المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المديح النبوي في عصر الحروب الصليبية - المدائح النبوية في أدب القرنين السادس والسابع للهجرة

[ناظم رشيد]

الفصل: ‌المديح النبوي في عصر الحروب الصليبية

‌المديح النبوي في عصر الحروب الصليبية

توقدت العاطفة الدينية ايام الحروب الصليبية التي دامت مئتي عام، واخذ مديح الرسول- صلى الله عليه وسلم طريقه الى الشعر العربي بشكل قوي وواضح وبكثرة، وصار سمة من سمات هذا العصر ومن اظهر الاغراض الشعرية ومن احبها في نفوس الناس آنذاك، يقول الدكتور شوقي ضيف:

«وانبثقت من الشعر الصوفي منذ ابن دريد في اوائل القرن الرابع الهجري مدائح نبوية عطرة بالسيرة الذكية، وما نصل الى القرن السادس والسابع حتى يتكاثر هذا المديح ويزدهر. ونظن ظنا انه كان للحروب الصليبية اثر في ذلك

وعرف الشعراء انها حرب دينية يشنها الغرب على الرسالة النبوية ورسولها الكريم، فاستحثوا الناس للدفاع عن دينهم، بل مضوا يستصرخونهم للذود عن وطنهم ومقدساتهم، محاولين بكل ما وسعهم ان يحيلوها شعلا آدمية تشوي وجوه الصليبيين وتأتي عليهم كأن لم يكونوا شيئا مذكورا، وفي الوقت نفسه مضوا يمدحون النبي الامين بعرض سيرته وبعث شذاها العطر، ورفعوها شعارات، بل لواءات، ليجتمع من حولها ابطال الاسلام والعرب، ويقضوا على

ص: 23

الصليبيين قضاء مبرما «24» .

ان ما ذهب اليه الدكتور شوقي ضيف معقول ومقبول، اما رأي الدكتور علي صافي حسين ففيه نظر، فهو يقول:«المدائح النبوية فن استحدثه المصريون في القرن السابع، اذ لم يكن له من قبل وجود لا في مصر ولا في غيرها من الاقطار العربية والاسلامية على الاطلاق» «25» .

اقول: ان من يراجع تراثنا الادبي الكبير والزاخر بشعر كثير قبل القرن السابع للهجرة يجد قصائد ومقطوعات في مديح الرسول- صلى الله عليه وسلم فيها جانب من سيرته العطرة ومعجزته القرآن العظيم الذي انزله الله جل جلاله ليبشر به الناس ويهديهم الى الصراط المستقيم. فمن الشعراء الذين وصل الينا من نظمهم في مدح الرسول الكريم ابو عبد الله ابن ابي زكريا الشقراطيسي (ت 496 هـ) في قصيدة اولها «26» :

الحمد لله منا باعث الرّسل

هدى باحمد منا احمد السّبل

خير البرية من بدو ومن حضر

وأكرم الخلق من حاف ومنتعل

ولأبي المظفر محمد بن احمد بن اسحاق الابيوردي (ت 507 هـ) قصيدة في مدحه مطلعها «27» :

(24) تاريخ الادب العربي، عصر الدول والامارات ص 409.

(25)

الادب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري ص 216.

(26)

المجموعة النبهانية 3/ 199.

(27)

ديوان الابيوردي 1/ 97.

ص: 24

خاض الدّجى ورواق الليل مسدول

برق كما اهتزّ ماضي الحدّ مصقول

وشارك ابو حفص عمر بن الحسن بن المظفر النيسابوري (ت 532 هـ) في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله من قصيدة «28» :

وخاتم المرسلين سيدنا

احمد ربّ السماء سمّاه

أشرقت الارض بعد بعثته

وحصحص الحقّ من محيّاه

ومن الاصوات العالية والمجيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم صوت ابي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ) فله قصيدة لامية مطلعها «29» :

أضاء لي باللّوى والقلب متبول

نجديّ برق بنار الحبّ موصول

وقصيدة رائية مطلعها «30» :

قامت لتمنعني المسير تماضر

أنّى لها وغرار عزمي باتر

(28) معجم الادباء 3/ 218.

(29)

المجموعة النبهانية 3/ 34.

(30)

نفسه 2/ 135.

ص: 25

ومن المكثرين في الاقبال على النظم في المديح النبوي الامام جمال الدين افضل الاسلام عبد الرحيم بن احمد بن محمد بن الاخوة البغدادي الشيباني (ت 548 هـ) ، وقد رآه عماد الدين الاصبهاني الكاتب، فقال:«خصّه الله بالفضل الوافر، والخاطر الواقر، والعلم الكامل، والادب الشامل. وهو أعجوبة العراق، وجوابة الافاق» «31» وقال: «اتفق حضوري عنده في الجامع، وبيده جزء فيه مدائح النبي صلى الله عليه وسلم» ، واورد له في خريدته اربع قصائد ومقطوعتين، من ذلك قوله «32» :

صلّى الاله على النبي محمد

هادي البرية والامام المهتدي

الصابر البر الرؤوف المرتضى

الماجد الندب الكريم السيد

الصادق المصدوق والبدر الذي

عمّ البلاد بنوره المتجدد

نجى به الله الانام من الردى

والناس في ليل الظلام الاسود

لا ينقضي بين الورى اعجازه

فدليله في اليوم باق في غد

فمن اهتدى بهداه فاز ومن عتا

عنه تردّد في العذاب الموصد

(31) الخريدة، قسم العراق 3/ 1:138.

(32)

نفسه 3/ 1: 199.

ص: 26

وله قصيدة «33» :

سلام على احمد المصطفى

سلام على الطاهر المرتضى

سلام على صفوة العالمين

سراج البريّة شمس الورى

سلام على خاتم الانبيا

محمد الماجد المجتبى

به شيد الله ركن التقى

به رفع الله شأن الهدى

وأيّد ملّته فانطوى

رداء الضلال بها وانجلى

ونجد للشاعر علي بن محمد بن علي العمراني (ت 560 هـ) قصيدة في مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نظمها في صباه، مطلعها «34» :

أضاء برق وسجف الليل مسدول

كما يهزّ اليماني وهو مصقول

وقد صاغها معارضا قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير في مدح

(33) نفسه 3/ 1: 200.

(34)

معجم الادباء 5/ 413.

