الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وعلى هذا الأصل ف
طهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس
، فإنها نجست
(1)
لوصف الخبث، فإذا زال الموجِب زال الموجَب. وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب. وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت. وقد نبَش النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب
(2)
. وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم. وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا عُلِفت بالنجاسة، ثم حبست وعُلِفت بالطاهرات، حلَّ لبنها ولحمها. وكذلك الزروع والثمار إذا سُقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلَّت لاستحالة وصف الخبث وتبدُّله بالطيب. وعكسُ هذا أن الطيِّب إذا استحال خبيثًا صار نجسًا، كالماء والطعام إذا استحال بولًا وعَذِرة. فكيف أثَّرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثًا، ولم تؤثِّر في انقلاب الخبيث طيبًا؟ [242/أ] والله تعالى يُخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب. ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه. ومن الممتنع بقاءُ حكم الخبث، وقد زال اسمه ووصفه. والحكمُ تابع للاسم والوصف، دائرٌ معه وجودًا وعدمًا. فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا تتناول الزروع والثمار والرماد والملح والتراب والخَلَّ، لا لفظًا ولا معنًى، ولا نصًّا ولا قياسًا.
والمفرِّقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا: الخمر نجست
(1)
في النسخ المطبوعة: «نجسة» .
(2)
أخرجه البخاري (428) ومسلم (524) من حديث أنس.
بالاستحالة فطهرت بالاستحالة. فيقال لهم: وهكذا البول والدم
(1)
والعَذِرة إنما نجست بالاستحالة، فتطهُر بالاستحالة. فظهر أن القياس مع النصوص، وأن مخالفة القياس في الأقوال التي تخالف النصوص.
فصل
وأما قولهم: إن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس، لأنها لحم، واللحم لا يتوضأ منه؛ فجوابه أن الشارع فرَّق بين اللحمين، كما فرَّق بين المكانين، وكما فرَّق بين الراعيين: رعاة الإبل ورعاة الغنم
(2)
، فأمر بالصلاة في مرابض الغنم دون أعطان الإبل، وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل دون الغنم؛ كما فرَّق بين الربا والبيع، والذكيِّ
(3)
والميتة. فالقياس الذي يتضمن التسوية بين ما فرَّق الله بينه من أبطل القياس وأفسده، ونحن لا ننكر أن في الشريعة ما يخالف القياس الباطل!
هذا مع أن الفرق بينهما ثابت في نفس الأمر، كما فرَّق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم، فقال:«الفخر والخيلاء في الفدَّادين أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم»
(4)
.
وقد جاء أنَّ على ذِروة كلِّ بعير شيطانًا
(5)
. وجاء أنها جنٌّ خُلِقت من
(1)
ع: «وهذا الدم والبول» . وكذا في النسخ المطبوعة، غير أن فيها:«وهكذا» .
(2)
كذا في ت، ع والنسخ المطبوعة. وهو ساقط من ف. وفي حاشية ح:«راعي الإبل وراعي الغنم» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «والمذكَّى» ، ولعله تغيير، وقد سبق مثله غير مرَّة.
(4)
أخرجه البخاري (3301) ومسلم (52) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه أحمد (16039)، والنسائي في «السنن الكبرى» (10265) من حديث حمزة الأسلمي مرفوعا، وقال:«أسامة بن زيد ليس بالقوي في الحديث» . أسامة هو مولى الليثيِّين، وهو صدوقٌ ليِّنُ الحديث، وشيخُه في هذا الحديثِ: محمدُ بن حمزةَ الأسلميُّ، وهو مجهولُ الحال. وقد صحّح ابنُ خزيمةَ الحديثَ (2546)، وكذا ابن حبان (2263)، والحاكم (1/ 444). ورواه أحمد (17938، 17939) من حديث أبي لاس الخزاعي مرفوعا، وصححه ابن خزيمة (2377، 2543)، والحاكم (1/ 444)! ورواه الحاكم (1/ 444) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وقطع أنه على شرط مسلم! ورواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (6688) من حديث جعفر الصادق، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، لكنه من المناكير والأوابد التي يرويها محمد بن عبد العزيز الرملي عن القاسم بن غصن. والمحفوظ عن جعفر روايتُه إياه عن أبيه الباقر مرسلا، كذا رواه ابن أبي شيبة (30340) عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر به. ورواه مسدد [كما في «إتحاف الخيرة المهرة» للبوصيري (2407)، و «المطالب العالية» لابن حجر (1979)]، وابن أبي شيبة (30342) من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة مرسلا.
جنِّ
(1)
. ففيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذي. ولهذا حرِّم كلُّ ذي نابٍ من السباع ومخلبٍ من الطير
(2)
، لأنها دواب عادية، فالاغتذاء بها
(1)
رواه الشافعي (2/ 207 - 208) ــ ومن طريقه البيهقي (2/ 449) ــ من حديث الحسن، عن عبد الله بن مغفل مرفوعا، وسندُه واهٍ، آفتُه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وهو واهٍ متروكٌ. لكن تابعه محمد بن إسحاق بن يسار على معناه، فيما رواه أحمد (20557)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1092).
والمحفوظ ما رواه أحمد (16788، 16799، 20541، 20571)، وابن ماجه (769) من طرق عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل مرفوعا: «
…
فإنها خُلِقتْ من الشياطين». وصححه ابن حبان (2262، 4232). وأصل الحديث عند النسائي (735، 4280، 4288) دون محلّ الشاهد. ويُنظر: «فتح الباري» لابن رجب (3/ 221).
