المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ربا الفضل - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌ ربا الفضل

الربا الكامل إنما هو في النسيئة، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وكقول ابن مسعود:«إنما العالم الذي يخشى الله»

(1)

.

فصل

وأما‌

‌ ربا الفضل

، فتحريمه من باب سدّ الذرائع، كما صرِّح به في حديث أبي سعيد الخدري

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكم الرَّماءَ»

(3)

. والرَّماء هو الربا.

(1)

لم أره عنه مسندًا، وعلّق ابن عبد البر عنه نحوَه في «جامع بيان العلم» (1221)، وورد هذا عن غير واحد، منهم: مجاهد بن جبر، أسنده عنه حمزة السهمي في «تاريخ جرجان» (ص 474). وجاء نحوه من كلام الحسن البصري عند الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 341) بسندٍ واهٍ، والمحفوظ عنه بلفظٍ آخرَ مشهورٍ، ليس هذا موضعَ ذكرِه.

ويُنظر: «الفوائد» لتمّامٍ الرازي (764)، و «حلية الأولياء» لأبي نعيم (3/ 67)، و «ما رواه الأكابر عن مالك» لمحمد بن مخلد (46)، و «المسند الصحيح» لابن حبان (4879).

(2)

وقع في «جامع المسائل» (8/ 282): «في «المسند» مرفوعًا

من حديث سعد».

(3)

الطرف الأول من الحديث ثابتٌ معناه من حديث أبي سعيد وغيره، في الصحيحين وغيرهما، لكن طرفه الثاني لا يصح مرفوعًا. وقد رواه سعيد بن منصور ــ ومن طريقه الخطيب في «الفصل للوصل المدرج في النقل» (1/ 225 ط. دار ابن الجوزي) ــ (بمعناه) عن أبي معشر، عن نافع، عن أبي سعيد مرفوعًا! وقد غلط أبو معشر (نجيحٌ السندي)؛ فأدرج الموقوف في الحديث المرفوع. وتابعه ليث بن أبي سُليم (وهو ضعيفٌ مُخَلِّطٌ)، ومن طريقه رواه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (1074 - مسند عمر). وليُنظر ما دبّجتْه يراعةُ الخطيب في «الفصل للوصل المدرج في النقل» (1/ 225 - 239)؛ فإنه فائقٌ رائقٌ.

ص: 476

فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة. وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين، ولا يُفعَل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين ــ إما في الجودة، وإما في السِّكَّة

(1)

، وإما في الثقل والخفَّة، وغير ذلك ــ تذرَّعُوا بالربح المعجَّل فيها إلى الربح المؤخَّر، وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جدًّا. فمن حكمة الشارع أن سدَّ عليهم هذه الذريعة، ومنَعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئةً. فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول، وهي تسُدُّ عليهم باب المفسدة.

فإذا تبيَّن هذا فنقول: الشارع نصَّ على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح. فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها. فطائفة قصَرت [333/ب] التحريمَ عليها، وأقدَمُ مَن يُروى عنه هذا قتادة، وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنَّفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القيَّاسين

(2)

في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس.

وطائفة حرَّمته في كلِّ مكيل وموزون بجنسه. وهذا مذهب عمار

(3)

(1)

يعني: في صفة الصياغة وطريقتها.

(2)

في النسخ المطبوعة: «القياسيين» ، وقد سبق له نظائر. وفي «جامع المسائل» (8/ 285):«القياس» .

(3)

رواه ابن أبي شيبة (20800)، والطحاوي في «بيان المشكل» (3/ 338) من طريق رِيَاحِ بن الحارث عنه، وسندُه جيِّدٌ.

ص: 477

وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة

(1)

.

وطائفة خصَّته بالطعام وإن لم يكن مكيلًا ولا موزونًا. وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد:

وطائفة خصَّته بالطعام إذا كان مكيلًا أو موزونًا. وهو قول سعيد بن المسيِّب

(2)

ورواية عن أحمد وقول للشافعي.

وطائفة خصَّته بالقوت وما يُصلحه، وهو قول مالك

(3)

. وهو أرجح هذه الأقوال، كما ستراه.

وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين. وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح، بل الصواب، فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما. فلو كان النحاس والحديد ربويَّين لم يجُز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا، فإن ما يجري فيه الربا

(1)

في «جامع المسائل» (8/ 285): «وبه أخذ أحمد بن حنبل في المشهور عنه، وهو قول أبي حنيفة وغيره» .

(2)

رواه مالك (2340) ــ وعنه عبد الرزاق (14139) ــ عن أبي الزناد، عن ابن المسيب، وسندُه صحيحٌ غاية. ومن طريق مالكٍ رواه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (4/ 298). وغلط المبارك بن مجاهد، فرواه عن مالك، عن أبي الزناد، عن ابن المسيب مرسلا! رواه من طريقه الدارقطنيُّ في «السنن» (2834)، ووهّمَه في رفعِه.

(3)

قارن بسياق شيخ الإسلام في «جامع المسائل» (8/ 285).

ص: 478

إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النَّساء، والعلَّة إذا انتقضت من غير فرق مؤثِّر دلَّ على بطلانها.

وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس [334/أ] فيه مناسبة، فهو طرد محض، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يُعرَف تقويمُ الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمنٌ نعتبر به المبيعاتِ، بل الجميعُ سِلَع. وحاجةُ الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تُعرَف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوَّم به الأشياء، ويستمرُّ على حالة واحدة. ولا يقوَّم هو بغيره، إذ يصير سلعةً ترتفع وتنخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتدُّ الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتُّخِذت

(1)

الفلوسُ سلعةً تُعَدُّ للربح، فعمَّ الضرر وحصَل الظلم. ولو جُعِلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوَّم به الأشياء ولا تقوَّم هي بغيرها لصلَح أمرُ الناس. فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير ــ مثل أن يعطي صحاحًا ويأخذ مكسَّرةً، أو خفافًا ويأخذ ثقالًا أكثر منها ــ لصارت متجرًا، وجَرَّ ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بدَّ. فالأثمانُ لا تُقصَد لأعيانها، بل يُقصَد التوسُّلُ بها إلى السِّلع. فإذا صارت في أنفسها سِلَعًا تُقْصَد لأعيانها فسَد أمرُ الناس. وهذا معنى معقول

(2)

يختصُّ بالنقود لا يتعدَّى إلى سائر الموزونات.

(1)

في المطبوع: «اتخذوا» .

(2)

في المطبوع: «وهذا قول» !

ص: 479

فصل

وأما الأصناف الأربعة المطعومة، [334/ب] فحاجةُ الناس إليها أعظمُ من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم، وما يُصلحها. فمن رعاية مصالح العباد أن مُنِعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل، سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعوا من بيع بعضها ببعض حالًا متفاضلًا وإن اختلفت صفاتها، وجُوِّز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها.

وسرُّ ذلك ــ والله أعلم ــ أنه لو جُوِّز بيعُ بعضها ببعض نَساءً لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح، وحينئذ تشِحُّ نفسُه ببيعها حالَّةً، لطمعه في الربح، فيعزُّ الطعام على المحتاج، ويشتدُّ ضررُه. وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ولا سيما أهل العمود والبوادي، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام. فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النَّساء فيها، كما منَعهم من ربا النساء في الأثمان؛ إذ لو جُوِّز لهم النَّساء فيها لدخلها:«إما أن تَقضي وإما أن تُربي»

(1)

، فيصير الصاع الواحد

(2)

قُفْزانًا كثيرةً، ففُطِموا عن النَّساء، ثم فُطِموا عن بيعها متفاضلًا يدًا بيدٍ، إذ تجرُّهم حلاوةُ الربح وظفرُ الكسب إلى التجارة فيها نَساءً، وهو عين المفسدة.

وهذا بخلاف الجنسين المتباينين، فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة، ففي إلزامهم المساواةَ في بيعها إضرارٌ بهم، ولا يفعلونه. وفي تجويز النَّساء بينها ذريعةٌ إلى:«إما أن تَقضي وإما أن تُربي» ، فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصَرهم على بيعها يدًا بيد كيف شاؤوا،

(1)

يُنظر: «الموطأ» لمالك، عقب الفقرة (2482).

(2)

بعده في النسخ المطبوعة زيادة: «لو أخذ» .

ص: 480

فحصلت لهم مصلحة المناقلة، [335/أ] واندفعت عنهم مفسدة:«إما أن تقضي وإما أن تربي» .

وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نَساءً، فإن الحاجة داعية إلى ذلك، فلو مُنعوا منه لأضرَّ بهم، ولامتنع السَّلَمُ الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيره، والشريعة لا تأتي بهذا. وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نَساءً، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو حاجتهم إليه

(1)

وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة، ومُنِعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويُتذَرَّع به غالبًا إلى مفسدة راجحة.

يوضِّح ذلك: أنَّ مَن عنده صنفٌ من هذه الأصناف، وهو محتاج إلى الصنف الآخر، فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«بِعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنيبًا»

(2)

أو يبيعه بذلك الصنف نفسَه بما يساوي. وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالًّا، بخلاف ما لو مُكِّن من النَّساء، فإنه حينئذ يبيعه بفضل، ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل؛ لأن صاحب ذلك الصنف يُربي عليه كما أربى هو على غيره، فينشأ من النَّساء تضرُّرٌ بكلِّ واحد منهما. والنَّساء هاهنا في صنفين، وفي النوع الأول في صنف واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد.

(1)

«إليه» ساقط من ع. وفي النسخ المطبوعة: «إليه حاجتهم» .

(2)

أخرجه البخاري (2201) ومسلم (1593) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والجمع: كل لون من النخيل لا يعرف اسمه. وقيل: تمر مختلط من أنواع متفرقة. والجنيب: نوع جيد معروف من أنواع التمر. انظر: «النهاية» (1/ 304).