ص: 27

الرسول، وافتتحها متغزلا بسعدى، وواصفا وجده وهيامه ودموعه المدرارة، مما يمكن ان يعد من مظاهر المبالغة والاسراف في النعت:

مهما تذكرتها فاض الجمان على

خديّ حتى نجاد السّيف مبلول

وانتقل الى قامتها الرشيقة فأدق النظر في الاعضاء وتقاطيعها، وأرهف النفس في البيان المحسوس والوصف المادي الملموس، شأنه شأن الشعراء الذين كانوا يجرون وراء المرأة، ويهيمون بهذا الضرب من الجمال، ويتطلعون الى النوال والوصال:

ظمأى الموشح، ريّان مخلخلها

عبل مؤزرها، والمتن مجدول

كأنما هي اذ ترخي ذوائبها

بدر عليها رواق الليل مسدول

كأنما شعرها درّ اذا ابتسمت

وريقها سحرا بالراح معلول

يا حبذا زمن فيه نسرّ بها

والشعب ملتئم والحبل موصول

ثم تخلص في انتقالة موفقة الى مدح خاتم الانبياء صلى الله عليه وسلم والحديث عن رسالته العظيمة المبعوث من اجلها التي بشربها الناس وهداهم الى سواء السبيل ونور طريقهم للمسير الى صالح الاعمال وخير الافعال، ومدح اصحابه الطيبين الطاهرين الذين تحملوا معه امانة هذه الرسالة.

ص: 28

ويبدو ان هذا الشاعر قد نظم شعرا كثيرا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما ذكره ياقوت الحموي معقبا على هذه القصيدة بقوله: «ولهذا الامام اشعار من هذا النمط» .

ومن الشعراء الذين خصصوا قصائد كثيرة لمدح نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، ابو نزار الحسن بن صافي بن عبد الله بن نزار الملقب بملك النحاة (ت 568 هـ)، يقول في احدى هذه القصائد «35» :

يا قاصدا يثرب الفيحاء مرتجيا

ان يستجير بعليا خاتم الرّسل

خذ من اخيك مقالا ان صدعت به

مدحت في آخر الاعصار والأول

قل يا من الفخر موقوف عليه فان

تذوكر الفخر لم يصدف ولم يمل

صيت اذا طلبت غاياته خرقت

سبعا طباقا فبذّت كلّ ذي أمل

علوت وازددت حتى عاد ممتدحا

جبريل عمّا له قد كان لم يطل

وعدت والكبر قد نافى علاك فما

عددت شيمة سبط الخلق مبتهل

أتتك غرّ قوافي المدح خاضعة

لديك فاقبل ثناء غير منتحل

(35) تهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 167.

ص: 29

ثناء من لم يجد وجناء تحمله

اليك او صدّ بالاقتار عن جمل

صلى عليك إله العرش مشتملا

عليك يا خير حاف ومنتعل

ونلقى للشاعر صفوان بن ادريس بن ابراهيم (ت 598 هـ) مدحا للرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول «36» :

تحية الله وطيب السلام

على رسول الله خير الانام

على الذي فتح باب الهدى

وقال للناس: ادخلوا بالسلام

بدر الهدى سحب الندى والجدا

وما عسى ان يتناهى الكلام

تحية تهزأ أنفاسها

بالمسك لا أرضى بمسك الختام

تخصّه مني ولا تنتني

عن آله الصيد السراة الكرام

وقدرهم أرفع لكنني

لم ألف أعلى لفظة من كرام

(36) معجم الادباء 4/ 269.

ص: 30

الشواهد الشعرية التي ذكرناها تدل من غير شك على وجود شعر في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم قبل القرن السابع للهجرة، اي لم يكن حكرا على هذا القرن وما تلاه، فهو موجود منذ وجدت البيئات الزهدية ثم الصوفية من بعد «37» ، ولكنه لم يكن بتلك السعة التي نلاحظها في القرن السابع، اي بعد ضعف الدولة العباسية وتشتت شملها ثم زوالها وتوالي هجمات الصليبيين من الغرب والتتر من الشرق.

نظم عدد كبير من الشعراء قصائد عامرة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، تناولوا فيها سيرته وما تنطوي فيها من احداث مولده ورضاعته ونشأته وبعثته وكفاحه ومهاده ووفاته. كما تناولوا الدين الاسلامي الذي هدى الناس واضاء لهم النور، واخرجهم من ظلمات الجهل والضلال، وأبان لهم طريق الهداية والحق.. ثم افرغوا ما في نفوسهم من حسرات لاهبة وآهات حرى.. وكان على رأس هؤلاء الشعراء الامام العلامة الضرير جمال الدين ابو زكريا يحيى بن يوسف الصّرصري البغدادي (ت 656 هـ) ، وهو «حسان وقته» «38» ، يقول ابن شاكر الكتبي عنه:«صاحب المدائح النبوية السائرة في الافاق، لا اعلم شاعرا اكثر من مدائح النبي صلى الله عليه وسلم اشعر منه، وشعره طبقة عالية» «39» ، وقد انصف احد الباحثين في قوله: «من اهم الشعراء الذين نبغوا في فن المدائح

(37) ينظر: المدائح النبوية لزكي مبارك ص 17.

(38)

الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 262.

(39)

فوات الوفيات 4/ 298، وينظر نكت الهميان للصعدي ص 308.

ص: 31

النبوية واجادوا فيها في جميع العصور الادبية» «40» . جاء في مقدمة احدى قصائده الطويلة: «وقال رحمه الله يمدحه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويذكر فيها احواله، وتقلباته منذ اراد الله خلقه، الى ان قبضه وادخله الجنة صلى الله عليه وسلم وسماها الروضة الناضرة في اخلاق محمد المصطفى الباهرة، وعددها ثمان مئة وخمسون بيتا، رحم الله ناظمها على قافية النون» «41» ، واولها:

سبحان ذي الجبروت والبرهان

والعزّ والملكوت والسلطان

والحمد لله الكريم الرازق

الخلاق متقن صنعة الانسان

والله اكبر لا إله سواه لي

سبحانه هو للصواب هداني

أصبحت أنظم مدح اكرم مرسل

لهجا به في رائق الاوزان

وتخذته لي جنّة ومعونة

فيها أروم فصانني وكفاني

حبّرت فيه قصيدة أودعتها

من مسند الاخبار حسن معاني

(40) المدائح النبوية بين الصرصري والبوصيري ص 98.

(41)

ديوان الصرصري 547. وينظر تاريخ الادب العربي لبروكلمان 5/ 18.

ص: 32

في وصفه من بدء تشريفاته

حتى الختام بحسن نظم معان

وقد وصل الينا ديوانه وفيه اكثر من احد عشر الف بيت اغلبه في المديح النبوي وبيان حال المسلمين في عصره.