(2)
أخرجه مسلم (1934) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
يجعل في طبيعة المغتذي من العدوان ما يضرُّه في دينه. فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشيطانية، والشيطان خُلِق من نار، والنارُ تطفأ بالماء، هكذا جاء الحديث، ونظيره الحديث الآخر:«إن الغضب من الشيطان، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»
(1)
= فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يطفئ تلك القوة الشيطانية، فتزول تلك المفسدة.
ولهذا أمرنا بالوضوء مما مسَّت النار، إما إيجابًا منسوخًا، وإما استحبابًا غيرَ منسوخ. وهذا الثاني أظهر لوجوه. منها: أن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذُّر الجمع بين الحديثين. ومنها: أن رواة أحاديث الوضوء بعضُهم متأخر الإسلام كأبي هريرة. ومنها: أن المعنى الذي أمَر
(2)
بالوضوء لأجله منها هو اكتسابها من القوة النارية، وهي مادة الشيطان التي خُلِق منها، والنار تطفأ بالماء، وهذا المعنى موجود فيها. وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب. ومنها: أن أكثر ما مع من ادعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم[243/أ] أكل مما مسَّت النار، ولم يتوضأ
(3)
. وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء، لا على عدم استحبابه، فلا تنافي بين أمره وفعله. وبالجملة فالنسخ إنما يصار إليه عند التنافي، وتحقُّق التاريخ،
(1)
رواه أحمد (17985)، وأبو داود (4784) من حديث عطية السعدي مرفوعا، وفي سنده ضعفٌ وجهالة. وله شاهدٌ واهٍ جدًّا، رواه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (2775)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 130) من حديث معاوية مرفوعا، وآفتُه ياسين بن معاذ الزيّات، قال أبو داود:«متروك الحديث ضعيف، وهو ببيع الزيت أعلم منه بالعلم» !
(2)
في النسخ المطبوعة: «أمرنا» .
(3)
منها حديث ابن عباس، أخرجه البخاري (207) ومسلم (354).
وكلاهما منتفٍ. وقد يكون الوضوء من مسِّ الذكر ومسِّ النساء من هذا الباب، لما في ذلك من تحريك الشهوة، فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس.
ولما كانت القوة الشيطانية في لحوم الإبل لازمة كان الأمر بالوضوء منها لا معارض له من فعل ولا قول، ولما كانت في ممسوس النار عارضة صحَّ فيها الأمر والترك. ويدل على هذا أنه فرَّق بينها وبين لحوم الغنم في الوضوء، وفرَّق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة. فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل، وأذِن في الصلاة في مرابض الغنم. وهذا يدل على أنه ليس ذلك لأجل الطهارة والنجاسة، كما أنه لما أمر بالوضوء من لحوم الإبل دون لحوم الغنم عُلِم أنه ليس ذلك لكونها مما مسَّته النار. ولما كانت أعطان الإبل مأوى الشيطان لم تكن مواضع للصلاة كالحشوش، بخلاف مباركها في السفر، فإن الصلاة فيها جائزة، لأن الشيطان هناك عارض. وطردُ هذا المنع من الصلاة في الحمام، لأنه بيت الشيطان.
وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان. والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل. فإذا عُقِل المعنى لم يكن بدٌّ من تعديته، ما لم يمنع منه مانع. والله أعلم.
فصل
وأما
(1)
الفطر بالحجامة، فإنما اعتقد من قال:«إنه على خلاف القياس» ذلك بناءً على أن القياس: الفِطرُ بما دخل، لا بما خرج. وليس كما ظنوه، بل
(1)
في النسخ المطبوعة: «أما» بحذف الواو.
الفطر بها محض القياس. وهذا إنما يتبيَّن [243/ب] بذكر قاعدة، وهي: أن الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعدل، وأمر فيه بغاية الاعتدال؛ حتى نهى عن الوصال، وأمر بتعجيل الفطر، وتأخير السحور
(1)
،
وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود
(2)
. فكان من تمام الاعتدال في الصوم أن لا يُدخِل الإنسان ما به قوامه كالطعام والشراب، ولا يُخرِج ما به قوامه كالقيء والاستمناء. وفرَّق بين ما يمكن الاحتراز منه من ذلك وما لا يمكن، فلم يفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع، كما لا يفطر بغبار الطحين وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل. وجعل الحيض منافيًا للصوم دون الجنابة، لطول زمنه
(3)
، وكثرة خروج الدم، وعدم التمكُّن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة. وفرَّق بين دم الحجامة ودم الجرح، فجعل الحجامةَ من جنس القيء والاستمناء والحيض، وخروجَ الدم من الجرح والرعاف من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع
(1)
رواه أبو يعلى في «المسند الكبير» [كما في «المطالب العالية» لابن حجر (1024)] من حديث عائشة مرفوعا. وهو منكر جدًّا، تفرّد به طيب بن سليمان (الضعيف) عن (عَمْرةَ) دُونَ الحفاظ الأكابر من الآخذين عنها.
وروى ابن أبي خيثمة في «التاريخ» (3504 - السِّفر الثاني)، والطبراني (25/ 163) من حديث أم حكيم بنت وداع مرفوعا:«عَجِّلُوا الإفطار، وأخِّرُوا السحور» . وفي سندِه ثلاثُ نسوةٍ مجهولاتٌ على نَسَقٍ. ورواه ابن عدي (8/ 27) من حديث أنس مرفوعا بنحوه، وفي سنده مبارك بن سُحيم، وهو متروك. وروى أحمد (21312، 21507) من حديث أبي ذر مرفوعا: «لا تزال أمّتي بخير؛ ما عجّلوا الإفطار، وأخّروا السحور» . وفي سنده ضعفٌ وجهالة.
