)
كذا، ولعلّ نظر المصنف انتقل من لفظٍ إلى آخر أثناء النقل، فدخل عليه حديثٌ في حديثٍ. وقد كان البيهقي علّقه في «السنن الكبير» (4/ 118) بلفظ:«وإنه ليس في عبد مسلمٍ ولا في فرسِه شيءٌ» ، ثمّ أسنده من حديث عمرو بن حزم، ثم أعقبه بالحديث الذي سبق قبل هذا. ويَحْسُنُ تدبُّرُ ما في «السنن الكبير» للبيهقي (4/ 89 - 90)، و «نصب الراية» للزيلعي (2/ 357)، و «الدراية» لابن حجر (ص 255).
(3)
البخاري (1463) ومسلم (982).
الدين، وجهاد أعدائه. وللشارع قصد أكيد في اقتنائها وحفظها والقيام عليها، وترغيب النفوس في ذلك بكلِّ طريق. ولهذا
(1)
عفا عن أخذ الصدقة منها، ليكون ذلك أرغب للنفوس فيما يحبه الله ورسوله من اقتنائها ورباطها. وقد قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
فرباط [302/أ] الخيل من جنس آلات السلاح والحرب. فلو كان عند الرجل منها ما عسى
(2)
أن يكون، ولم يكن للتجارة= لم يكن عليه فيه زكاة؛ بخلاف ما أعد للنفقة، فإن الرجل إذا ملك منه نصابًا ففيه الزكاة. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بعينه في قوله: «عفوتُ
(3)
لكم عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقَة»
(4)
. أفلا تراه كيف فرَّق بين ما أُعِدَّ للإنفاق، وما
(5)
أُعِدَّ لإعلاء كلمة الله ونصر دينه وجهاد أعدائه، فهو من جنس السيوف والرماح والسهام؟ وإسقاط الزكاة في هذا الجنس من محاسن الشريعة وكمالها.
فصل
وأما قوله: «أوجب في الذهب والفضة والتجارة ربعَ العُشر، وفي الزروع والثمار نصفَ العُشر أو العُشرَ، وفي المعدن الخُمْس» ، فهذا أيضًا من كمال شريعته ومراعاتها للمصالح. فإن الشارع أوجب الزكاة مواساةً
(1)
في النسخ المطبوعة: «ولذلك» .
(2)
ت، ع:«عساه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «قد عفوت» .
(4)
تقدَّم في أول الفصل.
(5)
في النسخ المطبوعة: «وبين ما» .
للفقراء، وطُهْرةً للمال، وعبوديةً للرب، وتقرُّبًا إليه، بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته.
ثم فرضها على أكمل الوجوه، وأنفعها للمساكين، وأرفقها بأرباب الأموال. ولم يفرضها في كلِّ مال، بل فرضها في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الرِّبح والدَّرّ والنسل. ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه، كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه، بل فرضها في أربعة أجناس من المال: المواشي، والزروع [302/ب] والثمار، والذهب والفضة، وعروض التجارة؛ فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم، وعامةُ تصرُّفهم فيها، وهي التي تحتمل المواساة، دون ما أسقط الزكاة فيه.
ثم قسم كلَّ جنس من هذه الأجناس بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة، وإلى ما لا زكاة فيه. فقسم المواشي إلى قسمين: سائمة ترعى بغير كلفة ولا مشقَّة ولا خسارة، فالنعمة فيها كاملة، والمنَّة بها وافرة، والكلفة فيها يسيرة، والنماء فيها كثير؛ فخصَّ هذا النوع بالزكاة. وإلى معلوفة بالثمن أو عاملة في مصالح أربابها في دواليبهم وحروثهم وحمل أمتعتهم، فلم يجعل في ذلك زكاة، لكلفة المعلوفة وحاجة المالكين إلى العوامل، فهي كثيابهم وعبيدهم وإمائهم وأمتعتهم.
ثم قسم الزروع والثمار إلى قسمين: قسم يجري مجرى السائمة من بهيمة الأنعام في سقيه من ماء السماء بغير كلفة ولا مشقة، فأوجب فيه العشر. وقسم يسقى بكلفة ومشقة، ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة
(1)
بكثير،
(1)
أثبت في المطبوع: «العلوفة» !
إذ تلك تحتاج إلى العلف كلَّ يوم، فكان مرتبةً
(1)
بين مرتبة السائمة والمعلوفة، فلم يوجب فيه زكاةَ ما شرب بنفسه، ولم يُسقط زكاته جملةً
(2)
، فأوجب فيه نصف العشر.