وليس لنا- امام ما نراه ملائما لهذا البحث- الا ان نعرف بأشهر القصائد ونكشف عن بنيتها الفنية، والموضوعات التي احتوتها واهتمت بها اكثر من غيرها.

كان اغلب القصائد التي خصصت لمدح النبي صلى الله عليه وسلم ممهدة بأبيات قد تطول او تقصر تخلص الى الغرض الاساس، وللشعراء مسالك شتى فيها، وكان للغزل القدح المعلّى والنصيب الاوفر، وهذا الغزل اذا ما امعن الناظر اليه يجده لا يختلف في شكله ومضمونه عن الغزل الحسي الذي يتناول وصف مفاتن النساء ومحاسنهن، واقبالهن وادبارهن، وغنجهن ودلالهن

وما يعاني المحب من سهر وأرق، واشتياق وقلق.. وغالبا ما يلمح القارىء ذلك في القصائد التي نظمها الشعراء معارضة لقصيدة كعب بن زهير المشهورة التي يقول في مطلعها «42» :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يفد مكبول

(42) شرح ديوان كعب بن زهير ص 6.

ص: 33

قال ابو جعفر الابيري في معرض حديثه عن هذه القصيدة: «هي حجة الشعراء فيما سلكوه، وملاك أمرهم فيما ملكوه، حدثني بعض شيوخنا بالاسكندرية باسناده ان بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه الا بقصيدة كعب» «43» . وقد ساهم عدد كبير من الشعراء في عصر الحروب الصليبية وما بعدها. نظم قصائد على وزنها ورويها ومنهجها، منهم ابن الساعاتي (ت 604 هـ) ، وشرف الدين عبد العزيز بن محمد الانصاري (ت 662 هـ) ، ومحيي الدين بن عبد الظاهر (ت 692 هـ) ، وشبيب بن حمدان (ت 695 هـ) ، وشرف الدين محمد بن سعيد البوصيري (ت 696 هـ) ، واحمد بن عبد الملك العزازي (ت 710 هـ) ، وفتح الدين بن سيد الناس اليعمري (ت 734 هـ) ، وابو حيان الاندلسي (ت 745 هـ) ، وابن نباتة المصري (ت 768 هـ) ، والفيروز أبادي (ت 817 هـ)

وتجدر الاشارة الى أن للامام جمال الدين أبي زكريا يحيى بن يوسف الصّرصري قصيدتين على وزن هذه القصيدة وقافيتها: «44»

ولو امعنا النظر في هذا الغزل لوجدناه- في الاعم الاغلب- قريب المأخذ، سهل المعنى، قليل التلاعب اللفظي، تكلله هالة من العفة والطهر والرزانة. ولا بد من الاشارة الى ان شرف الدين عبد العزيز بن محمد الانصاري الوحيد الذي ضمن اغلب ابيات قصيدته اشطرا من

(43) نفح الطيب، 2/ 688.

(44)

ديوان الصرصري 394، 396.

ص: 34

قصيدة كعب بن زهير، نأخذ منها الابيات الاولى «45» :

أوهمت نصحا لوان النصح مقبول

(لا ألهينك اني عنك مشغول

بان التجلد عنّي والتصبر مذ

(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)

تياهة آثرت صدا لمغرمها

(متيم إثرها لم يفد مكبول)

ثرت دموعي اذ افترت بذي أشر

(كأنه منهل بالراح معلول)«46»

جديدة الحسن يبدو في مقسمها

(عتق متين وفي الخدّين تسهيل)

حلمت عند تمنيها بزورتها

(إن الاماني والاحلال تضليل)

خوّانة حقّقت فينا توعّدها

(وما مواعيدها الّا الاباطيل)

دعني فإن فاتني منها النوال فلي

(من الرسول باذن الله تنويل)

لقد اعتز المسلمون بقصيدة كعب بن زهير، وتوارثوها، وشرحوها،

(45) ديوان الصاحب شرف الدين الانصاري ص 389.

(46)

ثرت العين: غزر ماؤها أشر: حدة ورقة في اطراف الاسنان.

ص: 35

وعارضوها، وشطروها، وخمسوها، حتى قال المقرّي:«ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت الى الان ينسجون على منوالها، ويقتدون بأقوالها، تبركا بمن أنشدت بين يديه، ونسب مدحها اليه» «47» . وقد ذكر الباحث المحقق هلال ناجي ثلاثة وخمسين شرحا بين مطبوع ومخطوط لهذه القصيدة في مقدمة تحقيقه لكتاب (شرح بانت سعاد) لعبد اللطيف بن يوسف البغدادي المتوفى سنة 629 للهجرة «48» .

ومن القصائد التي نظمت معارضة لقصيدة كعب بن زهير قصيدة شهاب الدين احمد بن عبد الملك العزازي وقد جاء الغزل في مقدمتها، من ذلك قوله «49» :

دمي بأطلال ذات الخال مطلول

وجيش صبري مهزوم ومفلول

ومن يلاق العيون الفاتكات بلا

صبر يدافع عنه فهو مخذول

لم يدر من سلب العشاق انفسهم

بأنه عن دم العشاق مسؤول

وبي أغنّ غضيض الطرف معتدل ال

قوام لدن مهزّ العطف مجدول

(47) نفح الطيب 2/ 189.

(48)

شرح بانت سعاد ص 9- 22.

(49)

فوات الوفيات 1/ 95، المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي 1/ 341.

ص: 36

كأنّه في تثنيه وخطرته

غصن من البان مطلول ومشمول

سلافة منه تسبيني وسالفة

وعاسل منه يصبيني ومعسول

وكلّما مرضت أجفان مقلته

يصح الا غرامي فهو منحول

يا برق كيف الثنايا الغرّ من إضم

يا برق أم كيف لي منهنّ تقبيل

ويا نسيم الصّبا كرّر على أذني

حديثهنّ فما التكرار مملول

التجربة الشعورية- كما يبدو- خافتة في هذه الابيات، والانتقال من المؤنث الى المذكر لا نعهده عند شاعر اخر، وغزله لا يتجاوز وصف القد والخد والريق والسالفة والاجفان..

