الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله والقوانين الكيماوية
كتبه: جون أزولف بوهلر
مستشار كيماوي - حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة إنديانا - أستاذ الكيميا بكلية أندرسون - متخصص في تركيب الأحماض الأمينية والكشف عن الكوبلت.
لكي ندرك كيف تنتسب القوانين الكيماوية إلى الله، ونتبين مبلغ قصور العقل الإنساني، ونعرف لماذا ينبغي أن يتواضع الناس جميعاً حتى أولئك الذين نعدهم من العباقرة فإنني أحب أن أعرض على قرائي لمحة موجزة عن علم الكيمياء، الذي هو ميدان تخصصي. وسوف أحاول الابتعاد عن المصطلحات الفنية وأن أكون واضحا ما استطعت.
فمنذ فجر المدنية والإنسان يحاول أن يفهم كنه التغيرات التي تطرأ على ما يحيط به من عالم الماديات. وقد كان فهمه للمادة في بادىء الأمر يشوبه النقص والغموض، وكان ديمقريطس الذي عاش قيل الميلاد بنحو 400 سنة أول من وصل عن طريق التخمين إلى أن جميع الأشياء تتألف من دقائق صغيرة تعتبر كل منها وحدة قائمة بذاتها. وتختلف هذه الفكرة عما كان شائعاً من قبل من أن المادة المادة تتألف من كتلة واحدة متصلة. ولما كانت فكرة ديمقريطس لا تتفق مع ما تشاهده العين من أمر المادة، فقد بقيت هذه الفكرة مدفوعة تحت أنقاض ما كان يسود ذلك العهد من شك في صحتها.
وظلت الكيمياء القديمة من ضروب الشعوذة والسحر ألفي سنة وهي تحاول أن تجد تفسيراً لمعنى المادة. وفي حوالي متصف القرن السابع عشر عاد روبرت بويل إلى
فكرة ديمقريطس من جديد وأطلق اسم العنصر على كل مادة من المواد البسيطة التي لا يمكن تحوليها في المعمل إلى أبسط منها. والعناصر بهذا المعنى تختلف عن المعنى الذي ذهب إليه أرسطوطاليس حينما رأى أن العناصر التي تتألف منها المادة هي الأرض والنار والهواء والماء. وفي سنة 1774م أكتشف جون بريستلي الأوكسجين. وفي سنة 1776م توصل لورد كافينديش إلى عنصر الإيدروجين. وبعد فترة وجيزة اكتشف لافوزييه أن الهواء خليط منن الأوكسجين والنيتروجين. واستنبط أن الماء هو الآخر لا يمكن أن يكون عنصراً لأنه يمكن تحضيره بإحراق الأيدروجين في الهواء.
لقد كان علم الكيمياء يتقدم بحق، وفي عام 1799م توصل الكيماوي الفرنسي جوزيف براوست إلى أن المواد الكيماوية النقية مثل ملح الطعام يكون لها تركيب ثالث، بصرف النظر عن مصدرها. أما بيرثوليت فكان يناقضه ويرى أن الملح المحضر من أماكن مختلفة على سطح الأرض يختلف في تركيبها تبعاً لاختلاف هذه الأماكن. ولقد كسب براوست الجولة بعد مضي ثمان سنوات قضاها في إجراء التجارب وبذلك تبين أن للمركبات تركيباً ثابتاً.
وفي سنة 1808 حاول دالتون - وكان مدرساً - أن يجمع كل ما هو معروف من المعلومات الكيماوية حتى ذلك الوقت، وأن يجد تفسيراً لثبات العناصر والمركبات. وقد توصل إلى النظرية الذرية للمادة. فقد كان يرى أن العناصر تتكون من جزيئات صغيرة سماه الذرات وتوصل إلى أن الذرات العنصر الواحد لابد أن تكون متكافئة من جميع الوجوه أما ذرات العناصر المختلفة فمتباينة. وقد أفترض دالتون أن الذرات غير قابلة للكسر فهي لا تستطيع أن تتحول إلى صورة اصغر. وقد أرجع اختلاف العناصر في صفاتها الطبيعية والكيماوية إلى ما بين ذراتها من اختلاف في الوزن والخواص الأخرى. كما بين أن ثبات المركبات يرجع إلى اتحاد العناصر الداخلية في تركيبها بنسب
دقيقة ثابتة في المركب الواحد. وعندئذ أتضح أن الظواهر الكيماوية تخضع لقوانين معينة مثل قانون بقاء المادة وقانون ثبات الركيب وقانون بقاء الطاقة.