ص: 481

وإذا تأملتَ ما حُرِّم فيه النساء رأيته إما صنفًا واحدًا أو صنفين مقصودهما واحد أو [335/ب] متقارب، كالدراهم والدنانير، والبُرِّ والشعير، والتمر والزبيب. فإذا تباعدت المقاصد لم يحرَّم النَّساء كالبُرِّ والثياب والحديد والزيت.

يوضِّح ذلك: أنه لو مُكِّن من بيع مُدِّ حنطةٍ بمُدَّين كان ذلك تجارة حاضرة، فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته؛ فمُنِعوا من ذلك حتى مُنِعوا من التفرُّق قبل القبض إتمامًا لهذه الحكمة، ورعايةً لهذه المصلحة؛ فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول، والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر، وكما يفعل أرباب الحيل: يطلقون العقدَ وقد تواطؤوا على أمر آخر، كما يطلقون عقدَ النكاح وقد اتفقوا على التحليل، ويطلقون بيعَ السِّلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن. فلو جُوِّز لهم التفرقُ قبل القبض لأطلقوا البيع حالًّا وأخَّروا الطلب لأجل الربح، فيقعوا في نفس المحذور.

وسرُّ المسألة: أنهم مُنِعوا من التجارة في الأثمان بجنسها، لأن ذلك يُفسِد عليهم مقصود الأثمان؛ ومُنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها، لأن ذلك يُفسِد عليهم مقصودَ الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين، لأن التِّبر ليس فيه صنعة يُقصَد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضَل بينها، ولهذا قال:«تِبرُها وعينُها سواء»

(1)

.

(1)

رواه أبو داود (3349)، والنسائي (4564) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا.

وأصلُ الحديثِ عند مسلم (1587) دُونَ محلِّ الشاهدِ.

ويُنظر: «المجتبى» للنسائي (4560 - 4563)، و «السنن الكبرى» له (6107 - 6112)، و «السنن الكبير» للبيهقي (5/ 276 - 277)، و «المتفق والمفترق» للخطيب (3/ 1910 - 1915)، و «تحفة الأشراف» للمزي (4/ 249).

ص: 482

فظهرت حكمة تحريم ربا النَّساء في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس [336/أ] الواحد، وأنَّ تحريمَ هذا تحريمُ المقاصد وتحريمَ الآخر تحريمُ الوسائل وسَدِّ الذرائع، ولهذا لم يُبَح شيء من ربا النسيئة.

فصل

وأما ربا الفضل، فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإنَّ ما حُرِّم سدًّا للذريعة أخفُّ مما حرِّم تحريمَ المقاصد. وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغةً

(1)

محرَّمةً كالآنية حُرِّم بيعُه بجنسه وغير جنسه. وبيعُ هذا هو الذي أنكره عبادةُ على معاوية

(2)

، فإنه يتضمَّن مقابلة الصياغة المحرَّمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي.

وأما إن كانت الصياغة مباحة ــ كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها ــ فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة.

والشارع أحكَمُ من أن يُلزِم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه. فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها البتةَ، بل يبيعها بجنس آخر. وفي هذا من الحرج والعسر

(1)

كذا بتنوين النصب في ت مع عدم تحرير الكلمة، ونحوه في «جامع المسائل» (8/ 291). وفي غير ت:«صناعته» ، وفي النسخ المطبوعة:«صياغته» .

(2)

انظر حديث عبادة في «صحيح مسلم» (1587).

ص: 483

والمشقة ما تنفيه

(1)

الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائعُ لا يسمح ببيعه ببُرٍّ وشعير وثياب، وتكليفُ الاستصناع

(2)

لكلِّ من احتاج إليه إما متعذِّر أو متعسِّر، والحيل باطلة في الشرع. وقد جوَّز الشارعُ بيعَ الرطب بالتمر لشهوة الرطب

(3)

، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم [336/ب] يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع. فلو لم يجُز بيعُه بالدراهم فسدت مصالح الناس.

والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامّة أو مطلقة، ولا يُنكَر تخصيصُ العامِّ وتقييدُ المطلق بالقياس الجلي. وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية، ولا سيَّما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارةً بلفظ الدراهم والدنانير كقوله:«الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار»

(4)

، وفي الزكاة قوله:«في الرِّقَة ربعُ العشر»

(5)

والرِّقة: هي الوَرِق، وهي الدراهم المضروبة، وتارةً بلفظ الذهب والفضة. فإن حُمِل المطلَق على المقيَّد كان نهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفيَ الحكم عن جملة ما عداهما. بل فيه تفصيل، فتجب الزكاة

(1)

في النسخ المطبوعة: «تتقيه» .

(2)

ف، ع:«الاستصياغ» ، تصحيف.

(3)

يعني الترخيص في العرايا، وقد سبق تخريج حديث العرايا.

(4)

أخرجه مسلم (1588) من حديث أبي هريرة.

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 484

ويجري الربا في بعض صوره، لا في كلِّها. وفي هذا توفيةُ الأدلَّة حقَّها، وليس فيه مخالفة

(1)

لدليل منها.

يوضِّحه: أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسِّلَع، لا من جنس الأثمان. ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها؛ فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأُعِدَّت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها. ولا يدخلها:«إما أن تقضي وإما أن تُربي» إلا كما يدخل في سائر السِّلَع [337/أ] إذا بيعت بالثمن المؤجَّل. ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سُدَّ على الناس ذلك لَسُدَّ عليهم بابُ الدين، وتضرَّروا بذلك غاية الضرر.

يوضِّحه: أن الناس على عهد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكنَّ يتصدَّقن بها في الأعياد وغيرها

(2)

. ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها المحاويج

(3)

، ويعلم أنهم يبيعونها. ومعلومٌ قطعًا أنها لا تباع بوزنها فإنه سَفَه، ومعلومٌ أن مثل الحلقة والخاتم والفَتْخَة

(4)

لا تساوي دينارًا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله،

(1)

بعده في النسخ المطبوعة زيادة: «بشيء» !

(2)

انظر حديث ابن عباس في «صحيح البخاري» (98) و «صحيح مسلم» (884).

(3)

في النسخ المطبوعة: «للمحاويج» .

(4)

جمعها الفَتَخَ. في «صحيح البخاري» (979) عن عبد الرزاق قال: «الفَتَخ: الخواتيم العظام كانت في الجاهلية» . وفي «غريب الحديث» للحربي (3/ 1047) عن الأصمعي أنها «خواتيمُ حَلَقٍ لا فصوص لها» .

ص: 485

وأفقه في دينه، وأعلمَ بمقاصد رسوله، من أن يرتكبوا الحيل أو يعلِّموها الناس.

يوضِّحه: أنه لا يُعرَف عن أحد من الصحابة أنه نهَى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصَّرْف.

يوضِّحه: أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدَّم بيانه، وما حُرِّم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرَّم. وكذلك تحريمُ الذهب والحرير على الرجال، حُرِّم لسدِّ ذريعةِ التشبُّه بالنساء الملعونِ فاعلُه، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة. وكذلك ينبغي أن يباح بيعُ الحلية المصوغة صياغةً مباحةً بأكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، [337/ب] وتحريمُ التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة، فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتمُّ مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع. وغايةُ ما في ذلك جعلُ

(1)

الزيادة في مقابلة الصياغة

(2)

المباحة المتقوِّمة بالأثمان في الغصوب وغيرها. وإذا كان أربابُ الحيل يجوِّزون بيعَ عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسًا، ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة؛ فكيف ينكرون بيعَ الحلية بوزنها وزيادةٍ تساوي الصياغة؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمةً وعدلًا ورحمةً وجلالةً بإباحة هذا وتحريم ذاك، وهل هذا إلا عكس للمعقول والفطر والمصلحة؟

(1)

في النسخ الخطية: «فعل» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.

(2)

ما عدا ع: «الصناعة» هنا وفيما يأتي بعد سطرين.

ص: 486

والذي يُقضَى منه العجب مبالغتُهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا بيعَ رطل زيت برطل زيت، وحرَّموا بيعَ الكُسْب

(1)

بالسِّمسم، وبيعَ النَّشا بالحنطة، وبيعَ الخلِّ بالزبيب، ونحو ذلك؛ وحرَّموا بيعَ مدِّ حنطة ودرهم بمُدٍّ ودرهم وجاؤوا إلى ربا النسيئة، ففتحوا للتحيُّل عليه كلَّ باب، فتارةً بالعِينة، وتارةً بالمحلِّل، وتارة بالشرط المتقدِّم المتواطأ عليه، ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علِم الله والكرام الكاتبون والمتعاقدان ومَن حضر أنه عقدُ ربا، مقصودُه وروحُه بيعُ خمسة عشر مؤجَّلةً بعشرة نقدًا ليس إلا، ودخول السلعة كخروجها حرفٌ جاء لمعنى في غيره، فهلَّا فعلوا هاهنا كما فعلوا في مسألة «مُدُّ عَجْوة ودرهم بمُدٍّ ودرهم» !