ان التجاوز في التغزل والتشبيب والالتجاء الى المذكر في مطالع القصائد، والافراط فيه، قد جعل ابن حجة الحموي أن يقول: «إنّ الغزل الذي يصدر به المديح النبويّ يتعيّن على الناظم ان يحتشم فيه ويتأدب، ويتضاءل ويتشبب، مطريا بذكر سلع وسفح العقيق والعذيب والغوير ولعلع واكناف حاجر، ويطرح ذكر محاسن المرد، والتغزل في ثقل الارداف، ورقة الخصر، وبياض الساق، وحمرة الخد، وخضرة العذار،

ص: 37

وما اشبه ذلك» «50» ، وهذا القول اطلقه ابن حجة الحموي في معرض حديثة عن احدى نبويات ابن نباتة المصري وعفتها وحشمتها وبراعة استهلالها، وهي «51» :

صحا القلب لولا نسمة تتخطر

ولمعة برق بالغضا تتسعر

والقارىء للقصيدة يجد ابن نباتة المصري يساير الشعراء الاخرين الذين سبقوه في بناء قصائدهم المدحية، ولا يختلف عنهم في تغزله ووصف غانيته الحسناء وفاتنته الغيداء، ذلك الوصف الذي يخرج عن مبادىء ابن حجة الحموي في صفات الغزل الموجودة في مطالع المدائح النبوية التي ذكرها آنفا كما في قوله من القصيدة نفسها:

يروقك جمع الحسن في لحظاتها

على أنّه بالجفن جمع مكسّر

من الغيد تحتفّ الظّبا بحجابها

ولكنها كالبدر في الماء يظهر

يشف وراء المشرفية خدّها

كما شفّ من دون الزجاجة مسكر

(50) خزانة الادب لابن حجة الحموي ص 11.

(51)

ديوان ابن نباتة المصري ص 180. وينظر ابن نباتة المصري امير شعراء المشرق ص 275.

ص: 38

ولا عيب فيها غير سحر جفونها

وأحبب بها سحّارة حين تسحر

اذا جردت من برودها فهي عبلة

وان جردت الحاظها فهي عنتر

واين نضع قول ابن حجة الحموي تجاه نبوية ابن نباتة المصري التي عارض بها قصيدة كعب بن زهير، التي يقول في مطلعها «52» :

ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول

هذا وكم بيننا من ربعكم ميل

ومنها:

أبكي اشتياقا اليها وهي قاتلتي

يا من رأى قاتلا يبكيه مقتول

مسكية الخال، اما ورد وجنتها

فبالجنى من عيون الناس مبلول

فإن يفح من نواحي خدّها عبق

فالمسك فيه بماء الورد مجبول

تفتر عن شنب حلو لذائقه

في ذكره لمجاج النحل تعسيل

(52) نفسه ص 372.

ص: 39

مصحّح النقل عن شهد وعن برد

لانّه منهل بالراح معلول

ويبدو ان اعجاب ابن حجة الحموي بشعر ابن نباتة المصري الذي خصص لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ست قصائد أنساه ما فيه من غزل حسي تناول فيه مفاتن المرأة ووصفها وتجسيد صور الحسن فيها والقاء الظلال الجميلة عليها:

وقد اسرف ابو حيان الاندلسي في كشف مواطن الجمال وسحر الاعضاء عند الحبيبة، واول قصيدته «53» :

لا تعذلاه فما ذو الحبّ معذول

العقل مختبل والقلب متبول

هزت له أسمرا من خوط قامتها

فما انثنى الصبّ الا وهو مقتول

ومنها:

فالنحر مرمرة، والنشر عنبرة

والثغر جوهرة، والريق معسول

والطّرف ذو غنج، والعرف ذو أرج

والخصر مختطف، والمتن مجدول

(53) ديوان ابي حيان الاندلسي ص 461.

ص: 40

هيفاء ينبس في الخصر الوشاح لها

درماء تخرس في الساق الخلاخيل «54»

من اللواتي غذاهنّ النعيم فما

يشفّين أباؤها الصيد البهاليل

وتتوالى الابيات في هذا الغزل حتى يخلص الى مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وهو- كما مر- يتناول اعضاء المرأة ويعرضها للسامع بأسلوب مثير وكأنه يعرض جارية للبيع.. وهذه حالة لا يتعاطف القلب معها ولا تستأنس النفس بذكرها.

اما الغزل بالمذكر او المرد- كما قال ابن حجة الحموي- فهو قليل اذا ما قيس بحجم الغزل بالمؤنث، وهو لا يهبط- كما بدا لنا- الى الدرك الاسفل من الادب المرذول كما هو الحال عند الشعراء المشهورين بالمجون والتهتك وقلة الحياء، واليك هذا المثال لشمس الدين محمد بن عفيف الدين (سليمان) التلمساني المعروف بالشاب الظريف (ت 688 هـ) في مطلع قصيدة يمدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذكر فيها قسوة المحبوب وعدم مبالاته بما يعاني المحب من أرق وقلق «55» :

(54) درم الساق: استوى، وامراة درماء: لا تستبين كعوبها ومرافقها، وكل ما غطاه الشحم واللحم خفي حجمه فقد درم.

(55)

ديوان الشاب الظريف ص 43.

ص: 41

هذا الذي أحبّه

قاس عليّ قلبه

نام ولم يعلم بما

بات يقاسي صبّه

واعجبا كم عاج بي

دلاله وعجبه

آها لمعننىّ واله

لم يدر كيف ذنبه

وثمة طريقة اخرى في ابتداء القصائد المدحية هي التشبيب بالديار الحجازية وذكر معالمها، او الحنين اليها والتشوق الى ساكنيها، والبكاء على قاطينها، ووصف الابل الضامرة، وحديث السّرى، والمناهل والنباتات، والمواضع التي تقع على امتداد الطريق، والريح والبرق والرعد، وكل الظواهر الطبيعية التي تراها العين

فهي تؤدي الى الحبيب والشفيع، الى من لا يخيب شفاعة مستجير

مثل قول ابي زكريا جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري «56» :

ذكر العقيق فهاجه تذكاره

صبّ عن الاحباب شطّ مزاره

(56) ديوان الصرصري 139.

