المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التمهيد آل الشرق الاسلامي في أواخر القرن الخامس للهجرة الى فئات - المدائح النبوية في أدب القرنين السادس والسابع للهجرة

[ناظم رشيد]

الفصل: ‌ ‌التمهيد آل الشرق الاسلامي في أواخر القرن الخامس للهجرة الى فئات

‌التمهيد

آل الشرق الاسلامي في أواخر القرن الخامس للهجرة الى فئات مبعثرة، واحيانا متباغضة، لا يجمع بينها وفاق، ولا يضمها سلطان قوي، ففي كل ولاية أمير او ملك يناوىء جاره، ويكيد له، ويتربص به الدوائر؛ ليشن الغارات على ولايته، ويؤوب من عنده بالغنائم والاسلاب، ويدع له الاشلاء والدماء والدمار والخراب، انصياعا لهوى الاطماع، ودواعي المآرب والغايات. على حين كان الغرب يضمّ اليه أدانيه وأقاصيه، ويلمّ شعثه، ويرتق فتقه، ويرأب صدعه، ويتهيأ للانقضاض على الشرق المتداعي، والهيمنة عليه، طمعا في خيراته، ووافر ثرواته، لا- كما زعم أبناؤه- لتخليص قبر السيد المسيح- عليه السلام من ايدي المسلمين. فلما استجمعوا قواتهم، واستحضروا عددهم، وخفقت راياتهم، وتعالت بالحقد الاعمى اصواتهم، اندفعوا موجات متتابعة، مدة قرنين من الزمان. ابتداء من سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة للهجرة، فأهلكوا الحرث والنسل والضرع، وأشاعوا الدمار في القرى والامصار، حتى قدر المؤرخون عدد الذين قتلوا في مذبحة انطاكية بعشرة الاف

ص: 7

نفس، وفي معرة النعمان بمئة الف، وفي بيت المقدس بسبعين الفا «1» .

وقال ريموند دي اكليس الذي شاهد المذبحة الاخيرة: «ان الدماء قد وصلت في رواق المسجد الى الركب» «2» . فما لم يشاهده قد يربو على التقدير ويفوق النعت والتعبير.

لقد فر الناجون الى الله من هول هذه الحرب الضروس، وتضرعوا اليه ان يدفع عنهم الكرب الشداد، ويحسر اسجاف البلايا الصفيقة.

وتوزع الشعراء آنذاك الى فريقين، ذهب فريق الى الاعراب عن دخائل النفوس وكوامن الافئدة، والإفصاح عن ضراوة الاحداث، وجسامة الاهوال والكوارث بقصائد عامرة، منها قصيدة الامام أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) المعروفة بدعاء المنفرجة في ثمان وخمسين بيتا، مطلعها «3» :

الشدّة أودت بالمهج

يا ربّ فعجّل بالفرج

ومنها:

والأزمة زادت شدّتها

يا أزمة علّك تنفرجي

(1) مختصر تاريخ العرب ص 286.

(2)

نفسه ص 287.

(3)

الحروب الصليبية واثرها في الادب العربي في مصر والشام ص 237.

ص: 8

جئناك بقلب منكسر

ولسان بالشكوى لهج

قال محمد سيد گيلاني معقبا على هذه القصيدة: «مات الغزالي عام 505 هـ، اي بعد هجوم الصليبيين على الشام بخمسة عشر عاما، وجال مدّة في بلاد الشام، وشاهد الافرنج يكتسحون المدن والقرى، ويغيرون على السكان الآمنين، وينهالون عليهم قتلا وأسرا، ورأى المسلمين لا حول لهم ولا قوة، ذلّوا وهانوا واستكانوا، واضحوا ولا راعي يرعاهم، ولا زعيم يجمع شملهم، ويتصدى للدفاع عنهم، ولا قائد يوقف الغزاة عند حدهم

في هذا الوسط المظلم، وفي هذا الجو القاتم شرع الناس يلتمسون العون من الله ويسألونه التعجيل بالفرج. وماذا كانوا فاعلين وهم رعية بغير رعاة؟ أمراؤهم مشغولون بمصالح أنفسهم، يكيد بعضهم لبعض

وهكذا عانى أهل الشام المصائب والاهوال يتلو بعضها بعضا، فرفعوا ايديهم الى السماء متضرعين ومتوسلين بالقرآن وسوره، والانبياء والمرسلين، ملحفين في الدعاء، طالبين التعجيل بالفرج، ذلك لأنّ الشدة التي أصابتهم أودت بالمهج، والناس اضحوا في ضيق وحرج، ومن غير الله يرفع هذا الحرج؟

وهكذا عبر الغزالي عن شعور المسلمين في هذا الوقت ونطق بألسنتهم، وترجم عن حالة الضيق الشديد التي المت بهم. ثم أخذ يتوسل الى الله بالانبياء وبالقرآن وبما أودع فيه من الأسرار الالهية، وذكر في شيء من الالم والحزن ان المسلمين ضعاف، وانهم لا يجدون أمامهم ملجأ غير

ص: 9

الله، اليه يلجؤون وبه يستغيثون واياه يدعون» «4» .

