المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الزهر وطيور بالتيمور - الله يتجلى في عصر العلم

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌الزهر وطيور بالتيمور

‌الزهر وطيور بالتيمور

كتبه: سيسل هامان

عالم بيولوجي

حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بوردو- أستاذ في جامعة كنتاكي وجامعة سانت لويز سابقا – أستاذ في كلية آسبوري – اخصائي في تقسيم الطفيليات الحيوانية..

أينما اتجهت ببصري في دنيا العلوم، رأيت الادلة على التصميم والابداع، على القانون والنظام، على وجود الخالق الأعلى

سر في طريق مشمس وتأمل بدائع تركيب الأزهار، واستمع إلى تغريد الطيور، وانظر إلى عجائب الاعشاش، فهل كان محض مصادفة ان تنتج الازهار ذلك الرحيق الحلو الذي يجتذب الحشرات فتلقح الازهار وتؤدي إلى زيادة المحصول في العام التالي؟ وهل هو محض مصادفة ان تهبط حبوب اللقاح الرقيقة على مبسم الزهرة فتنبت وتسير في القلم حتى تصل إلى المبيض فيتم التلقيح وتتكون البذور؟ فليس من المنطق ان نعتقد بان يد الله التي لا نراها هي التي رتبت ونظمت هذه الاشياء تبعا لقوانين ما زلنا في بداية الطريق نحو معرفتها والكشف عنها؟ وهل من الممكن ان يغرد الطير، لا لأن له أليفا فحسب، بل لان الله يجب تغريده ويعلم اننا نطرب بتغريده.

وكما ان هنالك ما لا يحصى من أغاريد الثناء التي تشدوها الطيور كل يوم، والتي لا تصل إلى آذاننا القاصرة الفانية، فان هنالك ما لا يحصى من نعم الله وأفضاله يسبغها على عباده، وهي تنتظر من الانسان ان يفتح عينيه لكي يراها.

ص: 145

وماذا عن عش طائر بالتيمور؟ من الذي علم هذا الطير ذلك الفن الرفيع؟ ولماذا تتشابه جميع الاعشاش التي تبنيها الطيور من هذا النوع؟ اذا قلت الغريزة، فان ذلك قد يعد مخرجا من السؤال ولكنه اجابة قاصرة. فما هي الغرائز؟ يقول البعض: انها السلوك الذي لا يتعلمه الحيوان. اليس من المنطق ان نرى قدرة الله تتجلى في هذه الكائنات التي خلقها فسواها تبعا لقوانين خاصة لا نكاد ندري عن كنهها شيئا؟

نعم انني اعتقد بوجود الله؟ وأعتقد انه هو القدير الذي خلق الكون وحفظه، وليس ذلك فحسب، بل هو الذي يرعى درة خلقة وهو الانسان.

ولا يرجع هذا الاعتقاد الراسخ الذي يمتلئ به قلبي إلى تأثير الثقافة الامريكية الدينية عليّ فحسب، ولكنه يرجع ايضا إلى مشاهداتي العلمية لعجائب الكون، كما يرجع إلى شعوري به وإحساسي بوجوده داخل نفسي.

وحيثما قلب الانسان وجهه وجد أسئلة لا يجد لها جوابا، وهو عند محاولته العثور على الجواب يفترض فروضا عديدة، ثم لا يلبث ان يهجر معظمها أو يعدله تعديلا شاملاً قبل ان يصل إلى الاجابة عن سؤاله. وما أكثر ما وصل اليه الانسان من اجابات عن أسئلة، وما أكثر ما سوف يصل اليه من هذه الاجابات كلما انقضت من سنة من السنين، ولكن زيادة المعرفة لم تصل بالانسان – بكل أسف – إلى زيادة معرفته بالله، بل على نقيض ذلك يظهر انه كلما أحس الانسان انه أحاط بسر من أسرار هذا الكون اضعف ذلك من شعوره بالحاجة إلى فكرة وجود الله، وكان الأجدر بالبشر ان يدركوا ان هذه المستكشفات ليست الا أدلة ناطقة على وجود إله مدبر أعلى وراء هذا الكون.

عندما نذهب إلى المعمل ونفحص قطرة من ماء المستنقع تحت المجهر لكي نشاهد سكانها، فاننا نرى احدى عجائب هذا الكون: فتلك الأميبا تتحرك في بطء وتتجه نحو كائن صغير فتحوطه بجسمها، فاذا به داخلها، واذا به يتم هضمه وتمثيله داخل جسمها

ص: 146

الرقيق، بل اننا نستطيع ان نرى فضلاته تخرج من جسم الأميبا قبل ان نرفع اعيننا من المهجر، فاذا ما لاحظنا هذا الحيوان فترة اطول، فاننا نشاهد كيف ينشطر جسمه شطرين، ثم ينمو كل من هذين الشطرين ليكون حيوانا جديدا كاملا. تلك خلية واحدة تقوم بجميع وظائف الحياة التي تحتاج الكائنات الكبيرة الاخرى في أدائها إلى آلاف الخلايا أو ملايينها. لاشك ان صناعة هذا الحيوان العجيب الذي بلغ من الصغر حد النهاية تحتاج إلى أكثر من المصادفة.

