الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوافق بين العلوم
كتبه: واين أولت
مختص في الكيمياء الجيولوجية
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا – زميل بحوث بالمعمل الكيماوي الجيولوجي بنيويورك – عضو الجمعية الجيولوجية الأمريكية.
لا يستطيع كثير من الناس ان يعتقدوا بوجود الله دون ان يؤثر ذلك في مجرى حياتهم، فالاعتقاد في وجود الله يؤثر في علاقتهم بزملائهم ويغير من نظرتهم نحو الحياة، ومن أفكارهم عن الأغراض والدوافع التي وراء هذا العالم المادي.
وقيام العقيدة بوجود الله على أساس علمي يقتضي ان يكون الإنسان قد وصل إلى فكرة وجود الله على أساس الطريقة العلمية التي تعتمد على الملاحظة وفرض الفروض واختبارها حتى يصل الانسان إلى النتيجة التي يطمئن اليها. ولكنه لا يقوم على هذه الطريقة قياما مباشرا، لان الله كما نعرفه ليس مادة أو طاقة، كما انه ليس محدودا حتى نستطيع ان نخضعه لحكم التجربة والعقل المحدود. بل على نقيض ذلك نجد التصديق بوجود الله يقوم على أساس الإيمان، ولو أنه ايمان يستمد تأييدا علميا من الدلائل غير المباشرة التي تشير إلى وجود (سبب أول) ، والى (دافع مستمر منذ القدم) .
وليس الايمان بالشيء الغريب عن الانسان في اي ميدان من ميادين المعرفة البشرية. ولابد من ممارسة الايمان وبخاصة بالنسبة للمشتغلين بالعلوم الطبيعية، فالحياة لا تتسع، والظروف لا تسمح لكي يقوم الانسان بنفسه باجراء كل تجربة لنفسه. ان الإنسان يقوم
عادة بإجراء عدد محدود من التجارب البسيطة التي تكفي لكي تهيئ له قدرا مناسبا من الفهم والاحاطة بالظواهر الأساسية على ان يسلم تسليما بما قام به رجال العلوم الذين سبقوه من أعمال وما وصلوا اليه من نتائج، ومعنى ذلك انا نكتسب معلوماتنا من التاريخ المكتوب للتجارب السابقة، فمن ذلك مثلا ان عدد من قاموا بتحديد سرعة الضوء يعد قليلا جدا، ومع ذلك فان كل الناس يسلمون بسرعته المعروفة، ولا يساورهم شك في أمرها، وبمثل ذلك يسلم العلماء بصحة بعض الفروض المقبولة والتي ليس هنالك سبيل إلى إدراكها إدراكا حسيا، فليس هنالك من يستطيع ان يدعي انه رأى البروتون أو الإلكترون، ولكن الناس يلمسون آثارها. وكذلك الحال فيما يتصل بتركيب الذرة، وبالصورة التي رسمها لها بور Bohr، وهي صورة مبسطة تعيننا على ادراك سلوك الذرى وخواصها، وكذلك الحال فيما يتعلق بتركيب الأجرام السماوية البعيدة وما يفصلها من مسافات شاسعة مما لا نستطيع ان نخضعه لتجاربنا، أو نقيم الأدلة المباشرة على صحة نظرياتنا وفروضنا حوله. فمن الواضح اذن ان كثيرا من المعلومات التي يحتاج اليها الانسان في حياته ويسلم بصحتها، لابد ان يتقبلها ويؤمن بها إيمانا يقوم على التسليم بصحتها، وليس معنى ذلك انه ايمان اعمى، فهو ايمان يسمح بأن يوضع على محك الاختبار في شتى مواضعه فيزداد بذلك قوة وتدعيما.
ويستطيع الانسان ان يمارس مثل هذا الايمان فيما يتصل بفكرة وجود الله، فقد أنزل الله على بعض رسله في العصور السابقة كتبا مسجلة تنطق بالبينات وتؤكد فكرة وجود تعالى، وتوضح علاقة الانسان به. وتصف هذه الكتب حالات الانسان وحاجاته، وتوضح له الطريق الذي يمكن ان يسلكه لكي يطهر نفسه ويزكيها. وقد جاءت هذه الكتب في ظروف معروفة من الزمان والمكان بحيث يمكن التحقق منها تحققا تاريخياً وجغرافياً.
وهذه الكتب فريدة في نوعها في كثير من الوجوه، وهي تسمح للانسان بتدبيرها
وتمحصيها حتى يثق بصحة ما جاءت به في كثير من المواطن (1) . وقد تحقق كثير من نبوءتها بكل دقة بعد قرون عديدة، ولم يثبت خطؤها في اي أمر تاريخي أو جغرافي. حقيقة ان هنالك بعض المواطن التي لم يحط بها علمنا بعد، جعلت تلك الكتب تتعرض لبعض النقد الهدام، ولكنه نقد يتناسب مع عظم رسالتها وخطورتها. ولو أننا حللنا ذلك النقد، لا تضح لنا ان معظمه يرجع إلى نقص في معلوماتنا أو عجزنا عن الإحاطة ببعض الأمور والأسرار الكونية.
