المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تغريم المال - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌ تغريم المال

ذلك

(1)

، ولم يجعله حدًّا لا بدَّ منه؛ فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة. فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل.

فصل

وأما‌

‌ تغريم المال

ــ وهو العقوبة المالية ــ فشرعها في مواضع. منها: تحريق متاع الغالِّ من الغنيمة

(2)

. ومنها: حرمان سهمه. ومنها: إضعاف الغُرم على سارق الثمار المعلَّقة. ومنها: إضعافه على كاتم الضالَّة الملتقَطة. ومنها: أخذُ شطر مال مانع الزكاة. ومنها: عزمه على تحريق دُورِ من لا يصلي في الجماعة لو لا ما منَعه من إنفاذه ما عزَم عليه، من كون الذرية والنساء فيها

(3)

، فتتعدَّى

(1)

في حاشية ح نقل بعض القراء كلام شيخ الإسلام على الحديث المذكور، وهو في «مجموع الفتاوى» (34/ 219) ومنه قوله:«وهو ثابت عند أهل الحديث، لكن أكثر العلماء يقولون: هو منسوخ. وتنازعوا في ناسخه على عدة أقاويل. ومنهم من يقول: بل حكمه باقٍ. وقيل: بل الوجوب منسوخ والجواز باقٍ» . ثم بيَّن المحشِّي قول ابن القيم، غير أن آخر حاشيته لم يتضح في الصورة.

(2)

سبق تخريجه وتخريج ما بعده.

(3)

أخرجه البخاري (644) ومسلم (651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

من غير ذكر الذرية والنساء. وورد ذكرهم في حديثه الذي أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (8796).

ص: 412

العقوبة إلى غير الجاني، وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل. ومنها: عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلَب القتيل لمن قتله، حيث شفع فيه هذا المسيء، وأمر الأمير بإعطائه، فحرم المشفوع له عقوبةً للشافع الآمر

(1)

.

وهذا الجنس من العقوبات نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط. فالمضبوط ما قابل المتلَفَ، إما لحقِّ الله كإتلاف الصيد في الإحرام، أو لحقِّ الآدمي كإتلاف ماله. وقد نبَّه الله سبحانه على أن تضمين الصيد متضمِّن للعقوبة بقوله:{{لِيَذُوقَ وَبَالَ [308/أ] أَمْرِهِ} . ومنه: مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان، كعقوبة القاتل لمُورِثه

(2)

بحرمان ميراثه، وعقوبة المدبَّر إذا قتَل سيِّدَه ببطلان تدبيره، وعقوبة الموصَى له ببطلان وصيته. ومن هذا الباب: عقوبة الزوجة الناشز

(3)

بسقوط نفقتها وكسوتها.

وأما النوع الثاني غير المقدَّر، فهو الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح. ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمرٍ عامٍّ وقدرٍ لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود. ولهذا اختلف الفقهاء فيه: هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح، ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كلِّ زمان ومكان بحسب المصلحة، إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومَن بعدهم من الأئمة.

(1)

يشير إلى قصة عوف بن مالك وخالد بن الوليد. أخرجها مسلم (1753) من حديث عوف.

(2)

ما عدا ع: «لموروثه» .

(3)

ع: «الناشزة» ، وكذا في الطبعات القديمة.

ص: 413

وأما التعزير، ففي كلِّ معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة. فإن المعاصي ثلاثة أنواع

(1)

: نوع فيه الحدُّ، ولا كفارة فيه. ونوع فيه الكفارة، ولا حدَّ فيه. ونوع لا حدَّ فيه ولا كفارة. فالأول كالسرقة والشرب والزنا والقذف. والثاني كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام. والثالث كوطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره، وقبلة الأجنبية والخلوة بها، ودخول الحمام بغير مئزر، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك.

فأما النوع الأول فالحدُّ فيه مُغْنٍ عن التعزير. وأما الثاني

(2)

فهل يجب مع الكفارة فيه تعزير أم لا؟ على قولين [308/ب] وهما في مذهب أحمد

(3)

. وأما الثالث، ففيه التعزير قولًا واحدًا. ولكن هل هو كالحد، فلا يجوز للإمام تركه، أو هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه، كما يرجع إلى اجتهاده في قدره؟ على قولين للعلماء، الثاني قول الشافعي، والأول قول الجمهور.

وما كان من المعاصي محرَّمَ الجنس كالظلم والفواحش، فإن الشارع لم يشرع له كفارة. ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات والسرقة. وطردُ هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد وأبو حنيفة ومن وافقهما. وليس ذلك تخفيفًا عن مرتكبهما، بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي، وإنما عملُها فيها

(4)

فيما

(1)

انظر: «الطرق الحكمية» (1/ 281) و «زاد المعاد» (5/ 18) و «الداء والدواء» (ص 113).

(2)

في النسخ المطبوعة: «النوع الثاني» ، وكذا «النوع الثالث» فيما يأتي.

(3)

كذا في «الزاد» (5/ 19) أيضًا. وفي «الطرق الحكمية» (1/ 281): «وهما لأصحاب أحمد وغيرهم» .

(4)

«فيها» ساقط من ع.

ص: 414

كان مباحًا في الأصل وحُرِّم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام. وطردُ هذا ــ وهو الصحيح ــ وجوبُ الكفارة في وطء الحائض. وهو موجَب القياس لو لم تأت الشريعة به

(1)

، فكيف وقد جاءت به مرفوعة وموقوفة؟

(2)

وعكسُ هذا: الوطء في الدبر، لا

(3)

كفارة فيه. ولا يصح قياسه على الوطء في الحيض، لأن هذا الجنس لم يُبَح قط، ولا تعمل فيه الكفارة. ولو وجبت فيه الكفارة لوجبت في الزنا واللواط بطريق الأولى. فهذه قاعدة الشارع في الكفارات، وهي في غاية المطابقة للحكمة والمصلحة.

فصل

وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة، كما لم يعذِّبهم في الآخرة إلا بعد إقامة [309/أ] الحجة عليهم. وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار، أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان؛ فإن من قامت عليه شواهد الحال بالجناية،

(1)

«به» من ع.

(2)

رواه أحمد (3473)، وأبو داود (264، 2168) والترمذي (136، 137)، وابن ماجه (640، 650)، والنسائي في «السنن الكبرى» (278، 9050 - 9053، 9055، 9056، 9058، 9059، 9060، 9064، 9065، 9068) من حديث ابن عباس مرفوعا، وفي سنده ومتنه اختلافٌ كثيرٌ منتشرٌ. ويُنظر:«السنن الكبرى» للنسائي (9054، 9057، 9061، 9062، 9063، 9066، 9067، 9068)، و «السنن الكبير» للبيهقي (1/ 314 - 318)، و «شرح السنة» لأبي محمد البغوي (2/ 128)، و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (1/ 395 - 399)، و «تعليقته على العلل» لابن أبي حاتم (ص 108 - 119).

(3)

في النسخ المطبوعة: «ولا» .

ص: 415

كرائحة الخمر وقيئها، وحبَل من لا زوج لها ولا سيِّد، ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه= أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادةُ إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب. وهذا متفق عليه بين الصحابة، وإن نازع فيه بعض الفقهاء. وإما أن تكون الحجة من خارجٍ عنهم، وهي البينة. واشترط فيها العدالة وعدم التهمة، فلا أحسن في العقول والفِطَر من ذلك، ولو طُلِب منها الاقتراح لم تقترح أحسنَ من ذلك ولا أوفقَ منه للمصلحة.

