الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجود الله حقيقة مطلقة
كتبه: أندرو كونواي ايغي
عالم فسيولوجي
من العلماء الطبيعيين ذوي الشهرة العالمية – من سنة 1925 إلى سنة 1946م رئيس قسم الدراسات الفسيولوجية والصيدلية بجامعة نورث وسترن – ومن سنة 1946 إلى سنة 1953م أستاذ في كلية الطب ووكيل الكلية في جامعة ألينوي – وفي الوقت الحاضر أستاذ الفسيولوجيا ورئيس قسم العلوم الإكلينيكية بكلية الطب بجامعة شيكاغو.
هل هناك إله؟ نعم أنني أؤمن بوجوده كما أؤمن بوجود شيء ألمسه، وكما أؤمن بوجود نفسي.
ان الاعتقاد بوجود الله هو الوسيلة الفكرية الكاملة الوحيدة التي تجعل لهذا الوجود معنى، وهذا الاعتقاد هو الذي يجعل لوجود الانسان معنى اكثر من انه مجرد كتلة من المادة أو الطاقة. والاعتقاد بوجود الله هو المنبع لأسمى فكرة انسانية حول المحبة، والقاعدة التي تقوم عليها الأخوة بين البشر بسبب اجتماعهم على محبة الله وطاعته، وهو مصدر احساسنا بالحقوق والواجبات، لاننا لا نتساوى الا في نظر الحب والعدالة والرحمة المطلقة. والاعتقاد بوجود الله هو الحصن الذي يعصمنا من الشرور، وهو بعد ذلك الاساس المتين الذي يقوم عليه الايمان، وتدوم بسببه القيم الروحية التي يعتبر وجودها رهينا بوجوده تعالى.
المنطق يثبت وجود الله
من الممكن ان نستخدم المنطق لاثبات وجود الله، وذلك باستخدام أسس التفكير
المشتقة من تفاعل خبرتنا الحسية المعتادة مع عقولنا، وأول من استخدم هذه الطريقة هو القديس توماس الأكويني. وتمثل المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا النوع من الاستدلال بمشاهدات الآباء الفعلية في أثناء تطور عقول أبنائهم العاديين كما سنبين فيما بعد. وقد آمن باستخدام هذه الطريقة ملايين من البشر الذين يفكرون تفكيرا واقعياً عميقاً، ومنهم من أدى للعلوم وللبشرية أجل الخدمات.
إنكار وجود الله لا يستند إلى دليل منطقي
ان احدا لا يستطيع ان يثبت خطأ الفكرة التي تقول (ان الله موجود)، كما ان أحدا لا يستطيع ان يثبت صحة الفكرة التي تقول:(ان الله غير موجود) . وقد ينكر منكر وجود الله، ولكنه لا يستطيع ان يؤيد انكاره بدليل. وأحيانا يشك الانسان في وجود شيء من الأشياء، ولابد في هذه الحالة ان يستند شكه إلى اساس فكري. ولكنني لم أقرأ ولم أسمع في حياتي دليلا عقليا واحداً على عدم وجوده تعالى. وقد قرأت وسمعت في الوقت ذاته أدله كثيرة على وجوده، كما لمست بنفسي بعض ما يتركه الايمان من حلاوة في نفوس المؤمنين، وما يخلفه الالحاد من مرارة في نفوس الملحدين.
والبرهان الذي يتطلبه الملحدون لاثبات وجود الله هو نفس البرهان الذي يطلب كما لو كان الله تعالى شبيها بالانسان أو شيئا ماديا، أو حتى تمثالا من التماثيل أو صنما من الأصنام. ولو كان لله مثل هذا الوجود المادي لما وجد هنالك مجال للشك في وجوده، ولكن الله أراد ضمن ما أراد ان يختبر عقولنا حول الايمان به، فترك لنا حرية الاختيار لكي يؤمن به من يؤمن وينكره من ينكر، فالانسان يستطيع اذا شاء – بخداع نفسه – ان ينكر وجود الله، وعليه ان يتحمل النتائج. ومعظم الملحدين والمارقين من الأديان ينظرون إلى الله كما لو كان بشرا يمكن التعالم مع تعامل الأنداد فيقولون مثلا: سوف
أعتقد بوجود الله اذا شفاني من مرضي، أو اذا أنزل المطر، واذا قضى حاجتي، أو اذا أوقف الفيضان، أو اذا محا الشر والظلم من الكون.. الخ. وقد يقول بعضهم اذا كان هنالك اله عادل ما أصابني وجع في أسناني.. ومعنى ذلك بعبارة أخرى انني أؤمن بالله اذا بنى الكون أو عدله تبعا لخطتي الخاصة التي تقوم على الأنانية وتبعا لصالحي الشخصي.
ولا مناص من الوصول إلى الله، ولكي يفكر الانسان فيه تفكيرا مستقيما لا عوج فيه ولا نفور، عليه ان يحرر عقله من الأنانية ومن الأحقاد ومن كل ما يعوق التفكير الصافي السليم حتى يتسنى له أن يصل إلى الله ويحبه، وبذلك يسهم في محاربة الشرور والظلم الذي يتحدث عنه من يشكون في أمره ووجوده تعالى، فلقد اقتضت حكمة الله ان يستخدم الانسان عقله وارادته وحريته في اتخاذ القرارات اللازمة لمحاربة هذه الشرور حتى يصير حكم الله في الأرض مثل حكمه في السماء.