ومن القصائد التي حظيت بالقبول الواسع، وذاعت شهرتها، واكتسبت رضا الكثيرين، وداعبت قلوب المكلومين ونفوس المظلومين، قصيدة يوسف بن محمد التوزري المعروف بابن النحوي (ت 513 هـ) المشهورة ب «المنفرجة» أو «الفرج بعد الشدة» ، ومطلعها «5» :

اشتدّي أزمة تنفرجي

قد آذن ليلك بالبلج

وكانت هذه القصيدة محط أنظار الشراح، مثل الاضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة، والأنوار المنبلجة في بسط أسرار المنفرجة، والسريرة المنزعجة في شرح المنفرجة، وغير ذلك «6» .

وذهب فريق آخر الى التضرع بالرسول الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم والتوسل لديه، والتعلق باعتابه، أن يزيل عنهم الاحزان الجاثمة، ويردّ الامن والدعة الى نفوسهم الهائمة، ويلج بهم ابواب الرحمة الواسعة، الى ساحات الرضا السرمدي والراحة الخالدة، وخير مثال على ذلك القصائد التي قيلت سنة أربع وخمسين وست مئة للهجرة حينما انفجر بركان بالقرب من المدينة المنورة وأخذ يقذف الحمم النارية ويهدد بالدمار والخراب. قال السيوطي: «وفي هذه السنة، في يوم الاثنين، مستهل

(4) نفسه ص 239.

(5)

مفتاح السعادة 3/ 144.

(6)

ينظر تاريخ المعارضات في الشعر العربي ص 57.

ص: 10

جمادى الاخرة، وقع بالمدينة الشريفة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، واقام على هذه الحالة يومين، فلما كان ليلة الاربعاء تعقب الصوت زلزلة عظيمة، رجفت منها الارض والحيطان، واضطرب المنبر الشريف، واستمرت تزلزل ساعة بعد ساعة الى يوم الجمعة خامس الشهر، ظهر من الحرة نار عظيمة، وسالت أودية منها سيل الماء، وسالت الجبال نارا، وسارت نحو طريق الحاج العراقي، فوقفت واخذت تأكل الارض أكلا، ولها كل يوم صوت عظيم من آخر الليل الى الضحوة، واستغاث الناس بنبيهم- صلى الله عليه وسلم واقلعوا عن المعاصي» «7» ، واجود قصيدة نظمت آنذاك في ذكر هذه الحادثة ومدح الرسول- صلى الله عليه وسلم كانت للشاعر سيف الدين علي بن عمر بن قزل المعروف بابن المشد (ت 656 هـ)، مطلعها «8» :

ألا سلّما عنّي على خير مرسل

ومن فضله كالسّيل ينحطّ من عل

ومنها وصف للصورة المخيفة التي اذهلت الناس وأرعبتهم:

لها شرر كالبرق لكن شهيقها

فكالرعد عند السامع المتأمل

(7) حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 2/ 46.

(8)

نفسه 2/ 47. وينظر ديوان سيف الدين المشد، تح: عباس هاني (رسالة ماجستير من كلية التربية بجامعة بابل سنة 2000) ص 445.

ص: 11

وأصبح وجه الشمس كالليل كاسفا

ويدر الدجى في ظلمة ليس تنجلي

وهبّت سموم كالحميم فأذبلت

من الباسقات الشمّ كلّ مذلّل

وأبدت من الآيات كلّ عجيبة

وزلزلت الارضون أيّ تزلزل

وأيقن كلّ الناس ان عذابهم

تعجّل في الدّنيا بغير تمهّل

وأعولت الاطفال مع أمهاتها

فيا نفس جودي، يا مدامعي اهملي

وينهي الشاعر قصيدة بالسلام على المبعوث الهادي محمد صلى الله عليه وسلم:

فيا خير مبعوث وأكرم شافع

وأنجح مأمول وافضل موئل

عليك سلام الله بعد صلاته

كما شفع المسك العبيق بمندل

ووصف المؤرخ شهاب الدين ابو محمد عبد الرحمن بن اسماعيل المعروف بابي شامة المقدسي هذا البركان الثائر وصفا دقيقا وأورد قصيدة لشاعر لم يذكر اسمه، أولها «9» :

(9) تراجم رجال القرنين السادس والسابع المعروف بذيل الروضتين ص 193.