فإن قيل: كيف تدَّعون أن هذه العقوبات لاصقة بالعقول موافقة للمصالح، وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر بالله أفظع ولا أقبح من سفك الدماء، فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه؟ وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة؟ ثم لو كان ذلك مستحسنًا لكان أولى أن يُحرَّقَ ثوبُ مَن حرَّق

(1)

ثوبَ غيره، وأن يُذبَح حيوانُ مَن ذبَح حيوانَ غيره، وأن تُخرَّب دارُ مَن خرَّب دارَ غيره، وأن تُجوِّزوا لمن شُتِم أن يشتُم شاتمَه. وما الفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتلِ مَن قتلَ غيره أو قطعِ من قطَعه؟ وإذا كان إراقة الدم الأول

(2)

مفسدةً وقطعُ الطَّرَف كذلك، فكيف زالت [309/ب] تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقطع الطرف الثاني؟ وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها؟ ولو كانت المفسدة الأولى تزول بهذه المفسدة الثانية لكان فيه ما فيه، إذ كيف تُزال مفسدةٌ بمفسدة نظيرها من كلِّ وجه؟ فكيف والأُولى لا سبيل إلى إزالتها؟ وتقرير ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها. ثم كيف

(1)

ح، ف: «يخرَّق

خرَّق» بالخاء المعجمة.

(2)

ح، ف:«الاقل» ، تصحيف.

ص: 416

حَسُن أن يعاقَب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة، ولم تحسُن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا، ولا القاذفِ بقطع لسانه الذي اكتسب به القذف، ولا المزوِّرِ على الإمام والمسلمين بقطع أنامله التي اكتسب بها التزوير، ولا الناظرِ إلى ما لا يحلُّ له بقلع عينه التي اكتسب بها الحرام؟ فعُلِمَ أن الأمر في هذه العقوبات جنسًا وقدرًا وسببًا ليس بقياس، وإنما هو محض المشيئة، ولله التصرُّف في خلقه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

فالجواب ــ وبالله التوفيق والتأييد ــ من طريقين: مجمل، ومفصل.

أما المجمل، فهو أنَّ مَن شرَع هذه العقوبات ورتَّبها على أسبابها جنسًا وقدرًا فهو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، ومن أحاط بكلِّ شيء علمًا، وعلِمَ ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وأحاط علمُه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها خفيِّها

(1)

وظاهرها، ما يمكن [310/أ] اطلاعُ البشر عليه وما لا يمكنهم. وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجةً عن وجوه الحِكَم

(2)

والغايات المحمودة، كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك. فهذا في خلقه، وذاك في أمره. ومصدرهما جميعًا عن كمال علمه وحكمته ووضعِه كلَّ شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه؛ كما وضع قوةَ البصر والنور الباصر

(3)

في العين، وقوةَ السمع في الأذن، وقوةَ الشَّمِّ في الأنف،

(1)

ع: «وخفيِّها» .

(2)

ح، ف:«الحكمين» . ع: «الحكمة» .

(3)

في النسخ المطبوعة: «للباصر» .

ص: 417

وقوةَ النطق في اللسان والشفتين، وقوةَ البطش في اليد، وقوةَ المشي في الرجل. وخصَّ كلَّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره. فشَمِل إتقانُه وإحكامُه لكلِّ ما شَمِله خلقُه، كما قال تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]. وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلَأن يكون أمرُه على غاية من الإتقان والإحكام أولى وأحرى. ومن لم يعرف ذلك مفصَّلًا لم يسعه أن ينكره مجملًا، ولا يكون جهلُه بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدورِه عن محض العلم والحكمة مسوِّغًا له إنكارَه في نفس الأمر.

وسبحان الله! ما أعظم ظلم الإنسان وجهله! فإنه لو اعترض على أيِّ صاحب صناعة كانت مما تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك، وسأله عما اختصَّت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير، وكيف كان كلُّ شيء من ذلك على الوجه الذي هو عليه، لا أكبر ولا أصغر ولا [310/ب] على شكل غير ذلك= لَسَخِرَ منه، ولهزِئَ

(1)

به، وعجِبَ من سُخْفِ عقله وقلةِ معرفته. هذا مع تهيُّئِه لمشاركتِه له في صناعته، ووصولِه فيها إلى ما وصل إليه، والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها. هذا مع أن صاحبَ تلك الصناعة غيرُ مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل، بل ذلك عنده عتيد حاضر؛ ثم لا يسعه إلا التسليم له، والاعتراف بحكمته، وإقراره بجهله، وعجزه عما وصل إليه من ذلك. فهلَّا وسِعَه ذلك مع أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، ومَن أتقن كلَّ شيء، فأحكمَه وأوقعَه على وَفْقِ الحكمة والمصلحة؟

(1)

في النسخ المطبوعة: «يسخر منه ويهزأ» ، تصحيف.

ص: 418

وقد كان هذا الوجه وحده كافيًا في دفع كلِّ شبهة وجواب كلِّ سؤال. وهذا غير الطريق التي سلكها نفاة الحِكَم والتعليل، ولكن مع هذا فنتصدَّى للجواب المفصَّل، بحسب الاستعداد، وما يناسب علومنا الناقصة، وأفهامنا الجامدة، وعقولنا الضعيفة، وعباراتنا القاصرة. فنقول وبالله التوفيق:

أما قوله: «كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه، وإن ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة» ، سؤالٌ في غاية الوهن والفساد، وأول ما يقال لسائله: هل ترى ردعَ المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكفَّ عدوانهم مستحسنًا في العقول موافقًا لمصالح العباد، أو لا تراه كذلك؟ فإن قال:«لا أراه كذلك» كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفة جميع طوائف بني آدم، على اختلاف مللهم ونِحَلهم [311/أ] ودياناتهم وآرائهم. ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناسُ بعضُهم بعضًا، وفسد نظام العالم، وصارت حالُ الدواب والأنعام والوحوش أحسنَ من حال بني آدم.

وإن قال

(1)

: «بل لا تتمُّ المصلحة إلا بذلك» قيل له: من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلمٍ يردعهم، ويجعل الجاني نكالًا وعظةً لمن يريد أن يفعل مثل فعله. وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة. ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن، بل منافٍ للحكمة والمصلحة. فإنه إن ساوى بينها في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر، وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة؛

(1)

زاد بعده في المطبوع: «قائل» !

ص: 419

إذ لا يليق أن يَقتُل بالنظرة والقبلة

(1)

ويقطعَ بسرقة الحبة والدينار.

وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيح في الفِطَر والعقول، وكلاهما تأباه حكمةُ الربِّ تعالى وعدله وإحسانه إلى خلقه. فأوقع العقوبة تارةً بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح، كالجناية على النفس أو الدين، أو الجناية التي ضررها عامٌّ. فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصَّة، والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. فلو لا القصاص لفسد العالم، [311/ب] وأهلك الناسُ بعضُهم بعضًا ابتداءً واستيفاءً؛ فكان في القصاص دفعٌ

(2)

لمفسدة التجرِّي

(3)

على الدماء بالجناية وبالاستيفاء. وقد قالت العرب في جاهليتها: «القتل أنفى للقتل»

(4)

. وبسفك الدماء تُحقَن الدماء. فلم تُغسل النجاسة بالنجاسة، بل الجناية نجاسة، والقصاص طُهْرة. وإذا لم يكن بدٌّ من موت القاتل ومن استحقَّ القتل فموته بالسيف أنفع له في عاجلته وآجلته، والموت به أسرع الموتات وأوحاها

(5)

وأقلُّها ألمًا. فموته به

(1)

في النسخ الخطية: «الفعل» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.

(2)

في النسخ الخطية: «دفعًا» ، وجعل في النسخ المطبوعة اسمًا لكأنَّ. ولا معنى هنا لكأنَّ، ويبدو لي أن «دفعًا» خطأ من النساخ إن لم يكن سهوًا من المؤلف. وقد سبق هذا الخطأ، وهو نصب اسم «كان» إذا كان خبرها المقدم شبه جملة. وهو من الأخطاء الشائعة الآن.

(3)

يعني: التجرُّؤ.

(4)

انظر مقال الرافعي في توثيق هذه الكلمة وتحليلها في «وحي القلم» (2/ 70 - 87).

(5)

أي أسرعها.