ثم قسم الذهب والفضة إلى قسمين: أحدهما ما هو مُعَدٌّ للثمنية
(3)
والتجارة به والتكسُّب، ففيه الزكاة كالنقدين والسبائك ونحوها. وإلى ما هو مُعَدٌّ للانتفاع دون الربح والتجارة [303/أ] كحلية
(4)
المرأة وآلات السلاح التي يجوز استعمال مثلها، فلا زكاة فيه.
ثم قسم العروض إلى قسمين: قسم أُعِدَّ للتجارة، ففيه الزكاة؛ وقسم أُعِدَّ للقِنية والاستعمال، فهو مصروف عن جهة النماء، فلا زكاة فيه.
ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشقِّ الأشياء وأكثرِها معاناةً وعملًا خفَّفها بأن جعل فيها ربع العشر. ولما كان الربح والنماء بالزروع والثمار التي تُسقَى بالكلفة أقلَّ كلفةً، والعمل أيسَرُ، ولا يكون في كلِّ السنة= جعله ضِعْفَه، وهو نصف العشر. ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقلَّ والمُؤنةُ أيسرَ جعله ضِعْفَ ذلك، وهو العشر، واكتفى فيه بزكاة عامَّة خاصَّة. فلو أقام عنده بعد ذلك عدة أحوال لغير التجارة لم يكن فيه زكاة، لأنه قد انقطع نماؤه وزيادته؛ بخلاف الماشية، وبخلاف ما لو أُعِدَّ
(1)
في حاشية ع: «مرتبته» مع علامة «ظ» فوقها.
(2)
ع: «جملة واحدة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في حاشية ع: «للتنمية» مع علامة «ظ» فوقها. وفي المطبوع: «لتنميته» .
(4)
في المطبوع: «كحلي» .
للتجارة، فإنه
(1)
غرضُه النَّماءُ
(2)
.
ثم لما كان الرِّكاز مالًا مجموعًا محصَّلًا، وكلفةُ تحصيله أقلُّ من غيره، ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه= كان الواجب فيه ضِعف ذلك، وهو الخُمْس.
فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهَر العقولَ حسنُها وكمالُها، وشهدت الفِطَر بحكمتها، وأنه لم يطرق العالمَ شريعةٌ أفضلُ منها. ولو اجتمعت عقولُ العقلاء وفِطَرُ الألباء واقترحت شيئًا يكون أحسنَ مقترَحٍ
(3)
لم يصل اقتراحها إلى ما جاءت به.
ولما لم يكن كلُّ مال يحتمل المواساة [303/ب] قدَّر الشارعُ لما يحتمل المواساة نُصُبًا مقدَّرةً لا تجب الزكاة في أقلَّ منها. ثم لما كانت تلك النُّصُب تنقسم إلى ما لا يُجْحِف المواساةُ ببعضه أوجب الزكاة منها، وإلى ما يُجْحِف المواساةُ ببعضه، فجعل الواجبَ من غيره كما دون الخمس والعشرين من الإبل. ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كلَّ يوم ولا كلَّ شهر، إذ فيه إجحافٌ بأرباب الأموال، جعلها كلَّ عام مرةً، كما جعل الصيام كذلك. ولما كانت الصلاة لا يشق فعلُها كلَّ يوم وظَّفها
(4)
كلَّ يوم وليلة، ولما كان الحجُّ يشقُّ تكرُّرُ وجوبه كلَّ عام جعَله وظيفةَ العمر.
(1)
ع: «فإن» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «عرضة للنماء» .
(3)
في المطبوع: «أحسنُ مقترحًا» !
(4)
ح: «وضعها» ، والظاهر أنه مغيَّر. وكذا في ف.
وإذا تأمل العقلُ
(1)
مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة
(2)
مما لا يضرُّ المُخرِجَ فقدُه، وينفع الفقيرَ أخذُه= رآه
(3)
قد راعى فيه حالَ صاحب المال وجانبَه حقَّ الرعاية، ونفعَ الآخذِ به
(4)
. وقصَد إلى كلِّ جنس من أجناس الأموال، فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه. فأوجب زكاةَ العين في الذهب والورِق دون الحديد والرصاص والنحاس ونحوها، وأوجب زكاة السائمة في الإبل والبقر والغنم، دون الخيل والبغال والحمير، ودون ما يقِلُّ اقتناؤه كالصيود على اختلاف أنواعها، ودون الطير كلِّه. وأوجب زكاة الخارج من الأرض في أشرفه، وهو الحبوب والثمار، دون البقول والفواكه والمقاثئ والمباطخ والأنوار.