ص: 42

وهفت الى سلع نوازع قلبه

فتضرمت بين الجوانح ناره

كلف برامة ما تألق بارق

من نحوها الا بدا اضماره

يشتاق واديها ولولا حبّها

لم يصبه واد زهت أزهاره

شغفا بمن ملك الفؤاد بأسره

وبودّه ألّا يفكّ إساره

لولا هواه لما ثنى اعطافه

بان الحجاز ورنده وعراره

يا من ثوى بين الجوانح والحشا

مني وان بعدت عليّ دياره

عطفا على قلب بحبك هائم

ان لم تصله تصدعت أعشاره

وارحم كئيبا فيك يقضي نحبه

أسفا عليك وما انقضت او طاره

لا يستفيق من الغرام وكلّما

حجبوك عنه تهتكت استاره

ما اعتاض عن سمر الحمى ظلّا ولا

طابت بغير حديثكم أسماره

ص: 43

هل عائد زمن تضوّع نشره

أرجا ورقت بالرضا أشجاره

في مريع بقباب سلع موفق

بالأنس تهتف بالمنى أطياره

لقد وجدنا مثل هذه المطالع عند كثير من الشعراء الذين خصصوا قصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ونوهوا بسيرته العطرة، امثال: فتيان الشاغوري «57» ، ومحمد بن حمزة بن معد «58» ، وابن جبير الاندلسي «59» ، وداود بن عيسى الأيوبي «60» ، واحمد بن عبد القوي الربعي «61» ، وكمال الدين الزملكاني «62» ، وابن دقيق العيد «63» ، ومحمد بن احمد بن عبد الرحمن «64» ، ومحمد بن عيسى النصيبي «65» ، وضياء الدين علي بن

(57) ديوان فتيان الشاغوري ص 108.

(58)

الطالع السعيد ص 518.

(59)

ديوان الرحالة ابن جبير الاندلسي ص 104.

(60)

الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية ص 177.

(61)

الطالع السعيد ص 91.

(62)

فوات الوفيات 4/ 9.

(63)

ابن دقيق العيد حياته وديوانه ص 139.

(64)

الطالع السعيد ص 492.

(65)

نفسه ص 613.

ص: 44

محمد الغرناطي السكندري «66» ، والامام البوصيري «67»

وعدد كبير من شعراء المغرب والاندلس الذين نأت اوطانهم عن المشرق «68» .

ويعد شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري فارس هذا الميدان، ولا سيما في قصيدته المعروفة ب (البردة) ، او (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، التي مطلعها:

أمن تذكّر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

واومض البرق في الظلماء من إضم

وهي من أشهر قصائده ذيوعا وانتشارا، لما امتازت به من قوة الاسلوب، وحسن الصياغة، وجودة المعاني، وجمال التشبيهات، وروعة الصور، يضاف الى ذلك ما نسج حولها بعض المعجبين بها، ولا سيما المتصوفة من قصص «69» .

تقع قصيدة البردة للبوصيري في اثنين وثمانين ومئة بيت، وقد

(66) عيون التواريخ 21/ 410.

(67)

ديوان البوصيري ص 238.

(68)

ينظر نفح الطيب 7/ 432- 517.

(69)

ينظر الشعر العربي في العراق من سقوط السلاجقة حتى سقوط بغداد ص 272.

ص: 45

استأنس- كما يبدو- عند نظمها بميمية ابن الفارض التي مطلعها «70» :

هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم

أم بارق لاح في الزوراء فالعلم

وبميميتي الامام يحيى بن يوسف الصّرصري الاولى مطلعها «71» :

أمط رحال السّرى يا حادي النّعم

عنها فهذا مقيل الرّوح والنّعم

والثانية مطلعها «72» :

هذي تهامة فاحبس غير متّهم

واعلم بأنّ الهوى عن يمنة العلم

وقد ظلت قصيدة البوصيري تستهوي قلوب المسلمين وتستلهم الشعراء لمعارضتها لجماليتها اللغوية والايقاعية وما تحمله من صور وأخيلة تداعب نفوس الكثيرين وتشدهم الى حب نبيهم صلى الله عليه وسلم نأخذ منها الابيات الاتية «73» :

(70) ديوان ابن الفارض ص 128.

(71)

ديوان الصرصري 514.

(72)

ديوان الصرصري 522.

(73)

ديوان البوصيري ص 239.

ص: 46

لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل

ولا أرقت لذكر البان والعلم

فكيف تنكر حبا بعدما شهدت

به عليك عدول الدمع والسقم

وأثبت الوجد خطّي عبرة وضنى

مثل البهار على خديك والعنم «74»

نعم سرى طيف من هوى فأرقني

والحب يعترض اللذات بالألم

عدتك حالي لا سري بمستتر

عن الوشاة ولا دائي بمنحسم

محضتني النصح لكن لست أسمعه

إن المحبّ عن العذال في صمم

ومنها:

هو الحبيب الذي ترجى شفاعته

لكلّ هول من الاهوال مقتحم

دعا الى الله فالمستمسكون به

مستمسكون بحبل غير منفصم

(74) البهار: ورد اصفر. العنم: ورد احمر.

ص: 47

فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم

ولابد من التنويه بان شعر الحنين الى ارض الحجاز والاماكن المقدسة وذكر معالمها ومباهجها وما دب فيها من انسان وحيوان، وما نبت فيها من شجر وزرع لم يكن من ابتداع هؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم، بل سبقهم شعراء كثيرون منذ زمن الشريف الرضي، واشتهر بذلك حسام الدين عيسى بن سنجر الإربلي المعروف بالحاجري (ت 632 هـ) نسبة الى حاجر، احدى المواضع الحجازية التي تغنى بها واكثر من ذكرها في شعره «75» .

لقد استطاب الشعراء هذا اللون في مطالع قصائدهم المدحية لحبهم وشوقهم الى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ضمته تلك الديار كما عبر عن ذلك ابن دقيق العيد في قوله «76» :

تهيم نفسي طربا عندما

استملح البرق الحجازيّا

ويستخف الوجد عقلي وقد

أصبح لي حسن الحجى زيّا

(75) ينظر بحثنا (حسام الدين الحاجري الاربلي) في مجلة اداب المستنصرية، العدد 10 لسنة 1984.

(76)

ابن دقيق العيد، حياته وديوانه ص 154.

ص: 48

يا هل أقضّي حاجتي من منى

وأنحر البزل المهاريّا

فأرتوي من زمزم فهي لي

ألذّ من ريق المهاريّا

ويتخلل بعض مطالع الحنين والشوق الى الديار الحجازية وصف الابل التي تقلّهم وما تعاني من تعب ومشقة في قطع الفيافي والمسير في مضارب الصحارى وهي صابرة على الطعام والماء، من ذلك الابيات الاتية من قصيدة لعمر بن النصير الحريري (ت 711 هـ) الذي اجاد في تصوير حالتها وهي تدبّ في سيرها وتسعى حثيثا وهي تحمل اثقالها للوصول الى مثوى حبيب المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم «77» :

ما لمطايانا تميل مالها

أظنّ رمل رامة بدا لها

لا تحسبنّ ميلها عن ملل

وإنّما سكر الهوى أمالها

وربّما كلّت ولكن شوقها

يمنعها ان تشتكي كلالها

وكلّ صعب في سراها هيّن

لا سيما ان بلغت آمالها

(77) الطالع السعيد ص 446.