ص: 420

مصلحة له، ولأولياء القتيل، ولعموم الناس. وجرى ذلك مجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي، فإنه حسنٌ. وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان، فالمصالح المترتِّبة على ذبحه أضعاف أضعاف مفسدة إتلافه

(1)

.

ثم هذا السؤال الفاسد يظهر بطلانه وفساده

(2)

بالموت الذي حتَمه الله

(3)

على عباده، وساوى فيه بين جميعهم. ولولاه لما هنأ العيش، ولا وسِعَهم

(4)

الأرزاق، ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطرقات. وفي مفارقة البغيض من اللذة والراحة ما في مواصلة الحبيب، والموتُ مخلِّص للحي والميِّت

(5)

، مريحٌ لكلٍّ منهما من صاحبه، مخرج من دار الابتلاء والامتحان، بابٌ

(6)

للدخول في دار الحيَوان.

جزى الله عنَّا الموتَ خيرًا فإنه

أبرُّ بنا من كلِّ بَرٍّ وأعطَفُ

(7)

يعجِّل تخليصَ النفوس من الأذى

ويُدني إلى الدار التي هي أشرَفُ

(8)

[312/أ] فكم لله سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من

(1)

ما عدا ع: «إيلامه» ، ولعله تصحيف.

(2)

ع: «فساده وبطلانه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

أي قدَّره وجعله حتمًا.

(4)

في النسخ المطبوعة: «وسعتهم» .

(5)

في النسخ المطبوعة: «والموت» ، وهو غلط مفسد للسياق.

(6)

في النسخ المطبوعة: «ومخرج

وباب» بزيادة واو العطف خلافًا للنسخ والسياق.

(7)

أثبت في المطبوع: «ألطف» ، وكذا في «مدارج السالكين» (3/ 257).

(8)

البيتان دون عزو في «المحاسن والأضداد» (ص 255) و «التمثيل والمحاضرة» (ص 406). وفي «الدر الفريد» (3/ 199) أنهما يرويان لعلي بن أبي طالب.

ص: 421

نعمة لا تحصى! فكيف إذا كان فيه طُهْرَة للمقتول، وحياةٌ للنوع الإنساني، وتشفٍّ للمظلوم، وعدلٌ بين القاتل والمقتول. فسبحان من تنزهت شريعته عن خلاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الضالَّة الجائرة!

وأما قوله: «لو كان ذلك مستحسنًا في العقول لاستُحْسِنَ في تحريق ثوبه وتخريب داره وذبح حيوانه مقابلتُه

(1)

بمثله».

فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفع بتغريمه نظيرَ ما أتلفه عليه، فإن المثل يسُدُّ مسَدَّ المثل من كلِّ وجه، فتصير المقابلة مفسدة محضة؛ كما ليس له أن يقتل ابنه أو غلامه مقابلةً لقتله هو ابنه أو غلامه، فإن هذا شرعُ الظالمين المعتدين الذي تُنزَّه عنه شريعةُ أحكم الحاكمين؛ على أن للمقابلة في إتلاف المال بمثل فعله مساغًا في الاجتهاد، وقد ذهب إليه بعضُ أهلِ العلم كما تقدَّم الإشارة إليه في عقوبة الكفار بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا، أو كان يغيظهم. وهذا بخلاف قتلِ عبده إذا قتَل عبدَه أو عقرِ فرسِه إذا عقَر فرسَه، فإن ذلك ظلم لغير مستحِقٍّ. ولكن السنَّة اقتضت التضمين بالمثل، لا إتلاف النظير، كما غرَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناءً بدلَه، وقال:«إناء بإناء»

(2)

. ولا ريب أن هذا أقلُّ فسادًا، وأصلح للجهتين

(3)

؛ [312/ب] لأن المتلَفَ مالُه إذا أخذ نظيره صار كمن لم يفُت عليه شيء، وانتفع بما أخذه عوضَ ماله؛ فإذا مكَّنَّاه من إتلافه

(1)

في المطبوع: «بمقابلته» ، وهو خطأ.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

ح، ف:«للمجتهدين» ، تحريف.

ص: 422

كان زيادةً في إضاعة المال. وما يراد من التشفِّي وإذاقة الجاني ألمَ الإتلاف فحاصلٌ بالغرم غالبًا، ولا التفاتَ إلى الصور النادرة التي لا يتضرَّر الجاني فيها بالغُرم. ولا شك أن هذا أليق بالعقل، وأبلغ في الصلاح، وأوفق للحكمة.

وأيضًا فإنه لو شرع القصاص في الأموال ردعًا للجاني لبقي جانبُ المجني عليه غيرَ مُراعًى، بل يبقى متألّمًا موتورًا غيرَ مجبور، والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا.

فإن قيل: فخيِّروا المجنيَّ عليه بين أن يغرِّم الجاني أو يُتلف عليه نظيرَ ما أتلفه هو، كما خيَّرتموه في الجناية على طرفه، وخيَّرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية.

قيل: لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس. وإنما هو زيادة فساد، لا مصلحة فيه، لمجرَّد

(1)

التشفِّي، ويكفي تغريمه وتعزيره في التشفِّي. والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر، فإن الجناية على النفوس والأعضاء تُدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجنيِّ عليه وأوليائه ما لا تُدخله جنايةُ المال، وتُدخل

(2)

عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الضيم والحميَّة والتحرُّق

(3)

لأخذ الثأر ما لا يجبُره المال أبدًا، حتى إن أولادهم وأعقابهم لَيعيَّرون بذلك. ولأولياء القتيل من القصد في

(1)

في النسخ المطبوعة: «بمجرد» ، تصحيف.

(2)

أهمل حرف المضارع فيما عدا ف. وفي النسخ المطبوعة: «ويدخل» .

(3)

في المطبوع: «التحزُّق» بالزاي، تصحيف.

ص: 423

[313/أ] القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجنيِّ عليه وأوليائه ما ليس لمن حُرِّق ثوبُه أو عُقرت فرسُه. والمجنيُّ عليه موتور هو وأولياؤه، فإن لم يوتَر الجاني وأولياؤه ويجرَّعوا من الألم والغيظ ما تجرَّعه

(1)

الأول لم يكن عدلًا.

وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه، كقول قائلهم

(2)

يهجو مَن أخذ الدية من الإبل:

وإنَّ الذي أصبحتُمُ تحلُبونه

دمٌ غيرَ أنَّ اللونَ ليس بأشقرا

(3)

وقال جرير يعيِّر مَن أخذ الدية، فاشترى بها نخلًا:

ألا أبلغ بني حُجْرِ بن وهبٍ

بأنَّ التمرَ حلوٌ في الشتاء

(4)

وقال آخر

(5)

:

(1)

في النسخ المطبوعة: «يجرعه» ، تصحيف.

(2)

هو خالد بن علقمة ابن الطَّيفان، حليف بني عبد الله بن دارم، من شعراء الدولة الأموية. انظر خبره مع سويد بن كراع العكلي في «الأغاني» (12/ 345).

(3)

من أربعة أبيات في «الحيوان» (3/ 105) و «الوحشيات» (ص 81). والصواب في قافيته: «بأحمرا» ، أما القافية المذكورة هنا فقد جاءت في بيت آخر من هذه الأبيات:

إذا سكبوا في القعب من ذي إنائهم

رأوا لونه في القعب وردًا وأشقرا

(4)

مع بيت آخر في «أنساب الأشراف» (12/ 221) و «الأغاني» (8/ 21) ومنهما في «ديوان جرير» (2/ 1019). والبيت مع تفسيره في «المعاني الكبير» لابن قتيبة (2/ 1019) وروايته: «

بني وهب رسولًا».

(5)

هو جرير أيضًا والبيت من ثلاثة أبيات في ديوانه (2/ 796) و «الوحشيات» (ص 115). وهو دون عزو في «المعاني الكبير» (2/ 1019).