(2)
أخرجه البخاري (1131) ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3)
في النسخ المطبوعة: «زمانه» .
القيء. فتناسبت الشريعة، وتشابهت تأصيلًا وتفصيلًا، وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل، ولله الحمد.
فصل
(1)
ومما يُظَنّ أنه على خلاف القياس باب التيمم. قالوا: إنه على خلاف القياس من وجهين:
أحدهما: أن التراب ملوِّث لا يزيل درَنًا ولا وسخًا، ولا يطهِّر البدن كما لا يطهِّر الثوب.
والثاني: أنه شُرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروج عن القياس الصحيح
(2)
.
ولعمرُ الله، إنه خروج عن القياس الباطل المضادِّ للدين، وهو على وفق القياس الصحيح، فإن الله سبحانه جعل من الماء كلَّ شيء حيّ، وخلقنا من التراب، فلنا مادتان: الماء، والتراب. فجعل منهما [244/أ] نشأتنا وأقواتنا، وبهما تطهرنا وتعبدنا، فالتراب أصلُ ما خلق منه الناس، والماءُ حياة كلِّ شيء. وهما الأصل في الطبائع التي ركَّب الله عليها هذا العالم، وجعل قوامه بهما. وكان أصلُ ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد، فلم يجُز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه. وكان النقلُ عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لوَّث ظاهرًا فإنه يطهِّر باطنًا، ثم يقوِّي طهارة الباطن، فيزيل دنسَ الظاهر أو يخفِّفه.
(1)
لم يرد هذا الفصل والفصل التالي في «مجموع الفتاوى» .
(2)
لفظ «الصحيح» من ع.
وهذا أمرٌ يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن، وتأثُّرِ كلٍّ منهما بالآخر وانفعالِه عنه.
فصل
وأما كونه في عضوين، ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة، فإنَّ وضعَ التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يُفعل عند المصائب والنوائب. والرِّجلان محلُّ ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار لله ما هو من أحبِّ العبادات إليه وأنفعها للعبد. ولذلك يستحَبُّ للساجد أن يترِّبَ وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد، وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال:«ترِّب وجهَك»
(1)
. وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرِّجلين.
وأيضًا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر، وهو أن التيمم جُعِل في العضوين المغسولين، وسقط عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تُمسَحان في الخف
(2)
، فلما خُفِّف عن المغسولين بالمسح خُفِّف عن
(1)
المشهور أن الحديث مرفوع، رواه أحمد (26572، 26744)، والترمذي (381، 382) من حديث أم سلمة مرفوعا، وقال الترمذي: «إسنادُه ليس بذاك
…
». وضعّفه أيضًا البيهقي (2/ 252)، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 246). أما ابن حبان فصححه (1324). وصححه أيضًا الحاكم (1/ 271). وله شاهدٌ، رواه عبد الرزاق (1528) عن معمر، عن خالد الحذّاء مرسلا، وهو (على التحقيق) معضلٌ. ويُنظر:«السنن الكبرى» للنسائي (553)، و «الأحكام الوسطى» لعبد الحق الإشبيلي (2/ 7)، و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان الفاسي (3/ 255 - 256، 5/ 696).
(2)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «والرأس في العمامة» .
الممسوحين بالعفو، إذ لو مُسِحا بالتراب لم يكن فيه [244/ب] تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب. فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها، وهو الميزان الصحيح.
وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدِث، فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدِث سقط مسحُ البدن كلِّه بالتراب عنه بطريق الأولى، إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم، ويدخل أكرم المخلوقات على الله في شبه البهائم إذا تمرَّغ في التراب. فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه، ولله الحمد.
فصل
وأما السَّلَم، فمن ظن أنه على خلاف القياس توهَّم دخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تَبِع ما ليس عندك»
(1)
. وأنه
(2)
بيعُ معدوم، والقياس يمنع منه. والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيعُ مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدَّم أنها
(1)
رواه أحمد (15311 - 15313، 15315، 15573)، وأبو داود (3503)، والترمذي (1232، 1233) ــ ونبّه على انقطاع سنده ــ، وابن ماجه (2187)، والنسائي (4613) من حديث حكيم بن حزام مرفوعا. ويُنظر:«التاريخ» لابن أبي خيثمة (513 - 521 - السِّفْر الثاني). وله شاهد يُقوِّيه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، رواه أحمد (6628، 6671، 6918)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234) ــ وصحّحه ــ، وابن ماجه (2188)، والنسائي (4611، 4631).
(2)
في النسخ المطبوعة: «فإنه» .
على وفق القياس. وقياس السَّلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا، والبائع والمشتري منها على غرر، من أفسد القياس صورة ومعنى. وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له، وبين السَّلَم إليه في مُغَلٍّ مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه، فالجمعُ بينهما كالجمع بين الميتة والذكي
(1)
، والربا والبيع.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبِع ما ليس عندك» فيحتمل معنيين
(2)
. أحدهما: أن يبيع عينًا معيَّنةً وهي ليست عنده، بل ملك للغير، فيبيعها، ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري. والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة
(3)
[245/أ] فليس عنده حسًّا ولا معنًى، فيكون قد باعه شيئًا لا يدري هل يحصل له أم لا؟ وهذا يتناول أمورًا:
أحدها: بيعُ عين معينة ليست عنده.