[338/أ] وقالوا: قد يُجعَل وسيلةً إلى ربا الفضل بأن يكون المُدُّ في أحد الجانبين يساوي بعض المُدِّ في الجانب الآخر، فيقع التفاضل. فيا لله العجب! كيف حُرِّمت هذه الذريعةُ إلى ربا الفضل، وأبيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا؟ وأين مفسدةُ بيع الحلية

(1)

غُيِّر في المطبوع إلى «الكشك» دون مسوِّغ. والذي في النسخ الخطية والمطبوعة صحيح. في «تهذيب اللغة» (10/ 79) عن الليث أن «الكُسْب: الكُنجارَق» وأن «بعض السواديين يسمونه الكُسْبج» . قال الأزهري: «الكُسْبَج معرَّب، وأصله بالفارسية كُشْب، فقلبت الشين سينًا» . قلت: إن كان الأزهري سمعه بالشين في بلده، فيكون لغة فيه كالكُزْب بالزاي. وهو بالفارسية الحديثة: كُسْبه، وأصله بالفهلوية: كُسْبَك، بالكاف الفارسية، ومنه عُرّب بالجيم. والكنجارَق بالفارسية الحديثة كنجاره. وكلاهما بمعنى ثُفْل الدهن. انظر:«برهان قاطع» (3/ 1642، 1702) و «المعرب» للجواليقي (ص 543 - 544).

ص: 487

بجنسها ومقابلة الصياغة

(1)

بحظِّها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساسُ كلِّ مفسدة وأصلُ كلِّ بليَّة؟ وإذا حصحص الحق فليقل المتعصِّب الجاهل ما شاء! وبالله التوفيق.

فإن قيل: الصفات لا تقابَل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء. ولمَّا أبطل الشارع ذلك عُلِمَ أنه منَع من مقابلة الصفات بالزيادة.

قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثرُ فعلِ الآدمي وتُقابَل بالأثمان ويستحقُّ عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته. فالشارع بحكمته وعدله منَع من مقابلة هذه الصفة بزيادة، إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل؛ فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر، والعاقل لا يبيع جنسًا بجنسه إلا لما بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من كلِّ وجه لم يفعل ذلك، فلو جوَّز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرِّم عليهم ربا الفضل. وهذا بخلاف الصياغة

(2)

التي جَوَّز لهم المعاوضة عليها معه.

يوضِّحه: [338/ب] أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردةً جازت عليها مضمومةً إلى غير أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك.

يوضِّحه: أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بِعْ هذا المصوغ بوزنه، واخسَرْ صياغتك. ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها. ولا

(1)

ت، ف:«الصناعة» .

(2)

ت، ف:«الصناعة» هنا وفيما بعد.

ص: 488

يقول له: تحيَّلْ على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل قطُّ: لا تبعه إلا بغير جنسه، ولم يحرِّم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه.

فإن قيل: فهَبْ أن هذا قد سَلِم لكم في المصوغ، فكيف يسلَم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضَلًا، وتكون الزيادة في مقابلة صناعة الضرب؟

قيل: هذا سؤال قوي وارد. وجوابه أن السِّكَّة لا تتقوَّم فيها الصناعةُ للمصلحة العامة المقصودة منها، فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة. وإن كان الضارب يضربها بأجرة فإن القصد بها أن تكون معيارًا للناس لا يتَّجرون فيها، كما تقدَّم. والسكّة فيها غير مقابلة بالزيادة في العُرف

(1)

، ولو قوبلت بالزيادة

(2)

فسدت المعاملة، وانتقضت المصلحة التي ضُربت لأجلها، واتخذها الناس سلعة، واحتاجت إلى التقويم بغيرها. ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كلِّ وجه، وأخذ الرجل الدراهم ورَدَّ نظيرها

(3)

؛ وليس المصوغ كذلك. ألا ترى أن الرجل يأخذ مائةً خفافًا ويردُّ خمسين ثقالًا بوزنها، ولا يأبى ذلك الآخذ ولا القابض، ولا يرى أحدهما أنه [339/أ] قد خسر شيئًا؟ وهذا بخلاف المصوغ. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا درهمًا واحدًا، وأولُ من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان،

(1)

أثبت في المطبوع: «الصرف» .

(2)

زاد في المطبوع بعده: «في الصرف» .

(3)

ع: «فيأخذ

ويردُّ نظيرها» وكأن النص مغيَّر فيها. وفي الطبعات القديمة: «وإذا أخذ

ردَّ نظيرها» بزيادة «إذا» وحذف الواو قبل «ردَّ» . وفي المطبوع: «

الدرهم ردَّ نظيره»، فأفرد الدرهم مع زيادة «إذا» !

ص: 489

وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار.

فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن تجوِّزوا بيعَ فروع الأجناس بأصولها متفاضلا، فجوِّزوا بيعَ الحنطةِ بالخبز

(1)

متفاضلا، والزيتِ بالزيتون، والسمسمِ بالشَّيْرَج.

قيل: هذا سؤال وارد أيضًا. وجوابه أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع، أو تكون الصورة المحرَّمة بالقياس مساويةً من كلِّ وجه للمنصوص على تحريمها، والثلاثة منتفية في فروع الأجناس مع أصولها. وقد تقدَّم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها، ولا يساويها في إلحاقها بها. وأما الأصناف الأربعة ففرعُها إن خرج عن كونه قوتًا لم يكن من الربويات، وإن كانت قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه، وحُرِّم بيعُه بجنسه الذي هو مثلُه متفاضلًا كالدقيق بالدقيق، والخبز بالخبز. ولم يحرَّم بيعُه بجنس آخر وإن كان أصلهما

(2)

واحدًا؛ فلا يحرَّم السمسم بالشَّيرج، ولا الهريسة بالخبز؛ فإن هذه الصناعة لها قيمة، فلا تضيع على صاحبها. ولم يحرِّم بيعَها بأصولها كتاب

(3)

ولا سنة ولا إجماع ولا قياس. ولا حرام إلا ما حرَّمه الله، كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله، وتحريم الحلال كتحليل الحرام.

فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم ببيع اللحم بالحيوان، فإنكم إن منعتموه

(1)

في النسخ الخطية: «بالحب» ، وفي حاشية ح:«لعله بالخبز» ، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي حاشية ع:«دقيق» مع علامة «ظ» يعني: «دقيق الحنطة بالحب» .

(2)

في النسخ المطبوعة: «جنسهما» .

(3)

في النسخ المطبوعة: «في كتاب» .

ص: 490

نقضتم قولكم، [339/ب] وإن جوَّزتموه خالفتم النص. وإذا كان النصُّ قد منعَ من بيع اللحم بالحيوان، فهو دليل على المنع من بيع الخبز بالبُرِّ، والزيت بالزيتون، وكلِّ ربوي بأصله.

قيل: الكلام في هذا الحديث في مقامين: أحدهما في صحته، والثاني في معناه. أما الأول فهو حديث لا يصح موصولًا، وإنما هو صحيح مرسلًا. فمن لم يحتجَّ بالمرسل لم يَرِدْ عليه، ومن رأى قبول المرسل مطلقًا أو مراسيلَ سعيد بن المسيِّب فهو حجة عنده.

قال أبو عمر

(1)

: «لا أعلم حديثَ النهي عن بيع اللحم بالحيوان متصلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت. وأحسَنُ أسانيده مرسَلُ سعيد بن المسيِّب، كما ذكره مالك في «موطئه»

(2)

. وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه. فكان مالك يقول: معنى الحديث تحريمُ التفاضل في الجنس الواحد حيوانِه بلحمه. وهو عنده من باب المزابَنة والغَرر والقمار، لأنه لا يدري هل في الحيوان مثلُ اللحم الذي أعطَى أو أقلُّ أو أكثرُ، وبيعُ اللحم باللحم لا يجوز متفاضلًا، فكان بيعُ الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيَّب في جلده بلحمٍ إذا كانا من جنس واحد».

(1)

في «الاستذكار» (6/ 424).

(2)

رقم (2414) ــ وعنه الإمام الشافعي في «الأم» (4/ 166) ــ عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب مرسلا. ومن طريق مالك رواه أبو داود في «المراسيل» (178). ويُنظر:«المستدرك» للحاكم (2/ 35)، و «السنن الكبير» للبيهقي (5/ 296 - 297)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 36 - 37)، و «التلخيص الحبير» لابن حجر (3/ 22 - 23).

ص: 491

قال

(1)

: «وإذا اختلف الجنسان، فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيعُ الحيوان باللحم

(2)

».

وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه، فلا يأخذون بهذا الحديث، ويجوِّزون بيعَ اللحم بالحيوان مطلقًا.

وأما أحمد، فيمنع بيعَه بحيوان من جنسه، ولا يمنع بيعه بغير جنسه، وإن منعه بعض [340/أ] أصحابه.

وأما الشافعي فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه. وروى الشافعي

(3)

عن ابن عباس أن جزورًا نُحِرَت على عهد أبي بكر الصديق، فقُسِمت على عشرة

(1)

في «الاستذكار» (6/ 425).

(2)

في النسخ المطبوعة: «اللحم بالحيوان» ، وما أثبت من النسخ موافق لما في «الاستذكار» ، و «التمهيد» (4/ 325).

(3)

رواه في القديم عن رجلٍ، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس به. كذا في «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (4/ 316)، أما في كتاب «الأمّ» ، فقد رواه (4/ 167 - 168) عن ابن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق أنه كره بيع الحيوان باللحم. ورواه عبد الرزاق (14165) عن الأسلمي، عن صالح به، باللفظ المفصَّل المطوَّل. والأسلميُّ هذا هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو واهٍ جدًّا، متروكٌ، منكرُ الحديث. وشيخُه صالح صدوقٌ كان قد اختلط، لكن علّة الخبر من الأسلمي.

وغلط محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، فرفع هذا الأثر، وخلط لفظه بخبر آخر يرويه عبيد بن نضيلة مرسلا، والظاهر أنه دخل عليه حديثٌ في حديثٍ؛ فليُوازَنْ ما في «المطالب العالية» لابن حجر (1391) بـ «المصنف» لعبد الرزاق (14166)، و «المطالب العالية» (1386).

ص: 492

أجزاء. فقال رجل: أعطوني جزءًا منها بشاة، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. قال الشافعي: ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة

(1)

.