ص: 424

إذا صُبَّ ما في الوَطْبِ فاعلم بأنه

دمُ الشيخ فاشرَبْ من دم الشيخ أو دعا

(1)

وقال آخر

(2)

:

خليلان مختلفٌ شكلُنا

أريد العلاءَ ويبغي السِّمَنْ

أريد دماء بني مالك

ورأيُ المعلَّى بياضُ اللَّبَنْ

(3)

وهذا وإن كانت الشريعة قد أبطلته، وجاءت بما هو خير منه وأصلح في المعاش والمعاد من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفِّي وبين أخذ الدية؛ فإن القصد به أن العرب لم تكن تعيِّر مَن أخذ بدلَ ماله، ولم تعُدَّه ضعفًا ولا عجزًا البتة، بخلاف من أخذ بدلَ دمِ وليِّه. فما سوَّى الله بين الأمرين في طبع، [313/ب] ولا عقل، ولا شرع. والإنسان قد يُحرق ثوبه عند الغيظ، ويذبح ماشيته، ويتلف ماله، فلا يلحقه في ذلك من المشقة والغيظ والإزراء

(4)

به ما يلحق من قتل نفسه أو جدع أنفه أو قلع عينه.

(1)

في النسخ المطبوعة: «دع» ، وهو خطأ. والمثبت أصله بالنون الخفيفة:«دَعَنْ» . والوطب: سقاء اللبن.

(2)

هو الأسعر بن أبي حُمران الجعفي. و «المعلَّى» المذكور في شعره: فرسه. وانظر قصة الشعر في «أنساب الخيل» للكلبي (ص 61 - 62). وهو فيه وفي «الوحشيات» (ص 46) ثلاثة أبيات. والبيتان في «العقد» (3/ 394) وغيره. ونسبهما ابن دريد في «الاشتقاق» (ص 412) إلى الأفوه الأودي، وهو غلط. انظر تعليق الميمني على «الوحشيات» .

(3)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. والرواية «دماء بني مازن» ، و «راقَ المعلَّى» . ولا يبعد أن يكون ما هنا تحريفًا في النسخ.

(4)

في النسخ المطبوعة: «الازدراء» !

ص: 425

فصل

وأما معاقبةُ السارق بقطع يده وتركُ معاقبة الزاني بقطع فرجه، ففي غاية الحكمة والمصلحة. وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يُتلف على كلِّ جانٍ كلَّ عضو عصاه به، فيشرع قلعَ عينِ مَن نظر إلى المحرَّم، وقطعَ أذنِ مَن استمع إليه، ولسانِ من تكلَّم به، ويدِ من لطَم غيرَه عدوانًا. ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلبِ مراتبها، وأسماءُ الربِّ الحسنى وصفاته العُلى

(1)

وأفعاله الحميدة تأبى ذلك. وليس مقصود الحدِّ مجرَّد الأمن من المعاودة، ليس إلا؛ ولو أريد هذا لكان قتَل صاحبَ الجريمة فقط. وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفِّ عدوانه أقرب، وأن يَعتبِر به غيرُه، وأن يُحدِث له ما يذوقه من الألم توبةً نصوحًا، وأن يذكِّره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحِكَم والمصالح.

ثم إنَّ في حدِّ السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرًّا كما يقتضيه اسمُها. ولهذا يقولون:«فلان ينظر إلى فلان مسارقةً» إذا كان ينظر إليه نظرًا خفيًّا لا يريد أن يفطِن له. فالعازمُ

(2)

على السرقة مختفٍ مكاتِمٌ

(3)

[314/أ] خائفٌ أن يُشعَر بمكانه، فيؤخذ

(4)

. ثم هو مستعدٌّ للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيءَ. واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في

(1)

في النسخ المطبوعة: «العليا» .

(2)

في النسخ المطبوعة: «والعازم» .

(3)

في النسخ المطبوعة: «كاتم» .

(4)

في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «به» .

ص: 426

إعانته على الطيران. ولهذا يقال: «وصلت جناحَ فلان» إذا رأيتَه يسير منفردًا، فانضممتَ إليه لتصحبه

(1)

. فعوقب السارق بقطع اليد قصًّا لجناحه، وتسهيلًا لأخذه إن عاود السرقة. فإذا فُعِل به هذا في أول مرة بقي مقصوصَ أحد الجناحين ضعيفَ العَدْو

(2)

. ثم يقطع في الثانية رجلَه، فيزداد ضعفًا في عَدْوه، فلا يكاد يفوت الطالب. ثم تُقطع يدُه الأخرى في الثالثة، ورجلُه الأخرى في الرابعة، فيبقى لحمًا على وضَمٍ

(3)

، فيستريح ويُريح.

وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذُّذُ بقضاء شهوته يعُمُّ البدن، والغالب من فعله وقوعه برضا المزنيِّ بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب= فعُوقب بما يعُمُّ بدنه من الجَلْدِ مرةً والقتل بالحجارة مرةً. ولما كان الزنا من أمهات الجرائم وكبائر المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطُل معه التعارفُ والتناصرُ على إحياء الدين، وفي هذا إهلاكُ

(4)

الحرث والنسل= فشاكَلَ في معانيه أو في أكثرها القتلَ الذي فيه هلاك ذلك، فزُجِر عنه بالقصاص ليرتدع عن مثل فعله مَن يُهمُّ به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم المُوصِل إلى إقامة العبادات المُوصِلة إلى نعيم الآخرة.

(1)

منه قول الحريري في المقامة الكوفية: «فوصلتُ جناحَه حتى سنَّيت نجاحه» . قال الشريشي في شرح مقاماته (1/ 217): «أي مشيتُ معه ويدي في يده. وجناح الرجل: يده» .

(2)

في النسخ المطبوعة: «ضعيفًا في العدو» .

(3)

الوَضَم ما وُقي به اللحم من الأرض من خشب أو حصيرٍ أو نحو ذلك. ويضرب المثل باللحم على الوضم للذليل الضعيف.

(4)

في النسخ المطبوعة: «هلاك» .

ص: 427

ثم إن للزاني حالتين. إحداهما: أن يكون محصنًا قد [314/ب] تزوَّج، فعلم ما يقع به العفافُ

(1)

عن الفروج المحرَّمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرُّض لحدِّ الزنا= فزال عذرُه من جميع الوجوه في تخطِّي ذلك إلى مواقعة الحرام.

والثانية: أن يكون بِكرًا، لم يعلم ما علِمه المحصنُ، ولا عمِل ما عَمِله؛ فحصل له من العذر بعضُ ما أوجب له التخفيف، فحُقِن دمُه، وزُجِرَ بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجَلْد ردعًا عن المعاودة للاستمتاع بالحرام، وبعثًا له على القَنَعِ بما رزقه الله من الحلال. وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه. وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان؟

ثم إنَّ قطعَ فرج الزاني فيه من تعطيلِ النسل وقطعِه عكسَ مقصودِ الربِّ تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم. وفيه من المفاسد أضعافُ ما يتوهَّم فيه من مصلحة الزجر. وفيه إخلاءُ جميع البدن من العقوبة، وقد حصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه، فكان من العدل أن تعُمَّه العقوبة. ثم إنه غير متصوَّر في حقِّ المرأة، وكلاهما زانٍ؛ فلا بد أن يستويا في العقوبة. فكان شرعُ الله سبحانه أكملَ من اقتراح المقترحين

(2)

.

وتأمَّلْ كيف جاء إتلافُ النفوس في مقابلة أكبر الكبائر، وأعظمها ضررًا، وأشدِّها فسادًا للعالم؛ وهي الكفر الأصلي والطارئ، والقتل وزنا المحصن. وإذا تأمَّلَ العاقلُ فسادَ الوجود رآه من هذه الجهات [315/أ]

(1)

في النسخ المطبوعة: «من العفاف» ، وزيادة «من» هنا خطأ مفسد للمعنى.

(2)

وانظر: «الداء والدواء» (ص 260).