لابد ان يقوم الإيمان
والأمل والمحبة على أساس العقل
ان اعتقادي بوجود الله الذي خلق كل شيء، والذي يوجد داخل الكون وخارجه، والذي يرعاني ويرعاك، يقوم أولا على استخدام العقل، ثم يقوم بعد ذلك على الايمان والأمل والمحبة، فأنا لا استطيع ان أمتلك الإيمان والأمل والمحبة الا اذا كانت كلها قائمة على أساس العقل. ولا يجوز للإنسان ان يتخلى عن عقله، بل لا بد من استخدامه استخداما دقيقا قويا. والايمان الذي لا يسبقه العقل يعتبر إيمانا ضعيفا هزيلا، ويكون عرضه للهجمات الفتاكة والهزيمة الساحقة. والايمان الديني الذي لا يقوم على العقل لا يؤدي إلى الأخلاق السيئة والسلوك الشائن، ولذلك ينبغي الا يتخلى الإنسان عن عقله أبدا، ولا عن المبادئ الفكرية التي تقوم عليها الأعمال والأفكار التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، والتي يقوم عليها جميع ما أحرزه علماؤنا من انتصارات في الميادين العلمية.
والاعتقاد بوجود الله يوم على نفس المبادئ الفكرية التي يقوم عليها الإيمان بمستقبل التقدم المادي، وهي نفس الأسباب التي تجعلني وتجعلك تعتقد بأن الشمس سوف تشرق صباح الغد، أو أنني سأعيش غدا وأذهب إلى عملي وأستمتع به. فاذا كان التفكير هو وسيلة التقدم المادي، فلماذا لا يكون كذلك وسيلة للتقدم الروحي والأخلاقي؟ ولابد ان يكون لدى كل منا الشجاعة الأدبية التي تجعله قادرا على توضيح الأسباب التي تجعله يؤمن بدين من الأديان وان يثبت مدى ايمانه بصحة هذا الدين وإخلاصه له بما يؤديه من الأعمال الصالحة.
فاذا لم تكن قادرا على اثبات وجود الله بطريق ناجحة فقد تسلم بوجوده على أساس الايمان والقبول، أو تقول انه أمر واضح لا يحتاج إلى دليل، وتفعل كما فعل توماس جيفرسن عندما كتب وثيقة الاستقلال الأمريكي بالصورة التالية:(اننا نعتقد ان هذه الحقائق واضحة لا ريب فيها، فالناس متساوون وقد وهبهم خالقهم بعض الحقوق الثابتة، ومن هذه الحقوق حق الحياة والحرية وتحقيق السعادة. وانه لصيانة هذه الحقوق تقوم الحكومات وتستمد قوتها العادلة من الشعب الذي تحكمه) .
ذلك هو الأساس العميق للايمان الديني والأخلاقي والسياسي الذي يقوم عليه دستور الولايات المتحدة وحكومتها. ولقد كانت الولايات المتحدة اولى الدول التي يقوم نظامها على مثل هذا الأساس، ولقد توافر لدى جيفرسن وغيره من حكام الولايات المتحدة من الأسباب الخفية ما دعاهم إلى الأخذ بهذا الاتجاه.
ومع ذلك فانه حتى عندما يقول الناس انهم يعتقدون بوجود الله على اساس التسليم، فاننا نجد ان هذا التسليم لابد ان يكون قائما على أساس معلومات سابقة، أو خبرة سابقة، أو تفكير سابق. فالتسليم بأي شيء لا يمكن ان يقوم إلا على اساس من المعرفة والتفكير. فاذا قلنا: ان وجود الله أمر واضح أو بدهي، فان ذلك قد يعني اننا لا نستطيع ان نتناول
الموضوع بطريقة علمية أو شكية بسبب نقص في تعليمنا، أو لاننا لم يسبق لنا تنظيم تفكيرنا حول الموضوع، أو بسبب عدم الاستعداد للمناقشة، أو غير ذلك من الأسباب الاخرى. انني لم أعثر في حياتي كلها على شخص واحد لا يستطيع عند مناقشة هذا الموضوع ان يبين لماذا يعتقد أو لماذا ينبغي ان يعتقد بوجود الله. وتشير معظم الاسباب إلى انه لابد ان يكون لهذا الكون من خالق، ولتلك القوانين التي يسير عليها الوجود من صائغ، وانه لا يمكن ان تكون هنالك آلة دون صانع.. تلك حقيقة أساسية يدركها كل انسان طبيعي سواء أكان كبيراً أو صغيراً.
نشأة المبادئ الاولى في عقل الطفل
عندما كان عمري ثلاث سنوات – كسائر الأطفال بين الثالثة والخامسة -، سألت أبي وأمي: من الذي صنعني؟ ومن الذي صنع الطيور؟ ومن الذي صنع بقرتنا؟ ومن الذي صنع الدنيا؟
لقد تفاعلت حقائق الحياة أو خبرتي الحسية مع عقلي حين تكوينه بحيث جعلتني أصل إلى انه لا يمكن ان تكون هنالك آلة دون صانع. ثم تحرك ذكائي وعقلي إلى ما وراء الحقائق المباشرة، إلى ما وراء ذاتي والطير والبقرة، ووصل إلى انه لا يمكن ان اكون (أنا) او يكون الطير، أو تكون البقرة، دون ان يكون هنالك سبب لوجودها أو صانع لها.
لقد توصل عقلي البسيط البريء غير المتحيز أو المختلط، غير المكبوت أو المضطرب إلى مبدأ يعتبر من أرسخ المبادئ الفلسفية والعلمية التي توصل اليها العقل البشري حول الوجود والفكر.
