المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌ الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة

[322/ب] فإن لم يمكن رفعُه إلا بضرر أعظم منه بقَّاه على حاله، وإن أمكن رفعُه بالتزام ضررٍ دونه رفَعه به. ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثُر فيهم بغيُ بعضهم على بعض شرَع الله سبحانه رفعَ هذا الضرر بالقسمة تارةً وانفراد كلٍّ من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارةً وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضررٌ في ذلك. فإذا أراد بيعَ نصيبِه وأخذَ عوضِه كان شريكُه أحقَّ به من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيِّهما كان، فكان الشريكُ أحقَّ بدفع العوض من الأجنبي، فيزول عنه ضررُ الشركة؛ ولا يتضرَّر البائع، لأنه يصل إلى حقِّه من الثمن. وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفِطَر ومصالح العباد. ومن هنا يُعلَم أن التحيُّل لإسقاط الشفعة مناقضٌ لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضادٌّ له.

ثم اختلفت أفهام العلماء في‌

‌ الضرر الذي قصد الشارع رفعَه بالشفعة

. فقالت طائفة: هو الضرر اللاحق بالقسمة، لأنَّ كلَّ واحد من الشريكين إذا طالب شريكه بالقسمة كان عليه في ذلك من المؤنة والكلفة والغرامة والضيق في مرافق المنزل ما هو معلوم. فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلِّها، وبأي موضع شاء منها؛ فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار، وقُصِر على موضع منها، وفي ذلك من الضرر عليه ما لا خفاء به. فمكَّنه [323/أ] الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرَّة عن نفسه، بأن يكون أحقَّ بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه. وحرَّم الشارع على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه، فإن باع ولم يُؤذِنه فهو أحقُّ به. وإن أذِن في البيع، وقال: لا غرض لي فيه، لم يكن له الطلب بعد البيع. هذا

ص: 447

مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، ولا معارضَ له بوجه، وهو الصواب المقطوع به. وهذه طريقة من يرى أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة.

وقالت طائفة أخرى: إنما شُرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة. فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان بإرث أو هبة أو وصية أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفعُ ضررِ أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر. فإذا باع نصيبه كان شريكُه أحقَّ به من الأجنبي، إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرُّر صاحبه، فإنه يصل إلى حقِّه من الثمن، ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع

(2)

، فيزول الضرر عنهما جميعًا. وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها. وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر.

ونصَّ عليه الإمام أحمد في رواية حنبل، قال: قيل لأحمد: فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك. قال: هذا كلُّه أوكد، لأن خليط الشريك أحقُّ به بالثمن. وهذا لا يمكن قسمته، فإذا عرضه على [323/ب] شريكه، وإلا باعه بعد ذلك

(3)

.

وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يعرض على شريكه عقارًا بينه وبينه أو نخلًا، قال الشريك: لا أريد، فباعه، ثم طلب الشفعة بعد. قال: له الشفعة في ذلك

(4)

.

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

في المطبوع: «بالبيع» .

(3)

انظر رواية حنبل في «الروايتين والوجهين» (1/ 450).

(4)

انظر نحوه في «مسائل الكوسج» (6/ 2964) و «المغني» (7/ 454).

ص: 448

واحتجَّ لهذا القول بحديث جابر الصحيح: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يُقْسَم

(1)

. وهذا يتناول المنقول والعقار. وفي كتاب «الخراج»

(2)

عن يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له شِرْكٌ في نخل أو رَبْعةٍ فليس له أن يبيع حتى يُؤْذِنَ شريكَه. فإن رضي أخَذ، وإن كرِه ترَك» . وهذا الإسناد على شرط مسلم

(3)

.

وفي الترمذي

(4)

من حديث عبد العزيز بن رُفَيع، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشريك شفيع، والشفعة في كلِّ شيء» .

تفرَّد به أبو حمزة السُّكَّري عن عبد العزيز بهذا الإسناد. ورواه أبو الأحوص سَلَّام بن سُلَيم عن عبد العزيز، ولم يذكر ابن عباس. ولفظه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كلِّ شيء: الأرض، والدار، والجارية والخادم

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (2213) ومسلم (1608).

(2)

برقم (253).

(3)

وقد رواه مسلم (1608) من طريقين عن أبي خيثمة (زهير بن معاوية)، عن أبي الزبير به. فعزوُ المصنِّف إيّاه إلى يحيى بن آدمَ إبعادٌ في الانتجاع.

(4)

برقم (1371). ورواه النسائي في «السنن الكبرى» ، كما في «تحفة الأشراف» للمزي (5/ 44). ورجّح الترمذي إرسالَه، وكذا الدارقطنيُّ في «السنن» (4525)، والبيهقي (6/ 109)، وفي «معرفة السنن والآثار» (4/ 495 - 496)، والبغوي في «شرح السنة» (8/ 245)، وعبد الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (3/ 292). ويُنظر:«الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي (11/ 109 - 110).

(5)

رواه ابن أبي شيبة (23202). وأسنده الترمذي عقب الحديث (1371)، لكنه لم يَسُقْ لفظَه.

ص: 449

وكذلك رواه أبو بكر بن عياش

(1)

وإسرائيل

(2)

بن يونس عن عبد العزيز مرسلًا.

فهذا علة هذا الحديث؛ على أن أبا حمزة السكَّري ثقة احتجَّ به صاحبا الصحيح. وإن قبِلنا الزيادةَ من الثقة

(3)

، فرفعُ الحديث إذن صحيح، وإلا فغايته أن يكون مرسلًا قد عضدته الآثار المرفوعة والقياس [324/أ] الجلي.

وقد روى أبو جعفر الطحاوي

(4)

، عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي، عن عبد الله

(5)

بن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كلِّ شيء. ورواة هذا الحديث ثقات، وهو غريب بهذا الإسناد.

قالوا: ولأن الضرر بالشركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضرر بالعقار الذي

(1)

رواه ابن أبي شيبة (22504، 29678، 29714). وأسنده الترمذي عقب الحديث (1371)، لكنه لم يَسُقْ لفظَه.

(2)

رواه عبد الرزاق (14425، 14430)، والنسائي في «السنن الكبرى» [كما في «تحفة الأشراف» للمزي (5/ 44)]، والبيهقي (6/ 109).

(3)

في النسخ المطبوعة: «قلنا: الزيادة من الثقة مقبولة» . صحَّفوا «قبلنا» ، فزادوا «مقبولة» لإقامة السياق!