ص: 428

الثلاث. وهذه هي الثلاث التي أجاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود بها حيث قال له: يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظم؟ قال:«أن تجعل لله ندًّا، وهو خلَقَك» . قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تقتل ولدَك خشيةَ أن يطعَمَ معك» . قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تُزانيَ بحليلة جارك»

(1)

. فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: 68].

ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر، وهو دونه، جعل عقوبته قطعَ الطَّرَف. ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك، وهو الجلد. ثم لما كان شربُ المسكِر أقلَّ مفسدةً من ذلك جعل حدَّه دون حدِّ هذه الجنايات كلِّها. ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتةً غيرَ منضبطةٍ في الشدة والضعف والقلة والكثرة ــ وهي ما بين النظرة إلى الخلوة

(2)

والمعانقة ــ جُعِلت عقوباتُها راجعةً إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة في كلِّ زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم.

فمن سوَّى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمةَ الشرع، واختلفت عليه أقوالُ الصحابة وسيرةُ الخلفاء الراشدين وكثيرٌ من النصوص، ورأى عمر قد زاد في حدِّ الخمر على أربعين والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما جلَد أربعين، وعزَّر بأمور لم يعزِّر بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، [315/ب] وأنفذ على الناس

(1)

أخرجه البخاري (4477) ومسلم (86).

(2)

في النسخ المطبوعة: «والخلوة» .

ص: 429

أشياءَ عفا عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم= فيظنُّ ذلك تعارضًا وتناقضًا، وإنما أُتِيَ من قصور علمه وفهمه

(1)

. وبالله التوفيق.

فصل

وأما قوله: «وجعل حدَّ الرقيق على النصف من حدِّ الحُرِّ، وحاجتُهما إلى الزجر واحدة» ، فلا ريب أن الشارع فرَّق بين الحُرِّ والعبد في أحكام، وسوَّى بينهما في أحكام. فسوَّى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات البدنية

(2)

كالطهارة والصلاة والصوم، لاستوائهما في سببها

(3)

. وفرَّق بينهما في العبادات المالية كالحج والزكاة والتكفير بالمال، لافتراقهما في سببها.

وأما الحدود، فلما كان وقوع المعصية من الحر أقبحَ من وقوعها من العبد من جهة كمال نعمة الله عليه بالحرية، وأن جعله مالكًا لا مملوكًا، ولم يجعله تحت قهر غيره وتصرُّفه فيه، ومن جهة تمكُّنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عوَّض الله عنها من المباحات، فقابل النعمة التامة بضدِّها، واستعمل القدرة في المعصية= فاستحقَّ من العقوبة أكثر مما يستحقُّه مَن هو أخفَضُ

(4)

منه رتبةً وأنقَصُ منزلةً. فإن الرجل كلما كانت نعمة الله عليه أتمَّ كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتمَّ. ولهذا قال تعالى في حقِّ مَن أتمَّ نعمته عليهن من النساء: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ

(1)

ح، ف:«فهمه وعلمه» .

(2)

ما عدا ع: «الثلاثة» ، وكذا في المطبوع، والظاهر أنه تحريف.

(3)

في النسخ المطبوعة: «سببهما» هنا وفيما يأتي.

(4)

ع: «أحطُّ» .

ص: 430

مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [316/أ] وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 30 - 31].

وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها. فإن العبد كلما كملت نعمة الله عليه انبغى

(1)

له أن تكون طاعته له أكملَ، وشكره له أتمَّ، ومعصيته له أقبحَ، وشدة العقوبة تابعة

(2)

لقبح المعصية. ولهذا كان أشدُّ الناس عذابًا يومَ القيامة عالمًا لم ينفعه الله بعلمه

(3)

، فإن نعمة الله عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل، وصدورَ المعصية منه أقبحُ من صدورها من الجاهل. ولا يستوي عند الملوك والرؤساء مَن عصاهم من خواصِّهم وحَشَمِهم ومن هو قريبٌ منهم، ومن عصاهم من الأطراف والبعداء. فجعل حدَّ العبد أخفَّ من حدِّ الحُرِّ جمعًا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه. ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعِدَّة إظهارًا لشرف الحرية وخطرها، وإعطاءً لكلِّ مرتبة حقَّها من الأمر، كما أعطاها حقَّها من القدر. ولا تنتقض هذه الحكمة

(1)

ع: «ينبغي» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

في النسخ الخطية: «تابع» .

(3)

هذا لفظُ حديثٍ رواه ابن وهب في «المسند» (114) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1079) وسقط من سنده يحيى بن سلام!، والطبراني في «المعجم الصغير» (507)، والآجري في «أخلاق العلماء» (60، 61)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 474، 6/ 269)، والبيهقي في «الجامع لشعب الإيمان» (1642)، من حديث أبي هريرة مرفوعا، وآفتُه: عثمانُ بن مقسم البري، وهو واهٍ جدًّا. وركّب له إسماعيل بن محمد بن يوسف الثقفي الجبريني (التالف الهالك) متابعة مزعومة، ومن طريقه رواها ابن المُقرئ في «المعجم» (77).

ص: 431

بإعطاء العبد في الآخرة أجرين، بل هذا محضُ الحكمة، فإنه كان عليه

(1)

في الدنيا حقَّان: حقٌّ لله، وحقٌّ لسيده، فأعطي بإزاء قيامه بكلِّ حقٍّ أجرًا. فاتفقت حكمة الشرع والقدر والجزاء، والحمد لله رب العالمين.

فصل

وأما قوله: «وجعَل للقاذف إسقاطَ الحدِّ باللِّعان في الزوجة دون الأجنبية، وكلاهما

(2)

قد ألحق بها

(3)

العار»، فهذا من أعظم محاسن الشريعة. فإن قاذف الأجنبية مستغنٍ عن قذفها، لا حاجة له إليه البتة؛ فإن زناها لا يضرُّه [316/ب] شيئًا، ولا يُفسِد عليه فراشَه، ولا يعلِّق عليه أولادًا من غيره؛ فقذفُها

(4)

عدوان محض، وأذى لمحصنة غافلة مؤمنة، فترتَّب عليه الحدُّ زجرًا له وعقوبةً. وأما الزوجة فإنه يلحقه بزناها من العار والمسبَّة، وإفساد الفراش وإلحاق ولد غيره به، وانصراف قلبها عنه إلى غيره؛ فهو محتاج إلى قذفها، ونفي النسب الفاسد عنه، وتخلُّصه من المسبَّة والعار لكونه زوجَ بغيٍّ فاجرة، ولا يمكن إقامة البينة على زناها في الغالب، وهي لا تُقِرُّ به، وقولُ الزوج عليها غير مقبول= فلم يبقَ سوى تحالفهما بأغلظ الإيمان، وتأكيدها بدعائه على نفسه باللعنة ودعائها على نفسها بالغضب إن كانا كاذبين. ثم يفسخ النكاح بينهما، إذ لا يمكن أحدهما أن يصفو للآخر أبدًا.

(1)

ع: «فإن العبد عليه» . وفي النسخ المطبوعة: «فإن العبد كان عليه» .

(2)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة في موضع «وكلتاهما» .

(3)

ع: «بهما» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(4)

ع: «وقذفها» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 432

فهذا أحسنُ حكم يُفصَل به بينهما في الدنيا، وليس بعده أعدل منه، ولا أحكم، ولا أصلح. ولو جُمِعت عقولُ العالمين لم يهتدوا إليه، فتبارك من أبان ربوبيته ووحدانيته وحكمته وعلمه في شرعه وخلقه.

فصل

وأما قوله: «وجوَّز للمسافر المترفِّه في سفره رخصةَ الفطر والقصر، دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة» ، فلا ريب أن الفطر والقصر يختص بالمسافر، ولا يفطر المقيم إلا لمرض. وهذا من كمال حكمة الشارع، فإن السفر

(1)

قطعة من العذاب

(2)

، وهو في نفسه مشقة وجهد. ولو كان المسافر من أرفَهِ الناس، فإنه في مشقة وجهد بحسبه. [317/أ] فكان من رحمة الله بعباده وبرِّه بهم أن خفَّف عنهم شطر الصلاة، واكتفى منهم بالشطر. وخفَّف عنهم أداء فرض الصوم في السفر، واكتفى منهم بأدائه في الحضر؛ كما شرَع مثل ذلك في حقِّ المريض والحائض. فلم يفوِّت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملةً، ولم يُلزِمهم بها في السفر كإلزامهم في الحضر.

