الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نازل على حموص قليل مرض، ولم يكن صحبته طبيبه، فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به، فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية، وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته، وكانت خيمته المنصوبة على حموص، خيمة ظاهرها أحمر، قد عملها من أكسية مغربية، وداخلهما منقوش بالخام الرفيع المصبغ، وكانت الأمراء الذين لم ينازلوا حموص، وهم مقيمون في الوطاة، إذا عرض لهم ما يقتضى المشاورة، يطلعون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر، وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة، واستمر الحال على ذلك إلى أن فتح حموص وغيرها على ما سنذكره.
ذكر فتح حموص وغيرها من قلاع بلاد الأرمن
ولما كان فتوح ذلك متوقفاً على ملك دندين بن ليفون، احتجنا نذكر كيفية ملكه بلاد الأرمن، وتسليمه البلاد إلى المسلمين، فنقول: إنه تقدم في سنة أربع وستين وستمائة أسر ليفون بن هيتوم، لما دخلت العسكر صحبة الملك المنصور صاحب حماة، في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي، وتقدم كيفية خلاص ليفون، وما افتداه أبوه هيتوم به حتى عاد إلى أبيه صاحب سيس، ثم إن ليفون المذكور ملك بعد موت أبيه هيتوم، وبقي في الملك مدة، ثم مات ليفون المذكور، وخلف عدة من الأولاد الذكور، أكبرهم هيتوم، ثم تروس، ثم سنباط، ثم دندين، ثم أوشين.
فلما مات ليفون، ملك بعده ابنه الأكبر هيتوم بن ليفون بن هيتوم، وبقي في الملك مدة، فجمع أخوه سنباط جماعة ووثب على أخيه هيتوم المذكور، وقبض عليه وسمله، فعميت عين هيتوم الواحدة وسلمت له الأخرى، واستمر في الحبس. وكذلك قبض سنباط المذكور على أخيه تروس ثم قتله، وخلف تروس المذكور ولداً صغيراً، واستقر سنباط المذكور في الملك، واتفق دخول العساكر إلى بلاد سيس ومنازلة حموص في أيام مملكة سنباط، فضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت، وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون، فنسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين، فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين بن ليفون في المملكة، والقبض على سنباط، واجتمع الأرمن على دندين، فأحس سنباط بذلك فهرب إلى جهة قسطنطينية، وتملك دندين، ويقال له كسيندين أيضاً.
فلما تملك دندين المذكور، أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها، وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام، وأنه نائب السلطان بهذه البلاد، فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حداً بين المسلمين والأرمن، وأن تسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصون والبلاد، فأجاب دندين المذكور، إلى ذلك، وسلم جميع البلاد التي جنوبي نهر جيحان المذكور إلى المسلمين، فمنها: حموص، وتل حمدون، وكويرا، والنفير،
وحجر شغلان، وسرفندكار، ومرعش، وهذه جميعها حصون منيعة ما ترام، وكذلك سلم غيرها من البلاد، وكان تسليم حموص يوم الجمعة تاسع عشر شوال من هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، ووافق ذلك ثامن شهر آب، وسلمت تل حمدون بعدها، ثم سلمت باقي الحصون والبلاد المذكورة.
وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلاد، وكان ذاك رأياً فاسداً، على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن، عند دخول قازان البلاد، ولما استقرت هذه البلاد للمسلمين، جعل فيها حسام الدين لاجين بعض الأمراء نائباً، ثم عزله وولى عليها سيف الدين أسندمر نائباً، وجرد معه عسكراً، وكان مقام أسندمر المذكور بتل حمدون، وبعد تسليم تل حمدون رحل الملك المظفر محمود صاحب حماة عنها، مستهل ذي القعدة من هذه السنة، وسارت العساكر وخرجت من الدربند، وسرنا جميعاً ودخلنا حلب يوم الإثنين تاسع ذي القعدة، الموافق لعاشر آب عن هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة.
فلما أقمنا بحلب، ورد مرسوم حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، إلى سيف الدين بلبان الطباخي، بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر، فعلموا بذلك، وكان قبجق مقيماً بحمص، مستشعراً خائفاً من لاجين المذكور، فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد، وكان من جملة العسكر المجردين على حلب. وكذلك هرب بكتمر السلحدار، وبورلار، وعزاز، ووصلوا إلى حمص، واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان.