الثاني: السلَم الحالُّ في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه.
الثالث: السلَم المؤجَّل إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادةً. فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دين من الديون، وهو كالابتياع بثمن مؤجل. فأيُّ فرق بين كون أحد العوضين مؤجلًا في الذمة وبين الآخر؟ فهذا محض
(1)
في النسخ المطبوعة: «والمذكى» ، خلافًا للنسخ الخطية، وقد سبق قريبًا.
(2)
ع: «فيحمل على معنيين» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
زاد بعضهم في حاشية ح هنا: «وهذا أشبه» . وهذه الجملة قد وردت في «مجموع الفتاوى» .
القياس والمصلحة. وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وهذا يعُمُّ الثمن والمثمَّن، وهذا هو الذي فهمه ترجمان القرآن من القرآن عبد الله بن عباس، فقال: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله، وقرأ هذه الآية
(1)
.
فثبت أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة، وشُرِع على أكمل الوجوه وأعدلها، فشُرِط فيه قبض الثمن في الحال، إذ لو تأخَّر لحصل شغل الذمتين بغير فائدة، ولهذا سُمِّي سلمًا لتسليم الثمن. فإذا أخّر الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه، وكثرت المخاطرة، ودخلت المعاملة في حدِّ الغرر. ولذلك منع الشارع أن يشترط فيه كونه من حائط معين؛ لأنه قد يتخلَّف، فيمتنع التسليم.
والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم، لكن ضيَّقوا ما وسَّعه
(2)
الله، وشرطوا ما لم يشرُطه، وخرجوا عن موجَب القياس والمصلحة. أما القياس فإنه أحد العوضين، فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن. وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيلَ [245/ب] مصالح الناس، إذ الحاجة التي لأجلها شرع الله ورسوله السلمَ
(1)
رواه الشافعي في «الأم» (4/ 182 - 183)، وعبد الرزاق (14064)، وابن أبي شيبة (22758)، وابن جرير في «جامع البيان» (5/ 71)، وابن المنذر في «التفسير» (66، 67)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (2948)، والطبراني (12903)، والحاكم (2/ 286) ــ وصححه ــ، والبيهقي (6/ 18، 19)، وفي «السنن الصغير» (2000)، وفي «معرفة السنن والآثار» (4/ 402)، وسندُه جيِّدٌ.
(2)
في النسخ المطبوعة: «وسَّع» .
الارتفاقُ من الجانبين: هذا يرتفق بتعجيل الثمن، وهذا يرتفق برخص المثمّن. وهذا قد يكون في منقطع الجنس، كما قد يكون في متصله. فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد.
فصل
وأما الكتابة، فمن قال: هي على خلاف القياس، قال: هي بيع السيِّد ماله بماله. وهذا غلط، وإنما باع العبد نفسه بمال في ذمته، والسيِّد لا حقَّ له في ذمة العبد، وإنما حقُّه في بدنه؛ فإن السيد حقُّه في ماليّة العبد لا في إنسانيّته، وإنما يطالب العبد بما في ذمته بعد عتقه، وحينئذ فلا ملك للسيد عليه. وإذا عُرِف هذا فالكتابة: بيعه نفسَه بمال في ذمته، ثم إذا اشترى نفسه كان كسبُه له ونفعه له، وهو حادث على ملكه الذي استحقَّه بعقد الكتابة. ومن تمام حكمة الشارع أنه أخَّر فيها العتق إلى حين الأداء، لأن السيد لم يرض بخروجه عن ملكه إلا بأن يسلَّم له العوض، فمتى لم يسلَّم له العوض وعجز العبد عنه كان له الرجوعُ في البيع. فلو وقع العتق لم يمكن رفعه بعد ذلك، فيحصل السيد على الحرمان. فراعى الشارع مصلحة السيد ومصلحة العبد، وشرع الكتابة على أكمل الوجوه وأشدِّها مطابقةً للقياس الصحيح.
وهذا هو القياس في سائر المعاوضات، وبه جاءت السنة الصحيحة الصريحة الذي لا معارض لها: أن المشتري إذا عجز عن الثمن كان للبائع الرجوع في عين ماله، وسواء حكم الحاكمُ بفَلَسه أم لا. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يشترط حكم الحاكم، ولا أشار إليه، ولا دلَّ عليه بوجه ما، فلا وجه لاشتراطه. وإنما المعنى الموجِب للرجوع [246/أ] هو الفلَس الذي حال بين البائع وبين الثمن. وهذا المعنى موجود بدون حكم الحاكم، فيجب ترتيب
أثره عليه. وهو محض العدل، وموجَب القياس، فإن المشتري لو اطلع على عيب في السلعة كان له الفسخ بدون حكم حاكم. ومعلوم أن الإعسار عيب في الذمة لو علِم به البائع لم يرضَ بكون ماله في ذمة مفلس. فهذا محض القياس الموافق للنص ومصالح العباد. وبالله التوفيق.
وطردُ هذا القياس عجزُ الزوج عن الصداق، وعجزُه عن الوطء، وعجزُه عن النفقة والكسوة. وطردُه عجزُ المرأة عن العوض في الخلع أن للزوج الرجعة. وهذا هو الصواب بلا ريب، فإنه لم يخرج البُضْعُ عن ملكه إلا بشرط سلامة العوض. وطردُه الصلح عن القصاص إذا لم يحصل له ما يصالح عليه، فله العود إلى طلب القصاص. فهذا موجَب العدل ومقتضى قواعد الشريعة وأصولها. وبالله التوفيق.