وأما الإقامة فلا مُوجِبَ لإسقاط بعض الواجب فيها ولا تأخيره، وما يعرض فيها من المشقة والشغل فأمرٌ لا ينضبط ولا ينحصر. فلو جاز لكلِّ مشغول وكلِّ مشقوق عليه الترخُّصُ ضاع الواجبُ واضمحلَّ بالكلية. وإن جُوِّز للبعض دون البعض لم ينضبط، فإنه لا وصفَ يضبِط ما تجوز معه الرخصة وما لا تجوز، بخلاف السفر؛ على أن المشقة قد عُلِّق بها من

(1)

في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «في نفسه» .

(2)

كما جاء في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري (1804) ومسلم (1927).

ص: 433

التخفيف ما يناسبها. فإن كانت مشقة مرض وألم يضرُّ به جاز معها الفطر والصلاة قاعدًا أو على جنب، وذلك نظير قصر العدد. وإن كانت مشقة تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له، بل على قدر التعب تكون الراحة. فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومنِّه.

فصل

وأما قوله: «وأوجب على من نذَر لله طاعةً الوفاءَ بها، وجوَّز لمن حلف عليها أن يتركها ويكفِّر يمينه، وكلاهما قد التزم فعلَها لله» ، فهذا السؤال يورَد على وجهين:

أحدهما: أن يحلف لَيفعلنَّها، نحو أن يقول: والله لأصومنَّ الاثنين والخميس، ولأتصدَّقَنَّ، [317/ب] كما يقول: لله عليَّ أن أفعل ذلك.

والثاني: أن يحلف بها، كما يقول: إن كلمتُ فلانًا فلله عليَّ صومُ سنةٍ وصدقةُ ألفٍ.

فإن أورد على الوجه الأول، فجوابه أن الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام:

أحدها: التزامٌ بيمين مجرَّدة.

الثاني: التزام بنذر مجرَّد.

الثالث: التزام بيمين مؤكَّدة بنذر.

الرابع: التزام بنذر مؤكَّد بيمين.

ص: 434

فالأول نحو قوله: «والله لأتصدقن» . والثاني نحو: «لله عليَّ أن أتصدَّق» . والثالث نحو: «والله إن شفى الله مريضي فعليَّ صدقةُ كذا» . والرابع نحو: «إن شفى الله مريضي فوالله لأتصدَّقنَّ» . وهذا كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75]. فهذا نذرٌ مؤكَّد بيمين، وإن لم يقل فيه «فعليَّ» ، إذ ليس ذلك من شرط النذر. بل إذا قال: إن سلَّمني الله تصدقتُ، أو لأتصدَّقَنَّ، فهو وعد وعده الله، فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].

فوعدُ العبد ربَّه نذرٌ يجب عليه أن يفي له به، فإنه جعله جزاءً وشكرًا له على نعمته عليه، فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات، وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداءً:«لله عليَّ كذا» ، فإن هذا التزام منه لنفسه أن يفعل ذلك، والأول تعليقٌ بشرط، وقد وُجِد، فيجب فعلُ المشروط عنده لالتزامه له بوعده. [318/أ] فإن الالتزام تارةً يكون بصريح الإيجاب، وتارةً يكون بالوعد، وتارةً يكون بالشروع كشروعه في الجهاد والحج والعمرة. والالتزامُ بالوعد آكدُ من الالتزام بالشروع، وآكدُ من الالتزام بصريح الإيجاب؛ فإن الله سبحانه ذمَّ من خالف ما التزمه

(1)

له بالوعد، وعاقبه بالنفاق في قلبه، ومدَح مَن وفى بما نذره له، وأمرَ بإتمام ما شرع فيه له

(2)

من الحج والعمرة. فجاء الالتزام بالوعد آكد الأقسام الثلاثة، وإخلافه يُعقِب النفاقَ في القلب.

(1)

ف: «التزم» .

(2)

ف: «له فيه» . و «له» ساقط من ت.

ص: 435

وأما إذا حلف يمينًا مجرَّدةً لَيفعلنَّ كذا، فهذا حضٌّ منه لنفسه، وحثٌّ على فعله باليمين، وليس إيجابًا عليها. فإن اليمين لا توجب شيئًا ولا تحرِّمه، ولكن الحالف عقَد اليمين بالله لَيفعلنَّه، فأباح الله سبحانه له حلَّ ما عقَده بالكفارة، ولهذا سمَّاها

(1)

«تحِلَّة» ، فإنها تَحُلُّ عقدَ اليمين، وليست رافعةً لإثم الحنث، كما يتوهَّمه بعض الفقهاء، فإن الحنث قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًّا، فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب. وإن كان مباحًا، فالشارع لا يبيح

(2)

سببَ الإثم، وإنما شرعها الله حلًّا لعقد اليمين، كما شرع

(3)

الاستثناء مانعًا من عقدها.

فظهر الفرق بين ما التزم لله، وبين ما التزم بالله. فالأول ليس فيه إلا الوفاء، والثاني يخيَّر فيه بين الوفاء وبين الكفارة حيث يسوغ ذلك.

وسرُّ هذا أن ما التزم له آكد مما التزم به؛ فإن الأول متعلِّق بإلهيته، والثاني بربوبيته. فالأول من أحكام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، والثاني من أحكام {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسيم

(4)

الله من هاتين الكلمتين، و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسيم العبد، كما في الحديث الصحيح الإلهي:«هذه بيني وبين عبدي نصفين»

(5)

. وبهذا يخرج الجواب عن إيراد هذا السؤال على

(1)

في النسخ المطبوعة زيد بعده لفظ الجلالة.

(2)

في النسخ المطبوعة: «لم يبح» .

(3)

زيد بعده لفظ الجلالة في النسخ المطبوعة.

(4)

القسيم: الحظ والنصيب. وفي ت، ع:«قسم» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(5)

أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 436

الوجه الثاني، وهو

(1)

أنَّ ما نذرَه لله من هذه الطاعات يجب الوفاء به، وما أخرجه مخرج اليمين يخيَّر بين الوفاء به وبين التكفير؛ لأن الأول متعلِّق بإلهيته، والثاني بربوبيته؛ فوجب الوفاء بالقسم الأول، ويخيَّر الحالف في القسم الثاني. وهذا من أسرار الشريعة، وكمالها وعظمتها.

ويزيد ذلك وضوحًا: أن الحالف بالتزام هذه الواجبات قصدُه أن لا تكون. ولكراهيته

(2)

للزومها له حلَف بها، فقصدُه أن لا يكون الشرط فيها ولا الجزاء، ولذلك يسمَّى نذرَ اللَّجاج والغضب. فلم يُلزمه الشارعُ به إذا كان غير مريد له ولا متقرِّب به إلى الله. فلم يعقدِه لله، وإنما عقَده به، فهو يمين محضة. فإلحاقُه بنذر القربة إلحاقٌ له بغير شِبْهِه، وقطعٌ له عن الإلحاق بنظيره. وعذرُ من ألحقه بنذر القربة شَبَهُه به في اللفظ والصورة، ولكن الملحقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني. وقد اتفق الناس على أنه لو قال:«إن فعلتُ كذا فأنا يهودي أو نصراني» ، فحنَث أنه لا يكفر بذلك

(3)

؛ لأنَّ قَصْدَ اليمين منَعَ من الكفر.

وبهذا وغيره احتجَّ شيخُ الإسلام ابن تيمية على أن [319/أ] الحلف بالعتاق والطلاق

(4)

كنذر اللَّجاج والغضب، وكالحلف بقوله:«إن فعلتُ فأنا يهودي أو نصراني»

(5)

، وحكاه إجماعَ الصحابة في العتق، وحكاه غيرُه

(1)

«هو» ساقط من النسخ المطبوعة.