ص: 49

تبدي نشاطا عندما يطلقها

حابسها بحلّه عقالها

تجد وجدا في الحزون كلما

تذكرت من يثرب اطلالها

وإن حدا الحادي بذكر طيبة

هيج ذكر طيبة بلبالها

فشوقها يسوقها حتى ترى

آمالها هناك او آجالها

ترى أراني زائرا منازلا

أقصد من كلّ الورى نزّالها

فيها أجلّ مرسل لأمّة

كانت ترى رشادها ضلالها

المطايا لا يقل شوقها الى يثرب ومن فيها عن شوق راكبيها وحداتها، فهي لا تكلّ ولا تملّ ولا تشتكي، تستسهل الصعب، وتستهين بالحزون والشعاب، من اجل ان تحط رحالها عند أجلّ مرسل واكرم نبي واهدى مبعوث.

وهناك مذهب آخر سلكه فريق من الشعراء في مطالع المدائح النبوية، هو التوجه الى المسلمين باللوم والتقريع، او النصح والارشاد وبيان مضار الغواية والضلال والاعمال المشينة والافعال المقرفة والعواقب الوخيمة التي تنتظر الخارجين عن جادة الصواب والحساب

ص: 50

العسير الذي سيلاقونه ان هم تمادوا في غيهم وافعالهم الضالة، من ذلك ما جاء في لامية شرف الدين البوصيري التي مطلعها «78» :

الى متى انت باللذات مشغول

وأنت عن كلّ ما قدمت مسؤول

في كلّ يوم ترجي ان تتوب غدا

وعقد عزمك بالتسويف محلول

ومنها:

فجرد العزم إنّ الموت صارمه

مجرد بيد الآمال مسلول

واقطع حبال الاماني التي اتصلت

فإنما حبلها بالزور موصول

انفقت عمرك في مال تحصله

وما على غير إثم منك تحصيل

ورحت تعمر دارا لا بقاء لها

وأنت عنها وان عمّرت منفول

جاء النذير فشمّر للمسير بلا

مهل فليس مع الانذار تمهيل

وصن مشيبك عن فعل تشان به

فكلّ ذي صبوة بالشيب معذول

(78) ديوان البوصيري ص 172.

ص: 51

ان الكثير من قصائد المديح النبوي يبدأ بواحد من التمهيدات السابقة، والقليل يخلو منها، ولا سيما القصائد القصيرة والمقطوعات، كما هو الحال عند الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد الانصاري (ت 662 هـ) حيث نجد في ديوانه مجموعة نبويات تبدأ بالمديح مباشرة، يظهر عليها التصنع والعناية بالمحسنات اللفظية والمعنوية، حتى انه بنى قوافي احداها على لزوم ما لا يلزم، منها «79» :

جلّ ربعا بطيبة حلّ فيه

خير حال بسؤدد وعفاف

حجرات كم للملوك وللأم

لاك فيهنّ من حفا واحتفاف

واليه خفت بنا العيس في عر

ض الفيافي قوادما وخوافي

يمّمت ما جدا سرت مدح الا

يات منه، ثم اقتضتها القوافي

وبعد ان عرضنا المقدمات والوانها في اشهر القصائد التي تناولت مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ننتقل الى متون هذه القصائد لنرى مضامينها وكيف عالجها الشعراء. فأول ما يطالعنا منها الغزل بذات الرسول وذكر حسنه وبهائه وجماله وصفاته وسحر عينيه ورموشه وثغره وطيب أريجه وحلو

(79) ديوان الصاحب شرف الدين الانصاري ص 327.

ص: 52

حديثه وبشر وجهه وطلاقته، من ذلك قول شرف الدين البوصيري «80» :

نبيّ كامل الاوصاف تمت

محاسنه فقيل له الحبيب

وصفت شمائلا منه حسانا

فما أدري امدح أم نسيب

وتناول جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري في كثير من نبوياته، وبأسلوب شيّق جذّاب، نعت النبي صلى الله عليه وسلم ونوره الساطع وحسن شعره، وبريق ثغره، وطيب نشره، مثل قوله «81» :

اوجهك أم ضوء الصباح تبلّجا

أم البدر في برج الجمال جلى الدّجى

أم الشمس يوم الصّحو في برج سعدها

وفرعك أم ليل المحبّ اذا سجا

وبرق سرى أم نور ثغرك باسما

ونشرك أم مسك ذكيّ تأرجا

أتتك جنود الحسن طوعا بأسرها

فصرت مليكا في الجمال متوّجا

فأضحت ابيّات القلوب أسيرة

لديك فلم يملكن عنك معرّجا

(80) ديوان البوصيري ص 35.

(81)

ديوان الصرصري ص 85.

ص: 53

فطوبى لعبد انت سيده لقد

سما بين ارباب البصائر والحجى

هام هذا الشاعر حبا في النبي صلى الله عليه وسلم، وشغف به شغفا لا نجده عند كبار الشعراء المحبين، قال عنه ابن تغري بردي «82» :«كان من العلماء الفضلاء الزهاد العباد، وكان له اليد الطولي في النظم، وشعره في غاية الجودة، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد لا تدخل تحت الحصر كثرة» .

كان هذا الشاعر الهائم بحب النبي صلى الله عليه وسلم، يأتي بأجمل النعوت، بل بكل جميل في الوجود، يقول في تضاعيف احدى قصائده «83» :

هو الأبلج البادي الوضاءة وجهه

كبدر الدّجى كان أبهى وأجملا

كأنّ مجال النور فوق جبينه

سنا بارق أو واضح الصبح اقبلا

قسيم وسيم أوطف الهدب عينه

بها دعج يسمو فيحسب أكحلا

وأشرب خداه البياض بحمرة

كورد ندّ هبت له الريح شمألا

أغرّ الثنايا واضح النحر جيده

من الفضة البيضاء أحسن مجتلى

(82) النجوم الزاهرة 7/ 66.

(83)

ديوان الصرصري ص 406.