لقد تفاعل عقلي مع خبرتي الحسية تفاعلا يكفي لانتاج قدر من التفكير يعين على الاحساس بالوجود، فانا أدرك ان هذا انا أو تلك ذاتي، كما أنني وصلت في نفس الوقت إلى
مبدأ عدم الوجود، فانا لست طائرا او بقرة او الدنيا، وبعبارة اخرى توصل عقلي إلى مبدأ الوجود وعدمه ومبدأ الجزيء والكل اكبر من الجزء.
وما ان يتكون لدى الطفل هذا الاحساس بالوجود وعدمه حتى يكون قد ألم بالمبدأ الأول من مبادئ الفكر وهو: (اننا لا نستطيع ان نثبت وجود شيء وننكره في نفس الوقت) . فالطفل الصغير يقول أنا توم وهذه أختي ماري. وق وصل الطفل إلى درجة من التفكير تمنعه من ان يخلط بين نفسه وبين أخته فيقول أنا ماري وأختي توم الا على سبيل الفكاهة. ثم يعرف الطفل بعد قليل انه من الخطأ أن نقول ان المربع مستدير، فهو يدرك ان المربع لديه من الاسباب ما يكفي لجعله مربعا، وهذه الأسباب تجعله مربعا وتجعل ذلك أمرا واضحا بالنسبة له.
هذه المعلومات من جانب الطفل وسؤاله من الذي صنعني؟ ومن الذي صنع الدنيا؟ يوضح لنا ان الطفل قد اكتشف مبدأ السببية او قانون السببية الذي ينص على أنه: (لا تأثير بغير مؤثر) ، ومعناه انه لابد لكل آلة من صانع ولكل تغيير من محدث. ثم يسير التفكير في سلسلة من المسببات تبدأ بوجودي ووجود الدنيا وتنتهي إلى وجود الله بوصفه السبب الأول، او تبدأ من وجود الحركة وتنتهي إلى المحرك الأول. ويمكننا ان نعبر عن ذلك كله بطريقة اخرى وهي انه اذا كان هنالك تصميم فلابد ان يكون من ورائه مصمم، ولابد ان تكون لذلك المصمم الكوني صفات لا نهائية، ذلك الخالق البارع هو الله. ويبلغ قانون السببية درجة من الشدة تجعل الطفل ما بين الثالثة والخامسة يتحقق من انه لابد ان يكون هنالك اله.
ولقد كرست حياتي بحكم اشتغالي بالعلوم للبحث عن الأسباب التي تقع وراء الحقائق الواضحة المعروفة. ان عقلي بحكم اهتمامه بالخبرات الحسية وما يترتب عليها يصر على ان ينظر إلى ما وراء الحقائق المباشرة عن الحياة التي تكشف حقائق جديدة لها قيمتها حول النواحي
المادية والروحية للوجود. وقد دفعني هذا البحث إلى القراءة والدراسة في ميدان العلوم الطبيعية او (العالم كما هو قائم فعلا) ، وفي ميدان الأخلاق والدين أو (العالم كما ينبغي ان يكون) ، وقد وجدت ان كثيرا من الكتاب الممتازين، ومن أولئك الذين يسمون الفلاسفة، ومن غيرهم من صفوة المفكرين، اما أنهم وقعوا في أخطاء جسمية واضحة تثير الغبار، واما أنهم أقاموا أمام أنفسهم حاجزا يحول بينهم وبين النظر إلى ما وراء الحقائق مباشرة، واما أنهم تجاهلوا الحقائق المباشرة الواضحة، ورجل العلوم الذي يفعل ذلك يضع حائلا بين نفسه وبين التقدم، فبمعرفة الحقائق الواضحة، وبالنظر إلى ما وراءها في معمل القيم المادية والروحية والقانون والنظام، وبالبحث عن أسباب القوانين الطبيعية بحثا تحدوه الثقة والأمل، نقول بكل ذلك يتحقق التقدم.
مبدأ السببية
منذ سنوات عديدة كنت أجلس إلى مائدة الطعام مع جماعة من رجال الأعمال وكان معنا أحد مشهوري رجال العلوم. وفي أثناء الحديث الذي دار بيننا قال أحد رجال الأعمال: (سمعت ان معظم المشتغلين بالعلوم ملحدون. فهل هذا صحيح) ؟
ثم نظر رجل الأعمال إلى فأجبته قائلا: (انني لا أعتقد ان هذا القول صحيح. بل انني – على نقيض ذلك – وجدت في قراءاتي ومناقشاتي ان معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم أو أساءوا فهمهم)، ثم استطردت قائلا: (ان الالحاد، أو الإلحاد المادي، يتعارض مع الطريقة التي يتبعها رجل العلوم في تفكيره وعمله وحياته. فهو يتبع المبدأ الذي يقول بانه لا يمكن ان توجد آلة دون صانع. وهو يستخدم العقل على أساس الحقائق المعروفة، ويدخل إلى معمله يحدوه الأمل ويمتلئ قلبه بالإيمان، ومعظم رجال العلوم يقومون بأعمالهم حبا في المعرفة وفي الناس
وفي الله. حقيقة ان رجل العلوم يستخدم فكرة الآلية بوصفها احدى وسائله أو أدواته. فهو يتكلم مثلا عن آلية الجسم، ولكنه يجري بحوثه على أساس مبدأ السببية، مبدأ السبب والنتيجة، على أساس وحدة الكون وما يسوده من القانون والنظام. وهو كأي انسان آخر يتخذ كل قرار ويفكر في كل أمر على أساس الإيمان بمبدأ السببية) .