(2)

في النسخ المطبوعة: «ولكراهته» .

(3)

في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «إن قصد اليمين» .

(4)

في النسخ المطبوعة: «بالطلاق والعتاق» .

(5)

انظر: «مجموع الفتاوى» (33/ 141).

ص: 437

إجماعًا لهم في الحلف بالطلاق أنه لا يلزم.

قال: لأنه قد صحَّ عن علي بن أبي طالب ولا يُعرَف له في الصحابة مخالف، ذكره ابن بَزيزة في «شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي»

(1)

. فاجتهد خصومه

(2)

في الردِّ عليه بكلِّ ممكن، وكان حاصل ما ردُّوا به قوله أربعة أشياء:

أحدها ــ وهو عمدة القوم ــ: أنه خلافُ مرسومِ السلطان.

الثاني

(3)

: أنه خلاف الأئمة الأربعة.

الثالث: أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: «إن أبرأتني فأنت طالق» ، ففعلت.

الرابع: أن العمل قد استمرَّ على خلاف هذا القول، فلا يُلتفت إليه.

فنقض حججهم، وأقام نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول. وصنَّف في المسألة قريبًا من ألف ورقة

(4)

، ثم مضى لسبيله راجيًا من الله أجرًا أو أجرَين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون.

(1)

وهو «مصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام» ، وقد نقل المصنف كلام ابن بزيزة فيما تقدم.

(2)

يعني: خصوم شيخ الإسلام.

(3)

زيد في النسخ المطبوعة واو العطف قبل «الثاني» و «الثالث» و «الرابع» .

(4)

وسيأتي قول المصنف: «وصنَّف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة. وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها

زهاءَ أربعين دليلًا

». وانظر مقدمة التحقيق لكتاب «الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق» (ص 52).

ص: 438

فصل

وأما قوله

(1)

: «وحرَّم كلَّ ذي ناب من السباع، وأباح الضبع ولها ناب» ، فلا ريب أنه حرَّم كلَّ ذي ناب من السباع، وإن كان بعضُ العلماء خفي عليه تحريمه، فقال بمبلغ علمه. وأما الضبع فرُوي عنه فيها حديثٌ صحَّحه كثيرٌ من أهل العلم بالحديث، فذهبوا إليه، وجعلوه مخصِّصًا لعموم أحاديث التحريم، [319/ب] كما خُصَّت العرايا لأحاديث المزابنة. وطائفة لم تصحِّحه، وحرَّموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب. قالوا: وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن أكلِ كلِّ ذي ناب من السباع، وصحَّت صحةً لا مطعن فيها من حديث علي

(2)

، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخُشَني

(3)

.

قالوا: وأما حديث الضبع، فتفرَّد به عبد الرحمن بن أبي عمارة، وأحاديثُ تحريم ذوات الأنياب كلُّها تخالفه.

قالوا: ولفظ الحديث يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جابرٌ رفع الأكلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون إنما رفَع إليه كونَها صيدًا فقط، ولا يلزم من كونها صيدًا جوازُ أكلها، فظنَّ جابرٌ أن كونَها صيدًا يدل على أكلها، فأفتى به من

(1)

ع، ت:«قولهم» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

رواه عبد الرزاق (218، 219)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته على «المسند» لأبيه (1254)، وأبو يعلى في «المسند» (357)، والطحاوي في «بيان المشكل» (9/ 99)، وسنده ضعيف. ويُغني عنه الأحاديث الصحيحة التالية.

(3)

رواه مسلم (1934، 1933، 1932) ولاءً عن هؤلاء الثلاثة، ورواه أيضًا البخاري (5530) عن أبي ثعلبة.

ص: 439

قوله، ورفَع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما سمعه من كونها صيدًا.

ونحن نذكر لفظ الحديث ليتبيَّن ما ذكرناه. فروى الترمذي في «جامعه»

(1)

من حديث [عبد الله بن]

(2)

عبيد بن عمير الليثي، عن عبد الرحمن بن أبي عمار أنه قال: قلت لجابر بن عبد الله: آكلُ الضبعَ؟ قال: نعم. قلت: أصيدٌ هي؟ قال: نعم. قلت: أسمعتَ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال الترمذي

(3)

: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هو صحيح.

وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونُها صيدًا. ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال: عن [عبد الله بن] عبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الضبع، فقال:«هي صيد، وفيها كبش»

(4)

.

(1)

برقمي (851، 1791) وصححه. ورواه أحمد (14425، 14449)، وابن ماجه (3236)، والنسائي (2836، 4323).

وصححه أيضًا ابن خزيمة (2645)، وابن حبان (4459)، وجوّده البيهقي (5/ 183)، وحسنه الجوزقاني في «الأباطيل» (2/ 266). ويُوازَنُ بما في «بيان المشكل» للطحاوي (9/ 95 - 99)، و «العلل» للدارقطني (2/ 97)، و «مسند الفاروق» لابن كثير (1/ 485 - 486).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من مصادر التخريج، وهو ساقط من النسخ هنا وفيما يأتي أيضًا.

(3)

في «العلل الكبير» (551 - ترتيبه).

(4)

رواه أبو داود (3801)، وابن ماجه (3085). وصححه ابن خزيمة (2646)، وابن حبان (4458)، والحاكم (1/ 452).

ويُوازَنُ بما في «الكامل» لابن عدي (2/ 344).

ص: 440

قالوا: [320/أ] وكذلك حديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر يرفعه:«الضبع صيد، فإذا أصابه المُحرِم ففيه جزاء كبش مُسِنّ، ويؤكل»

(1)

. قال الحاكم: حديث صحيح.

وقوله: «ويؤكل» يحتمل الوقف والرفع، وإذا احتمل ذلك لم تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم.

قالوا: ولو كان حديث جابر صريحًا في الإباحة لكان فردًا، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة، ادعى الطحاويُّ

(2)

وغيرُه تواترَها، فلا يقدَّم حديثُ جابر عليها.

قالوا: والضبع من أخبَثِ الحيوان وأشرَهِه، وهو مغرًى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم، ويأكل الجيف، ويكسِر بنابه.

قالوا: والله سبحانه قد حرَّم علينا الخبائث، وحرَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذوات الأنياب، والضبع لا يخرج عن هذا وهذا.

وقالوا: وغاية حديث جابر يدل على أنها صيدٌ يُفدَى في الإحرام، ولا يلزم من ذلك أكلُها.

(1)

رواه ابن خزيمة (2648)، والطحاوي في «بيان المشكل» (9/ 97)، وفي «شرح المعاني» (2/ 164)، وابن عدي (3/ 256، 4/ 57)، والدارقطني (2539)، والحاكم (1/ 453)، والبيهقي في «الكبرى» (5/ 183، 9/ 319) وفي «معرفة السنن والآثار» (7/ 255).

(2)

في «شرح معاني الآثار» (4/ 190).

ص: 441

وقد قال بكر بن محمد: سئل أبو عبد الله ــ يعني الإمام أحمد ــ عن مُحْرِم قتل ثعلبًا، فقال: عليه الجزاء، هي صيد، ولكن لا يؤكل

(1)

.

وقال جعفر بن محمد: سمعتُ أبا عبد الله سئل عن الثعلب، فقال: الثعلب سَبُع؛ فقد نصَّ على أنه سَبُع، وأنه يُفدَى في الإحرام.

ولما جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشًا ظنَّ جابر أنه يؤكل، فأفتى به.

والذين صححوا الحديث جعلوه مخصِّصًا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما، حتى قالوا: ويحرُم أكلُ كلِّ ذي ناب

(2)

من [320/ب] السباع إلا الضبع. وهذا لا يقع مثلُه في الشريعة أن يخصص مِثلًا على مِثلٍ من كلِّ وجه من غير فرقان بينهما. وبحمد الله إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك، أعني: شريعة التنزيل، لا شريعة التأويل.