ولقد كشفت قوانين الكيمياء الحيوية من أسرار الحياة وظواهرها ما لم تكشفه القوانين في أي ميدان آخر من ميادين الدراسات العلمية. لقد كان الناس ينظرون إلى خفايا عمليات الهضم والامتصاص، ويستدلون بها على وجود التدبير المقدس. أما في الوقت الحاضر فقد أمكن شرح هذه العمليات ومعرفة التفاعلات الكيماوية التي تنطوي عليها والخميرة التي تقوم بكل تفاعل. ولكن هل يدل ذلك على انه لم يعد لله مكان في كونه؟ فمن اذن الذي دبر لهذه التفاعلات ان تسير؟ وان تسيطر عليها الأنزيمات تلك السيطرة الدقيقة المحكمة؟ ان نظرة واحدة إلى احدى الخرائط التي تبين التفاعلات الدائرية العديدة وما يدور بين كل منها والآخر من تفاعلات اخرى، كفيلة بان تقنع الانسان بان مثل هذه العلاقات لا يمكن ان تتم بمحض المصادفة، ولعل هذا الميدان يهيئ للانسان من العلم ما لا يهيئه اي ميدان آخر بان الله يسير هذا الكون تبعا لسنن رسمها ودبرها عندما خلق الحياة.

فاذا رفعنا أعيننا نحو السماء، فلا بد ان يستولي علينا العجب من كثرة ما نشاهده فيها من النجوم والكواكب السابحة فيها، والتي تتبع نظاما دقيقا لا تحيد عنه قيد أنملة مهما مرت بها الليالي وتعاقبت عليها الفصول والأعوام والقرون. انها تدور في أفلاكها بنظام يمكننا من التنبؤ بما يحدث من الكسوف والخسوف قبل وقوعه بقرون عديدة. فهل يظن احد بعد ذلك ان هذه الكواكب والنجوم قد لا تكون اكثر من تجمعات

ص: 147

عشوائية من المادة تتخبط على غير هدى في الفضاء؟ واذا لم يكن لها نظام ثابت ولم تكن تتبع قوانين معينة فهل كان من الممكن ان يثق الانسان بها ويهتدي بهديها في خضم البحار السبعة، وفي متاهات الطرق الجوية التي تتبعها الطائرات؟ قد لا يسلم بعض الناس بوجود الله سبحانه وبقدرته، ومع ذلك فانهم يسلمون بان هذه الأجرام السماوية تخضع لقوانين خاصة وتتبع نظاما معينا، وأنها ليست حرة تتخبط في السماء كيف تشاء.

الحق انه من قطرة الماء التي رأينا تحت المجهر إلى تلك النجوم التي شاهدناها خلال المنظار المكبر، لا يسع الانسان الا ان يمجد ذلك النظام الرائع وتلك الدقة البالغة والقوانين التي تعبر عن تماثل السلوك وتجانسه. ولولا ثقة الانسان في ان هنالك قوانين يمكن كشفها وتحديدها، لما أضاع الناس أعمارهم بحثا عنها. فبدون هذا الاعتقاد وتلك الثقة في نظام الكون يصير البحث عبثا ليس وراءه طائل. ولو انه كلما أجريت تجربة أعطيت نتيجة مخالفة لسابقتها بسبب توقفها على المصادفة أو عدم وجود قوانين مسيطرة، فاي تقدم كان من الممكن ان يحققه الانسان؟ لابد ان يكون وراء كل ذلك النظام خالق أعلى، فليس مما يقبله العقل ان يكون هنالك نظام أو قوانين دون ان يكون وراءها عقل أعلى ومنظم مبدع. وكلما وصل الانسان إلى قانون جديد فان هذا القانون ينادي قائلا:(ان الله هو خالق وليس الانسان الا مستكشفاً) .

ان وجود الله في حياتي اليومية حقيقة لا مراء فيها، حقيقة أقوى من الحقائق العلمية التي لا يتسرب اليها الشك، ومع ذلك فاننا بينما نستطيع ان نصف النجوم ونخطط مداراتها في السماء، أو نثبت الأميبا على شريحة من الزجاج ثم نصورها، نجد اننا لا نستطيع ان نحصل على مثل هذا الدليل المادي حول وجود الله. فالانسان لا يستطيع ان يدركه أو يعرفه حتى يتجه اليه اتجاها شخصيا، وتكون له خبرة به. فاذا رفض شخص ان ينظر خلال المجهر أو يتطلع إلى صورة الأميبا فانه يستطيع ان يجادل حول عدم وجودها فيطيل الجدال،

ص: 148

ولكنه ما ان يراها أو يرى صورتها حتى تنهار حجته، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الله: قد يستطيع الانسان ان يجادل طويلا في الله، وما ان يلمحه الجاحد حتى تنهار حجته، ويسلم بوجوده تسليما. ولكن لا بد ان تكون الخبرة شخصية، فاذا رفض الانسان ان يرفع رأسه ويبحث عنه فان جداله قد يطول دون طائل، فالله لا يشرق الا في قلوب الباحثين عنه. نعم، انني أؤمن بالله رب هذا الكون وربي، كما أنني أراه في نفسي وفي كل ما هو حولي.

ص: 149