فصل
وأما الإجارة، فالذين قالوا: هي على خلاف القياس، قالوا: هي بيع معدوم، لأن المنافع معدومة حين العقد. ثم لما رأوا الكتاب قد دلَّ على جواز إجارة الظئر للرضاع بقوله:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] قالوا: إنها على خلاف القياس من وجهين. أحدهما: كونها إجارة. والثاني: أن الإجارة عقد على المنافع، وهذه عقد على الأعيان. ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه، وقالوا: هي
(1)
خلاف القياس. والحكم إنما يكون على خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه بنقيض ذلك الحكم، فيقال: هذا خلاف قياس ذلك [246/ب] النص.
(1)
ت: «هي على» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
وليس في القرآن ولا في السنة ذكر فساد إجارة شبه هذه الإجارة. ومنشأ وهمهم ظنُّهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض قائمة بغيرها، لا أعيان قائمة بنفسها. ثم افترق هؤلاء فرقتين:
فقالت فرقة: إنما احتملناها على خلاف القياس لورود النص، فلا نتعدَّى محلَّه.
وقالت فرقة: بل نخرجها على ما يوافق القياس، وهو كون المعقود عليه أمرًا غير اللبن، بل هو إلقامُ الصبيِّ الثديَ، ووضعُه في حجر المرضعة، ونحو ذلك من المنافع التي هي مقدمات الرضاع، واللبن يدخل تبعًا غيرَ مقصود بالعقد. ثم طردوا ذلك في مثل ماء البئر والعيون التي في الأرض المستأجرة، وقالوا: يدخل ضمنًا وتبعًا. فإذا وقعت الإجارة على نفس العين والبئر لسقي الزرع والبستان قالوا: إنما وردت الإجارة على مجرَّد إدلاء الدلو في البئر وإخراجه، وعلى مجرَّد إجراء العين في أرضه؛ مما هو قلبُ الحقائق، وجعلُ المقصود وسيلةً، والوسيلةِ مقصودةً؛ إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة، وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة، ولا معقودًا عليها. ولا قيمة لها أصلًا، وإنما هي كفتح الباب وكقَود الدابة
(1)
لمن اكترى دارًا أو دابةً.
ونحن نتكلَّم على هذين الأصلين الباطلين: على أصل من جعل الإجارة على خلاف القياس، وعلى أصل من جعل إجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس، فنقول [247/أ] وبالله التوفيق.
(1)
في «مجموع الفتاوى» (20/ 532): «كصعود الدابة» ، ولعله تحريف.
أما الأصل الأول، فقولهم:«إن الإجارة بيعُ معدوم، وبيع المعدوم باطل» دليل مبني على مقدّمتين مجملتين غير مفصَّلتين، قد اختلط في كلٍّ منهما الخطأ بالصواب.
فأما المقدمة الأولى
(1)
وهي كون الإجارة بيعًا، إن أردتم به البيع الخاصَّ الذي يكون العقد فيه على الأعيان لا على المنافع فهو باطل، وإن أردتم به البيع العامَّ الذي هو معاوضة إما على عين وإما على منفعة، فالمقدمة الثانية باطلة. فإن بيع المعدوم ينقسم إلى بيع الأعيان وبيع المنافع، ومن سلَّم بطلان بيع المعدوم فإنما يسلِّمه في الأعيان.
ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء في الإجارة: هل تنعقد بلفظ البيع؟ على وجهين. والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ من الألفاظ عرَف به المتعاقدان مقصودهما. وهذا حكم شامل لجميع العقود، فإن الشارع لم يحُدَّ لألفاظ العقود حدًّا، بل ذكرها مطلقة. فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأحرى.
ولا فرق بين النكاح وغيره. وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد. قال شيخنا
(2)
: بل نصوص أحمد لا تدل إلا على هذا القول. وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج فإنما هو قول ابن حامد والقاضي وأتباعه. وأما قدماء أصحاب
(1)
انظر المقدمة الثانية في الفصل التالي.
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 534)، والكلام لا يزال منقولًا عنه، متصلًا ما سبقه بما يليه.
أحمد فلم يشترط أحد منهم ذلك. وقد نصَّ أحمد على [247/ب] أنه إذا قال: «أعتقتُ أمتي وجعلتُ عتقها صداقها» أنه ينعقد النكاح. قال ابن عقيل: وهذا يدل على أنه لا يختص النكاح بلفظ. وأما ابن حامد فطرَد أصلَه، وقال: لا ينعقد حتى يقول مع ذلك: «تزوجتها» . وأما القاضي فجعل هذا موضع استحسان خارجًا عن القياس، فجوَّز النكاح في هذه الصورة خاصة بدون لفظ الإنكاح والتزويج. وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا، فإن من أصوله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل، ولا يرى اختصاصها بالصيغ.