ص: 54

أجلّ الورى فرعا وانور مفرقا

وأجمل عرنينا وأحلى مقبّلا

واقومهم قدّا والين معطفا

وأعذب الفاظا واصدق مقولا

وكان الكثيرون من المسلمين يقبلون على سماع الغزل في ذات النبي صلى الله عليه وسلم إقبالا واسعا ويهتزون له، وشاع في اوساط العامة شيوعا كثيرا، ورددوه في احتفالهم سنويا بمولده، وتغنوا به، مما دعا بعض العلماء من رجال الدين الى انكاره، فقال صاحب المجموعة النبهانية في المدائح النبوية:«واقبح من التشبيب بالنساء والولدان في ذلك ما يستحسنه بعض الجهال القاصرين من سماع الاشعار المشتملة على المعاني الغزلية في وصف الذات الشريفة المحمدية مما يأباه كلّ ذي طبع سليم ولا يستحليه الا كلّ ذي ذوق سقيم. وقد ادخلوا بعض تلك الاشعار في قصة المولد الشريف المنسوبة الى بعض العلماء، وصارت تقرأ في مجالس العوام فلا تذكر، وذلك من أقبح المذكر، فليتجنب سماعه وليحذر، ومن ذا الذي يستحسن ان يتغزل به أو بأبيه او برجل جليل من قومه او ممن يعتقدهم ويجلهم من العلماء والاولياء وغيرهم من الاكابر والاجلاء، كما يتغزل بالولدان والنساء؟ لا شك في ان ذلك لا يستحسنه احد من العقلاء» «84» .

(84) المجموعة النبهانية 2/ 14.

ص: 55

ومن الشعراء من تناول مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ورضاعته ونشأته وبعثته واسراءه ومعراجه وجهاده ومعجزاته وما ظهر عند مولده وعند بعثته وتعد قصيدة جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري النونية من اطول القصائد في هذا المجال، فهي في ثماني مئة واثنين وخمسين بيتا، وضع فيها سيرة الرسول كاملة «85» ، منها قوله:

لما اصطفى الله الخليل وزاده

شرفا ونجاه من النيران

اختار اسماعيل من اولاده

وبني كنانة من بني عدنان

ثم اصطفى منهم قريشا واصطفى

ابناء هاشم الفتى المطعان

ثم اصطفى خير الانام محمدا

من هاشم فسمت على قحطان

وأبان كعب جدّه في خطبة

بعروبة في سائر الاخوان «86»

فضل النبي وودّ ان يبقى الى

أيامه لقتال ذي شنآن

(85) ديوان الصرصري 547- 595.

(86)

كعب بن لؤي جد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول من سنّ الاجتماع يوم الجمعة. وعروبة: يوم الجمعة.

ص: 56

ولقد بدت أنواره بجبين عب

د الله ظاهرة لذي عرفان

وبدت لآمنة الحصان لحملها

بأخفّ حمل راجح الميزان

ولدته عام الفيل يوم الاثنين فاح

تاز الفخار بفضله الاثنان

بربيع الأدنى بثاني عشرة

ويوافق العشرين من نيسان

واغلب قصائد هذا الشاعر الطويلة تتناول السيرة العطرة للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته المؤمنين المجاهدين الذين صارعوا قوى الكفر والبغي والضلال «87» .

ويعد شرف الدين البوصيري من الشعراء الذين بلغت شهرتهم القمة في المديح النبوي ولا سيما في مطولاته مثل: قصيدته الهمزية (457 بيتا) التي سرد فيها حياة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الولادة حتى الوفاة وما رافقها من جهاد ومواقف عظيمة في اصلاح الامة وانقاذها من الضلالات والاوهام والخرافات.. مطلعها «88» :

كيف ترقى رقيّك الانبياء

يا سماء ما طاولتها سماء

(87) ينظر ديوان الصرصري، قصيدته اللامية، 557 بيتا، ص 430- 462.

(88)

ديوان البوصيري ص 49.

ص: 57

انه تناول مولده ورضاعته وما وهب الله حليمة السعدية من خير وبركة ورزق وفير، واخلاقه واخلاصه وأمانته ووفاءه وزواجه من خديجة وبعثته، ونزول جبريل عليه، ودعوته للناس في الدخول الى الاسلام، وكفاحه وصموده في مكة، ثم خروجه الى المدينة، واستقبال الانصار له، وصبره وانتصاره على المشركين والمكابرين، ومحاربته اليهود، وذكر معجزاته

جاء فيها قوله:

رحمة كلّه وحزم وعزم

ووقار وعصمة وحياء

لا تحلّ البأساء منه عرى الصب

ر ولا تستخفه السراء

كرمت نفسه فما يخطر السّو

ء على قلبه ولا الفحشاء

عظمت نعمة الاله عليه

فاستقلت لذكره العظماء

جهلت لومه عليه فاغضى

وأخو الحلم دأبه الاغضاء

وسع العالمين علما وحلما

فهو بحر لم تعيه الاعباء

وفي قصيدته اللامية (204 ابيات) ذكر بعض ما حدث بعد

ص: 58

ولادته، مثل خمود نار فارس، وانجماد نهرهم، واهتزاز صرح ملكهم «89» :

كم آية ظهرت في حين مولده

به البشائر فيها والتهاويل

ونار فارس أضحت وهي خامدة

ونهرهم جامد والصرح مشلول

وفي قصيدته المشهورة ب «البردة» تحدث عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ان ايوان كسرى تصدع، ونار الفرس خمدت، وبحيرة ساوة غاضت، والشهب انقضت فوق الاصنام، ثم اعقب ذلك حديثا عن المعجزات، فذكر سجود الاشجار للرسول، وسير الغمام أنّى سار لتقيه الهجير، وما صنع الحمام والعنكبوت بالغار، وكان لبس راحته يشفي المريض، وكانت دعوته ترسل بالامطار في السنة المجدبة

استوعب البوصيري السيرة النبوية، ونقل طرفا كبيرا منها في شعره، وصاغه بأسلوب واضح وميسور كي يسهل فهمه وحفظه وترديده، واضاف الى ما اخذه عن السيرة اخبارا لا تعرف- كما يقول الدكتور زكي مبارك- «متى نشأت عند المسلمين، واغلب الظن انها من وضع القصاص الذين ارادوا ان يصوروا مولد الرسول بالصور التي أثرت عن أنبياء الهنود، وقد اكثر مؤرخو المولد النبوي من هذه الاخبار، وطاف بها

(89) ديوان البوصيري ص 174

ص: 59

جمهور الناظمين في المدائح النبوية» «90» . ووجدت «فئة من الناس كانت تحفظ كثيرا من هذه المدائح وتطوف في البلاد تغني بما تحفظ وهي تضرب على العود والقيثارة وغيرهما مما يصلح في هذا المقام، تجمع الصدقات، فلا عيش لها الا من هذا العمل، ولا ربح لها الا من التغني بمدائح الرسول» «91» .