بهذه الوسائل التي تسلح بها الكيماويون في بحوثهم العلمية، تحول علم الكيمياء من علم وصفي إلى علم قياسي يعتمد على القياس الدقيق. وما إن فتح ذلك الطريق على أساس الاتجاه حتى ظهر التقدم الحقيقي، وصار من المقرر أن دراسة الكيمياء تقوم على أساس الانتظام والقوانين. ذلك تحولت الكيمياء إلى صف العلوم. وتقدمت دراستها في نصف القرن الذي تلا دالتون تقدماً كبيراَ وسارت في نفس الاتجاه الذي حددته قوانين نيوتن، ونجح العلماء في زيادة عدد العناصر في سنة 1900 وبذلك ضربت الكيمياء رقماً قياسياً في تقدمها.
لقد كان دالتون يعتبر الذرة كتلة صلبة من المادة تخضع لقوانين نيوتن. وفي النصف الأخير من القرن التاسع عشر أجريت تجارب عديدة اتضح منها أن هنالك ذرات أكثر تعقيداً من الذرات التي وصفها دالتون، فقد بدأ ماسون في سنة 1853م بإمرار تيار كهربائي خلال أنبوبة مفرغة. ثم حاول جسلر أن يعيد التجربة السابقة مستخدما تياراً أقوى ومجموعة من الغازات المختلفة داخل الأنابيب المفرغة. وفي سنة 1878م أستطاع كروكس باستخدام أنابيب مفرغة إلى درجة لم يحصل عليها سابقوه، أن يلاحظ بريقا عجيبا داخل الأنبوب عند إمرار التيار الكهربي بها. وقد أثبت طويون أن هذه الأشعة العجيبة تحمل شحنات كهربية سالبة، وأنها تتحرك بسرعة لا يتصورها العقل، وأنها تكاد تكون عديمة الوزن، وقد سميت هذه الأشعة أشعة المهبط، كما سميت الأنابيب التي تتكون داخلها أشعة المهبط. وقد تبين أخيراً أن هذه الأشعة ليست إلا سيلا من الالكترونات المتدفقة.
ثم اكتشفت بعد ظاهرة النشاط الإشعاعي، التي اكتشفتها بكويرل وآل كوري. وقد فتح هذا الاكتشاف عالما جيديا من الجزيئات التي هي دون الذرات. ولم يعد ينظر إلى الذرة على أنها جسم صلب مصمت، بل صار ينظر إليها على أنها تشبه مجموعة شمسية مصغرة، تقع كتلتها الكبرى في مركزها حيث تتجمع البروتونات الموجبة، ومن حول هذه الكتلة يتم توزيع الالكترونات السالبة التي هي ليست إلا وحدات من الطاقة تتحرك حول المركز في نظام معين.
وتتوقف الخواص الطبيعة والكيموية للذرة على ما يحمله حول المركز في نظام معين. وتتوقف على طريقة ترتيب الالكترونات حول النواة. وقد بذلت محاولات في بادىء الأمر لتطبيق قوانين نيوتن على الجزيئات دون الذرة، ولكن اتضح بعد قليل ان هذه القوانين لا تنطبق على تلك الجزيئات الدقيقة. وقد دعا ذلك إلى ضرورة قيام طرق جديدة أخرى للحساب فنشأت نظرية (الكوانتم) أو نظرية الكم. وهي تساعدنا على أن تعبر تعبيراً رياضياً عن احتمال سلوك البروتونات والالكترونات وغيرها من الجزيئات دون الذرية.