ذكر غير ذلك من الحوادث في أوائل هذه السنة، قبل تجريد العساكر إلى سيس، قبض حسام الدين لاجين على نائبه في السلطنة شمس الدين قراسنقر واعتقله، وولى نيابة السلطنة مملوكه منكوتمر الحسامي، فأظهر منكوتمر المذكور من الحماقة والكبرياء ما غير به خواطر العسكر عليه، وعلى أستاذه، وكذلك قبض لاجين المذكور على بدر الدين البيسري، وعلى عز الدين أيبك الحموي، وعلى الحاج بهادر أمير حاجب، وغيرهم من الأمراء.
وفيها أوقع قازان ملك التتر بأتابكه نيروز وقتله، لأنه نسبه إلى مكاتبة المسلمين، ورتب موضع نيروز قطلوشاه.
وفيها وفد سلامش، وهو مقدم ثمان من المغل، وكان ببلاد الروم، وبلغه أن قازان يريد قتله، فهرب وقدم على الملك المنصور حسام الدين لاجين، فأكرمه، فطلب سلامش نجدة من الملك المنصور لاجين ليعود إلى الروم، طمعاً في اجتماع أهل الروم عليه، فجرد معه من حلب عسكراً مقدمهم سيف الدين بكتمر الجلمي، وساروا مع سلامش حتى تجاوزوا بلد سيس، فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم، فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي، وهرب الباقون، وأما سلامش فهرب إلى قلعة من بلاد الروم واعتصم بها، ثم أرسل إليه قازان
واستنزله وحصر سلامش، وقتله شر قتله.
وفيها اجتمع رأي حسام الدين لاجين، ونائبه منكوتمر، على روك الإقطاعات بالديار المصرية، فريكت جميع البلاد المصرية، وكتب بما استقر عليه الحال مثالات، وفرقت على أربابها فقبلوها طوعاً أو كرهاً.
وفيها توفي عز الدين أيبك الموصلي نائب الفتوحات وغيرها، وولى موضعه سيف الدين كرد أمير أخور.
وفيها في أواخر ذي القعدة من هذه السنة، هرب قبجق، والبكي، وبكتمر السلحدار، ومن انضم إليهم من حمص، وساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب، مع جماعة من العسكر المجردين، ليقطعوا عليهم الطريق. ففاتهم قبجق ومن معه وعبروا الفرات، واتصلوا بقازان ملك التتر، فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها في أواخر ذي القعدة، وصل من حسام الدين لاجين دستوراً للملك المظفر صاحب حماة بالحضور من حلب إلى حماة، فسار الملك المظفر ووصل إلى حماة، واستمرت العساكر مقيمين بحلب إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي الثامن والعشرين من شوال هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، توفي الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، قاضي القضاة الشافعي بحماة المحروسة، وكان مولده في سنة أربع وستمائة. وكان فاضلاً إماماً مبرزاً في علوم كثيرة، مثل المنطق والهندسة وأصول الدين والفقه والهيئة والتاريخ، وله مصنفات حسنة منها: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، ومنها الأنبروزية في المنطق، صنفها للأنبروز ملك الفرنج صاحب صقلية، لما توجه القاضي جمال الدين المذكور رسولاً إليه في أيام الملك الظاهر بيبرس الصالحي، واختصر الأغاني اختصاراً حسناً، وله غير ذلك من المصنفات.
ولقد ترددت إليه بحماة مراراً كثيرة، وكنت أعرض عليه ما أحله من أشكال
كتاب إقليدس، وأستفيد منه، وكذلك قرأت عليه شرحه لمنظومة ابن الحاجب في العروض، فإن جمال الدين صنف لهذه المنظومة شرحاً حسناً مطولاً، فقرأته عليه، وصحت أسماء من له ترجمة في كتاب الأغاني، فرحمه الله ورضي الله عنه.
وكان توجه إلى الإمبراطور رسولاً من جهة الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر والشام، في سنة تسع وخمسين وستمائة، ومعنى الإمبراطور بالإفرنجية، ملك الأمراء، ومملكته جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية، قال جمال الدين: ووالد الإمبراطور الذي رأيته، كان يسمى فردريك، وكان مصافياً للسلطان الملك الكامل، ثم مات فردريك المذكور في سنة ثمان وأربعين وستمائة. وملك صقلية وغيرها من البر الطويل بعده، ولده كرا بن فردريك، ثبم مات كرا، وملك بعده أخوه منفريد بن فردريك، وكل من ملك منهم يسمى إمبراطور، وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج مصافياً للمسلمين، ويحب العلوم.
قال: فلما وصلت إلى الإمبراطور منفريد المذكور أكرمني، وأقمت عنده في مدينة من