وغيرُ خافٍ تميُّز ما أوجب فيه الزكاةَ عمَّا لم يوجبها فيه، في [304/أ] جنسه، ووصفه، ونفعه، وشدة الحاجة إليه، وكثرة وجوده؛ وأنه جارٍ مجرى الأموال لما عداه من أجناس الأموال، بحيث لو فُقِد لأضرَّ فقدُه بالناس، وتعطَّل عليهم كثيرٌ من مصالحهم؛ بخلاف ما لم يوجب فيه الزكاةَ فإنه جارٍ مجرى الفضلات والتَّتِمَّات التي لو فُقدت لم يعظُم الضرر بفقدها.
وكذلك راعى في المستحقين لها أمرَين مهمَّين. أحدهما: حاجة الآخذ. والثاني: نفعه. فجعل المستحقين لها نوعين: نوعًا يأخذ لحاجته، ونوعًا يأخذ لنفعه. وحرَّمها على من عداهما.
(1)
ع: «العاقل» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
زيد بعده في النسخ المطبوعة: «وجده» ليكون جواب «إذا» . وظهر لي أن جوابه فيما يأتي: «رآه» .
(3)
في النسخ الخطية: «ورآه» ، وأرى الواو مقحمة.
(4)
ح، ف:«للأخذ به» . وأثبت في المطبوع: «آخذيه» .
فصل
وأما قوله: «وقطَع يدَ السارق التي باشر بها الجناية، ولم يقطع فرج الزاني وقد باشر به الجناية، ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف» ، فجوابه أن هذا من أدلِّ الدلائل على أن هذه الشريعة منزَّلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
ونحن نذكر فصلًا نافعًا في الحدود ومقاديرها، وكمال ترتيبها على أسبابها، واقتضاء كلِّ جنايةٍ لما رُتِّب عليها دون غيرها، وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح. ونورد أسوِلةً لم يوردها هذا السائل، وننفصل عنها بحول الله وقوته أحسنَ انفصال. والله المستعان، وعليه التكلان.
إن الله جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤه لما خلق العباد وخلق الموت والحياة، وجعل ما على الأرض زينةً لها، ليبلوَ عباده [304/ب] ويختبرهم أيُّهم أحسَنُ عملًا= لم يكن في حكمته بدٌّ من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجًا عنها، فجعل في أنفسهم العقول
(1)
والأسماع والأبصار، والإرادات والشهوات، والقوى والطبائع، والحب والبغض، والميل والنفور، والأخلاق المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاءَ السبب لمسبِّبه، والتي في الخارج الأسبابُ التي تطلب النفوسُ حصولَها، فتَنافَسُ فيه؛ وتكره حصوله، فتدفعه عنها. ثم أكَّد أسبابَ هذا الابتلاء بأن وكَّل بها قُرَناءَ من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة، وقُرَناءَ من الأرواح الخيرة العادلة الطيبة. وجعل دواعي القلب وميوله مترددةً بينهما، فهو إلى داعي الخير مرةً،
(1)
في النسخ المطبوعة زيادة: «الصحيحة» .
وإلى داعي الشرِّ مرةً، ليتم الابتلاء في دار الامتحان، وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء. وكلاهما من الحقِّ الذي خلق الله السماوات والأرض به ومن أجله، وهما مقتضى ملكِ الربِّ وحمدِه، فلا بد أن يظهر ملكُه وحمدُه فيهما، كما ظهر في خلق السماوات والأرض وما بينهما. وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله، بحكم إيجابه على نفسه، أن أرسل رُسُلَه، وأنزل كتبَه، وشرَع شرائعه، ليتمَّ ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره. وأقام سوقَ الجهاد لما حصل من المعاداة والمنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات، كما حصل بين من قامت به.
فلم يكن بدٌّ من حصول مقتضى الطباع البشرية وما قارنها
(1)
من [305/أ] الأسباب، من التنافس، والتحاسد، والانقياد لدواعي الشهوة والغضب، وتعدِّي ما حُدَّ له، والتقصير عن كثير مما تُعُبِّدَ به. وسهَّل ذلك عليها اغترارُها بموارد المعصية مع الإعراض من مصادرها، وإيثارُها ما تتعجَّلُه من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجَّله من عظيم اللذة في أخراها، ونزولُها على الحاضر
(2)
المشاهَد، وتجافيها عن الغائب الموعود. وذلك موجَب ما جُبِلت عليه من جهلها وظلمها. فاقتضت أسماءُ الربِّ الحسنى وصفاته العُلَى
(3)
، وحكمته البالغة، ونعمته السابغة، ورحمته الشاملة، وجوده الواسع= أن لا يضرب عن عباده الذكر صفحًا، وأن لا يتركهم سُدًى، ولا يخلِّيهم ودواعيَ نفوسهم وطبائعهم؛ بل ركَّب في فِطَرهم وعقولهم معرفةَ الخير والشر، والنافع والضارِّ،
(1)
ح: «قاربها» ، تصحيف.