وكما ان الايمان بمعناه الواسع، يعتبر امرا ضروريا وجزءا طبيعيا بالنسبة لوجود الإنسان، فان الايمان بالله يعد كذلك لازما لاكتمال وجود الانسان وتمام فلسفته في الحياة، وبرغم ان بعض ميادين الخبرة الانسانية غير مادي، فانها ميادين حقيقية لا شك في امرها، ويترتب عليها نتائج هامة في حياة الانسان، وقد لمس مئات الآلاف من الرجال الأذكياء ذوي الشخصيات السليمة المتزنة نتائج الاتصال بالله والاخلاص في عبادته، لمسوا هذه النتائج في أنفسهم. وكان ايمانهم بالله سببا في قضاء حاجاتهم النفسية والانفعالية والروحية بطرق لا تستطيع ان تحيط بكنهها عقولهم، بل عقول البشر جميعا.
ويسلم كثير من الناس تسليما منطقيا بوجود الغاية أو الحكمة من وراء الظواهر الطبيعية. ولا شكل ان اعتقا وجود اله خالق لكل الاشياء يعطينا تفسيرا بسيطا سليما واضحا عن النشأة والابداع والغرض أو الحكمة، ويساعدنا على تفسير جميع ما يحدث من الظواهر، اما النظريات التي ترمي إلى تفسير الكون تفسيرا آليا فانها تعجز عن تفسير كيف بدأ الكون، ثم ترجع ما حدث من الظواهر التالية للنشأة الاولى إلى محض المصادفة،
(1) - ومن أروع ما جاء في القرآن في هذه الصدد قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) سورة النساء، آية:80.
فالمصادفة هنا فكرة يستعاض بها عن فكرة وجود الله بقصد إكمال الصورة والبعد بها عن التشويه. ولكن حتى بغض النظر عن الاعتبارات الدينية عامة، نجد ان فكرة وجود الله أقرب إلى العقل والمنطق من فكرة المصادفة ولا شك، بل ان ذلك النظام البديع الذي يسود هذا الكون يدل دلالة حتمية على وجود اله منظم وليس على وجود مصادفة عمياء تخبط خبط عشواء.
ولقد رفض كثير من المشتغلين بالعلوم فكرة ما وراء الطبيعة أو ما فوقها، ومع ذلك فان كثيرا ممن رفضوا هذه الفكرة يتحدثون في الوقت ذاته عن الظواهر الطبيعية التي لا يعلمون عن كنهها شيئا. ون مجرد تسمية هذه الظواهر طبيعية يدل على انها ظواهر متكررة، ولكن ذلك لا يعتبر شرحا لهذه الظواهر، وعلى ذلك فان تسليم الانسان في وقت من الأوقات بحدوث بعض الظواهر سواء اكانت طبيعية ام من وراء الطبيعية يعتبر نوعا من التسليم أو الايمان بها. وقد نستطيع في ضوء خبرتنا العلمية ان نتقدم بالسؤال التالي: هل تم اختراع جهاز الرادار نتيجة للمصادفة ام عن طريق التصميم والاختراع؟ ثم هل تم تكوين جهاز الرادار الموجود بجسم الوطواط والذي لا يحتاج من الحيوان إلى انتباه ولا يتطلب منه اصلاحا، والذي يستطيع ان يورثه لذريته عبر الأجيال – نقول هذا تم كل ذلك – عن طريق المصادفة ام عن طريق التصميم والابداع؟ ان الخبرة العلمية للانسان تقوم على التصميم وعلى ادراك الأسباب، وعلى ذلك فان المشتغل بالعلوم هو أول من يجب عليه التسليم منطقيا بوجود عقل مبدع لا حدود لعلمه أو قدرته – موجود في كل مكان، يحيط مخلوقاته برعايته، سواء في ذلك الكون المتسع أو كل ذرة أو جزيئة من جزيئات هذا الكون اللانهائية في تفاصيلها الدقيقة.
هنالك ظواهر اخرى عديدة غير التي أشرنا اليها، مما لا يمكن تفسيره أو ادراك معناه
الا اذا سلمنا بوجود الله، ومن ذلك مثلا هذا الفراغ اللانهائي، وما يسبح فيه من النجوم والكواكب التي لا يحصيها عد ولا حصر، ومن ذلك قابلية المادة للانقسام إلى جزيئات اساسية بالغة الصغر مهما كانت طبيعتها، ومن ذلك التشابه الذي نشاهده بين جميع الكائنات الحية التي نعرفها، مع اتصاف كل فرد، بل كل بنان، بل كل ورقة من أوراق الأشجار، وقطرة من قطرات الماء، بصفات خاصة تميزها عن غيرها. وهنالك ايضا تلك الهوة العميقة التي تفضل بين الانسان وسائر الكائنات الأرضية الاخرى، وتجعله ممتازا عليها بعقله ومهارته اليدوية.
لقد ذكرنا ان اعتقاد وجود الله لابد ان يقوم على الايمان، وبينا ان هذا الايمان ليس غريبا على الانسان، وان هنالك انواعا مختلفة من الايمان، ونود ان نؤكد هنا ان الايمان الذي نقصده هو الايمان البصير وليس الأعمى، اي الايمان الذي يقوم على العقل والتدبر. وقد آمن كثير من الناس بالله، فذاقوا حلاوة الايمان في أنفسهم وفي قلوبهم، بل في العالم المادي الذي تهتم العلوم بدراسته.
ان التطلع نحو المعرفة والتساؤل عن كيفية حدوث الاشياء ومسبباتها، يعتبران من الصفات الهامة التي تتصف بها العقول البشرية الموهوبة، فاذا آمن المشتغل بخالق هذا الكون فان دراسته العلمية مهما كان اتجاهها سوف تزيده ايمانا بالله.