والصواب في هذا الحديث ــ إن ثبت ــ أن المراد به إذا كان الحيوان مقصودًا للَّحم كشاةٍ يقصد لحمُها، فيباع

(2)

بلحم؛ فيكون قد باع لحمًا بلحمٍ أكثرَ منه من جنس واحد. واللحم قوت موزون، فيدخله ربا الفضل.

وأما إذا كان الحيوان غير مقصود به اللحم، كما إذا كان غيرَ مأكول أو مأكولًا لا يُقصَد لحمُه كالفرس تباع بلحم إبل؛ فهذا لا يحرم بيعه به.

بقي إذا كان الحيوان مأكولًا لا يُقصَد لحمُه، وهو من غير جنس اللحم، فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين كبيع صُبْرَةِ تمرٍ بصُبْرة زبيب. وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك، إذ غايته التفاضل بين الجنسين، والتفاضل المتحقِّق جائز بينهما فكيف بالمظنون؟ وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك، لا لأجل التفاضل، ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار؛ وعلى هذا فيمتنع بيعُ اللحم بحيوان من غير جنسه. والله أعلم.

فصل

وأما قوله: «ومنَعَ المرأة من الإحداد على أبيها وابنها

(3)

فوق ثلاث، وأوجَبه على زوجها أربعة أشهر وعشرًا وهو أجنبي»، فيقال: هذا من تمام محاسن هذه الشريعة، وحكمتها، ورعايتها لمصالح العباد على أكمل

(1)

نقله المصنف من «الاستذكار» (6/ 426).

(2)

يعني الحيوان. وكذا في ت، ف. ولم ينقط حرف المضارع في ح، ع. وفي النسخ المطبوعة:«فتباع» ، أي الشاة.

(3)

ع: «أمها وأبيها» ، وكذا في الطبعات القديمة. وفي المطبوع زاد على ذلك:«وابنها» !

ص: 493

الوجوه. [340/ب] فإنَّ الإحدادَ على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهلُ الجاهلية يبالغون فيها أعظمَ مبالغة، ويُضيفون إلى ذلك شقَّ الجيوب، ولطمَ الخدود، وحلقَ الشعور، والدعاءَ بالويل والثبور. وتمكُث المرأة سنةً في أضيق بيت وأوحشه لا تمَسُّ طيبًا ولا تدَّهن ولا تغتسل، إلى غير ذلك مما هو تسخُّطٌ

(1)

على الربِّ تعالى وأقداره. فأبطل الله سبحانه برحمته ورأفته سنَّة الجاهلية، وأبدَلَنا بها الصبرَ والحمدَ والاسترجاعَ الذي هو أنفع للمُصاب في عاجلته وآجلته. ولما كانت مصيبةُ الموت لا بد أن تُحدِث للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تتقاضاه الطباعُ سمَح لها الحكيمُ الخبيرُ في اليسير من ذلك، وهو ثلاثة أيام يجد بها نوعَ راحةٍ، ونقضي

(2)

بها وطرًا من الحزن؛ كما رخَّص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا. وما زاد على الثلاث فمفسدته راجحة، فمنَع منه؛ بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها. فإن فطام النفوس عن مألوفاتها بالكلِّية من أشقِّ الأمور عليها، فأُعطيت بعضَ الشيء ليسهل عليها تركُ الباقي، فإن النفس إذا أخذت بعضَ مرادها قنِعت به، فإذا سئلت تركَ الباقي كانت إجابتُها إليه أقربَ من إجابتها لو حُرِمَتْه بالكلِّية.

ومَن تأمَّل أسرارَ الشريعة وتدبَّر حِكَمَها رأى ذلك ظاهرًا على صفحات أوامرها ونواهيها، باديًا لمن بصرُه ثاقب

(3)

؛ فإذا حرم عليهم شيئا عوَّضهم

(1)

في المطبوع: «سخَط» .

(2)

قراءة النسخ المطبوعة: «تجد

وتقضي».

(3)

في ح بالباء والقاف، وفي ع:«باقية» . وفي ف: «ثاقبة» . وفي ت: «نافذ» . وفي النسخ المطبوعة: «نظره نافذ» .

ص: 494

عنه بما هو [341/أ] خير لهم منه وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعو حاجتُهم إليه ليسهُل عليهم تركُه؛ كما حرَّم عليهم بيع الرطب بالتمر، وأباح لهم منه العرايا. وحرَّم عليهم النظرَ إلى الأجنبية وأباح لهم منه نظرَ الخاطب والمُعامل والطبيب. وحرَّم عليهم أكلَ المال بالمغالبات الباطلة كالنَّرد والشِّطْرَنج وغيرهما، وأباح لهم أكلَه بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال. وحرَّم عليهم لباسَ الحرير، وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه. وحرَّم عليهم كسبَ المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبَه بالسَّلَم. وحرَّم عليهم في الصيام وطءَ نسائهم، وعوَّضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلًا، فسهَّل عليهم تركَه بالنهار. وحرَّم عليهم الزنا، وعوَّضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاؤوا، فسهّل عليهم تركَه غاية التسهيل. وحرَّم عليهم الاستقسامَ بالأزلام، وعوَّضهم عنه بالاستخارة ودعائها، ويا بُعدَ ما بينهما! وحرَّم عليهم نكاح أقاربهم، وأباح لهم منه بناتِ العَمِّ والعَمَّةِ والخالِ والخالة. وحرَّم عليهم وطءَ الحائض، وسمح لهم في مباشرتها وأن يصنعوا بها كلَّ شيء إلا الوطَء، فسهَّل عليهم تركَه غاية السهولة.

وحرَّم عليهم الكذبَ، وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج مَن عَرَفها إلى الكذب معها البتة، وأشار إلى هذا بقوله:«إنَّ في المعاريض مندوحةً عن الكذب»

(1)

. وحرم عليهم الخيلاء بالقول والفعل، وأباحها لهم في الحرب

(1)

رواه ابن الأعرابي في «المعجم» (993)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 108، 3/ 567)، وأبو الشيخ في «الأمثال» (230) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما مرفوعًا، وآفتُه داود بن الزبرقان، وهو متروك متّهم. ورواه ابن السنّي في «عمل اليوم» (327) من طريق أخرى، هي من مناكير سعيد بن أوس و «الزهد» لهنّاد» (1378)، فقد خالف الثقات الذين رووا الخبر من الوجه نفسه موقوفًا، كما يراه الناظر في «المصنّف» لابن أبي شيبة (26620)، و «الأدب المفرد» للبخاري (857)، و «تهذيب الآثار» لابن جرير (943، 944 - مسند عمر)، و «مساوئ الأخلاق» للخرائطي (166)، و «المعجم الكبير» للطبراني (18/ 106 - 107). ويُنظر:«السنن الكبير» (10/ 199)، و «الجامع لشعب الإيمان» (6/ 445 - 446)، و «الآداب» (289) ثلاثتُها للبيهقي.

ص: 495

لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد. [341/ب] وحرَّم عليهم كلَّ ذي ناب من السباع ومِخلَبٍ من الطير، وعوَّضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها. وبالجملة فما حرَّم عليهم خبيثًا ولا ضارًّا إلا أباح لهم طيّبًا بإزائه أنفعَ لهم منه. ولا أمرَهم بأمرٍ إلا وأعانهم عليه، فوَسِعَتهم رحمتُه، ووَسِعَهم تكليفُه.

والمقصود: أنه أباح للنساء ــ لضعف عقولهن وقلة صبرهن ــ الإحدادَ على موتاهن ثلاثة أيام. وأما الإحداد على الأزواج

(1)

، فإنه تابع للعِدَّة وهو من مقتضياتها ومكمِّلاتها، فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزيُّن والتجمُّل والتعطُّر، لتتحبَّب إلى زوجها، وتردَّ

(2)

نفسَه، ويحسن ما بينهما من العشرة. فإذا مات الزوج، واعتدَّت منه، وهي لم تصل إلى زوج آخر= فاقتضى تمامُ حقِّ الأول وتأكيدُ المنع من الثاني قبل بلوغ الكتابِ أجلَه أن تُمنَع مما تصنعه النساء لأزواجهن؛ مع ما في ذلك من سدِّ الذريعة إلى طمعها في الرجال، وطمعهم فيها بالزينة والخضاب والتطيُّب. فإذا بلغ الكتابُ أجلَه صارت محتاجةً إلى ما يرغِّب في نكاحها، فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج. فلا شيءَ أبلغُ في الحسن من هذا المنع والإباحة، ولو اقترحت عقولُ

(1)

ت، ع:«الزوج» .

(2)

في المطبوع بعده زيادة: «لها» .

ص: 496

العالمين لم تقترح شيئًا أحسنَ منه

(1)

.

فصل

وأما قوله: «وسوَّى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود، وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة» ، فهذا أيضًا من كمال شريعته

(2)

وحكمتها ولطفها. [342/أ] فإنَّ مصلحةَ العبادات البدنية ومصلحةَ العقوبات، الرجالُ والنساءُ مشتركون فيها، وحاجة أحد الصنفين إليها كحاجة الصنف الآخر، فلا يليق التفريق بينهما. نعم، فرَّقت بينهما في أليق المواضع بالتفريق وهو الجمعة والجماعة، فخُصَّ وجوبُهما بالرجال دون النساء لأنهن لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال؛ وكذلك فُرِّق

(3)

بينهما في عبادة الجهاد التي ليس الإناث من أهلها. وسوَّت بينهما في وجوب الحج لاحتياج النوعين إلى مصلحته، وفي وجوب الزكاة والصيام والطهارة.