ص: 12

يا كاشف الضّرّ صفحا عن جرائمنا

لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء

نشكو اليك خطوبا لا نطيق لها

حملا ونحن بها حقا أحقاء

زلازلا تخشع الصمّ الصلاب لها

وكيف يقوى على الزلزال شمّاء

أقام سبعا ترج الارض فانصدعت

عن منظر منه عين الشمس عشواء

بحر من النار يجري فوقه سفن

من الهضاب لها في الارض إرساء

ودعا الله ان يفرج عن المسلمين هذا الخطب الكبير الذي ألمّ بهم، ويبعد عنهم نقمته التي تمثلت في هذا البركان الغاضب الذي القى حجارة حامية وشواظا من نار، وأخاف الناس ان يمتد لهيبه الى المدينة المنورة التي تضمّ قبر الرسول- صلى الله عليه وسلم والصحابة الصالحين، واختتم قصيدته بقوله:

ونحن أمة هذا المصطفى ولنا

منه الى عفوك المرجو دعاء

هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت

محجّة في سبيل الله بيضاء

فارحم وصلّ على المختار ما خطبت

على علا منبر الاوراق ورقاء

ص: 13

وللامام ابي زكريا يحيى بن يوسف الصّرصري (ت 656 هـ) قصيدة في خمس وتسعين بيتا يمدح بها الرسول- صلى الله عليه وسلم ويذكر النار الحامية التي تتفطر منها القلوب «10» :

فشاهدتم مرأى فظيعا وشدّة

تكاد لها الاحشاء أن تتفطرا

وجاء في القصيدة قوله:

فيا أيّها الحادي الذي اعتسف الفلا

وحثّ المطايا مدلجا ومهجرا

اذا ما أرحت العيس بعد لغوبها

وطول وجاها من معالجة السّرى

فقف وقفة الاحباب في ذلك الحمى

وعفّر أديم الخدّ في ذلك الثرى

وبلغ تحياتي الى من سما به

وأحرز من رياه نشرا معطرا

ومنها:

وسل ربّك النصر العزيز لأمة

بجاهك ترجو ان تعزّ وتنصرا

(10) ديوان الصرصري ص 170.

ص: 14

لها كلّ عام كائد متهدد

يدير لها بالرعب كأسا ممرّرا

أجرها وثبتها فمن كنت جاره

فأجدر أن يحمى ويحيا ويجبرا

عليك سلام من إلهك دائم

مديد جدير ان يزاد ويكثرا

لقد كانت هذه النار التي داهمت الارض الطاهرة واخاف الناس وصول شررها الى المدينة، مدعاة لمدح الرسول- صلى الله عليه وسلم قال ابن الوردي:

«وظهرت نار بالحرّة عند مدينة النبي- صلى الله عليه وسلم وكانت تضيء بالليل من مسافة بعيدة جدا

ونظم الشعراء عند ظهور هذه النار مدائح في النبي صلى الله عليه وسلم» «11» . ومن هؤلاء الشعراء ايضا شرف الدين ابو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري (ت 696 هـ)، فله قصيدة في ثمان وتسعين بيتا سماها:«تقديس الحرم من تدنيس الضرم» مطلعها «12» :

إلهي على كلّ الامور لك الحمد

فليس لما اوليت من نعم حدّ

وفيها يقول:

تدمر ما تأتي عليه كعاصف

من الريح ما ان يستطاع له ردّ

(11) تتمة المختصر في اخبار البشر (تاريخ ابن الوردي)281.

(12)

ديوان البوصيري ص 111.