(ففي علم وظائف الأعضاء، عندما يدرس الانسان النمو والتكوين والصيانة واصلاح الجسم، يجد ان كل خلية من خلايا الجسم – دون استثناء – (تعرف) الدور الذي تلعبه في سبيل تحقيق سلامة الجسم كله. ففي الجهاز العصبي تتسم الأفعال العكسية البسيطة بالغرضية كصفة من صفاتها الأساسية. فاذا ما أنعمنا النظر والدراسة فاننا واصلون حتما إلى الاستعدادات الموروثة في تكوين العقل قد ركبت بحي انه عندما يتأثر هذا العقل بالخبرات الحسية تأثرا كافيا يصل حتما إلى مبدأ السببية. وبعبارة اخرى فان الجهاز المسؤول عن التصرفات الغرضية في سائر الكائنات يزداد تخصصه زيادة مستمرة حتى يصير قادرا على المعرفة التمييزية او الشعور. ويتم ذلك نتيجة لتفاعل الخبرات الحسية مع العقل) ؟
(وبازدياد قدرة الانسان على التمييز الادراكي تنشأ لديه حاسة ترتيب الأشياء تبعا لأسبقيتها السببية، او يصير قادرا على رد الأشياء إلى أسبابها الأولى، فاذا بدأنا بالطبيعة الغرضية التي تظهر في الخلايا المفردة وتتبعنا ما يطرأ عليها من التطور حتى تصير مدركة للبيئة التي تحيط بها، فاننا نستطيع ان نتوقع ظهور القدرة على الحكم واستخدام قانون السببية الذي وصل الانسان باستخدامه إلى مزيد من السيطرة على البيئة) ؟
(ففي علم وظائف الاعضاء تدل خياشيم الأسماك على أسبقية الماء، كما تدل اجنحة الطيور ورئات الانسان على أسبقية الهواء، وتدل أعين الانسان على أسبقية الضوء، كما يدل حب الاستطلاع العلمي على أسبقية الوقائع، وكما تدل الحياة على أسبقية القانون الطبيعي اللازم لنشأتها. وانني أتساءل الان: أفلا يدل التدبر العميق والتفكير الصافي
والشجاعة العظمى والواجب الأعظم والإيمان الكبير والحب العميق – أقول أفلا يدل كل أولئك على شيء سابق؟ من الحماقة ان نظن ان أعمق الأفكار والعواطف والأعمال التي نشاهدها في الانسان لا تدل على شيء سابق. انها تدل على أسبقية وجود عقل علوي. انها تدل على وجود خالق يتجلى في خبرة أولئك الذين لا يضعون الحواجز في طريق عقولهم عند البحث عن العقل الأسمى او الخالق الأعلى) .
(ان أحداً لا يستطيع ان يثبت خطأ قانون السببية، فبدونه تنعدم جميع الاشياء الحية. والعقل البشري لا يستطيع ان يعمل الا على اساس السببية. انني أسلم ان لقانون السببية وجودا حقيقيا) .
(وقد سمعت بعض رجال العلوم يقولون: ان السببية تنتهي حيث تبدأ الميتافيزيقا او مبادئ التفكير. ولكنني لا أوافق على ان يستخدم الانسان هذا القانون في المواطن التي تعجبه، ثم يرفض استخدامه عندما يخشى النتائج التي يوصله اليها. واضافة حلقة ميتافيزيقية جديدة آلي سلسلة السببية لا تعتبر تعارضا مع المنطق، فنحن نفعل ذلك دائما في ميدان العلوم وفي شؤون حياتنا اليومية. والبحث عن حقيقة هذه الحلقة أمر آخر، ولكن الانسان لا يستطيع ان يكشف مدى تمثيل هذه الحلقة للحقيقة الواقعة فعلا الا اذا طرقها واختبرها، فالاختبار هو الوسيلة الوحيدة لكشف الحقيقة حولها) .
(ويظهر ان الملحدين او المنكرين بما لديهم من الشك لديهم بقعة عمياء او بقعة مخدرة داخل عقولهم تمنعهم من تصور ان كل هذه العوالم سواء منها ما كان ميتا او حياً احيا تصير لا معنى لها بدون الاعتقاد بوجود الله، وكما قال أينشتين: (ان الشخص الذي يعتبر حياته وحياة غيره من المخلوقات عديمة المعنى ليس تعيسا فحسب، ولكنه غير مؤهل للحياة) . وأحب ان أضيف إلى ذلك ان السبب الأوحد الذي يمنعه من ان يكون غير مؤهل تأهيلا تاماً للحياة، هو الأمل – القائم على العقل والايمان – في انه قد يرتد إلى عقله فيدرك
الصواب او يرتد طفلا فيستطيع ان يفكر في أمور الحياة كما يفكر الأطفال) .
ثم التفت إلى زميلي العلامة الذي أعجبت كما أعجب كل شخص آخر بتفكيره وقدرته على النقد وسألته: (هل ما قتله صحيح؟) فقال: (نعم ولكن السؤال المهم هو أي نوع من الاله؟) .