ومن تأمل ألفاظه صلى الله عليه وسلم الكريمة تبيَّن له اندفاع هذا السؤال، فإنه إنما حرَّم ما اشتمل على الوصفين: أن يكون له ناب، وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد. وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين، وهو كونها ذات ناب، وليست من السباع العادية. ولا ريب أن السِّباع أخصُّ من ذوات الأنياب. والسبعُ إنما حرِّم لما فيه من القوة السبعية التي تُورث المغتذيَ بها شبهَها؛ فإن الغاذي شبيه بالمغتذى. ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية

(1)

لم أقف على هذه الرواية ولا التي تليها، ولكن رواية عبد الله في معناها. انظر:«مسائله» (ص 270). وانظر: «الروايتين والوجهين» (1/ 301) و (3/ 28) و «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (2/ 1686).

(2)

«من غير فرق

ذي ناب» ساقط من ح، ف لانتقال النظر.

ص: 442

بينهما في التحريم. ولا تُعَدُّ الضبعُ من السباع لغةً ولا عرفًا. والله أعلم.

فصل

وأما قوله: «وجعل شهادةَ خزيمة بن ثابت بشهادتين، دون غيره ممن هو أفضل منه» ، فلا ريب أن هذا من خصائصه، ولو شهد عنده صلى الله عليه وسلم أو عند غيره لكان بمنزلة شاهدين اثنين. وهذا التخصيص إنما كان لمخصِّص اقتضاه، وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي. وكان [321/أ] فرض على كلِّ من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم، وهذا مستقِرٌّ عند كلِّ مسلم، ولكن خزيمة تفطَّن لدخول هذه القضية المعيَّنة تحت عموم الشهادة بصدقه

(1)

في كلِّ ما يخبر به؛ فلا فرق بين ما يُخبِر به عن الله وبين ما يُخبِر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا، ولا يتمُّ الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا. فلما تفطَّن خزيمة دون من حضر لذلك استحقَّ أن تُجعل شهادتُه بشهادتين.

فصل

وأما تخصيصه أبا بُردة بن نِيار بإجزاء التضحية بالعَناق، دون من بَعده، فلموجِب أيضًا. وهو أنه ذبح قبل الصلاة متأولًا غيرَ عالمٍ بعدم الإجزاء، فلما أخبره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تلك ليست بأُضحية، وإنما هي شاةُ لحم، أراد إعادة الأضحية، فلم يكن عنده إلا عَناقٌ هي أحبُّ إليه من شاتَي لحم، فرخَّص له في التضحية بها لكونه معذورًا، وقد تقدَّم منه ذبحٌ تأوَّلَ فيه، وكان معذورًا

(1)

ع: «لصدقه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 443

بتأويله. وذلك كلُّه قبل استقرار الحكم، فلما استقرَّ الحكم لم يكن بعد ذلك يجزئ إلا ما وافق الشرع المستقر. وبالله التوفيق.

فصل

وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار، ففي غاية المناسبة والحكمة. فإنَّ الليل مظنّةُ هدوء الأصوات، وسكون الحركات، وفراغ القلوب، واجتماع الهمم المشتَّتة [321/ب] بالنهار. فالنهارُ محلُّ السَّبح الطويل بالقلب والبدن، والليلُ محلُّ مواطأةِ القلب للسان، ومواطأةِ اللسان للأذن.

ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بالستِّين إلى المائة

(1)

، وكان الصدِّيق يقرأ فيها بالبقرة

(2)

، وعمر بالنحل وهود وبني إسرائيل ويونس ونحوها من السور

(3)

؛ لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم، فإذا كان أولَ ما

(1)

أخرجه البخاري (541) ومسلم (461) من حديث أبي برزة.

(2)

رواه مالك (270)، وعنه الشافعي في «الأم» (8/ 566) ــ ومن طريقهما البيهقي (2/ 389) ــ، وعبد الرزاق (2711، 2713)، وابن أبي شيبة (3565)، والطحاوي في شرح «معاني الآثار» (1/ 182). ويُنظر:«الإمام» لابن دقيق العيد (4/ 54 - 58).

(3)

يُنظر: «الموطأ» لمالك (271)، و «المصنف» لعبد الرزاق (2709، 2710، 2715، 2716، 2718، 2724)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (3566 - 3569)، و «صحيح البخاري» ، كتاب الصلاة، باب الجمع بين السورتين في الركعة، و «شرح معاني الآثار» للطحاوي (1/ 180 - 181)، و «فضائل القرآن» للمستغفري (718)، و «السنن الكبير» للبيهقي (2/ 389).

ص: 444

يقرع سمعَه كلامُ الله الذي فيه الخير كلُّه بحذافيره صادفه خاليًا من الشواغل، فتمكَّن فيه من غير مزاحم.

وأما النهار فلما كان بضدِّ ذلك كانت قراءة صلاته سرِّيَّة، إلا إذا عارض ذلك

(1)

معارضٌ أرجَحُ منه، كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف، فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود، وأنفع للجمع، وفيه من قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة. والله أعلم.

فصل

وأما قوله: «وورَّث ابنَ ابنِ العَمِّ وإن بعدت درجته، دون الخالة التي هي شقيقة للأم» ، فنعم، وهذا من كمال الشريعة وجلالتها. فإن ابن العم من عصبته القائمين بنصرته وموالاته، والذَّبِّ عنه، وحَملِ العقل عنه؛ فبنو أبيه هم أولياؤه وعصبته والمحامون دونه. فأما

(2)

قرابة الأم فإنهم بمنزلة الأجانب، وإنما ينتسبون إلى آبائهم، [322/أ] فهم بمنزلة أقارب البنات، كما قال القائل:

بنونا بنو أبنائنا، وبناتُنا

بنوهنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ

(3)

(1)

في النسخ المطبوعة: «في ذلك» .

(2)

في النسخ المطبوعة: «وأما» .

(3)

قال العيني في «شرح الشواهد» (1/ 502): «لم أر أحدًا منهم عزاه إلى قائله» . ونسبه الكرماني في «شواهد شرح الكافية للخبيصي» إلى الفرزدق، نقله عنه البغدادي في «الخزانة» (1/ 445)، ولم يرد في «ديوان الفرزدق» . والبيت في «الحيوان» (1/ 346) وغيره.

ص: 445

فمن كمال حكمة الشارع أن جعل الميراث لأقارب الأب، وقدَّمهم على أقارب الأم. وإنما ورَّث معهم من أقارب الأم مَن ركض الميتُ معهم في بطن الأم، وهم إخوته أو من قربت قرابته جدًّا، وهن جدَّاته لقوة إيلادهن وقرب أولاد أمه

(1)

منه. فإذا عدمت قرابة الأب انتقل الميراث إلى قرابة الأم، وكانوا أولى من الأجانب. فهذا الذي جاءت به الشريعة هو

(2)

أكمَلُ شيء، وأعدلُه، وأحسنهُ.

فصل

وأما قوله: «وحرَّم أخذَ مال الغير إلا بطيب نفسٍ منه، ثم سلَّطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة، ثم شرع الشفعةَ فيما يمكن التخلُّص من ضرر الشركة فيه بالقسمة، دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان» ؛ فهذا السؤال قد أورده على وجهين:

أحدهما على أصل الشفعة وأن الاستحقاق بها منافٍ لتحريم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه.

والثاني: أنه خصَّ بعضَ المبيع بالشفعة دون بعض، مع قيام السبب الموجب للشفعة، وهو ضرر الشركة.

ونحن بحمد الله وعونه نجيب عن الأمرين، فنقول: من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد: ورودُها بالشفعة. ولا يليق بها غير ذلك، فإن حكمة الشارع اقتضت رفعَ الضرر عن المكلَّفين ما أمكن،

(1)

كذا في النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «أولادهن» .

(2)

«هو» ساقط من النسخ المطبوعة.

ص: 446