ص: 15

تمرّ على الارض الشديد اختلافها

فتنجد غورا او يغور بها نجد

وترمي الى الجوّ الصخور كأنّما

بباطنها غيظ على الجوّ او حقد

ويطيل الحديث عن اوصاف النبي المباركة، ويرجو من الله في خاتمة القصيدة ان يحظى بزيارته والتعطر بأريج التربة التي تحرك عليها في نشر رسالة الايمان والهداية والرشاد:

فهب لي رسول الله قرب مودّة

تقرّ به عين وتروى به كبد

وإني لارجو أن يقريني الى

جنابك إرقال الركائب والوخد

ولولا وثوقي منك بالفوز في غد

لما لذّ لي يوما شراب ولا برد

عليك صلاة الله يضحي بطيبة

لديك بها وفد ويمسي بها وفد

ودامت كأنفاس الورى في تردّد

عليك من الله التحية والرّدّ

إنّ منزلة الرسول- صلى الله عليه وسلم ومكانته عظيمة في نفوس المسلمين، يستذكرون سيرته العطرة، ويستوحون منها ما ينفعهم في الدنيا

ص: 16

والاخرة. وقد خصص كثير من الشعراء دواوين في مديحه، منها على سبيل المثال لا الحصر:«التنوير في مولد السراج المنير» «13» لابن دحية الكلبي، وقد اهداه سنة أربع وست مئة للهجرة للسلطان مظفر الدين كوكبري بن زين علي صاحب اربل، و «أهنى المنائح في اسنى المدائح» «14» لشهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي، و «بشرى اللبيب بذكرى الحبيب» «15» لابن سيد الناس اليعمري، و «نظم الدّرر في مدح سيد البشر» «16» لابي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن ابي بكر العطار، و «القصائد الوترية في مدح خير البرية» «17» لابي عبد الله محمد بن ابي بكر بن رشيد الواعظ البغدادي، وديوان الامام يحيى بن يوسف الصرصري الذي قال عنه قطب الدين اليونيني: ان مدائحه فيه- صلوات الله عليه وسلامه- تقارب عشرين مجلدا «18» .

وهكذا زها شعر المديح النبوي في تلك الحقبة الهائجة المائجة، وكثر الاقبال عليه، وعم تعاطيه من أرباب القريض، وراجت سوقه رواجا مشهودا، غصّ فيها على كل الاصناف والالوان، بعد ان تضافرت له

(13) منه نسختان خطيتان في المكتبة الوطنية في باريس برقمي 1476، 3141.

(14)

منه نسخة بدار الكتب المصرية رقم 1396 ادب.

(15)

منه نسخة بدار الكتب المصرية رقم 6891 ادب.

(16)

نفح الطيب 7/ 489.

(17)

منه نسخة في مكتبة المتحف العراقي رقم 2092 ادب.

(18)

ذيل مرآة الزمان 1/ 257.

ص: 17

الدواعي والاسباب، ووجدت له الاجواء المشجعة للقبول والاستحسان.

فها هم أولاء الافرنج قد عاثوا فسادا في ديار الشام ومصر، وامتلكوا ناصية القدس الشريف، واشرأبت أعناقهم الى البيت الحرام، وشردوا الالاف الآمنين من ديارهم وتركوهم يهيمون على وجوههم في البراري والقفار، يطاردهم الطوى والعوز، ويلاحقهم البؤس والشقاء، ويعتادهم المرض والوباء. وقد جرّ هذا الوضع المزري الى اختلال التوازن الاجتماعي، وتردي الاحوال، وشيوع الفقر والجوع، ونقص الاموال والثمرات، واضطراب حبل الأمن، وانتشار المنكرات والموبقات، وفشو التطفيف في الموازين والمكاييل. وما سوى ذلك من ضروب الفساد والانحلال. وعند ذلك جال المسلمون بأبصارهم فيما حولهم- ما خلا بعض الاوقات- فلم يجدوا من يجمعهم ويدفع الضيم والعدوان عنهم، وعجزت وسائلهم المادية الضعيفة عن الدفاع والمقاومة ورد الغزاة الباغين عن حماهم واوطانهم، فالتجأوا الى الله جل جلاله ورسوله الكريم، جاعلين التضرع والتوسل سبيلين الى الرحاب العلوية والنفحات المحمدية.

والذبّ عن الاسلام فرض عين على كل مسلم، فان عجز اللسان واليد عن هذا الذب، ففي التضرع والدعاء الكفاية والغناء كما عبر عن ذلك ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) في احدى قصائده «19» :

هذا ونصر الدين فرض لازم

لا للكفاية بل على الأعيان

(19) الحروب الصليبية واثرها في الادب ص 241.