وقد وافقت على أن اهم سؤال يواجهه الشخص المفكر في هذا الموضوع اول ما يواجه هو: هل هنالك إله؟ وان السؤال الثاني هو: ما نوع هذا الإله؟ والسؤال الثالث هو: ما الغرض من الحياة؟ والسؤال الرابع هو: ما الصواب وما الخطأ؟
ثم قلت: (ان الاعتقاد بان الله مجرد خالق ومبدع لا يتفق مع الفكرة الدينية عنه. ولكي أكون واضحا وموجزا، فانني احب ان استمر في التشبيه الذي بدأته عن الآلة وصانعها. وقبل ان افعل ذلك أحب ان أشير آلي ان الدين يذهب آلي ابعد مما يستطيع ان يصل اليه العقل حول هذا الأمر، ولكنه لا يتعارض معه، فعندما يقوم صانع مفكر بعمل آلة، يكون لديه تصميم لها وغاية من ورائها، وهو في أثناء صناعتها يبث فيها روحه ونفسه، وبعد أن يتمها يرتبط بها عاطفيا لانه يكون مهتما بصيانتها او بالطريقة التي تعمل بها. وانا لا أستطيع ان أتصور خالقا مدركا لا يصدق عليه هذا القول. والخالق سبحانه كما تدل عليه أعماله يمكن الوصول آلي انه بالغ العقل والحكمة. انني اعتقد بوجود إله اذا أدخله الناس آلي قلوبهم وحفظوه في عقولهم هداهم آلي مكارم الاخلاق، والى السلوك السوي، والقصد النبيل، وأغدق عليهم محبته ومحبة الناس) .
وعندئذ كان الساعة قد بلغت الثانية من بعد الظهر وانتهى وقت الغذاء وانتهت معه المحادثة.
ولا يتسع هذا الكتاب ولا الوقت لمناقشة الموضوع الذي بدأناه مناقشة كاملة، ومع ذلك فانني أحب ان أوضح بعض النقاط الاخرى اتماما لإجابتي عن سؤال:(هل يوجد إله) ؟
صفات الله
لقد درست صفات الله دراسة مطولة على أساس التحليل المنطقي الذي قام به الفلاسفة. وأمكن باستخدام المنطق الوصول آلي ان لله صفات معينة، وفيما يلي مجموعة غير كاملة منها:
الله أبدي – خالد – لطيف (ليس ماديا) – ليس حادثا – قدوس – طيب – يعلم الشر ولكنه ليس شريرا ولا يريد الشر – لا يكر الأشياء – حق – عليم – محب – مريد – منزه عن الشهوات والنزوات – أصل الفضائل جميعا.
وتتفق هذه الصفات آلي حد كبير مع الصفات التي وردت عن الله في الانجيل (1) ، وبخاصة في العهد الحديث. ولكن معظم صفات الله التي وردت في الانجيل، جاءت على أنها بديهيات ولم تقدم على أساس منطقي.
السببية الأخلاقية مضافة آلي حرية الاختيار
هنالك كثير من الأسباب التي تدعو آلي الاعتقاد بوجود الله، ومن الأسباب التي لا يجوز اغفالها في هذا المقام ما اسميه بالسببية الأخلاقية مضافة آلي حرية الاختيار، وأعني بحرية الاختيار هنا حرية اتخاذ القرارات.
ان النواحي الروحانية والأخلاقية من حياة الانسان وما ينبغي ان يفعله لها أهمية بالغة بالنسبة لسلامة الانسان ورفاهيته، وهي أهمية تفوق أهمية معرفته وسيطرته على الطبيعة غير الانسانية. فاحاطتنا بالعلوم الطبيعية تزيد من فهمنا للعالم الذي نعيش فيه،
(1) - الصفات التي وردت عن الله تعالى او أسماء الحسنى – في القرآن – تسع وتسعون صفة أو اسماً، هي: الله الذي لا اله الا هو، الحي القيوم، السلام، المؤمن.. الخ.
ومن وسائلنا في تحسين الانتاج وتوزيع الضروريات ووسائل الاستمتاع بالحياة، وتقلل من الآلام وتطيل الحياة، ومع ذلك فان المشكلة العظمى في العالم في الوقت الحاضر تعد مشكلة أخلاقية ودينية، فهي تدور حول معرفة كيف نستخدم الطاقة الذرية لتحقيق صالح البشر ورفاهيتهم، لا لكي تنزل بهم الدمار. ولعل أعظم ما صادف الناس والمجتمعات من مشكلات في الحياة كانت من النوع الخلقي، وكانت تدور حول معرفة كيف تتخذ القرارات الصائبة.
اينما وجهنا انظارنا حولنا وجدنا الطبيعة الجامدة تحكمها قوانين ثابتة. وكذلك الحال بالنسبة للحيوانات في معيشتها البرية. ولكن الانسان خلق على غرار كائن علوي آخر، اذ ان له حرية الاختيار، او بعبارة اخرى فان المجتمع الانساني قد خلق كما لو كان مجموعة من الأرواح او الأشخاص الذين لديهم الحرية في ان يقرروا ما يشاءون، وان يأكلوا او لا يأكلوا من (شجرة المعرفة) . فاذا لم نطق القانون الأخلاقي الذي وضعه الله، فعلينا ان نتحمل النتائج. ومن الواضح انه لو كان للطبيعة المادية حرية الاختيار لفقد الانسان ذاته حرية الاختيار ولأصبح كل شيء فوضى.
وتدل دراسة سلوك الحيوان على ان القانونين الأساسيين اللذين يتحكمان في سلوك سائر الكائنات الحية التي هي دون الانسان هما:
1-
بقاء النفس.
2-
بقاء النوع.