وفي سنة 1927م توصل هايزنبرج إلى نظرية (الشك) أو عدم التحديد لكي يبين لماذا لا تخضع الجزيئات دون الذرية لقوانين نيوتن. وينص هذا المبدأ على أنه من المحال تعيين موضع أي جزيء وسرعته في لحظة واحدة. فكلما حاولنا أن نشاهد إلكترونا نجد أننا نغير من حالته، وقد يتناول التغيير مكانه أو سرعته أو كليهما.
وعلى ذلك فإننا نستطيع ان نتكلم عن احتمال حدوث ظاهرة، ولكننا لا نستطيع أن نحددها تحيداً دقيقا، وعندئذ نقول إن الطبيعة تخضع لقوانين المصادفة الإحصائية. ونحن في العادة نتعامل مع أعداد كبيرة جداً من الأيونات أو الجزيئات في المعمل، أعداد تبلغ الملايين، فعندما نمزج المحاليل يسلك كل أيون من الأيونات الداخلة في التفاعل سلوكا
خاصاً، سلوك غير منتظم، لا نستطيع أن نتنبأ به، ومع ذلك فإننا نستطيع أن نقدر نتائج التفاعل الكلي تقديرا بالغ الدقة. وقد يكون هنالك مئات الآلاف من الأيونات التي لم تشترك في التفاعل ولكن مادامت الموازين التي نستخدم عاجزة عن تقدير هذا القدر الضئيل منها فإننا نعتبر أن التفاعل قد أكتمل وبلغ درجة التمام.
ويشير دينوي إلى ذلك فيقول: إن كل شيء يتوقف على معايير الملاحظة التي تستخدمها، وإن ما قد نعتبره تاماً أو كاملا باستخدام أحد المعايير قد لا يكون كذلك عندما نستخدم معياراً آخر، فإذا مزجنا جراماً من الكربون لأحد الميكروبات التي تزحف فوق هذا التل من الخليط، فإنه يبدو على صورة مجموعة من الكتل السوداء التي تجاورها كتل بيضاء. ويرجع ذلك إلى اختلاف مستوى الملاحظة في حالة الميكروب عنده في حالتنا.
أما لماذا تخضع الكيمياء للقوانين التي اكتشفناها، فيرجع إلى أنها علم إحصائي. وعلى ذلك فإن القوانين الطبيعية الكيماوية تقوم في أساسها على عدم الانتظام. أما ما نشاهده من انتظام الظواهر فيرجع إلى أننا نتعامل مع أعداد بالغة الكبر تخضع في مجموعها لقوانين الإحصاء وتعطي نتائج محددة. ومن أن النظام الذي نشاهده والتوافق الذي نلاحظه إنما يخرجان من الفوضى.
فما هي القوى الموجهة التي وراء هذه القوانين الإحصائية؟ عندما يطبق الإنسان قوانين المصادفة لمعرفة مدى احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في الطبيعة مثل تكون جزيء واحد من جزيئات البروتين من العناصر التي تدخل في تركيبه، فإننا نجد أن عمر الأرض الذي يقدر بثلاثة بلايين من السنين أو أكثر، لا يعتبر زمنا كافيا لحدوث هذه الظاهرة وتكون هذا الجزيء عن طرق المصادفة إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت
هناك قوة موجهة إلى غاية محددة وتعيننا على إدراك كيف يخرج النظام من الفوضى.
وقد لا تكون نظرية هايزنبرغ عن (عدم التحديد) قائمة الا بسبب عدم قدرتنا على ان نجد طريقة تناسب مستوى فهمنا لملاحظة الالكترون دون ان نؤثر على موضعه أو سرعته. وربما نستطيع في يوم من الايام بعد ان نعرف عن الطاقة اكثر مما نعرفه اليوم ان نشاهد الالكترون بدرجة من الثبات تقرب من الدرجة التي نشاهد بها المريخ مثلا. اما في الوقت الحاضر فان نظرية هايزنبرغ تساعدنا على دراسة الجزئيات دون الذرية بمثل ما كانت نظرية دالتون تساعد به الكيماويين في القرن التاسع عشر.