ص: 18

بيد وإمّا باللسان فان عجز

ت فبالتوجه والدّعا بجنان

وكان للمتصوفة- ولا سيما ايام السلاطين من الايوبيين والمماليك- دور مشهود في شيوع شعر المديح النبوي والاحتفاء به، اذ كانوا يعطرون تكاياهم وزواياهم ورباطاتهم بقراءة القصائد التي تتناول سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم وتذكر صفاته وفضائله «كما اتخذوا شفاعته والتوسل اليه طريقا الى الله» «20» . وقد اتخذوا يوم ميلاده في كل سنة، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الاول، مناسبة مفرحة لبعث التوسل والشفاعة والتضرع. وكان الملك المظفر كوكبري بن زين الدين علي زوج ربيعة خاتون أخت صلاح الدين الايوبي وصاحب إربل (ت 630 هـ) أبرز شخصية آنذاك اهتمت بعيد المولد النبوي وجعلته من أطيب الايام واسعد الاوقات، ذكر ابن خلكان- وقد التقى بهذا الملك وحضر مجالسه- اخبارا مفصلة عنه، نقتصر منها على ما يأتي: «أمّا احتفاله بمولد النبي- صلى الله عليه وسلم فإنّ الوصف يقصر عن الاحاطة به، لكن نذكر طرفا منه، وهو ان اهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكان في كلّ سنة يصل اليه من البلاد القريبة من إربل- مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي- خلق كثير من

(20) في التصوف الاسلامي، صفحة ش، وينظر دراسات في الشعر في عصر الايوبيين ص 256.

ص: 19

الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم الى اوائل شهر ربيع الاول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة اربع او خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة او اكثر، منها قبة له، والباقي للامراء واعيان دولته، لكل واحد قبة..

وكانت القباب منصوبة من باب القلعة الى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة الى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصد، ثم يرجع الى القلعة قبل الظهر. هكذا يعمل كل يوم الى ليلة المولد،

فاذا كان قبل المولد بيومين اخرج من الإبل والبقر والغنم وشيئا كثيرا زائدا عن الوصف.... ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ويطبخون الالوان المختلفة؛ فاذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد ان يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان او اربع- اشك في ذلك- من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي الى الخانقاه؛ فاذا كان صبيحة يوم المولد انزل الخلع من القلعة الى الخانقاه على ايدي الصوفية، على يد كل شخص منهم بقجة، وهم متتابعون كل واحد وراء الاخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا اتحقق عدده. ثم ينزل الى الخانقاه وتجتمع الاعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك الى

ص: 20

الموضع الذي فيه الناس والكرسي، وشبابيك آخر للبرج أيضا الى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند، ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر الى عرض الجند، وتارة الى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماط ثان في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا من الاعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد ثم يعود الى مكانه، فاذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل الى داره، ولا يزالون على ذلك الى العصر او بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات الى بكرة، وهكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال، فان الاستقصاء يطول، فاذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل انسان للعود الى بلده، فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة» «21» .

وزادت في هذه الحقبة الرغبة في الذهاب الى الديار الحجازية والمكوث الى جوار الكعبة في مكة المكرمة او الى جوار ضريح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وتدبيج القصائد المدحية التي تشيد برسالته وتذوه بفضائله ومناقبه. وكان الملك مظفر الدين صاحب اربل

(21) وفيات الاعيان 4/ 117.

ص: 21

كما يقول ابن خلكان: «يقيم في كل سنة سبيلا للحاج، ويسير معه جميع ما تدعو حاجة المسافر اليه في الطريق، ويسير صحبته أمينا معه خمسة او ستة الاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وارباب الرواتب، وله بمكة- حرسها الله تعالى- آثار جميلة.. وهو اول من اجرى الماء الى جبل عرفات ليلة الوقوف، وغرم عليه جملة كثيرة، وعمر بالجبل مصانع للماء، فان الحجاج كانوا يتضررون من عدم الماء، وبنى له تربة ايضا هناك» «22» .

لقد تفجرت قرائح الشعراء بمدح الرسول- صلى الله عليه وسلم وطفقت تسبح بحمده، وتطوف حوله، وتتمسح باعتابه، وتسفح العبرات شوقا الى رحابه ولهفة الى سامق جنابه.

وتجدر الاشارة الى ان هؤلاء الشعراء كانوا يتالمون من تهجم الافرنج على الدين الاسلامي والرسول- صلى الله عليه وسلم ولذلك تراهم ينبرون بالرد عليهم بشدة، ويريشون السهام الى نحورهم ويناقشون عقيدتهم وينافحون عن نبيهم ورسالته الخالدة التي بشر بها العالمين وهدى الضالين «23» .

(22) وفيات الاعيان 4/ 117.

(23)

تنظر: الحياة الادبية في عصر الحروب الصليبية ص 516.

ص: 22