(4)

في «شرح معاني الآثار» (4/ 126)، لكن الظاهر أنه مقلوبٌ سندًا ومتنًا. والمحفوظ ما رواه الأساطين المُتقنون عن ابن إدريس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة

». كذا رواه مسلم (1608) من طرق عن ابن إدريس به. ويُنظر: «سلسلة الأحاديث الضعيفة» للألباني (3/ 62 - 65).

(5)

ع: «عبيد الله» ، تصحيف.

ص: 450

يقبل القسمة. فإذا كان الشارع مريدًا لرفع

(1)

الضرر الأدنى، فالأعلى أولى بالرفع.

قالوا: ولو كانت الأحاديث مختصّةً بالعقار والأرض

(2)

المنقسمة، فإثباتُ الشفعة فيها تنبيهٌ على ثبوتها فيما لا يقبل القسمة.

قال

(3)

الآخرون: الأصل عدم انتزاع الإنسان مال غيره إلا برضاه، ولكن تركنا ذلك في الأرض والعقار لثبوت النص

(4)

فيه. وأما الآثار المتضمنة لثبوتها في المنقول فضعيفة معلولة. وقوله في الحديث الصحيح: «فإذا وقعت الحدودُ وصُرِّفت الطرقُ فلا شُفْعة»

(5)

يدل على اختصاصها بذلك. وقول جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الشفعة في كلِّ شركٍ في أرض أو رَبْع أو حائط»

(6)

يقتضي انحصارها في ذلك.

قالوا: وقد قال عثمان بن عفان: لا شفعة في بئر ولا فحل. والأُرَف تقطع كلَّ شفعة

(7)

. والفحل: النخل. والأُرَف بوزن الغُرَف: المعالم

(1)

ع: «لدفع» ، وكذلك «بالدفع» فيما يأتي.

(2)

ع: «العرض» .

(3)

في النسخ المطبوعة: «وقال» .

(4)

ت: «نصٍّ» . ع: «هذا النص» .

(5)

هو جزء من حديث جابر المتقدِّم في «صحيح البخاري» (2213).

(6)

من الحديث السابق في «صحيح مسلم» (1608).

(7)

رواه أبو عبيد في «غريب الحديث» (4/ 307) ــ ومن طريقه البيهقي (6/ 105)، وفي «معرفة السنن والآثار» (4/ 494) ــ، وابن أبي شيبة (22506، 23191)، وصالح ابن الإمام أحمد في «المسائل» (1612)، وابن أبي حاتم في «العلل» (1433). ويُوازَنُ بما في «الموطأ» للإمام مالك (2650)، و «المصنف» لعبد الرزاق (14393، 14426 - 14428)، و «العلل» للدارقطني (3/ 14 - 15)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 177، 178). ويُنظر: كتاب «الأم» للإمام الشافعي (5/ 6 - 7).

ص: 451

والحدود. قال

(1)

أحمد: ما أصحَّه من حديث

(2)

.

قالوا: والفرق بين المنقول وغيره أن الضرر في غير المنقول يتأبَّد بتأبُّده؛ وفي المنقول لا يتأبَّد، فهو ضرر عارض، [324/ب] فهو كالمكيل والموزون.

قالوا: والضرر في العقار يكثر جدًّا، فإنه يحتاج الشريك إلى إحداث المرافق، وتغيير الأبنية، وتضييق الواسع، وتخريب العامر، وسوء الجوار، وغير ذلك مما يختصُّ بالعقار. فأين ضرر الشركة في العبد والجوهرة والسيف من هذا الضرر؟

قال المثبتون للشفعة: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه، لما فيه من الظلم له والإضرار به. فأما ما لا يتضمَّن ظلمًا ولا إضرارًا، بل مصلحةً له بإعطائه الثمن، فلشريكه دفعُ ضرر الشركة عنه. فليس الأصل عدمه، بل هو مقتضى أصول الشريعة. فإن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة، وإن لم يرض صاحب المال. وتركُ معاوضته هاهنا لشريكه مع كونه قاصدًا للبيع ظلمٌ منه وإضرارٌ بشريكه، فلا يمكِّنه الشارع منه. بل مَن تأمَّلَ مصادر الشريعة ومواردها تبيَّن له أن الشارع

(1)

في النسخ المطبوعة: «وقال» .

(2)

نقله الخلَّال. انظر: «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 178).

ص: 452

لا يمكِّن هذا الشريكَ من نقل نصيبه إلى غير شريكه، وأن يُلحِق به من الضرر مثلَ ما كان عليه أو أزيد منه، مع أنه لا مصلحة له في ذلك.

وأما الآثار، فقد جاءت بهذا وهذا. ولو قُدِّر عدمُ صحتها بالشفعة في المنقول، فهي لم تنفِ ذلك، بل نبَّهَتْ عليه كما ذكرنا.

وأما تأبُّد الضرر وعدمه، ففرقٌ فاسدٌ؛ فإن من المنقول ما يكون تأبُّده كتأبُّد العقار، كالجوهرة والسيف والكتاب والبئر. وإن لم يتأبَّد ضررُه مدى الدهر، فقد يطول [325/أ] ضرره كالعبد والجارية. ولو بقي ضرره مدةً فإن الشارع مريدٌ لدفع الضرر بكلِّ طريق، ولو قصرت مدته.

وأما تفريقكم بكثرة الضرر في العقار وقلَّته في المنقول، فلَعمرُ الله إن الضرر في العقار يكثر من تلك الجهات، ولكن يمكن رفعه بالقسمة، وأما الضرر في المنقول فإنه لا يمكن رفعُه بقسمته. على أن هذا منتقض بالأرض الواسعة التي ليس فيها شيء مما ذكرتم.

فصل

وقالت طائفة ثالثة: بل الضرر الذي قصد الشارع رفعَه هو ضررُ سوء الجوار والشركة في العقار والأرض، فإن الجار قد يسيء الجوار غالبًا أو كثيرًا، فيُعلي الجدار، ويتتبَّع

(1)

العثار، ويمنع الضوء، ويشرف على العورة، ويطلع على العثرة، ويؤذي جاره بأنواع الأذى، ولا يأمن

(2)

بوائقه؛ وهذا مما يشهد به الواقع.

(1)

ع: «يتسع» ، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة:«يتبع» .

(2)

ع: «ولا يأمن جاره» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 453

وأيضًا فالجار

(1)

له من الحرمة والحقِّ والذمام ما جعله الله له في كتابه، ووصَّى به جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غاية الوصية

(2)

، وعلَّق النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله واليوم الآخر بإكرامه

(3)

.