(2)
ح، ف:«الخاطر» ، تصحيف.
(3)
ت: «العليا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
والألم واللذة؛ ومعرفة أسبابها. ولم يكتف بمجرَّد ذلك حتَّى عرَّفهم به مفصَّلًا على ألسنة رسله، وقطع معاذيرهم بأن أقام على صدقهم من الأدلة والبراهين ما لا يبقى معه لهم عليه حجة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
وصرَّف لهم طُرقَ الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وضرب لهم الأمثال، وأزال عنهم كلَّ إشكال، ومكَّنهم من القيام بما أمرهم به وتركِ ما نهاهم عنه غايةَ التمكين، وأعانهم عليه بكلِّ سبب، وسلَّطهم على قهر طباعهم بما يجُرُّهم إلى إيثار العواقب على المبادي، ورفض اليسير [305/ب] الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها. وأرشدهم إلى التفكُّر والتدبر، وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين.
وأكمل لهم دينهم، وأتمَّ عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة، والبشارة والنذارة، والرغبة والرهبة؛ وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون عَلَمًا وأمارةً لتحقيق ما أخَّره عنهم في دار الجزاء والمثوبة، ويكون العاجلُ مذكِّرًا بالآجل، والقليلُ المنقطعُ بالكثير المتصل، والحاضرُ الفائتُ مُؤْذِنًا بالغائب الدائم.
فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وسبحانه وتعالى عما يظنُّه به من لم يقدُره حقَّ قدره ممن أنكر أسماءه وصفاته، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده؛ وظنَّ به ظنَّ السَّوء، فأرداه ظنُّه، فأصبح من الخاسرين.
فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته: أن شرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم
(1)
على بعض، في الرؤوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح
(2)
والقذف والسرقة. فأحكم سبحانه وجوهَ الزجر الرادعةَ عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمِّنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع. فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام [306/أ] النفس. وإنما شرَع لهم في ذلك ما هو موجَب أسمائه وصفاته، من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كلُّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقَّه.
ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك. ومن المعلوم أن النظرة المحرَّمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفَلْس بسرقة المال الخطير العظيم. فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات. وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كلِّ عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا
(1)
أثبت في المطبوع: «من بعضهم» بزيادة «من» !
(2)
أثبت في المطبوع: «الجرح» .
ووصفًا وقدرًا لذهبت بهم الآراء كلَّ مذهب، وتشعبت بهم الطرقُ كلَّ مشعَب، ولعظم الاختلاف واشتدَّ الخطب. فكفاهم أحكم الحاكمين وأرحمُ الراحمين
(1)
مؤنةَ ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولَّى بحكمته وعلمه ورحمته تقديرَه نوعًا وقدرًا، ورتَّب على كلِّ جنايةٍ ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النَّكال.
ثم بلغ من سعة رحمته وجُوده أن جعل تلك [306/ب] العقوباتِ كفاراتٍ لأهلها، وطُهْرَةً تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدِموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة. فرحمهم بهذه العقوبات أنواعًا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرةً على ستة أصول: قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير.
فأما القتل، فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس، وكانت
(2)
عقوبته من جنسه؛ وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجنايةُ أولى بالقتل وكفِّ عدوان الجاني عليه من كلِّ عقوبة، إذ بقاؤه بين أظهُر عباده مفسدة لهم، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة. فإذا حبَس شرَّه، وأمسك لسانه، وكفَّ أذاه، والتزم الذل والصغارَ وجريانَ أحكام الله ورسوله عليه وأداءَ الجزية= لم يكن في بقائه بين أظهُرِ المسلمين ضررٌ عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين. وجعله أيضًا عقوبة الجناية على الفروج المحرَّمة، لما فيها من المفاسد العظيمة، واختلاط الأنساب، والفساد العامّ.