ولابد أن نسلم بأننا لا نعرف حتى الآن كل ما يمكن أن يعرف عن المادة والطاقة، فنحن لا نزال في بداية الطريق. وقد يكون ما سميناه عدم نظام أو فوضى على المستوى دون الذري مخالفاً لذلك كل المخالفة، فقد تكون أفكارنا خاطئة أو متأثرة بنقص معلوماتنا عن الظواهر المختلفة، أو تقيدنا بجانب غير سليم من الملاحظة.
إن الإنسان يشاهد التنظيم والإبداع حيثما ولى وجهة في نواحي هذا الكون. ويبدو أن هذا الكون يسير نحو هدف معين، كما يدل على ذلك النظام الذي نشاهده في الذرات، فهناك نظام معين تتبعه الذرات جميعها من الأيدروجين إلى اليورانيوم وما بعد اليورانيوم. وكلما أزداد علمنا بالقوانين التي تتحكم في توزيع البروتونات والإلكترونات لإنتاج العناصر المختلفة، أزداد إيماننا بما يسود عالم المادة من توافق ونظام، وقد يجيء اليوم الذي ينكشف لنا فيه كيف تتجمع الطاقة لكي تكون تلك الكتل من المادة. ولقد كان أينشتين أول من أظهر العلاقة الموجودة بين المادة والطاقة. ولا يزال الإنسان في بداية الطري لكشف أسرار الطاقة الذرية، وقد نستطيع في يوم من الأيام أن تحول الطاقة إلى مادة.
وتدل الشواهد على وحدة الكون من الوجهة الكيماوية. ولدينا من الطرق والوسائل ما يمكننا من اختبار كثير من العناصر الموجودة في الكواكب الأخرى، ومعرفة أنها هي نفس العناصر التي توجد على الأرض. وحتى النجوم البعيدة عنا ن فإنها تشتمل على عناصر مشابهة لعناصر الأرض. ويعتقد العلماء أن القوانيين الطبيعية التي تتحكم في هذا الكوكب هي عينا القوانين التي تخضع لها النجوم والكواكب الأخرى في أفلاكها النائية المترامية في الفضاء. فحيثما اتجهنا نجد الإبداع والنظام والتوافق، حتى هنالك ظل من شك عندي في أن إلها قادرا قد أبدع هذا الكون وبناه وحدد وجهته وغايته.
وكنت أرجوا أن يتسع الوقت والمكان لذكر كثير من الأمثلة الأخرى التي تدل على روعة الإبداع وجلال النظام، ولكنني أحب ان أوجه نظر القارىء إلى دورة الماء على الأرض ودورة ثاني أوكسيد الكربون ودورة النشادر ودورة الأكسجين التي تشهد كل منها بحكمة وتدبير وقوة لأحد لها.
وبرغم أن هنالك كثيراً من الأشياء في الطبيعة مما لم يصل الإنسان بعد إلى معرفة كنهه أو تفسيره، ومما لا يزال يكتنفه الغموض، فإننا لا نريد أن نقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الأقدمون عندما اتخذوا آلهة لكي يجدوا تفسيراً لما غمض عليهم، وحددوا لكل إله قدرته وعينوا له وظيفته ودائرة تخصصه. وعندما تقدمت العلوم وأمكن فهم كثير من الظواهر الغامضة ومعرفة القوانين التي تخضع لها، لم يعد هؤلاء الناس في حاجة إلى الآلهة التي نتلمس قدرة الله في النظام الذي خلقه والقوانين التي تحكمها ولكن الإنسان عاجز عن أن يسن تلك القوانين، فهي من صنع الله وحده. ولا يفعل الإنسان
أكثر من أنه يكتشفها ثم يستخدمها في محاولة إدراك أسرار هذا الكون. وكل قانون يكتشفه الإنسان يزيد قربا من الله، وقدرة على إدراكه، فتلك هي الآيات التي يتجلى بها الله علينا، وقد لا تكون هذه هي طريقته الوحيدة في هذا التجلي، فهو يتجلى أيضا في كتبها المقدسة مثلا، ومع ذلك فإن طرقة تجليه تعالى في آياته التي نشاهدها في هذا الكون تعتبر بالغة الأهمية بالنسبة لنا.