وقال الإمام أحمد: الجيران ثلاثة: جار له حقّ، وهو الذمي الأجنبي، له حقُّ الجوار. وجار له حقَّان، وهو المسلم الأجنبي، له حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام. وجار له ثلاثة حقوق، وهو المسلم القريب، له حقُّ الإسلام وحقُّ الجوار

(4)

وحقُّ القرابة

(5)

.

ومثل هذا

(6)

لم يَرِد في الشريك، فأدنى المراتب مساواتُه به فيما يندفع به الضرر، لا سيما والحكم بالشفعة ثبت في الشركة [325/ب] لإفضائها إلى ضرر المجاورة، فإنهما إذا اقتسما تجاورا.

قالوا: ولهذا

(7)

اختصَّت بالعقار دون المنقولات، إذ المنقولات لا تتأتَّى فيها المجاورة. فإذا ثبتت في الشركة في العقار لإفضائها إلى

(1)

في المطبوع: «فإن الجار» .

(2)

يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار» الحديث. أخرجه البخاري (6015) ومسلم (2624) عن عائشة.

(3)

يعني قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» الحديث. أخرجه البخاري (6018) ومسلم (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

في ع قُدِّم «الجوار» على «الإسلام» .

(5)

لم أقف عليه من كلام الإمام أحمد، ولكن روي نحوه من حديث جابر وابن عمر مرفوعًا. قال العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/ 675):«وكلاهما ضعيف» .

(6)

في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «ولو» .

(7)

في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «السبب» .

ص: 454

المجاورة، فحقيقةُ المجاورة أولى بالثبوت فيها.

قالوا: وهذا معقول النصوص لو لم تَرِد بالثبوت فيها، فكيف وقد صرَّحت بالثبوت فيها أعظمَ من تصريحها بالثبوت للشريك؟ ففي «صحيح البخاري»

(1)

من حديث عمرو بن الشريد قال: جاء المِسْوَر بن مَخْرمة، فوضع يده على منكبي، فانطلقتُ معه إلى سعد بن أبي وقاص، فقال أبو رافع: ألا تأمر هذا أن يشتري منِّي بيتيَّ اللذَين

(2)

في داره؛ فقال: لا أزيده على أربعمائةٍ منجَّمة. فقال: قد أُعطِيتُ خمسمائةٍ نقدًا، فمنعتُه. ولولا أني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«الجار أحقُّ بصَقَبِه» ما بعتُك.

وروى عمرو

(3)

أيضًا عن أبيه الشريد بن سُويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، أرضٌ ليس لأحد فيها قِسْمٌ ولا شِرْكٌ إلا الجِوار. قال:«الجارُ أحقُّ بسَقَبه»

(4)

. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وإسناده صحيح.

(1)

برقم (6977).

(2)

ع: «بيتي الذي» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «بن الشريد» .

(4)

رواه أحمد (19461، 19462، 19477)، والترمذي في «العلل الكبير» (383 - ترتيبه) ــ ولم يُسَقْ لفظُه ــ، وابن ماجه (2496)، والنسائي (4703)، وفي «السنن الكبرى» (6258). وحسنه الترمذي إثر الحديث (1368)، ونقل عن الإمام البخاري تصحيحه إيّاه. أما ابن المنذر، فنقل في «الأوسط» (10/ 479) عن غير واحد من أهل المعرفة بالحديث إعلالهم إيّاه. وأغرب ابن الجوزي، فنقل عنه في «التحقيق» (2/ 216) قولَه:«هو حديث منكر، لا أصل له» ! وتعقّبه الذهبي في «تنقيح التحقيق» (2/ 127) بقوله: «بل إسنادُه صالحٌ» . ويُنظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1429)، و «تحفة الأشراف» للمزي (4/ 152 - 153)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 174)، و «النكت الظراف» لابن حجر (4/ 152 - 153).

ص: 455

وقال البخاري: هو أصحّ من رواية عمرو عن أبي رافع

(1)

. يعني المتقدِّم. وقال أيضًا: كلا الحديثين عندي صحيح

(2)

.

وعن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جار الدار أولى بالدار»

(3)

. رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، انتهى.

وقد صحَّ سماع الحسن من سمرة. وغاية هذا [326/أ] أنه كتاب، ولم تزل الأمة تعمل بالكتُب قديمًا وحديثًا. وأجمع الصحابة على العمل بالكتُب، وكذلك الخلفاء بعدهم. وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتُب، فإن لم يُعمَل بما فيها تعطَّلت الشريعة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي، فيَعمل مَن تصل إليه بها

(4)

، ولا يقول: هذا كتاب؛ وكذلك خلفاؤه بعده، والناسُ إلى اليوم. فردُّ السُّنَن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل. والحفظُ يخون، والكتابُ لا يخون.

(1)

كذا، وكأن المصنّف ـ رحمه الله تعالى ــ فهم هذا ممّا رآه في «العلل الكبير» للترمذي (383، 384 - ترتيبه)، وليس ذلك ضربةَ لازبٍ، بل إن البخاري خرّج في «الجامع الصحيح» (2258، 6977، 6978، 6980، 6981) حديثَ أبي رافعٍ دُونَ حديثِ الشريد. بل لا ريب أن حديث أبي رافع أصح من حديث الشريد. ويُنظر: «الجامع» للترمذي إثر الحديث (1368)، و «العلل» للدارقطني (7/ 14 - 15).

(2)

نقله عنه الترمذي في «الجامع» (1368).

(3)

رواه أحمد (20088، 20128، 20147، 20195، 20199)، وأبو داود (3517)، والترمذي (1368) ــ وصححه ــ، والنسائي في «السنن الكبرى» ، كما في «تحفة الأشراف» للمزي (4/ 69).

(4)

في النسخ المطبوعة: «بها من تصل إليه» .

ص: 456

وروى قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جارُ الدار أحقُّ بالدار» . رواه ابن ماجه

(1)

من طريق عيسى بن يونس، عن سعيد، عن قتادة، وكلُّهم أئمة ثقات.

وروى أهل «السنن الأربعة» من حديث ميزان الكوفة عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحقُّ بشفعة جاره، يُنتظَر بها وإن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا»

(2)

. وهذا حديث صحيح بلا تردُّد.

فإن قيل: قد قال الترمذي: تكلَّم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث.