ونستطيع بقليل من التفكير ان نتبين انه بدون هذين القانونين لا يكون هنالك سبيل لاستمرار حياة الأنواع الحيوانية المختلفة فترة طويلة. والسلوك العكسي غير المكتسب هو الذي يتحكم على ما يظهر تحكما كليا في سلوك الحيوانات الدنيا. وكلما ارتقى الحيوان في المملكة الحيوانية كان أكثر اعتمادا على السلوك المكتسب الذي يتعلمه. ولكن هنالك شكا فيما اذا كان لدى الحيوانات التي هي أقل رقيا من الانسان اي درجة من الحرية في اتخاذ القرارات، وهي الحرية التي نعرفها لدى الانسان. فاذا كان
الأمر كذلك فان حرية هذه الحيوانات محدودة، ومعنى ذلك ان طبيعة الحيوان هي التي تجعله يحافظ على جسمه فلا يتلفه او يعرضه لاذى الا في سبيل الدفاع عن نفسه او نوعه. ويلاحظ انه في العلاقات التي تقوم بين الأنواع المختلفة من الحيوانات او بين افراد النوع الواحد يكون قانون الغابة الذي يرى ان (القوة هي الحق) هو السائد. وهذا القانون هو الذي يحكم الحيوانات ابتداء من القرود فما دونها. أما الكائنات التي تعيش معيشة اجتماعية فتخضع لنوع من الحكم المستبد. والخلاصة هي ان هنالك قوانين للسلوك تتبعها الحيوانات التي هي دون الانسان ولا تجد عنها محيدا. ويدل تاريخ الانسان على ان سلوكه يخضع للقانون الطبيعي الذي تخضع له الحيوانات ولكنه يتأثر فوق ذلك بعوامل أخرى اضافية، فمن ذلك اولا شعوره بالرهبة من المجهول، ومن ذلك ثانيا شعوره بالإثم او بالواجب (الضمير) ، ومن ذلك ثالثا الحكم بان القوة التي تسبب الرهبة تستنكر الأعمال او القرارات التي يتسبب عنها الشعور بالإثم.
وعلى ذلك فانه يلاحظ ان سلسلة من الأسباب تبدأ من العالم المادي آلي الحيوانات الدنيا، ثم تنتهي آلي الحيوانات العليا التي يقع الانسان في قمتها. وقد أدى ذلك آلي ما نشاهده من امتياز الانسان بدرجة اكبر من حرية الأختيار، وهذه بدورها أدت آلي زيادة سيطرته على بيئته ونفسه. وقد ترتب على هذه الحرية شعور الانسان بالخطأ او الصواب، أو قدرته على التمييز بين الخطأ والصواب.
فماذا عسى أن يكون مصدر هذه السلسلة السببية؟ هل نشأت عن غير شيء؟ ام حدثت نتيجة للمصادفة ان الأخذ بهذا الرأي يعد أشد سخافة وأكثر حمقا من القول بان الانسان يستطيع ان يحصل على صورة رائعة للعالم عندما يسكب زجاجة من الماء على الأرض. وليس من العجيب ان نجد ان قانون السببية الذي يعد أساسيا في فهم ظواهر الكون المادي، والذي يتحكم في النباتات والحيوان، والذي يتكون العقل
الانساني بمقتضاه، هو ذاته القانون الذي نستطيع ان نصل به آلي ادراك قيم القانون الأخلاقي الطبيعي القائم على المحبة والعدل والرحمة والحقوق والمسؤوليات والجمال. بل هو ذاته القانون الذي يوصلنا آلي ادراك وجود الله. وبعبارة اخرى فان هذا القانون يوصلنا آلي قيم ومعان سامية لا نستطيع ان نبين قيمتها الحقيقية او نحصيها عدا، ونعتقد ان الأمل في مستقبل الانسان يقع أولا على الدواف التي تقودنا آلي امتلاك هذه الفضائل في الحياة، وهي الفضائل التي لا نستطيع لهد عدا ولا وزنا.
فاذا توافرت لدى الانسان ضروريات الحياة، فان السعادة الحقيقية تاتي عن طريق الاشياء التي لا يتناولها العد او الوزن، وعن تلك المتع التي لا يحتاج الانسان أن يندم عليها.
وقد أقنعني التفكير والتاريخ ان أهمية القيم الروحية والأخلاقية بالنسبة للانسان ترجع آلي عقيدته او عدم عقيدته في وجود شخصية مقدسة تمثل الكمال المقدس وتوجه سلوك الانسان. او عقولنا تكشف عن وحدة الكون ونظامه وعن مبدأ السببية، ولكن هذه الأشياء وحدها لا تكون الدين، او لا تكون دينا ثابتا الا عندما يسمح لها بأن تؤثر في حياتنا اليومية على أساس الحرية في اتخاذ القرارات وصدق العبودية لله والأخوة بين البشر.
فاذا كنا نريد ان تبقى الحياة على سطح الأرض محافظة على ما عرف عنها في الماضي من سمو، فاننا نحتاج آلي توجيه مقدس. فالأحزان والأمراض والكوارث التاريخية تثبت لنا ان الأخلاق والحق والعدالة والرحمة، قد تفقد معانيها وتؤدي آلي حياة ذليلة خسيسة ما لم تكن متصلة بايمان عملي او قائمة على أساس (1) . ففي ظل النارية اللادينية والنزعات الالحادية، ضاعت المواهب التي حبا الله بها الانسان وتلطخت بالأوحال.
(1) - (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) سورة الأنبياء، آية:107.