ومن أصوله: أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح كما قاله في الطلاق والقذف وغيرهما. والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج قالوا: ما عداهما كناية، فلا يثبت حكمها إلا بالنية، وهي أمر باطن لا اطلاع للشاهد عليه؛ إذ الشهادة إنما تقع على المسموع، لا على المقاصد والنيات. وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع وفي عرف المتعاقدين، والمقدمتان غير معلومتين. أما الأولى فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح، فقال:«ملَّكتُكها بما معك من القرآن»
(1)
. وأعتق صفية، وجعل عتقها صَداقها
(2)
، ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج. وأباح الله ورسوله النكاح وردَّ فيه الأمة إلى ما تتعارفه نكاحًا بأيِّ لفظ كان، ومعلوم أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيم شرعي، فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلًا، فما هو الضابط لذلك؟
(1)
أخرجه البخاري (5030) ومسلم (1425) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(2)
أخرجه البخاري (4200) ومسلم (1365) من حديث أنس بن مالك.
وأما المقدمة الثانية فكون اللفظ صريحًا أو كنايةً أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم والمخاطب [248/أ] والزمان والمكان. فكم من لفظ صريحٌ عند قوم، وليس بصريح عند آخرين، وفي مكان دون مكان، وزمان دون زمان. فلا يلزم من كونه صريحًا في خطاب الشارع أن يكون صريحًا عند كلِّ متكلِّم، وهذا ظاهر.
والمقصود: أن قوله: «الإجارةُ
(1)
نوعٌ من البيع» إن أراد به البيع الخاصَّ فباطل، وإن أراد به البيع العامَّ فصحيح. ولكن قوله:«إن هذا البيع لا يرد على معدوم» دعوى باطلة، فإن الشارع جوَّز المعاوضة العامَّة على المعدوم. فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان فهذا قياس في غاية الفساد، فإن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها البتة، بخلاف الأعيان. وقد فرَّق بينها الحسُّ والشرعُ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤخَّر العقد على الأعيان التي لم تُخلق إلى أن تخلق، كما نهى عن بيع السنين، وحَبَل الحَبَلة، والثمر قبل أن يبدو صلاحه
(2)
، والحبِّ حتى يشتدَّ
(3)
، ونهى عن الملاقيح والمضامين
(4)
، ونحو ذلك. وهذا يمتنع مثله في المنافع، فإنه لا يمكن أن تباع إلا في حال عدمها.
(1)
في النسخ المطبوعة: «إن الإجارة» بزيادة «إن» .
(2)
سبق تخريج كلِّ ذلك.
(3)
رواه أحمد (13314، 13613)، وأبو داود (3371)، والترمذي (1228) ــ وقال:«حسنٌ غريبٌ» ــ، وابن ماجه (2217) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا. وصححه ابن حبان (1889)، والحاكم (2/ 19)، وابن النحوي في «البدر المنير» (6/ 530، 581). وأورده الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (5/ 305 - 307). ويُنظر: «السنن الكبير» للبيهقي (5/ 303)، و «معرفة السنن والآثار» له (4/ 328).
(4)
سبق تخريجه.
فهاهنا أمران: أحدهما: يمكن إيراد العقد عليه في حال وجوده وحال عدمه، فنهى الشارع عن بيعه حتى يوجد، وجوَّز منه بيعَ ما لم يوجد تبعًا لما وُجِد إذا دعت الحاجة إليه. وبدون الحاجة لم يجوِّزه. والثاني: ما لا يمكن إيراد العقد عليه إلا في حال عدمه كالمنافع، فهذا جوَّز العقد عليه ولم يمنع منه.
فإن قلت: أنا أقيس أحد النوعين على الآخر، وأجعل العلة مجرَّدَ كونه معدومًا.
قيل: هذا قياس فاسد؛ لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين، وقولك:«إنّ العلَّة مجرَّدُ كونه معدومًا» دعوى [248/ب] بغير دليل، بل دعوى باطلة. فلم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدومًا يمكن تأخير بيعه إلى زمن وجوده؟ وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدم خاص، وأنت لم تبيِّن أن العلة في الأصل مجرَّد كونه معدومًا؛ فقياسك فاسد. وهذا كافٍ في بيان فساده بالمطالبة، ونحن نبيِّن بطلانه في نفسه، فنقول: ما ذكرناه علة مطردة، وما ذكرته علة منتقضة. فإنك إذا علَّلت بمجرَّد العدم ورد عليك النقض بالمنافع كلِّها وبكثير من الأعيان، وما علَّلنا به لا ينتقض.
وأيضًا فالقياس المحض وقواعد الشريعة وأصولها ومناسبتها
(1)
تشهد لهذه العلة، فإنه إذا كان له حال وجود وعدم كان في بيعه حالَ العدم مخاطرة وقمار. وبذلك علَّل النبي صلى الله عليه وسلم المنعَ حيث قال:«أرأيتَ إن منع الله الثمرة، فبمَ يأخذ أحدكم مالَ أخيه بغير حقٍّ؟»
(2)
. وأما ما ليس له إلا حال واحدة
(3)
(1)
في النسخ المطبوعة: «ومناسباتها» .
(2)
أخرجه البخاري (2198) ومسلم (1555) من حديث أنس بن مالك.
(3)
في النسخ المطبوعة: «حال واحد» .
والغالب فيه السلامة، فليس العقد عليه مخاطرةً ولا قمارًا. وإن كان فيه مخاطرة يسيرة، فالحاجة داعية إليه. ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدِّم أرجحُهما. والغرر إنما نهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ضرر المخاطرة، فلا يزيل
(1)
أدنى الضررين بأعلاهما.
بل قاعدة الشريعة ضد ذلك، وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما. ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحها لهم في العرايا للحاجة، لأن ضرر المنع من ذلك أشدُّ من ضرر المزابنة. ولمَّا حرَّم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية أباحها لهم [249/أ] للضرورة. ولما حَرَّم عليهم النظر إلى الأجنبية أباح منه ما تدعو إليه الحاجة
(2)
للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب.