(1)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، ولعله سهو من المؤلف. وإنما رواه الترمذي في «العلل الكبير» (381 - ترتيبه)، والنسائي في «السنن الكبرى» ، كما في «تحفة الأشراف» للمزي (1/ 318). وصححه ابن حبان (3970). ونقل الترمذي قول البخاري:«ليس بمحفوظ» . ويُنظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1430)، و «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي (7/ 122 - 124)، و «تحفة الأشراف» للمزي (4/ 74)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 173).

(2)

رواه أحمد (14253) ــ وعنه أبو داود (3518) ــ، والترمذي (1369) ــ وقال:«حسن غريب» ــ، وابن ماجه (2494)، والنسائي في «السنن الكبرى» ، كما في «تحفة الأشراف» للمزي (2/ 229). وقال الإمام أحمد:«هذا حديثٌ منكرٌ» . نقله عنه ابنه عبد الله في «العلل ومعرفة الرجال» (2252). ويُنظر كتاب «الأم» للإمام الشافعي (8/ 248 - 249)، و «العلل الكبير» للترمذي (385)، و «السنن الكبير» للبيهقي (6/ 106 - 108)، و «السنن الصغير» له (2/ 316)، و «تاريخ مدينة السلام» للخطيب (12/ 134 - 136)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 175 - 176).

ص: 457

وقال وكيع عنه: لو أن عبد الملك روى حديثًا آخر مثلَ حديث الشفعة لطرحتُ حديثه

(1)

.

وكذلك قال يحيى القطان

(2)

.

وقال أحمد: هو حديث منكر

(3)

.

وقال يحيى بن معين: هو حديث لم يحدِّث به إلا عبدُ الملك، وأنكر

(4)

الناس عليه، ولكنه ثقة صدوق

(5)

.

[326/ب] فالجواب: أن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق، ولم يتعرض له أحد بجرح البتة، وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم. وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنًّا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم:«الشفعة فيما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة» ، ولا تُحتمل مخالفةُ العَرزمي لمثل الزهري. وقد صحَّ هذا عن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه، ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه، ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه. فخالفهم العَرزمي، ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه، ولم يقدِّموه على حديث هؤلاء.

(1)

رواه العقيلي في «الضعفاء» (2/ 518)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/ 367)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 525)، والخطيب في «تاريخ مدينة السلام» (12/ 135) من طريق نُعيم (وهو ابن حماد)، عن وكيع به.

(2)

رواه ابن عدي في «الكامل» (6/ 525)، ومن طريقه البيهقي (6/ 107).

(3)

رواه عنه ابنه عبد الله في «العلل ومعرفة الرجال» (2252).

(4)

ع: «فأنكر» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(5)

رواه الخطيب في «تاريخ مدينة السلام» (12/ 134 - 135).

ص: 458

قال مهنَّا بن يحيى الشامي: سألتُ أحمد

(1)

عن حديث عبد الملك هذا، فقال: قد أنكره شعبة. فقلتُ: لأيِّ شيء أنكره؟ فقال: حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافُ ما قال عبد الملك عن عطاء عن جابر

(2)

.

وسنبيِّن ــ إن شاء الله ــ أن حديث عبد الملك عن جابر لا يناقض حديث أبي سلمة عنه، بل مفهومه يوافق

(3)

منطوقه، وسائر أحاديث جابر يصدِّق بعضُها بعضًا.

وروى جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن الحكم، عن علي وعبد الله قالا: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجوار

(4)

. وهذا وإن كان منقطعًا، فإن الثوري رواه عن منصور عن الحكم عمَّن سمع عليًّا وعبدَ الله

(5)

. [327/أ] فهو يصلح للاستشهاد، وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد.

(1)

في ع زيادة «بن حنبل» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

في ع بعده زيادة: «عن النبي» .

(3)

ت: «موافق» ، وكذا في المطبوع.

(4)

رواه ابن أبي شيبة (23164، 29652) عن جريرٍ به، وسندُه منقطع، والحَكَمُ (وهو ابن عتيبة) لم يُدرك عليًّا وابنَ مسعودٍ، رضي الله عنهما.

(5)

رواه عبد الرزاق (14383) ــ وعنه أحمد (923) ــ (ح) وابن أبي شيبة (23165) عن وكيع؛ كلاهما عن الثوري به. وقد تحرّف (الحَكَمُ) إلى (الحسن) في مطبوعة «المصنف» لعبد الرزاق، وهو على الصواب في «المسندِ» وغيرِه.

ص: 459

وفي «سنن ابن ماجه»

(1)

من حديث شريك القاضي، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له أرض فأراد

(2)

بيعها فَلْيعرِضها على جاره». ورجال هذا الإسناد محتجَّ بهم في الصحيح.

وفي «سنن النسائي»

(3)

من حديث أبي الزبير عن جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجوار. رواه عن الفضل بن موسى السِّيناني

(4)

، عن الحسين بن واقد، عن أبي الزبير. وهو على شرط مسلم.

وقال شعيب بن أيوب الصريفيني: ثنا أبو أسامة

(5)

عن سعيد بن أبي عَروبة، حدثنا قتادة عن سليمان اليشكري، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له جار في حائط أو شريك، فلا يبِعْه

(6)

حتى يعرضَه

(1)

برقم (2493) من طريق شريكٍ به، وشريك صدوق، لكنه ليّن الحديث، ولم يحتجّ به مسلم، بل روى له في المتابعات. ثم إن رواية سماك عن عكرمة مضطربة. لكن معنى هذا الحديث صحيح، له شواهد، منها حديثُ جابرٍ ــ رضي الله عنه ــ في «المسند الصحيح» لمسلم (1608)، ولذلك أورد الضياءُ المقدسي حديثَ شريكٍ هذا في «الأحاديث المختارة الجياد» (12/ 64)، أما البوصيري، فتجوّز حين صحّح سنده في «مصباح الزجاجة» (3/ 90).

(2)

في النسخ المطبوعة: «وأراد» .

(3)

برقم (4705) من طريق الفضل بن موسى (وهو السيناني) بلفظ: «بالشفعة والجوار» . ويُنظر التعليق على «المجتبى» للنسائي (7/ 323 - ط. دار التأصيل)، مع الموازنة بـ «المحلى» لابن حزم (9/ 101)، و «تحفة الأشراف» للمزي (2/ 293).

(4)

ت، ع:«الشيباني» ، وفي ح، ف:«السيتاني» ، وكلاهما تصحيف.

(5)

ع: «أبو أمامة» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.