ان الانسان لا يستطيع ان يكون حرا او ان يعيش معيشة انسانية الا في عالم يقوم على الأخلاق وعلى تحمل المسؤوليات، فالناس متساوون وأحرار لا لشيء الا لأنهم عباد الله، اي لم تقم المساواة بينهم الا بوصفهم خلفاء الله على الأرض، فهي مساواة من وجهة نظر الله (1) والقانون الأخلاقي. فاذا أنكر وجود الله وأنكر القانون الأخلاقي فلا سبيل إلى انكار الاستعباد ولا آلي محاربة المبدأ الذي يرى أن القوة هي الحق، او إلى محاربة الجشع واستغلال البشر.
واذا لم يكن لدى الناس قيم داخلية، فأنى تكون لهم حرية اختيار مطلقة تنبعث عن النفس او واجب مطلق. ان ذلك يؤدي إلى فهم هذه القيم فهما سطحيا والى امكان استخدامها لتحقيق الأثرة والتوسع في الصالح الشخصي كاستخدام الآلة او الرقيق في أيدي ذوي السلطان.
ان الحقوق التي أعطاها الله للانسان لا يستطيع ان يستردها سواه، أما الحقوق التي يعطيها الإنسان لأخيه والانسان، او تعطيها له إحدى المؤسسات التي صنعها البشر فليس من العسير انكارها او استردادها. فاذا لم تكن حقوقنا الثابتة صادرة عن المصدر الأعظم، عن الخالق، فمن الجهل والحماقة ان نظن ان للبشر حقوقا لا يستطيع انسان او مؤسسة من المؤسسات التي صنعها الناس ان يتغافلها او ينكرها، وعلى ذلك فانه ليس للإنسان الحق في ان يدعي ان له قيمة داخلية او كرامة او حقوقا او واجبات مطلقة، أو مسؤوليات الا بوصفه مخلوقا من مخلوقات الله.
وأعوذ فأقول هل الأخوة بين الناس اتفاق مادي يقوم على أساس ان القوة وحدها هي التي تحدد سلوك الأفراد والجماعات، ام ان هذه الاخوة ترجع آلي اشتراكنا في
(1) - يصف القرآن الكريم هذه المساواة وصفا رائعا في عدة آيات، منها:
(يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان أكرمكم عند الله اتقاكم) سورة الحجرات، آية:12. ويقول محمد عليه الصلاة والسلام: (لا فضل لعربي على عجمي الا بالتقوى) ، (الناس سواسية كأسنان المشط..) الخ.
عبودية الله؟ وأي المصدرين يهيئ لها بقاء أطول ودواما أدوم؟ وهل ترجع حريتنا آلي حرية الروح، حرية اتخاذ القرارات وحرية الفعل؟ ام انها مجرد اتفاق ماجي له صبغة اجتماعية؟ وكيف يمكن ان يستمتع الانسان بالحرية اذا كان ينظر اليه على انه عبد من عبيد الدولة؟
عندما ينعدم الاعتقاد بوجود القيم الداخلية وفي كرامة الفرد، تظهر الكوارث الأخلاقية وتعم الوحشية وتجد لها مسوغات في فكرة الأجناس الراقية او الاجناس الممتازة في فكرة ان صالح الدولة هو الغاية التي ليس وراءها غاية، وفي مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) . ولقد كان هذا هو الأسلوب الذي استخدم في نورنبرغ. والا فكيف اعتبر زعماء النازيين ودكتاتوريوهم ممن كانوا مسؤولين عن جميع التصرفات الوحشية، نقول: كيف اعتبروا مذنبين فوجهت اليهم الاتهامات وثبتت ادانتهم. ولم يكونوا في كل ما قاموا به من هذه الأعمال المزرية الا منفذين لأوامر سادتهم وقوانين النازيين ومبادئهم؟ انهم لا يمكن ان توجه اليهم الاتهامات ويدانوا الا في ظل القانون الالهي الأبدي الذي يطلق عليه الملحدون اسم (مبادئ الإنسانية) .
ولو كانت القوانين الوضعية هي المصدر الوحيد لحقوق الانسان فعلى اي اساس نستطيع ان ندين النازيين على اضطهادهم الأجناس كالغجر والبولنديين وأعدائهم السياسيين؟ وعلى اي أساس نستطيع ان ندين ما لقيه الوطنيون المجريون المجاهدون من اضطهادات؟
لقد هدر النازيون حقوق غيرهم، ولم يعتبروا ان للبشر حقوقا وان للاضطهاد حدودا، فاذا كانت هنالك حقوق ثابتة للناس فمن الذي يثبت هذه الحقوق؟ واذا لم يكن الانسان قد خلق فكيف يستطيع ان يدعي انه هو الذي خلق العزة والكرامة والحقوق والواجبات وحرية الارادة والتحرر؟ سوف تجد نفسك دائما وقد أمسكت بسلسلة من المسببات
توصلك في النهاية آلي الله، الا اذا أبعدته قاصدا عن تفكيرك وأخرجته من دائرة اعتبارك قبل أن تصل اليه.
واننا لنجد في الحياة الأميركية المعاصرة كثيرا من الادلة على ان الديمقراطية الأمريكية قد وهنت وزلزلت أركانها بسبب سيرها في الاتجاه المادي وابتعادها عن الأساس الديني والروحي. وهنالك محاولات عديدة في العالم الغربي للعمل على صيانة حقوق الإنسان بعد نكران اصلها المقدس، ولكن هذه الحقوق التي هي رصيد روحي وثمرة من ثمار الدين في العهود الماضية، لا يمكن ان تبقى اذا اقتلعت جذورها واجتثت من فوق الأرض، او شوهت أعضاؤها وضاعت معالمها، او لم يعن احد بزراعتها او غرسها.