فإن قلت: فهذا كلُّه على خلاف القياس.
قيل: إن أردت أن الفرع اختصَّ بوصف أوجبَ
(3)
الفرق بينه وبين الأصل، فكلُّ حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على
(4)
خلاف القياس الفاسد. وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضي والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل قطعًا، ليس في الشريعة منه مسألة واحدة. والشيء إذا شابه غيرَه في وصفٍ وفارقه في وصفٍ كان اختلافهما في
(1)
يعني: الشرع.
(2)
ت، ع:«الحاجة إليه» .
(3)
ع: «يعجب» .
(4)
لم يرد «على» في ح، ف.
الحكم باعتبار الفارق مخالفًا لاستوائهما باعتبار الجامع. وهذا هو القياس الصحيح طردًا وعكسًا، وهو التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين.
وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع دائمًا بإبطاله، كما أبطل قياس الربا على البيع، وقياس الميتة على المذكَّى، وقياس المسيح
(1)
على الأصنام. وبيَّن الفارق بأنه عبدٌ أنعم عليه بعبوديته ورسالته، فكيف يعذِّبه بعبادة غيره له، مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به؛ بخلاف الأصنام؟ فمن قال:«إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس» فقد أصاب، وهو من كمالها واشتمالها على العدل والمصلحة والحكمة. ومن سوَّى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوِّي بين كلِّ موجودين لاشتراكهما في مسمَّى الوجود. وهذا من أعظم الغلط، والقياس الفاسد
(2)
الذي ذمَّه السلف وقالوا: «أولُ من قاس [249/ب] إبليس، وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس»
(3)
. وهو القياس الذي اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]. وذمَّ الله أهله بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] أي يقيسونه على غيره ويسوُّون بينه وبين غيره في الإلهية والعبودية.
وكلُّ بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل، فأصلها من القياس الفاسد. فما أنكرت الجهمية صفات الربِّ وأفعاله وعلوَّه على خلقه واستواءه على عرشه وكلامه وتكليمه لعباده ورؤيته في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد. وما أنكرت القدرية عموم قدرته ومشيئته، وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون، إلا بالقياس الفاسد. وما ضلَّت الرافضة وعادوا خيارَ الخلق وكفَّروا أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم وسبُّوهم إلا بالقياس الفاسد. وما أنكرت الزنادقة والدهرية معاد الأجسام وانشقاق السماوات وطيَّ الدنيا، وقالت بقدم العالم، إلا بالقياس الفاسد. وما فسد ما فسد من أمر العالم وخرب
(1)
منه إلا بالقياس الفاسد. وأولُ ذنبٍ عصي الله به: القياس الفاسد. وهو الذي جرَّ على آدم وذريته من صاحب هذا القياس ما جرَّ. فأصلُ شرِّ الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد. وهذه جملة
(2)
لا يدريها إلا من له اطلاع على الواجب والواقع، وله فقه في الشرع والقدر.
فصل
وأما المقدمة الثانية ــ وهي أن بيع المعدوم لا يجوز ــ فالكلام عليها من وجهين:
أحدهما: منع صحة [250/أ] هذه المقدمة، إذ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في كلام أحد من أصحابه
(3)
أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عامّ ولا بمعنى عامّ. وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي
(1)
ع: «وخرب ما خرب» . وكذا في النسخ المطبوعة إلا طبعة الشيخ الوكيل.
(2)
ت: «حكمة» . وكذا في النسخ المطبوعة إلا طبعة الشيخ الوكيل.
(3)
في النسخ المطبوعة: «ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في
…
الصحابة».
هي معدومة، كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة. فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغَرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا، كبيع العبد الآبق والبعير الشارد وإن كان موجودًا؛ إذ موجب البيع تسليم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار، فإنه لا يباع إلا بوَكْس. فإن أمكن المشتري تسليمُه
(1)
كان قد قمَر البائعَ، وإن لم يمكنه ذلك قمَره البائعُ. وهكذا المعدوم الذي هو غرَر، نُهي عنه للغرر، لا للعدم؛ كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة، فالمبيع لا يُعرَف وجوده ولا قدره ولا صفته. وهذا من الميسر الذي حرَّمه الله ورسوله. ونظير هذا في الإجارة أن يُكريه دابة لا يقدر على تسليمها، سواء كانت موجودة أو معدومة. وكذلك في النكاح إذا زوَّجه أمةً لا يملكها، أو ابنةً لم تولد له. وكذلك سائر عقود المعاوضات، بخلاف الوصية فإنها تبرُّع محض، فلا غرر في تعلُّقها بالموجود والمعدوم، وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر. وطردُه الهبة، إذ لا محذور في ذلك فيها. وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كُبَّة الشَّعر حين أخذها من المغنم، وسأله أن يهبها له، فقال:«أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك»
(2)
.
الوجه الثاني: أن نقول: [250/ب] بل الشرع صحَّح بيعَ المعدوم في
(1)
في النسخ المطبوعة: «تسلُّمه» . ويصح ما جاء في النسخ الخطية على أن يكون المصدر في المعنى مجهولًا.
(2)
رواه أحمد (6729، 7037)، وأبو داود (2694)، والنسائي (3688) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا .. وحسّنه ابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (4/ 214).
بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدوِّ صلاحه، والحبِّ بعد اشتداده. ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود، والمعدوم الذي لم يُخلَق بعد. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدوِّ صلاحه، وأباحه بعد بدوِّ الصلاح. ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصلاح بشرط القطع كالحِصْرِم جاز، فإنما نهى عن بيعه إذا كان قصده التبقية إلى الصلاح. ومن جوَّز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقًا، وجعل موجب العقد القطع، وحرَّم بيعه بشرط التبقية أو مطلقًا= لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة. ولم يكن فرَّق بين ما نهى عنه من ذلك وما أذن فيه، فإنه يقول: موجَب العقد: التسليم في الحال، فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحه أو لم يبدُ. والصواب قول الجمهور الذي دلَّت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس الصحيح.
وقوله: «إن موجب العقد التسليم في الحال» ، جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه. وكلاهما منتفٍ في هذه الدعوى، فلا الشارع أوجب أن يكون كلُّ بيع يستحقُّ به التسليم
(1)
عقيب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك. بل تارةً يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارةً يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المثمَّن. وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير تسليم المبيع
(2)
، كما كان لجابر غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة. فكيف يمنعه الشارع ما فيه مصلحة له، ولا ضرر على الآخر فيها؟ إذ قد
(1)
ع: «مستحق التسليم» ، وكذا في «مجموع الفتاوى» (20/ 544). وفي النسخ المطبوعة:«كل مبيع مستحق التسليم» . ونحوه في نشرة الوكيل بزيادة «به» بعد «مبيع» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «التسليم للمبيع» .
رضي بها، كما رضي النبي صلى الله عليه وسلم بتأخير تسليم [251/أ] البعير
(1)
. ولو لم ترد السنة بهذا لكان محضُ القياس يقتضي جوازه.
ويجوز لكلِّ بائع أن يستثني من منفعة المبيع ما له فيه غرض صحيح، كما إذا باع عقارًا واستثنى سكناه مدةً، أو دابَّة واستثنى ظهرها. ولا يختص ذلك بالبيع، بل لو وهبه واستثنى نفعه مدة، أو أعتق عبده واستثنى خدمته مدة، أو وقف عينًا واستثنى غلَّتها لنفسه مدةَ حياته، أو كاتَب أمةً واستثنى وطئها مدة الكتابة، ونحوه. وهذا كلُّه منصوص أحمد
(2)
. وبعض أصحابه يقول: إذا استثنى منفعة المبيع فلا بد أن يسلِّم العين إلى المشتري، ثم يأخذها ليستوفي المنفعة، بناءً على هذا الأصل الذي قد تبيَّن فساده، وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد. وعن هذا الأصل قالوا: إنه
(3)
لا تصح الإجارة إلا على مدة تلي العقد. وعلى هذا بنوا ما إذا باع العين المؤجَّرة، فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل في البيع، فلا يحصل التسليم. ومنهم من قال: هذا مستثنًى بالشرع، بخلاف المستثنى بالشرط. وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوَّجة، وإن كانت منفعة البُضْع للزوج ولم تدخل في البيع. واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه، كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير لا يُنقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمعُ دوابِّ البلد ونقلُه في ساعة واحدة؛ بل قالوا: هذا
(4)
مستثنى
(1)
سبق تخريجه.
(2)
في «مجموع الفتاوى» (20/ 545): «أحمد وغيره» .
(3)
«إنه» ساقط من ت.
(4)
هنا انتهت نسخة أحمد الثالث (ت).
بالعرف. فيقال: وهذا من أقوى الحجج عليكم، فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف، كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع. فإنه يثبت بالشرط ما لا يثبت بالشرع، كما أن الواجب بالنذر أوسع من [251/ب] الواجب بالشرع.
وأيضًا فقولكم: «إن موجب العقد استحقاق التسليم عقيبه» أتعنون أن هذا موجب العقد المطلق أو مطلق العقد؟ فإن أردتم الأول فصحيح. وإن أردتم الثاني فممنوع، فإن مطلق العقد ينقسم إلى المطلق والمقيد، وموجَب العقد المقيّد ما قُيِّد به، كما أن موجَب العقد المقيَّد بتأجيل الثمن وثبوت خيار الشرط والرهن والضمين هو ما قُيِّد به، وإن كان موجَبه عند إطلاقه خلاف ذلك. فموجَب العقد المطلق شيء، وموجَب العقد المقيد شيء. والقبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جوَّز بيع الثمرة بعد بدوِّ الصلاح مستحقّة الإبقاء إلى كمال الصلاح، ولم يجعل موجَبَ العقد القبض في الحال، بل القبض المعتاد عند انتهاء صلاحها. ودخل فيما أذِن فيه بيعُ ما هو معدوم لم يُخلَق بعد، وقبضُ ذلك بمنزلة قبض العين المؤجرة. وهو قبضٌ يبيح التصرف في أصح القولين، وإن كان قبضًا لا يوجب انتقال الضمان، بل إذا تلف المبيع قبل قبضه المعتاد كان من ضمان البائع، كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث: أهل بلدته وأهل سنته. وهو مذهب الشافعي قطعًا، فإنه علَّق القول به على صحة الحديث، وقد صحَّ صحةً لا ريب فيها من غير الطريق التي توقَّف فيها الشافعي
(1)
. فلا يسوغ أن يقال: مذهبه عدم وضع الجوائح، وقد قال: إن صحَّ الحديث قلتُ به، ورواه من
(1)
في النسخ المطبوعة: «الشافعي فيها» .