(6)

ع: «فلا يبيعه» .

ص: 460

عليه»

(1)

.

وهؤلاء ثقات كلُّهم. وعلُّة هذا الحديث ما ذكره الترمذي قال: سمعت محمدًا ــ يعني البخاري ــ يقول: سليمان اليشكري، يقال إنه مات

(2)

في حياة جابر بن عبد الله. قال: ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بشر. قال: ويقال

(3)

: إنما يحدِّث قتادة عن صحيفة سليمان اليشكري، وكان له كتابٌ عن جابر بن عبد الله.

قلت: وغاية هذا أن يكون كتابًا، والأخذُ عن الكتب حجة.

وقال محمد بن عمران بن أبي ليلى، عن أبيه: حدثني ابن أبي ليلى ــ يعني محمد بن عبد الرحمن ــ عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الجارُ أحقُّ بسَقَبه ما كان»

(4)

.

(1)

رواه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (258) عن شعيب بن أيوب، عن أبي أسامة (واسمُه: حماد بن أسامة)، عن سعيد به. ورواه أحمد (14854)، والترمذي (1312) من طريقين آخرين عن سعيد به، وقال الترمذي:«إسناده ليس بمتصل» . ويُنظر: «المغني عن حمل الأسفار» للعراقي (1/ 524).

(2)

«مات» من ت.

(3)

«ويقال» ليس في «الجامع» .

(4)

رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (4790) عن كثير بن عبيد التمّار (وهو واهٍ)، عن محمد بن عمران به دون قوله:«ما كان» . والكلمتان واردتان في طريق أخرى أسندها الطبراني في «المعجم الأوسط» (7796)، وهي أنظفُ سندًا وأتمُّ لفظًا؛ فكانت أولى بالذكر، على أن مدار الطريقين على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولم يكن بالقوي، وتفرُّده بالحديث عن نافع عن ابن عمر منكر جدًّا، لكن متن الحديث معروفٌ من أوجه أخرى، وقد تقدّم تخريجه من حديث الشريد بن سُويد رضي الله عنه.

ص: 461

وقال ابن أبي شيبة

(1)

: ثنا وكيع، عن هشام بن المغيرة الثقفي قال: سمعتُ [327/ب] الشعبيَّ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفيع أولى من الجار، والجار أولى من الجنب» . وإسناده إلى الشعبي صحيح.

قالوا: ولأنَّ حقَّ الأصيل ــ وهو الجار ــ أسبقُ من حقِّ الدخيل. وكلُّ معنًى اقتضى ثبوتَ الشفعة للشريك، فمثلُه في حقِّ الجار؛ فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتًا فاحشًا، ويتأذَّى بعضهم ببعض، ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود، والضررُ بذلك دائم متأبِّد. ولا يندفع ذلك إلا برضى الجار: إن شاء أقرَّ الدخيلَ على جواره له

(2)

، وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مؤنة المجاورة ومفسدتها. وإذا كان الجار يخاف التأذِّيَ بمجاوِره

(3)

على وجه اللزوم، كان كالشريك يخاف التأذِّيَ بشريكه على وجه اللزوم.

قالوا: ولا يرد علينا المستأجر مع المالك، فإن منفعة الإجارة لا تتأبد عادة. وأيضًا فالمِلكُ بالإجارة مِلكُ منفعة، ولا لزومَ بين مِلك الجار وبين منفعة دار جاره؛ بخلاف مسألتنا، فإن الضرر بسبب اتصال الملك بالملك كما أنه في الشركة حاصل بسبب اتصال الملك بالملك؛ فوجب بحكم عناية

(1)

في «المصنف» (23169) عن وكيعٍ به. وسندُ الأثرِ جيّدٌ، لولا أنه مرسلٌ. أمّا ابن حزم فقطع في «المحلّى» (9/ 103) أن هشام بن المغيرة ضعيف! والصحيح أنه ثقةٌ صدوقٌ.

(2)

«له» من ع. وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

في النسخ المطبوعة: «بالمجاورة» . ولعل بعضهم قرأ «بمجاورةٍ» ثم أدخل عليها لام التعريف.

ص: 462

الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالةُ الضررين جميعًا على وجه لا يضرُّ البائع، وقد أمكن هاهنا، فيبعد القول به. فهذا تقرير قول هؤلاء نصًّا وقياسًا.

قال المبطلون لشفعة الجوار: لا تُضرَبُ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض. فقد ثبت في «صحيح البخاري»

(1)

من حديث الزهري [328/أ] عن أبي سلمة عن جابر قال: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعةَ في كلِّ ما لم يُقسَم. فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة.

وفي «صحيح مسلم»

(2)

من حديث أبي الزبير عن جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كلِّ شِرْكةٍ لم تُقسَم: ربعةٍ أو حائطٍ، ولا يحِلُّ له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء

(3)

ترك. فإن باع ولم يُؤذنه فهو أحقُّ.

وقال

(4)

الشافعي

(5)

: ثنا سعيد

(6)

بن سالم، ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الشفعة فيما لم يُقْسَم. فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» .

(1)

برقم (2213).

(2)

برقم (1608).

(3)

ح، ف:«أو شاء» .

(4)

ع، ت:«قال» دون الواو، وكذا في النسخ المطبوعة.

(5)

في «اختلاف الحديث» (150) ــ ومن طريقه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (9/ 158)، والبيهقي (6/ 104 - 105)، والبغوي في «شرح السنة» (8/ 239 - 240) ــ عن سعيد بن سالم (وفيه لِينٌ) به.

(6)

ح، ف:«شعبة» ، تصحيف.

ص: 463

وفي «الموطأ» من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة

(1)

قال: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يُقسَم، فإذا صُرِّفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة

(2)

.

وفي «سنن أبي داود»

(3)

بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قُسِمَت الأرض وحُدَّت فلا شفعةَ فيها» .

وقال سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عون بن عبد الله

(4)

، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب قال: إذا صُرِّفت الحدود وعَرف الناسُ حدودَهم فلا شفعة بينهم

(5)

.

(1)

كذا، وإنما رواه الإمام مالك في «الموطأ» (2633) عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يُقسَمْ بين الشركاء، فإن وقعت الحدود بينهم؛ فلا شفعة فيه. ويُنظر:«التمهيد» لابن عبد البر (7/ 36 - 45)، و «الاستذكار» له (7/ 66)، و «السنن الكبير» للبيهقي (6/ 103 - 104).