وأما القطع، فجعله عقوبةَ مثله عدلًا، وعقوبةَ السارق، فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد. ولم تبلغ جنايتُه حدَّ العقوبة بالقتل، فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلةً إلى أذى الناس، وأخذ أموالهم. ولما كان ضررُ المحارب أشدَّ من ضرر [307/أ] السارق، وعدوانُه أعظمَ= ضَمَّ إلى قطع يده قطعَ رجله، ليكفَّ عدوانه، وشرَّ يده التي بطش بها، ورجلِه التي سعى بها، وشرَع أن يكون ذلك من خلافٍ، لئلا يفوِّت عليه منفعةَ الشِّقِّ بكماله. فكفَّ ضرره وعدوانه، ورحِمَه بأن أبقى له يدًا من شِقٍّ، ورجلًا من شِقٍّ.
وأما الجَلد، فجعله عقوبة الجناية على الأعراض، وعلى العقول، وعلى الأبضاع. ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغًا يُوجِب القتل ولا إبانة طرف؛ إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سببًا لأشنع القتلات، ولكن عارضها في البِكْر شدةُ الداعي وعدمُ المعوَّض
(1)
، فانتهض ذلك المعارض سببًا لإسقاط القتل. ولم يكن الجلد وحده كافيًا في الزجر، فغلَّظ بالنفي والتغريب، ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخلطاء ما يزجُره عن المعاودة.
وأما الجناية على العقول بالسكر، فكانت مفسدتها لا تتعدَّى السكران غالبًا. ولهذا لم يحرَّم السكرُ في أول الإسلام، كما حُرِّمت الفواحش والظلم والعدوان في كلِّ ملة وعلى لسان كلِّ نبي. وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدَّرة من الشارع، بل ضرَب فيها بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والجريد، وضرَب فيها
(1)
أثبت في المطبوع: «العوض» .
أربعين
(1)
. فلما استخفَّ الناسُ بأمرها وتتابعوا
(2)
في ارتكابها غلَّظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي أُمِرنا باتباع سنته، وسنتُه من سنة [307/ب] رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجعلها ثمانين بالسوط
(3)
، ونفَى فيها، وحلَق الرأس
(4)
.
وهذا كلُّه من فقه السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة
(5)
، ولم ينسخ
(1)
روى البخاري (6773، 6776) ومسلم (1706) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، وعند مسلم: جلد النبي صلى الله عليه وسلم بجريدتين نحو أربعين، وفعله أبو بكر. ورواه البخاري (3872) ومسلم (1707) أيضًا من حديث عثمان بن عفان في قصة جلد الوليد بن عقبة أنه ضربه أربعين، وقال في رواية مسلم:«جلد النبي صلى الله عليه وسلم اربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إليّ (أي ضرب أربعين). وانظر: «فتح الباري» (7/ 57).
(2)
كذا بالباء الموحدة في النسخ الخطية والمطبوعة. وكذا ضبط ابن أبي جعفر في حديث مسلم (1472). والجمهور ضبطوه بالياء المثناة من تحت. انظر: «مشارق الأنوار» (1/ 119).
(3)
قد غلّظها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد استشارة كبار الصحابة، ففي «صحيح مسلم» (1706) أن من أشار إليه أن تُجعل أخف الحدود وهو ضرب ثمانين: عبد الرحمن بن عوف، وكذلك في «الترمذي» (1443). وأما في «الموطأ» (2/ 842) أنه علي بن أبي طالب وعلله بقوله:«إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. قال ابن عبد البر في «الاستذكار- ط التركي» : هذا حديث منقطع من رواية مالك، وقد روي متصلًا من حديث ابن عباس، ذكره الطحاوي في «أحكام القرآن». وانظر:«شرح مشكل الآثار» (11/ 274 - 275).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
رواه أحمد (7762، 7911، 10729)، وأبو داود (4484)، وابن ماجه (2572)، والنسائي (5662) وفي «السنن الكبرى» (5277) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وصححه ابن حبان (2455)، والحاكم (4/ 371). ورواه أحمد (16847)، وأبو داود (4482)، والترمذي (1444)، وابن ماجه (2573)، والنسائي في «السنن الكبرى» (5278، 5279، 5280) من حديث معاوية مرفوعا، وصححه ابن حبان (1446). ويُنظر:«المسند» لأحمد (6197، 7003، 19460، 23130)، و «السنن» لأبي داود (4483، 4485)، و «السنن الكبرى» للنسائي (5281 - 5284)، و «المجتبى» له (5661)، و «المسند الصحيح» لابن حبان (1445)، و «المستدرك» للحاكم (4/ 371 - 373).