وأما الشهادة فإنما جُعِلت المرأة فيها على النصف من الرجل؛ لحكمة أشار إليها العزيز الحكيم في كتابه، وهي أن المرأة ضعيفة العقل قليلة الضبط لما تحفظه. وقد فضَّل الله الرجال على النساء في العقول والفهم والحفظ والتمييز، فلا تقوم المرأة في ذلك مقام الرجل. وفي منع قبول شهادتها بالكلية إضاعةٌ لكثير من الحقوق وتعطيلٌ لها، فكان من أحسن الأمور وألصقها بالعقول، أن ضُمَّ إليها في قبول الشهادة نظيرُها لِتُذَكِّرها إذا

(1)

هنا انتهى المجلد الأول من نسخة مكتبة الأوقاف العامة ببغداد (ع).

(2)

في المطبوع: «الشريعة» .

(3)

كذا في النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «فرقت» .

ص: 497

نسيَتْ، فتقوم شهادة المرأتين مقامَ شهادة الرجل، ويقع من العلم أو الظن الغالب بشهادتهما ما يقع بشهادة الرجل الواحد.

وأما الدية، فلما كانت المرأةُ أنقصَ من الرجل، والرجلُ أنفعَ منها، ويسُدُّ ما لا تسُدُّه المرأة من المناصب الدينية والولايات، وحفظ الثغور والجهاد، وعمارة الأرض، وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم [342/ب] إلا بها، والذَّبِّ عن الدنيا والدين= لم تكن قيمتُهما مع ذلك متساويةً، وهي الدية. فإنَّ ديةَ الحرِّ جاريةٌ مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال، فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما.

فإن قيل: لكنكم نقضتم هذا، فجعلتم ديتهما سواءً فيما دون الثلث.

قيل: لا ريب أن السنة وردت بذلك، كما رواه النسائي

(1)

من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَقْلُ المرأة مثلُ عَقْل الرَّجُل حتَّى تبلُغَ الثُّلُثَ من ديَتها»

(2)

. وقال سعيد بن المسيِّب: إنَّ

(1)

في «المجتبى» (4805)، وفي «السنن الكبرى» (6980)، وقال:«إسماعيل بن عيّاش ضعيف، كثير الخطأ» . ورواية إسماعيل هذه ضعيفة؛ لأنّها عن ابن جريج، وإسماعيل غيرُ متقن لحديثه الذي يرويه عن غير الشاميّين. ويُنظر:«تنقيح التحقيق» للذهبي (2/ 244)، و «التنقيح» لابن عبد الهادي (4/ 518 - 519)، و «إرواء الغليل» للألباني (7/ 308 - 309).

(2)

برقم (4805)، وأخرجه أيضًا الدارقطني (4/ 77)، وإسناده ضعيف؛ لأن رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين فيها كلام؛ وابن جريج منهم، وأيضًا عنعنةُ ابن جريج وهو مدلس والحديث ضعفه ابن النحوي والألباني. انظر: البدر المنير (8/ 443)، والإرواء (2254).

ص: 498

ذلك

(1)

السنة

(2)

؛ وإن خالف فيه أبو حنيفة والشافعي والليث والثوري وجماعة، وقالوا: هي النصف

(3)

في القليل والكثير؛ ولكن السنة أولى. والفرق بين ما دون الثلث وما زاد عليه أن ما دونه قليل، فجُبِرت مصيبةُ المرأة فيه بمساواتها للرجل.

ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية، لقلَّة ديته، وهي الغُرَّة، فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين.

وأما الميراث، فحكمة التفضيل فيه ظاهرة. فإن الذكر أحوج إلى المال من الأنثى، لأن الرجال قوَّامون على النساء، والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله بعد أن فرَض الفرائض وفاوَتَ بين مقاديرها:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]. وإذا كان الذكر أنفع من الأنثى وأحوج كان أحقَّ بالتفضيل.

فإن قيل: فهذا ينتقض بولد الأم.

[343/أ] قيل: بل طردُ هذا

(4)

التسويةُ بين ولد الأم ذكرهم وأنثاهم،

(1)

في النسخ المطبوعة زادوا بعده «من» .

(2)

يشير إلى ما رواه مالك (2/ 860) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ فقال: «عشر من الإبل» فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل، فقلت: كم في ثلاث؟ فقال: «ثلاثون من الإبل» فقلت: كم في أربع؟ قال: «عشرون من الإبل» فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟ فقال سعيد:«أعراقي أنت؟» فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، فقال سعيد:«هي السنة يا ابن أخي» .

(3)

في النسخ المطبوعة: «على النصف» ، زادوا «على» .

(4)

في النسخ المطبوعة: «هذه» لتوهُّم أن «التسوية» بدل منه.

ص: 499

فإنهم إنما يرثون بالرحم المجرَّد، فالقرابة التي يرثون بها قرابةُ أنثى فقط، وهم فيها سواء؛ فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم، بخلاف قرابة الأب.

وأما العقيقة، فأمر التفضيل فيها تابع لشرف الذكر، وما ميَّزه الله به على الأنثى. ولما كانت النعمة به على الوالد أتمَّ، والسرور والفرحة به أكمل؛ كان الشكران عليه أكثر؛ فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر. والله أعلم.

فصل

وأما قولهم

(1)

: «وخصَّ بعضَ الأزمنة والأمكنة، وفضَّل بعضها على بعض، مع تساويها» إلى آخره، فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية كاذبة.

وما فضَّل بعضَها على بعض إلا لخصائص قامت بها، اقتضت التخصيص؛ وما خصَّ سبحانه شيئًا إلا بمخصص، ولكنه قد يكون ظاهرًا وقد يكون خفيًّا. واشتراكُ الأزمنة والأمكنة في مسمَّى الزمان والمكان كاشتراك الحيوان في مسمَّى الحيوانية، والإنسان في مسمَّى الإنسانية، بل وسائر الأجناس في المعنى الذي يعمُّها؛ وذلك لا يوجب استواءها في أنفسها. والمختلفات تشترك في أمور كثيرة. والمتفقات تتباين في أمور كثيرة، والله سبحانه أحكَمُ وأعلَمُ من أن يرجِّح مِثلًا على مِثلٍ من كلِّ وجه، بلا صفة تقتضي ترجيحه؛ هذا مستحيل في خلقه وأمره، كما أنه سبحانه لا يفرِّق بين المتماثلين من كلِّ وجه. فحكمته وعدله تأبى هذا وهذا.

وقد نزَّه سبحانه نفسَه عمَّن يظنُّ [343/ب] به ذلك، وأنكر عليه زعمَه الباطل، وجعله حكمًا منكرًا. ولو جاز عليه ما يقول هؤلاء لبطلت حججه

(1)

في النسخ المطبوعة: «قوله» .

ص: 500

وأدلته، فإن مبناها على أنَّ حكمَ الشيء حكمُ مثله، وعلى أنه لا يسوِّي

(1)

بين المختلفين، فلا يجعل الأبرار كالفجار، ولا المؤمنين كالكفار، ولا من أطاعه كمن عصاه، ولا العالم كالجاهل. وعلى هذا مبنى الجزاء، فهو حكمه الكوني والديني، وجزاؤه الذي هو ثوابه وعقابه. وبذلك حصل الاعتبار، ولأجله ضُربت الأمثال، وقُصَّت علينا أخبار الأنبياء وأممهم.

ويكفي في بطلان هذا المذهب المتروك الذي هو من أفسَدِ مذاهبِ العالم أنه يتضمن لمساواة

(2)

ذات جبريل لذات إبليس، وذات الأنبياء لذات أعدائهم، ومكان البيت العتيق لمكان

(3)

الحُشوش

(4)

وبيوت الشياطين، وأنه لا فرق بين هذه الذوات في الحقيقة. وإنما خُصَّت

(5)

هذه الذات عن هذه الذات بما خُصَّت به لمحض المشيئة المرجِّحة مِثلًا على مِثلٍ بلا مُوجِب. بل قالوا ذلك في جميع الأجسام، وأنها متماثلة. فجسمُ المسك عندهم مساوٍ لجسم البول والعَذِرة، وإنما امتاز عنه بصفة عرضية، وجسمُ الثلج عندهم مساوٍ لجسم النار في الحقيقة. وهذا مما خرجوا به عن صريح المعقول، وكابروا فيه الحِسَّ، وخالفهم فيه جمهورُ العقلاء من أهل الملل والنحل. وما سوَّى الله بين جسم السماء وجسم الأرض، ولا بين جسم النار وجسم الماء، ولا بين جسم الهواء وجسم الحجر. وليس مع المنازعين في

(1)

في النسخ المطبوعة: «ألا يسوي» .

(2)

كذا في جميع النسخ، وانظر ما يأتي في (5/ 36):«يطابق لمخبره» .

(3)

في النسخ المطبوعة: «بمكان» ، تصحيف.

(4)

جمع «الحُشِّ» ، والمقصود به موضع قضاء الحاجة.

(5)

في النسخ الخطية بعده زيادة «به» ، وهي سهو.

ص: 501

ذلك [344/أ] إلا الاشتراك في أمر عام، وهو قبولُ الانقسام، وقيامُ الأبعاد الثلاثة، والإشارةُ الحِسِّيَّة، ونحو ذلك، مما لا يوجب التشابه، فضلًا عن التماثل. وبالله التوفيق.

فصل

وأما قوله: «إن الشريعة جمعت بين المختلفات، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال» فغيرُ منكَر في العقول والفِطَر والشرائع والعادات اشتراكُ المختلفات في حكم واحد، باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم؛ فإنه لا مانع من اشتراكها في أمرٍ يكون علةً لحكم من الأحكام، بل هذا هو الواقع. وعلى هذا، فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علّة للضمان، وإن افترقا في علّة الإثم. وربطُ الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها. وهو من

(1)

مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به، كما أوجب على القاتل خطأً ديةَ القتيل. ولذلك لا يعتمد التكليف، فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال. وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها. فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلفَ بعضُهم أموالَ بعض، وادَّعى الخطأ وعدم القصد.

وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات، فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته؛ ففرَّقت الشريعة فيها بين العامد والمخطئ. وكذلك البر والحنث في الأيمان، فإنه نظير الطاعة والعصيان في الأمر والنهي؛ فيفترق الحال فيه بين العامد والمخطئ.

(1)

لفظ «من» ساقط من النسخ المطبوعة.

ص: 502

وأما جمعُها [344/ب] بين المكلَّف وغيره في الزكاة، فهذه مسألة نزاع واجتهاد. وليس عن صاحب الشرع نصٌّ بالتسوية ولا بعدمها، والذين سوَّوا بينهما رأوا ذلك من حقوق الأموال التي جعل

(1)

الله سبحانه الأموال سببًا في ثبوتها. وهي حقٌّ للفقراء في نفس هذا المال، سواء كان مالكه مكلَّفًا أو غير مكلَّف؛ كما جعل في ماله حقَّ الإنفاق على بهائمه ورقيقه وأقاربه، فكذلك جعل في ماله حقًّا للفقراء والمساكين.

فصل

وأما جمعُها بين الهرَّة والفأرة في الطهارة، فهذا حقٌّ، وأيُّ تفاوت في ذلك؟ وكأن السائل رأى أن العداوة التي بينهما توجب اختلافهما في الحكم كالعداوة التي بين الشاة والذئب. وهذا جهل منه؛ فإن هذا أمرٌ لا تعلُّقَ له بطهارة ولا نجاسة ولا حِلٍّ ولا حرمة. والذي جاءت به الشريعة من ذلك في غاية الحكمة والمصلحة، فإنها لو جاءت بنجاستهما لكان فيه أعظمُ حرج ومشقة على الأمة لكثرة طوفانهما على الناس ليلًا ونهارًا، وعلى فُرُشهم وثيابهم وأطعمتهم، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله في الهرة:«إنَّها ليستْ بِنَجَسٍ. إنَّها مِنَ الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات»

(2)

.

فصل

وأما جمعُها بين الميتة وذبيحةِ غيرِ الكتابي في التحريم، وبين ميتة الصيد وذبيحة المُحْرِم له، فأيُّ تفاوت في ذلك؟ وكأن السائل رأى أن الدم لما احتَقَن في الميتة كان سببًا لتحريمها، وما ذبَحه المُحْرِم أو الكافر غيرُ

(1)

ح: «جعلها» .

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 503

الكتابي لم يحتقِن دمه؛ فلا وجهَ لتحريمه. وهذا غلط وجهل، فإن علَّة التحريم [345/أ] لو انحصرت في احتقان الدم لكان للسؤال وجه. فأما إذا تعددت عللُ التحريم لم يلزم من انتفاء بعضها انتفاءُ الحكم إذا خلَفَه علّةٌ أخرى. وهذا أمر مطرد في الأسباب والعلل العقلية، فما الذي ينكر منه في الشرع؟

فإن قيل: أليس قد سوَّت الشريعة بينهما في كونهما ميتةً، وقد اختلفا في سبب الموت، فتضمَّنت جمعَها بين مختلفين، وتفريقَها بين متماثلين؟ فإن الذبح واحد صورةً وحسًّا وحقيقةً، فجعلت بعضَ صوره مُخْرِجًا للحيوان عن كونه ميتةً، وبعضَ صوره مُوجِبًا لكونه ميتةً، من غير فرق.

قيل: الشريعة لم تسوِّ بينهما في اسم الميتة لغةً، وإنما سوَّت بينهما في الاسم الشرعي؛ فصار اسمُ الميتة في الشرع أعمَّ منه في اللغة. والشارع يتصرَّف في الأسماء اللغوية بالنقل تارةً، وبالتعميم تارةً، وبالتخصيص تارة. وهكذا يفعل أهلُ العرف. فهذا ليس بمنكر شرعًا ولا عرفًا.

وأما الجمعُ بينهما في التحريم، فلأن الله سبحانه حرَّم علينا الخبائث، والخبثُ الموجِبُ للتحريم قد يظهر لنا وقد يخفى، فما كان ظاهرًا لم ينصِب عليه الشارع علامةً غير وصفه، وما كان خفيًّا نصَب عليه علامةً تدل على خبثه. فاحتقانُ الدم في الميتة سبب ظاهر، وأما ذبيحة المجوسي والمرتدِّ وتاركِ التسمية ومَن أهلَّ بذبيحته لغير الله، فنفسُ ذبيحة هؤلاء أكسبَت المذبوحَ خبثًا أوجَبَ تحريمَه. ولا يُنكِر أن يكون ذكرُ اسم الأوثان والكواكب والجنّ على الذبيحة يُكْسِبها خبثًا، وذكرُ اسمِ [345/ب] الله وحده يُكْسِبها طِيبًا، إلا مَن قلَّ نصيبُه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشريعة. وقد جعل الله سبحانه ما لم

ص: 504

يُذكر اسمُ الله عليه من الذبائح فسقًا وهو الخبيث. ولا ريب أن ذكرَ اسمِ الله على الذبيحة يُطيِّبها، ويطرُد الشيطانَ عن الذابح والمذبوح. فإذا أخلَّ بذكر اسمه لابَسَ الشيطانُ الذابحَ والمذبوحَ، فأثَّر ذلك خبثًا في الحيوان. والشيطان يجري في مجاري الدم من الحيوان، والدمُ مركبه وحامله، وهو أخبث الخبائث، فإذا ذكر الذابحُ اسمَ الله خرج الشيطانُ مع الدم، فطابت الذبيحة. فإذا لم يذكُر اسمَ الله لم يخرج الخبث. وأما إذا ذكر اسمَ عدوِّه من الشياطين والأوثان فإن ذلك يكسب الذبيحة خبثًا آخر.

يوضِّحه أن الذبيحة تجري مجرى العبادة، ولهذا يقرُن الله سبحانه بينهما، كقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقوله:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. وقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 36 - 37]، فأخبر أنه إنما سخَّرها لمن يذكر اسمَه عليها، وأنه إنما يناله التقوى، وهو التقرُّب إليه بها وذكر اسمه عليها. فإذا لم يذكُر اسمَه عليها كان ممنوعًا من أكلها، وكانت مكروهةً لله، فأكسبتها كراهيتُه لها ــ حيث لم يذكر [346/أ] عليها اسمَه أو ذكر عليها اسمَ غيره ــ وصفَ الخبث، فكانت بمنزلة الميتة. وإذا كان هذا في متروك التسمية وما ذُكِر عليه اسمُ غير الله، فما ذبحه عدوُّه المشركُ به الذي هو من أخبَث البريَّةِ أولى بالتحريم؛ فإن فعل الذابح وقصده وخبثه لا ينكر أن يؤثِّر في المذبوح، كما أن خبث الناكح ووصفه وقصده يؤثِّر في المرأة المنكوحة. وهذه أمور إنما يصدِّق بها مَن أشرق فيه نورُ الشريعة وضياؤها، وباشر قلبَه بشاشةُ حِكَمِها وما

ص: 505

اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقَّاها صافيةً من مشكاة النبوة، وأحكم العقدَ بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يَطمِسْ نورَ حقائقها ظلمةُ التأويل والتحريف.

فصل

وأما جمعُها بين الماء والتراب في التطهير، فلله ما أحسنه من جَمعٍ، وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفِطَر المستقيمة! وقد عقد الله سبحانه الإخاءَ بين الماء والتراب قدرًا وشرعًا، فجمعهما الله عز وجل، وخلَق منهما آدم وذريته، فكانا أبوين اثنين لأبوينا وأولادهما؛ وجعل منهما حياةَ كلِّ حيوان، وأخرج منهما أقواتَ الدَّوابِّ والناس والأنعام. وكانا أعمَّ الأشياء وجودًا، وأسهلَها تناولًا. وكان تعفيرُ الوجه في التراب لله من أحبِّ الأشياء إليه. ولما كان عقدُ هذه الأخوة بينهما قدرًا أحكمَ عَقْدٍ وأقواه كان عقدُ الأخوة بينهما شرعًا أحسنَ عَقْدٍ وأصحَّه. {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ [346/ب] فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36 - 36].

فصل

فهذا ما يتعلَّق بقول أمير المؤمنين رضي الله عنه: «واعرف الأشباه والنظائر» ، وفي لفظ:«واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبِّها إلى الله وأشبَهِها بالحق» .

فلنرجع إلى شرح باقي كتابه.

ثم قال: «وإياك والغضب، والقلق

(1)

، والضجر، والتأذِّيَ بالناس،

(1)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. والرواية الأخرى: «الغلق» بالغين. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (20676) و «الكامل» للمبرّد (1/ 25) وفسَّره بضيق الصدر وقلة الصبر. وانظر: «النهاية» لابن الأثير (3/ 380).

ص: 506

والتنكُّرَ عند الخصومة، أو الخصوم ــ شكَّ أبو عبيد ــ فإن القضاء في مواطن الحقِّ مما يُوجِب الله به الأجر، ويُحسِن به الذخر».

هذا

(1)

الكلام تضمَّنَ

(2)

أمرين:

أحدهما: التحذير مما يحول بين الحاكم وبين كمال معرفته بالحق، وتجريد قصده له؛ فإنه لا يكون خير الأقسام الثلاثة إلا باجتماع هذين الأمرين فيه. والغضبُ والقلق والضجر مضادٌّ لهما، فإن الغضب غُول العقل يغتاله كما تغتاله الخمر.

ولهذا نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقضيَ القاضي بين اثنينِ وهو غضبانُ

(3)

.