(2)

هذه الفقرة «وفي الموطأ

شفعة» وقعت في ع بعد الفقرة الآتية، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

برقم (3515). ويُنظر: «العلل» للدارقطني (9/ 337 - 342).

(4)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، والصواب أنه عون بن عبيد الله، كما في التعليق الآتي.

(5)

رواه البيهقي (6/ 105) من طريق سعيد بن منصور به. ورواه ابن أبي شيبة (23192، 23195) عن يزيد بن هارون، وعبد الله بن إدريس (فرَّقهما)، عن يحيى بن سعيد، عن عون بن عبيدالله بن أبي رافع، عن عبيد الله به. وقد نقل الدوري في «التاريخ» (975) قول ابن معين:«عون الذي روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري هو عون بن عبيد الله بن أبي رافع» . ويَحْسُن تدبُّرُ ما في «التاريخ» لعباس الدوري (1174)، و «التاريخ الكبير» للإمام البخاري (7/ 14 - 15)، و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (6/ 385)، و «الثقات» لابن حبان (7/ 279). أما عبد الرزاق، فقصّر به، وتخفّف من أعبائه، فرواه في «المصنف» (14392) عن الثوري وابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن عمر، مُعضلا!

ص: 464

وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عثمان بن عفان: إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها

(1)

.

وهذا قول ابن عباس.

قالوا: [328/ب] ولا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسُم الموجِب لنقص قيمة مِلكه عليه.

قالوا: وقد فرَّق الله بين الشريك والجار شرعًا وقدرًا. ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار، فإن الملك في الشركة مختلط، وفي الجوار متميِّز، ولكلٍّ من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي. أما المطالبة ففي القسمة، وأما المنع فمن التصرُّف. فلما كانت الشركة محلًّا للطلب ومحلًّا للمنع كانت محلًّا للاستحقاق، بخلاف الجوار؛ فلم يجُز إلحاقُ الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف. والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفعُ مؤنة المقاسمة، وهي مؤنة كبيرة

(2)

. والشريك لما باع حصته من

(1)

رواه مالك (2650)، وعنه عبد الرزاق (14393، 14426). ويُنظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (4/ 307)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (22506، 23191)، و «مسائل صالح ابن الإمام أحمد» (1612)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1433).

(2)

ت، ع:«كثيرة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 465

غير شريكه فهذا الدخيل قد عرَّضه لمؤنة عظيمة، فمكَّنه الشارعُ من التخلُّص منها بانتزاع الشِّقْص

(1)

على وجهٍ لا يُضِرُّ بالبائع ولا المشتري

(2)

. ولم يمكِّنه الشارع من الانتزاع قبل البيع، لأن شريكه مثلُه ومساوٍ له في الدرجة، فلا يستحق عليه شيئًا إلا ولصاحبه مثلُ ذلك الحقِّ عليه. فإذا باع صار المشتري دخيلًا، والشريك أصيل، فرجَح جانبُه، وثبَت له الاستحقاق.

قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفعَ الضرر عن الجار، فهو أيضًا يقصد رفعَ الضرر عن المشتري. ولا يزيل ضررَ الجار بإدخال الضرر على المشتري، فإنه محتاج إلى دارٍ يسكنها هو وعياله، [329/أ] فإذا سلَّط الجارَ على إخراجه وانتزاع داره منه أضرَّ به إضرارًا بيِّنًا. وأيُّ دار اشتراها وله جار، فحاله معه هكذا. وتطلُّبُه دارًا لا جارَ لها كالمتعذِّر عليه أو المتعسِّر

(3)

. فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق، لئلا يضرَّ الناسُ بعضُهم بعضًا. ويتعذَّر على من أراد شراءَ دارٍ لها جارٌ أن يتمَّ له مقصوده. وهذا بخلاف الشريك، فإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها، والشريكُ يمكنه ذلك بانضمامها إلى مِلكه، فليس على المشتري ضررٌ في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به.

قالوا: وحينئذ فتعيَّن حملُ أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلَّت عليه أحاديث شفعة الشركة، فيكون لفظ الجار فيها مرادًا به الشريك. ووجهُ هذا الإطلاق: المعنى والاستعمال. أما المعنى فإن كلَّ جزء من مِلك الشريك

(1)

الشقص: القطعة من الشيء، والنصيب.

(2)

ع: «بالمشتري» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

ع: «كالمتعسِّر» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 466

مجاورٌ لمِلك صاحبه، فهما جاران حقيقةً. وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران. ولذا سمِّيت الزوجة جارةً كما قال الأعشى

(1)

:

أجارتَنا بِيني فإنكِ طالقه

فتسميةُ الشريك جارًا أولى وأحرى.

وقال حَمَلُ بن مالك: كنت بين جارتين لي

(2)

.

هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة. وأما إن كان المراد بالحقِّ فيها حقَّ الجار على جاره، فلا حجة فيها على إثبات الشفعة.

(1)

من أبيات في «ديوانه» (2/ 134) وعجز البيت:

كذاكِ أمورُ الناس غادٍ وطارقَه

ورواية الديوان: «أيا جارتي» ، وقد ورد في كتاب «الأم» (7/ 117) وغيره كما هنا. وانظر:«الصواعق المرسلة» (2/ 675 - 676).

(2)

رواه الإمام الشافعي في «الأم» (7/ 264) عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس

عن حمل بن مالك به. ورواه أبو داود (4573) عن عبد الله بن محمد الزهري، عن سفيان به وفيه:«بين امرأتين» . ورواه النسائي في «السنن الكبرى» (6991) عن قتيبة، عن حماد (وهو ابن زيد)، عن عمرو به مرسلا. وأغرب عبد الرزاق، فرواه في «المصنف» (18343) ــ ومن طريقه الدارقطني في «السنن» (3209)، والحاكم (3/ 575) ــ عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن حملٍ به. ورواه بنحوه: أحمد (3439، 16729)، وأبو داود (4572)، وابن ماجه (2641)، والنسائي (4739)، وفي «السنن الكبرى» (6915) من طرق عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن حملٍ به. وصححه البخاري والبيهقي وغيرُهما. ويُنظر:«العلل الكبير» للترمذي (398، 399 - ترتيبه)، و «الإلزامات» للدارقطني (ص 111)، و «السنن الكبير» للبيهقي (8/ 43). وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة.

ص: 467

وأيضًا فإنه إنما أثبت له على البائع حقَّ العرض عليه إذا أراد [329/ب] البيع، فأين حق الانتزاع

(1)

من المشتري؟ ولا يلزم من ثبوت هذا الحقِّ ثبوتُ حقِّ الانتزاع.