وللاعتقاد بوجود الله مزاياه الخالدة: وهنالك ثلاثة أسباب تحملنا على الاعتقاد بان الايمان بالله لا يضيع أبدا، فمن ذلك:
أولا: ان النظام التربوي الذي يناسب كل الناس في سائر الازمان يقوم على الايمان. اما النظام التربوي الذي يقوم على الفلسفة الطبيعية ويستهدف الصحة والمتعة، فانه لا يناسب ذوي الأمراض المزمنة التي لا تبرأ، ولا يناسب المشوهين او المرضى الذين فقدوا الأمل في الشفاء. والنظام التربوي الذي يقوم على الفلسفة البراغماتية لا يناسب غير القادرين عليه وغير المتهيئين له. والتربية التي تقوم على الفلسفة الانسانية لا تناسب من لديهم استعدادات ميكانيكية. اما التعليم الذي يقوم على الايمان وعلى الاعتبارات الدينية، فانه يناسب سائر البشر على اختلافهم في الكليات وفي الأسواق وفي البيوت والمستشفيات وفي الاحياء الفقيرة والسجون وفي المعارك. ان الايمان بالله يولد قوة تضمن لصاحبها الا يحيق به ضرر مطلق. ان الدين من الوجهة البيولوجية يمكن تعريفه بانه عبادة الانسان لقوة عليا نتيجة لشعوره بحاجة في قرارة نفسه آلي هذه القوة، وانه لمن العسير ان تكبت هذه الحاجة في معظم نفوس البشر.
ثانيا: ان الاعتقاد في وجود الله ضروري لإكمال معنى الحياة والكون. ولا شك ان العقلاء من الناس سوف يبحثون دائما عن هذا المعنى.
ثالثا: بصرف النظر عن الهجمات المتكررة التي تشنها العقول الضالة المرتبكة او العقول المفكرة، فان الأطفال سوف يولدون في المستقبل ما شاء لهم ان يولدوا، وسوف يخضعون في تكوين عقولهم لنفس القوانين التي خضعت لها العقول عندما تكونت في الماضي ما دام هنالك تفاعل بين العقل والخبرة الحسية، وما دام الكون يخضع لنفس القوانين التي خضع لها في الماضي. وسوف يستمر العقل الناضج في استجابته لمبادئ القانون الطبيعي والتفكير السوي الا اذا حيل بينه وبين السير في هذا الطريق الطبيعي، بان وضعت العوائق في سبيله او أضل عن السبيل. وان عقول الغالبية العظمى من البشر قد سارت في طريقها غير منحرفة عن المبادئ الاساسية التي تقوم عليها القوانين التي تتحكم في الطبيعة وسائر وظائفها. لقد ذهبت هذه العقول المفكرة تبحث فيما وراء الوقائع المباشرة التي يدركها الحس لعلها تعرف (السبب) وتكشف عن (الحقيقة) . وقد وصلت آلي الاعتقاد في وجود الله.
من أجل ذلك يحق لنا ان نستبشر خيراً. (فأما الزّبَدُ فَيذْهبُ جفاءً وأما ما ينفعُ النّاسَ فيمْكُث في الأرض)(1){الرعد: 17} . وما من بقاء الا للأشياء الملائمة التي ينتفع بها الناس جميعا تحت كل الظروف وفي سائر الأزمان. ولذلك فان الايمان الديني والفكرة الدينية وما لهما من أثر على الفرد والمجتمع، قد بقيا عاليين خفاقين على ممر الأجيال سواء في الأزمنة التي ازدهرت فيها المدنية، او في تلك التي أخنى عليها فيها الدهر. وفوق ذلك فان المبادئ الأساسية التي يقوم عليها التفكير السليم وتستند اليها العقيدة الراسخة سوف تستمر عالية خفاقة كلما ولد طفل، فالطفل كما ذكرنا من قبل قد حباه الله الفطرة السليمة،
(1) - من الآية 17 سورة الرعد: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق)(قرآن كريم) .
والأخلاص، والأمل، والمحبة. ولعل ذلك هو الذي دعا عيسى عليه السلام آلي تمجيد الطفولة حيث يقول:(الأطفال هم الأمراء في مملكة الله) . ويقول: (ان الذي لا ينال ملك الله كما يناله الطفل الصغير، لا يستطيع ان يناله بطريقة أخرى) . ويقول: (انك لن تستطيع ان تلج مملكة السماء الا اذا تغيرت وصرت مثل الأطفال) . ويقول: (ان الانسان لا يستطيع ان يرى مملكة الله الا اذا ولد من جديد)(1) .
وكما قال ماكس بلانك العالم الطبيعي الذي فتح الطريق آلي أسرار الذرة: (ان الدين والعلوم الطبيعية يقاتلان معا في معركة مشتركة ضد الشك والجحود والخرافة. ولقد كانت الصيحة في هذه الحرب وسوف تكون دائما: آلي الله) .
وأحب ان أتمثل هنا بما قاله لويس باستير الذي يعد من صفوة الممتازين من البشر حينما قال: (اذا قيل لي انني بما وصلت اليه من هذه النتائج قد ذهبت آلي ما وراء الوقائع المحسوسة فانني أقول: نعم انني وجدت نفسي في خضم من الأفكار التي لا يمكن دائما اثباتها اثباتا قاطعا، وتلك هي طريقتي في النظر آلي الأشياء) .
(فاذا كنت قد ذهبت آلي ما وراء الوقائع المحسوسة، واذا كنت قد وقعت في بعض الأخطاء، فهل لك ان تدلني عليها فانني شغوف دائما بان أتعلم) .
(1) - ويقول محمد عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) .