والغضب نوع من الغلق والإغلاق الذي يُغلِق على صاحبه بابَ حسن التصور والقصد. وقد نصَّ أحمد على ذلك في رواية حنبل، وترجم عليه أبو بكر في كتابيه «الشافي» و «زاد المسافر» ، وعقَد له بابًا، فقال في كتاب «الزاد»: باب النية في الطلاق وذكر الإغلاق. قال أبو عبد الله في رواية حنبل

(4)

: عن عائشة سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طَلاقَ ولا عَتاق في إِغْلاقٍ»

(5)

فهذا

(1)

ت: «وهذا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

ت، ع:«يتضمن» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

سينقلها المؤلف مرتين في هذا الكتاب. وانظر: «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان» (ص 6 - 7) و «زاد المعاد» (5/ 195).

(5)

رواه أحمد (26360)، وابن ماجه (2046) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعند أبي داود (2193) بلفظ (في غلاق)، إسناده ضعيف؛ لأن محمد بن عبيد بن أبي صالح متكلم فيه، وللحديث شواهد يرتقي بها إلى الحسن. انظر:«صحيح أبي داود ــ الأم» (6/ 396).

ص: 507

الغضب. وأوصى بعضُ العلماء لوليِّ أمر فقال [347/أ]: إياك والغلَق والضجر، فإن صاحب الغلَق لا يقدم عليه حقٌّ

(1)

، وصاحبُ الضجر لا يصبر على حقٍّ

(2)

.

والأمر الثاني: التحريض على تنفيذ الحق، والصبر عليه، وجعل الرضا بتنفيذه في موضع الغضب، والصبر في موطن

(3)

القلق والضجر، والتحلِّي به واحتساب ثوابه في موضع التأذِّي. فإن هذا دواء ذلك الداء الذي هو من لوازم الطبيعة البشرية وضعفها، فما لم يصادفه هذا الدواءُ فلا سبيل إلى زواله. هذا مع ما في التنكُّر للخصوم من إضعاف نفوسهم، وكسر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم عن التكلُّم بحججهم خشيةَ معرَّة التنكُّر. ولا سيما أن يتنكَّر لأحد الخصمين دون الآخر، فإن ذلك الداء العُضال.

وقوله: «فإن القضاء في مواطن الحقِّ مما يُوجب الله به الأجر، ويُحسن به الذخر» . هذا عبودية الحكام وولاة الأمر التي تراد منهم. ولله سبحانه على كلِّ أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامَّة التي سوَّى بين عباده فيها. فعلى العالم من عبوديته نشرُ السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما

(1)

في النسخ المطبوعة: «صاحب حقّ» ، زادوا كلمة «صاحب» .

(2)

لم أقف عليه، وقريب منه ما روي عن محمد بن علي بن الحسين وغيره:«إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كلّ شرّ. لأنك إن كسِلتَ لم تطلب حقًّا، وإن ضجرتَ لم تصبر على حق» . انظر: «حلية الأولياء» (3/ 183) و «شأن الدعاء» للخطابي (ص 120).

(3)

ما عدا ح، ف:«موضع» .

ص: 508

ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من عبودية إقامةِ الحقِّ وتنفيذِه، وإلزامِ مَن

(1)

عليه به، والصبرِ على ذلك، والجهاد عليه= ما ليس على المفتي. وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.

وتكلَّم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي [347/ب] عن المنكر، فقالت له امرأة: هذا واجب قد وُضِعَ عنَّا. فقال: هبي

(2)

أنه قد وُضِعَ عنكنَّ سلاحُ اليد واللسان، فلم يُوضَع عنكن سلاحُ القلب. فقالت: صدقتَ، جزاك الله خيرًا.

وقد غرَّ إبليسُ أكثرَ الخلق بأن حسَّن لهم القيامَ بنوعٍ من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطَّلوا هذه العبوديات، فلم يحدِّثوا قلوبَهم بالقيام بها. وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقلِّ الناس دينًا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به. فتاركُ حقوق الله التي تجب عليه أسوأُ حالًا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي؛ فإنَّ تركَ الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهًا ذكرها شيخنا

(3)

في بعض تصانيفه

(4)

.

(1)

في النسخ المطبوعة: «وإلزامه من هو» .

(2)

في النسخ: «هب» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.

(3)

زيد بعده الترحُّم على الشيخ في النسخ المطبوعة.

(4)

في «مجموع الفتاوى» (20/ 85 - 158): «قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه

»، وتكلم عليها من اثنين وعشرين وجهًا، والظاهر أن الرسالة ناقصة من آخرها. والمصنف أيضًا استدلَّ عليها باثنين وعشرين وجهًا في كتابه «الفوائد» (ص 171 - 185)، فليقارن.

ص: 509

ومن له خبرةٌ بما بعث الله به رسولَه وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أنَّ أكثرَ من يشار إليهم بالدين هم أقلُّ الناس دينًا، والله المستعان.

وأيُّ دين وأيُّ خير فيمن يرى محارمَ الله تُنتهَك، وحدودَه تُضاعُ، ودينَه يُترَك، وسنَّةَ رسوله

(1)

يُرغَب عنها؛ وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس؟ كما أن المتكلِّم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سَلِمت لهم مآكلُهم ورياساتُهم فلا مبالاةَ بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزِّن المتلمِّظ

(2)

. ولو نُوزِع في بعض ما فيه غضاضةٌ عليه في جاهه أو ماله بذَل وتبذَّل وجدَّ واجتهَد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء ــ مع سقوطهم من عين الله، ومقتِ [348/أ] الله لهم ــ قد بُلُوا في الدنيا بأعظم بليَّةٍ تكون، وهم لا يشعرون. وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتمَّ كان غضبُه لله ورسوله أقوى، وانتصارُه للدين أكمل.

وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا: أنَّ اللهَ سبحانه أوحى إلى مَلَكٍ من الملائكة أن اخسفْ بقرية كذا وكذا. فقال: يا ربِّ كيف وفيهم فلانٌ العابدُ؟ فقال: به فابدأْ، فإنه لم يتمعَّرْ وجهُه فيَّ يومًا قطُّ

(3)

.

(1)

في النسخ المطبوعة: «رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

(2)

هو الذي يتتبع ما بقي من الطعام في فمه ويتذوقه.

(3)

رواه ابن الأعرابي في «المعجم» (2016)، والطبراني في «الأوسط» (7661)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7189) من حديث جابر رضي الله عنه. ولا يصحُّ لأنَّ عبيد بن إسحاق العطار، وعمارَ بن سيف متكلمٌ فيهما، والحديث ضعفه البيهقي، وقال:«المحفوظ من قول مالك بن دينار» وضعفه أيضًا العراقي والألباني. انظر: «المغني عن حمل الأسفار» (ص:786)، و «السلسلة الضعيفة» (4/ 376)، والأثر ورد موقوفًا عند البيهقي في «الشعب» (7188) من قول مالك بن دينار وهو المحفوظ كما تقدم.

ص: 510

وذكر أبو عمر في كتاب «التمهيد»

(1)

أنَّ الله سبحانه أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه أنْ قُلْ لفلانٍ الزاهد: أمَّا زُهدُك في الدنيا، فقد تعجَّلْتَ به الراحةَ. وأما انقطاعُك إليَّ، فقد اكتسبْتَ به العزَّ. ولكن ماذا عملْتَ فيما لي عليك؟ فقال: يا ربِّ، وأيُّ شيءٍ لك عليَّ؟ قال: هل واليتَ فيَّ وليًّا، أو عاديتَ فيَّ عدوًّا؟

فصل

قوله: «فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس. ومن تزيَّنَ بما ليس فيه شانه اللهُ» هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدَّث الملهَم. وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومَن أحسن الإنفاقَ منهما نفَع غيرَه، وانتفَع غايةَ الانتفاع.

فأما الكلمة الأولى فهي منبعُ الخير وأصلُه، والثانية أصلُ الشرِّ وفصلُه. فإن العبد إذا خلصت نيتُه لله وكان قصدُه وهمُّه وعملُه لوجهه سبحانه كان الله معه، فإنه سبحانه مع الذين اتقَّوا والذين هم محسنون. ورأس التقوى والإحسان خلوصُ النية لله في إقامة الحق. والله سبحانه لا غالب له، فمَن كان معه [348/ب] فمَن ذا الذي

(2)

يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع

(1)

(17/ 434). ورواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (10/ 316)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 330) كلاهما من طريق حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. في إسناده حميد الأعرج وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني. انظر: السلسلة الضعيفة (7/ 351).

(2)

ح، ف:«فمن الذي» .

ص: 511

العبد فممَّن

(1)

يخاف؟ وإن لم يكن معه فمَن يرجو وبمَن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولًا، وكان قيامُه بالله ولله، لم يقُم له شيءٌ. ولو كادته السماواتُ والأرضُ والجبالُ لكفاه الله مؤنتَها، وجعل له فرَجًا ومخرجًا.

وإنما يؤتى العبد من تفريطه أو تقصيره

(2)

في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد. فمن كان قيامه في باطل لم يُنصَر، وإن نُصِرَ نصرًا عارضًا فلا عاقبة له، وهو مذموم مخذول. وإن قام في حقٍّ، لكن لم يقُم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمَدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصُّلُ إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولًا، والقيامُ في الحق وسيلة إليه= فهذا لم تُضْمَن له النصرة. فإن الله إنما ضمِن النصرةَ لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه؛ فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين. وإن نُصِر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصُر إلا الحقَّ.

وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبرُ منصورٌ أبدًا. فإن كان صاحبه مُحِقًّا كان منصورًا له العاقبة، وإن كان مُبطلًا لم تكن له عاقبة.