فهذا منتهى إقدام الطائفتين في هذه المسألة.

والصواب: القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث، أنه إن كان بين الجارين حقٌّ مشترَك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة، وإن لم يكن بينهما حقٌّ مشتركٌ البتةَ، بل كلُّ واحد متميِّزٌ

(2)

ملكُه وحقوقُ ملكه= فلا شفعة، وهذا الذي نصَّ عليه أحمد في رواية أبي طالب

(3)

، فإنه سأله عن الشفعة: لمن هي؟ فقال: إذا كان طريقُهما واحدًا. فإذا صُرِّفت الطرق وعُرفت الحدود فلا شفعة.

وهذا قول عمر بن عبد العزيز

(4)

، وقول القاضيين سوَّار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن العنبري.

وقال أحمد في رواية ابن مُشَيش: أهل البصرة يقولون: إذا كان الطريق واحدًا كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه، على معنى حديث جابر الذي يحدِّثه عبد الملك، انتهى.

(1)

ع: «ثبوت حق الانتزاع» . وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

في النسخ المطبوعة: «بل كان كلُّ واحد منهما متميزًا» .

(3)

نقلها ابن مفلح في «الفروع» (7/ 270). وانظر: «مسائل ابن هانئ» (ص 299).

(4)

رواه عبد الرزاق (14394، 14395)، وابن أبي شيبة (23194).

ص: 468

فأهلُ الكوفة يُثبِتون شفعةَ الجوار مع تميز الطرق والحقوق. وأهلُ المدينة يُسقِطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق. وأهلُ البصرة يوافقون أهلَ المدينة إذا صُرِّفت الطرق ولم يكن هناك اشتراكٌ في حقٍّ من حقوق الأملاك، ويوافقون أهلَ الكوفة إذا اشترك الجاران في حقٍّ من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها. وهذا [330/أ] هو الصواب، وهو أعدَلُ الأقوال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

.

وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريح فيه، فإنه قال:«الجار أحَقُّ بسَقَبه، يُنتظر به وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا» ، فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق. ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله:«فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة» . فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سَلَمة، فأحدُهما يصدِّق الآخر ويوافقه، لا يعارضه ويناقضه، وجابرٌ روى اللفظين. فالذي دلَّ عليه حديثُ أبي سلمة عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دلَّ عليه حديثُ عبد الملك عن عطاء عنه بمفهومه. والذي دلَّ عليه حديثُ عبد الملك بمنطوقه هو الذي دلَّت عليه سائر أحاديث جابر بمفهومها. فتوافقت السنن وائتلفت بحمد الله

(2)

، وزال عنها ما يظَنُّ بها من التعارض. وحديثُ أبي رافع الذي رواه البخاري يدلُّ على مثل ما دلَّ عليه حديثُ عبد الملك، فإنه دلَّ على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق،

(1)

انظر: «اختيارات البعلي» (ص 167) و «تهذيب السنن» (2/ 540 - 541). وسيأتي الكلام مرة أخرى في فصل الحيل.

(2)

في النسخ المطبوعة: «بحمد الله وائتلفت» .

ص: 469

فإن البيتين كانا في نفس دار سعد، والطريق واحد بلا ريب.

والقياس الصحيح يقتضي هذا القول، فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها نظير الضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه [330/ب] مصلحة الشريك

(1)

من غير مضرَّة على البائع ولا على المشتري. فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه.

فهذا المذهب أوسط المذاهب، وأجمعها للأدلة، وأقربها إلى العدل. وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه. فحيث قال:«لا شفعة»

(2)

ففيما إذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق، وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرَّف الطرق؛ فإنه قد روي عنه هذا وهذا

(3)

. وكذلك ما روي عن علي، فإنه قال:«إذا حُدَّت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة»

(4)

.

ومن تأمل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك، وتبيَّن له بطلانُ

(1)

في النسخ المطبوعة: «للشريك» .

(2)

سبق تخريجه.

(3)

رواه النسائي في «السنن الكبرى» [كما في «تحفة الأشراف» للمزي 8/ 29)] من طريق شريح بن الحارث، عنه. وقال ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 36): إسنادٌ صحيحٌ.

(4)

لم أره عن علي رضي الله عنه، وإنما وجدتُ نحوَه من كلام عمر وعثمان رضي الله عنهما، وقد أشار إلى قولهما الترمذي في «الجامع» عَقِبَ الحديث (1370)، ولم يذكر معهما عليًّا ويُنظر:«الموطأ» لمالك (2650)، و «المصنَّف» لعبد الرزاق (14392، 14393، 14426)، و «المصنّف» لابن أبي شيبة (23191، 23192، 23195)، وما تقدّم (ص 991 - 993).

ص: 470

حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة، وبالله التوفيق.

فإن قيل: بقي عليكم أن في حديث جابر وأبي هريرة: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» ، فأسقط الشفعة بمجرَّد وقوع الحدود، وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة، وإن وقعت الحدود؛ وهذا خلاف الحديث.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين، ومنهم من جوَّد الحديث فذكَرهما، ولا يكون إسقاط من أسقط أحد اللفظين

(1)

مبطلًا لحكم اللفظ الآخر.

الثاني: أن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود، فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلُّها واقعة، بل بعضها حاصل، وبعضها منتفٍ. فوقوع [331/أ] الحدود من كلِّ وجه يستلزم أو يتضمَّن تصريف الطرق. والله أعلم.

فصل

وأما قوله: «وحرَّم صومَ أول يومٍ من شوال، وفرَضَ صومَ آخر يوم من رمضان مع تساويهما» ، فالمقدمة الأولى صحيحة، والثانية كاذبة. فليس اليومان متساويين، وإن اشتركا في طلوع الشمس وغروبها. فهذا يومٌ من شهر الصيام الذي فرضه الله على عباده، وهذا يومُ عيدِهم وسرورِهم الذي جعله الله تعالى شكرانَ صومهم وإتمامَه، فهم فيه أضيافه سبحانه. والجواد

(1)

ت: «اللفظتين» . ح، ف:«إحدى اللفظتين» .

