المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ جزاء المخلص - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌ جزاء المخلص

طاعةً للمعبود، ولم يؤمر إلا بهذا. وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر.

وقد دلَّت السنَّة الصريحة على ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: أنا أغنى الشُّركاء عن الشرك، فمن عَمِل عملاً أشرك فيه

(1)

غيري فهو كلُّه للذي أشرَكَ به»

(2)

. وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

فصل

وقوله: «فما ظنُّك بثوابٍ عند الله في عاجلِ رزقه وخزائنِ رحمته» . يريد به تعظيم‌

‌ جزاء المخلص

، وأنه رزقٌ عاجلٌ إما للقلب أو للبدن أو لهما، ورحمةٌ

(3)

مدَّخَرة في خزائنه. فإن الله سبحانه يجزي العبدَ على ما عمِل من خير في الدنيا ولا بدَّ، ثم في الآخرة يوفِّيه أجرَه، كما قال تعالى:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]. فما يحصل في الدنيا من الجزاء على الأعمال الصالحة ليس جزاءَ توفيةٍ، وإن كان نوعَ أجرٍ

(4)

، كما قال تعالى عن إبراهيم:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]. وهذا نظير قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ

(1)

في المطبوع بعده زيادة «معي» .

(2)

أخرجه مسلم (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

معروف على «رزق» . وفي النسخ المطبوعة: «ورحمته» .

(4)

في النسخ المطبوعة: «نوعًا آخر» ، تحريف.

ص: 518

لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122]؛ فأخبر سبحانه أنه آتى خليلَه أجرَه في الدنيا من النِّعم التي أنعَم بها عليه في نفسه وقلبه وولده وماله وحياته الطيبة، ولكن ليس ذلك أجرَ توفية.

وقد دلَّ القرآن في غير موضع على أنَّ لكلِّ مَن عمل خيرًا أجرًا [يُعجَّل له]

(1)

في الدنيا، ويُكمَل له أجرُه في الآخرة، كقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]. وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]. وقال في هذه السورة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وقال فيها عن خليله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122]. فقد تكرَّر هذا المعنى في هذه السورة دون غيرها في أربعة مواضع لسرٍّ بديع، فإنها سورة النِّعم التي عدَّد الله سبحانه فيها أصولَ النعم وفروعَها. فعرَّف عبادَه أن لهم عنده في الآخرة من النعم أضعافَ هذه بما لا يُدرَك تفاوتُه، وأن هذه من بعض نعمه العاجلة عليهم، وأنهم إن أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعمًا أخرى؛ ثم في الآخرة يوفِّيهم أجورَ أعمالهم تمامَ التوفية. وقال تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}

(1)

ح، ف، ت:«أجران عمله» . ويظهر لي أن «ن عمله» تحريف كلمة تشبه ما أثبت. وفي ع: «أجرًا من عمله» . وفي النسخ المطبوعة: «أجرين عمله» .

ص: 519

[هود: 3]. فلهذا قال أمير المؤمنين: «فما ظنُّك بثوابٍ عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام» .

فهذا بعض ما يتعلَّق بكتاب أمير المؤمنين رضي الله عنه من الحِكَم والفوائد. والحمد لله رب العالمين

(1)

.

* * *

(1)

هنا انتهى المجلد الأول من نسخة المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة (ح)، ومن نسختها الثانية (ف) أيضًا.

ص: 520