وإذا قام العبد في الحقِّ لله، ولكن قام بنفسه وقوته، ولم يقُم بالله مستعينًا به، متوكلًا عليه، مفوِّضًا إليه، بريئًا من الحول والقوة إلا به= فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من [349/أ] ذلك.

(1)

في النسخ المطبوعة: «فمَن» .

(2)

ت، ع:«وتقصيره» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 512

ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤيَّد منصور، ولو توالت عليه زُمَر الأعداء.

قال الإمام أحمد

(1)

: ثنا [أبو]

(2)

داود، أنبأنا شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت:«من أسخطَ الناسَ برضا الله عز وجل كفاه اللهُ الناسَ. ومن أرضى الناسَ بسخطِ الله وَكَلَه إلى النَّاس» .

والعبد إذا عزَم على فعل أمرٍ، فعليه أن يعلم أولًا هل هو طاعة لله أم لا؟ فإن لم يكن طاعةً فلا يفعله إلا أن يكون مباحًا يستعين به على الطاعة، وحينئذ يصير طاعة. فإذا بان له أنه طاعة فلا يُقْدِم عليه حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا؟ فإن لم يكن معانًا عليه فلا يُقدِم عليه، فيُذِلَّ نفسه. وإن كان معانًا عليه بقي عليه نظر آخر، وهو أن يأتيه من بابه. فإن أتاه من غير بابه أضاعه، أو فرَّط فيه، أو أفسد منه شيئًا. فهذه الأمور الثلاثة أصل سعادة العبد وفلاحه. وهي معنى قول العبد:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5 - 6].

فأسعَدُ الخلق أهلُ العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب، وأشقاهم من عدِم الأمورَ الثلاثة. ومنهم من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ونصيبُه

(1)

في «الزهد» (910). وأخرجه ابن الجعد (1593) موقوفًا عن عائشة رضي الله عنها، وورد مرفوعًا عن عائشة رضي الله عنها عند الترمذي (2414)، وصححه ابن حبان (276) وأعلَّه أبو حاتم والعقيلي. انظر: العلل لابن أبي حاتم (5/ 90)، والضعفاء الكبير (3/ 343)، والسلسلة الصحيحة (5/ 392).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من النسخ الخطية.

ص: 513

من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} معدوم أو ضعيف؛ فهذا مخذول مَهين محزون. ومنهم من يكون نصيبُه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قويًّا، ونصيبُه من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ضعيفًا أو مفقودًا؛ فهذا له نفوذ وتسلط وقوة، [349/ب] ولكن لا عاقبة له، بل عاقبته أسوأ عاقبة. ومنهم من يكون له نصيبٌ من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولكن نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدًّا، كحال كثير من العُبَّاد والزُّهَّاد الذين قلَّ علمُهم بحقائق ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق.

وقول عمر: «فمن خلصت نيته في الحقِّ ولو على نفسه» إشارة إلى أنه لا يكفي قيامُه في الحق لله إذا كان على غيره، حتى يكون أولَ قائم به على نفسه، فحينئذ يُقبَل قيامُه به على غيره، وإلا فكيف يُقبَل الحقُّ ممن أهمل القيامَ به على نفسه؟

وخطب عمر بن الخطاب يومًا وعليه ثوبان، فقال: أيها الناسُ ألا تسمعون؟ فقال سلمانُ: لا نسمَعُ. فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمتَ علينا ثوبًا ثوبًا، وعليك ثوبانِ، فقال: لا تعجلْ. يا عبد الله، يا عبد الله. فلم يجبْه أحدٌ. فقال: يا عبد الله بن عمر. فقال: لبيك يا أميرَ المؤمنين. فقال: نشدتُك اللهَ، الثوبُ الذي ائتزرتُ به أهو ثوبُك؟ قال: اللهم نعم. فقال سلمانُ: أمَّا الآنَ، فقلْ نسمَعْ

(1)

.

(1)

رواه الزبير بن بكار في «الأخبار الموفقيات» (109) ولا يصح؛ لأن بين المدائني، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاوزَ تنقطع فيها أعناق الإبل، والمدائني هو أبو الحسن علي بن محمد، صاحب أخبار، وهو مُقِلٌ من رواية المسندات، قال أبو قلابة الرقاشي: حدثت أبا عاصم النبيل بحديث فقال: عمن هذا؟ قلت: ليس له إسناد ولكن حدثنيه أبو الحسن المدائني. قال لي: سبحان الله أبو الحسن إسناد! وانظر ترجمته: الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 364)، ميزان الاعتدال (3/ 153)، لسان الميزان (6/ 13).

ص: 514

فصل

وأما قوله: «ومن تزيَّن بما ليس فيه شانَه اللهُ» . لما كان المتزيِّنُ بما ليس فيه ضدَّ المخلص ــ فإنه يُظهِر للناس أمرًا وهو في الباطن بخلافه ــ عامَلَه اللهُ بنقيض قصده، فإنَّ المعاقبة بنقيض القصد ثابتةٌ شرعًا وقدرًا. ولما كان المخلص يعجَّل له من ثواب إخلاصه الحلاوةُ والمحبةُ والمهابةُ في قلوب الناس عُجِّل للمتزيِّن بما ليس فيه من عقوبته أن شانه اللهُ بين الناس؛ [350/أ] لأنه شانَ باطنَه عند الله. وهذا موجَبُ أسماء الربِّ الحسنى وصفاته العُلى وحكمته في قضائه وشرعه.

هذا، ولما كان مَن تزيَّن للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنُّسك والعلم وغير ذلك قد نصَب نفسَه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بدَّ أن تُطلَب منه. فإذا لم توجد عنده افتُضِحَ، فيشينه ذلك من حيث ظنَّ أنه يزينه. وأيضًا فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافَه، فأظهر اللهُ من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم، جزاءً له من جنس عمله.

وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خُشوع النِّفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسدَ خاشعًا، والقلبُ غيرُ خاشع

(1)

.

(1)

رواه ابن المبارك في «الزهد» (143)، وابن أبي شيبة (36861) عن أبي الدرداء رضي الله عنه موقوفًا، فيه رجل مبهم لم يُسَمَّ. وروي مرفوعًا عند البيهقي في «الشعب» (9/ 220) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا يصح؛ لأنَّ فيه الحارث بن عبيد الأنماري ضعفه أحمد وابن معين. انظر: المغني عن حمل الأسفار (ص: 1243).

ص: 515

وأساس النفاق وأصله هو التزيُّن للناس بما ليس في الباطن من الإيمان. فعُلِم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقَّة

(1)

من كلام النبوة، وهما من أنفع الكلام، وأشفاه للسَّقام.

فصل

وقوله: «فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا» . والأعمال أربعة: واحد مقبول، وثلاثة مردودة. فالمقبول ما كان لله خالصًا وللسنَّة موافقًا، والمردود ما فُقِدَ منه الوصفان أو أحدهما. وذلك أن العمل المقبول هو ما أحبَّه الله ورضيَه، وهو سبحانه إنما يُحِبُّ ما أمرَ به وما عُمِل لوجهه. وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبُّها، بل يمقتها ويمقت أهلها.

قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. قال الفضيل [350/ب] بن عياض: هو أخلصُ العملِ وأصوبُه. فسئل عن معنى ذلك، فقال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكنْ صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكنْ خالصًا لم يقبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا. فالخالصُ أن يكون لله، والصوابُ أن يكون على السُّنَّة. ثم قرأ قوله:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]

(2)

.

فإن قيل: فقد بان بهذا أن العمل لغير الله مردود غير مقبول، والعمل لله

(1)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة في موضع: «مشتقَّتان» ! وانظر ما سبق في (2/ 154).

(2)

نقله المؤلف في «مدارج السالكين» (1/ 105) و (2/ 89) أيضًا. وقد رواه ابن أبي الدنيا في «الإخلاص والنية» (22)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 95) دون الآية الأخيرة.

ص: 516

وحده مقبول. فبقي قسم آخر، وهو أن يعمل العملَ لله ولغيره، فلا يكون لله محضًا ولا للناس محضًا، فما حكم هذا القسم؟ هل يبطل العمل كلُّه أم يبطل ما كان لغير الله، ويصحّ ما كان لله؟

قيل: هذا القسم تحته أنواع ثلاثة:

أحدها: أن يكون الباعث الأول على العمل هو الإخلاص، ثم يعرض له الرياء وإرادة غير الله في أثنائه. فهذا المعوَّل فيه على الباعث الأول، ما لم يفسَخه بإرادة جازمة لغير الله؟ فيكون حكمُه حكمَ قطع النية في أثناء العبادة وفسخها، أعني قطع ترك استصحاب حكمها.

الثاني عكس هذا، وهو أن يكون الباعث الأول لغير الله، ثم يعرض له قلبُ النية لله، فهذا لا يحتسب له بما مضى من العمل، ويحتسب له من حين قلب نيته. ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة، كالصلاة، وإلا لم تجب كمن أحرَمَ لغير الله، ثم قلَبَ نيته لله عند الوقوف والطواف.

الثالث: أن يبتدئها مريدًا بها [351/أ] الله والناس، فيريد أداء فرضه، والجزاء والشكور من الناس. وهذا كمن يصلِّي بالأجرة، فهو لو لم يأخذ الأجرة صلَّى، ولكنه يصلِّي لله وللأجرة؛ وكمن يحجُّ ليسقط الفرض عنه، ويقال: فلان حجَّ؛ أو يعطي الزكاة لذلك؛ فهذا لا يُقبل منه العمل.

وإن كانت النية شرطًا في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة. فإن حقيقة الإخلاص التي هي شرطٌ في صحة العمل والثواب عليه لم توجد، والحكم المعلَّق بالشرط عدمٌ عند عدمه، فإن الإخلاص هو تجريد القصد

ص: 517