ص: 471

الكريم يحبُّ من ضيفه أن يقبل قِراه، ويكره أن يمتنع من قبول ضيافته بصوم أو غيره، ويكره للضيف أن يصوم إلا بإذن صاحب المنزل. فمن أعظم محاسن الشريعة فرضُ صوم آخرِ يوم من رمضان، فإنه إتمامٌ لما أمرَ الله به وخاتمةُ العمل؛ وتحريمُ صومِ أولِ يومٍ من شوال، فإنه يومٌ يكون فيه المسلمون أضيافَ ربِّهم تبارك وتعالى، وهم في شكرانِ نعمته عليهم. فأيُّ شيء أبلغ وأحسن من هذا الإيجاب والتحريم؟

فصل

وأما قوله: «وحرَّم عليه نكاحَ بنتِ أخيه وأخته، وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وأختِ أمه

(1)

، وهما سواء»، فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية كاذبة. فليستا سواءً في نفس الأمر، ولا في العُرف، ولا في العقول، ولا في الشريعة. وقد فرَّق الله سبحانه بين القريب والبعيد شرعًا وقدرًا وعقلًا وفطرةً. ولو تساوت القرابة لم يكن فرقٌ بين البنت وبنت [331/ب] الخالة وبنت العمة، وهذا من أفسد الأمور. والقرابة البعيدة بمنزلة الأجانب، فليس من الحكمة والمصلحة أن تُعطَى حكمَ القرابة القريبة. وهذا مما فطَر الله عليه العقلاء، وما خالف شرعَه في ذلك فهو إما مجوسيةٌ تتضمَّن التسوية بين البنت والأم وبنات الأعمام والخالات في نكاح الجميع، وإما حرجٌ عظيمٌ على العباد في تحريم نكاح بنات أعمامهم وعمَّاتهم وأخوالهم وخالاتهم؛ فإن الناس ــ ولا سيما العرب ــ أكثرهم بنو عمٍّ بعضُهم لبعض،

(1)

يعني: «وبنت أخت أمه» ، كما عنى من قبل «وبنت أخته». وأثبتوا في النسخ المطبوعة:«وبنت أخت أمه» ، زادوا كلمة «بنت» هنا وتركوها في الجملة السابقة.

ص: 472

إما بنوّةُ عمٍّ دانية وإما قاصية. فلو مُنعوا من ذلك لكان عليهم فيه حرج

(1)

وضيق. فكان ما جاءت به الشريعة أحسنَ الأمور وألصقَها بالعقول السليمة والفِطَر المستقيمة. والحمد لله رب العالمين.

فصل

وأما قوله: «وحمَّل العاقلةَ جنايةَ الخطأ على النفوس دون الأموال» ، فقد تقدَّم أن هذا من محاسن الشريعة، وذكرنا [من]

(2)

الفرق بين الأموال والنفوس ما أغنى عن إعادته.

فصل

وأما قوله: «وحرَّم وطءَ الحائض لأجل الأذى، وأباح وطءَ المستحاضة مع وجود الأذى، وهما متساويان» ، فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية فيها إجمال. فإن أريد أن أذى الاستحاضة مساوٍ لأذى الحيض كذبت المقدمة، وإن أريد أنه نوع آخر من الأذى لم يكن التفريق بينهما تفريقًا بين المتساويين، فبطل سؤاله على كلا التقديرين.

ومن حكمة [332/أ] الشارع تفريقه بينهما، فإن أذى الحيض أعظم وأدوَم وأضَرّ من أذى الاستحاضة. ودمُ الاستحاضة عِرق، وهو في الفرج بمنزله الرعاف في الأنف، وخروجه مضر، وانقطاعه دليل على الصحة؛ ودمُ الحيض عكس ذلك، فلا يستوي

(3)

الدمان حقيقةً ولا عرفًا ولا حكمًا ولا

(1)

في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «عظيم» .

(2)

ما بين الحاصرتين من النسخ المطبوعة.

(3)

ع: «ولا يستوي» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 473

سببًا. فمن كمال الشريعة تفريقها بين الدمين في الحكم، كما افترقا في الحقيقة. وبالله التوفيق.

فصل

(1)

وأما قوله: «وحرَّم بيعَ مُدِّ حنطة بمُدٍّ وحُفنة، وجوَّز بيعه بقَفيز شعير» ، فهذا من محاسن شريعته

(2)

التي لا يهتدي إليها إلا أولو العقول الوافرة. ونحن نشير إلى حكمة ذلك إشارةً بحسب عقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة، وشرعُ الرب تعالى وحكمته فوق عقولنا وعباراتنا، فنقول:

الربا نوعان: جلي وخفي. فالجليُّ حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم

(3)

. والخفيُّ حُرِّم، لأنه ذريعة إلى الجلي. فتحريم الأول قصدًا، وتحريم الثاني وسيلةً.

فأما الجليُّ فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخِّر دينه ويزيده في المال، وكلما أخَّره زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافًا مؤلفةً. وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدِم محتاج. فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادةٍ يبذلها له تكلَّفَ بذلَها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتدُّ ضررُه، وتعظمُ مصيبتُه، ويعلوه الدَّينُ حتى يستغرق جميع موجوده. فيربو [332/ب] المالُ على المحتاج من غير نفعٍ يحصل له، ويزيد مالُ المرابي من غير نفعٍ يحصل

(1)

هذا الفصل وما يليه مأخوذ من تفسير شيخ الإسلام لآية الربا، وهو منشور ضمن «جامع المسائل» (8/ 271 - 330) و «تفسير آيات أشكلت» (2/ 574 - 703).

(2)

ع: «الشريعة» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

في «جامع المسائل» (8/ 281): «من الضرر والظلم» .

ص: 474

منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر. فمن رحمة أرحمِ الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرَّم الربا، ولعن آكلَه ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وآذَنَ من لم يدَعْه بحربه وحرب رسوله. ولم يجئ مثلُ هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر.

وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شكَّ فيه فقال: هو أن يكون له دين، فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضِه زاده في المال، وزاده هذا في الأجل

(1)

.

وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة، فالمرابي ضد المتصدِّق. قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130 - 131]. ثم ذكر الجنة التي أعدت للذين

(2)

ينفقون في السرَّاء والضرَّاء، وهؤلاء ضد المُرابين. فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم للناس، وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليهم.

وفي «الصحيحين»

(3)

من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الربا في النسيئة» . ومثل هذا [333/أ] يراد به حصرُ الكمال وأن

(1)

«جامع المسائل» (8/ 281، 304).

(2)

في النسخ المطبوعة: «للمتقين الذين» .

(3)

البخاري (2178) ومسلم (1596).

ص: 475