وهكذا تحولت المدائح النبوية عند عدد كبير من الشعراء الى تاريخ منظوم لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلى في المحافل الدينية، أو مناسبات خاصة تبركا بهذه السيرة العطرة، مثل نجاة من ازمة او خلاص من مصيبة او كارثة، او حالات فرح وابتهاج مثل عودة من حج او زواج او ختان او شفاء من مرض او بناء دار او اعتلاء منصب او نجاح في اختبار.... وقد يكون في ذكرى رجل خير توفى قبل مدة

ومثال على ذلك قول شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي (ت 725 هـ) من قصيدة عدد ابياتها مئة وواحد وثمانون بيتا «92» :

حملتك آمنة الحصان فلم تجد

عب ءا كعبء الحاملات ثقيلا

وولدت مختونا وذلك آية

لا تقبل التأويل والتعليلا

(90) المدائح النبوية ص 189.

(91)

الحروب الصليبية واثرها في الادب العربي ص 252.

(92)

المجموعة النبهانية 3/ 275- 289، وينظر شهاب الدين محمود الحلبي- حباته وشعره ص 356- 367.

ص: 60

ورأت لك الاحبار والرهبان في ال

توراة وصفا طابق الإنجيلا

واستبشروا بك إذ ظهرت وبشّروا

الّا قليلا حرّفوا ما قيلا

وكذاك بشّرت الهواتف في الرّبى

بك والكواهن أجملت تفصيلا

والجنّ ترمي بالكواكب بعد ان

كانت تطيق الى السماء وصولا

وخمود بيت النار من آياتك ال

لاتي تردّ الطرف عنك كليلا

وكذا بحيرة ساوة غارت وقد

كانت جوانبها تفوت الميلا

وكذلك الايوان أعظم معجز

بهر العقول وحيّر المعقولا

لما هوت شرفاته وانشقّ مر

تجس البناء مشطرا مخذولا

واسترضعتك حليمة فرأت من ال

بركات ما أغنى أخا وخليلا

وبيمن وجهك صدّ خالقك العدا

عن بيت كعبته وردّ الفيلا

ص: 61

ومنها:

وأسرّ للعمّ الشفيق بأنّ لاب

ن أخيك شأنا في الوجود جليلا

فاحذر عليه من اليهود فإنّهم

إن يقدروا يوما عليه اغتيلا

ومنها:

وأضاءت الدنيا واشرق نورها

وبدا الهدى وغدا الضلال ضئيلا

وأتاك بالوحي الامين وانت في

اقصى حرا متبتلا تبتيلا

فوعيت ما أوحى وقد ألقى به

قولا من الذكر الحكيم ثقيلا

نورا كأنّ بكلّ قلب حله

لضياء باطنه به قنديلا

عجز الورى عنه فما اسطاعوا له

حاشاه تشبيها ولا تمثيلا

وتتواصل ابيات القصيدة في الحديث عن ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم وما ورد له من ذكر في التوراة والانجيل، ويأتي على بعض علامات نبوته التي مر ذكرها عند البوصيري، وهي خمود نار فارس، وانحسار الماء عن بحيرة

ص: 62

ساوة، وانكسار ايوان كسرى

وينتقل الى رضاعته والبركة التي انهالت على حليمة السعدية، ونشأته، ونبوته، ومعجزاته، وجهاده، ومواقفه مع المشركين واليهود.

ان هذا الشاعر لم يضف شيئا جديدا على ما ورد في شعر البوصيري، ولم يرق الى لغته وتفصيله وطريقة عرضه للسيرة النبوية.

لقد كان حديث المعجزات جزءا رئيسا من مادة المديح النبوي في كثير من القصائد، حتى ان عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف (ت 695 هـ) سماها في احدى مدائحه بالخوارق «93» :

هل جاء قبلك مرسل بخوارق

الا وجئت بمثله او أزيد

فخوارق النبي محمد صلى الله عليه وسلم فاقت- في نظره- خوارق اخوانه الانبياء وتجاوزت عليهم. ويسميها محمد بن محمد بن عيسى الشيباني (ت 707 هـ) بالبراهين بعد ان ساق عددا منها في قصيدة له «94» :

عجبت لمن يتعامى عن ال

براهين وهي من الشمس أجلى

ومما يلاحظ ان الحروب الصليبية ولدت صراعا عنيفا بين

(93) فوات الوفيات 2/ 281.

(94)

الطالع السعيد ص 617.

ص: 63

المسلمين وخصومهم، وتجلى اثر ذلك في الشعر الذي خصص لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، اذ نجد فيه ردا عليهم ومناقشتهم ودحض آرائهم وتسفيه احلامهم واقامة الحجة عليهم «95» . ومن جانب آخر نجد بعض الشعراء يتخذ من المدائح النبوية ذريعة للتحدث عن حال العرب بعد ان استبد الاعاجم بمقاليد الامور وسيطروا على مرافق الحياة الهامة، من ذلك ما قاله شمس الدين محمد بن عفيف الدين سليمان المعروف بالشاب الظريف «96» :

أرض الاحبّة من سفح ومن كثب

سقاك منهمر الانواء من كثب

ولا عدت أهلك النائين من نفس ال

صّبا تحية عانى القلب مكتئب

قوم هم العرب المحميّ جارهم

فلا رعى الله إلّا أوجه العرب

أعزّ عندي من سمعي ومن بصري

ومن فؤادي ومن اهلي ومن نشبي

لهم عليّ حقوق مذ عرفتهم

كأنني بين أم منهم وأب

(95) ينظر ديوان البوصيري ص 178.

(96)

ديوان الشاب الظريف ص 56.

ص: 64

ان كان أحسن ما في الشعر اكذبه

فحسن شعري فيهم غير ذي كذب

يا ساكني طيبة الفيحاء هل زمن

يدني المحبّ لنيل السؤل والأرب

أرض مع الله عين الشمس تحرسها

فان تغب حرستها أعين الشّهب

وكان صوت جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري من اعلى الاصوات الشعرية في التحذير من الاعاجم ولا سيما التتر؛ فانه اتخذ من المديح النبوي منبرا للمناداة بالتهيؤ الى مواجهتهم واعداد العدة لا فشال نواياهم في احتلال ديار المسلمين وضربهم بقسوة كي يتوبوا من تحركاتهم، فها هو ذا يستنجد بالرسول صلى الله عليه وسلم ويقول «97» :

فأعنّا عليهم وأغثنا

غوث نصر على الطغاة اللئام

سل لنا الله ذا المعارج نصرا

دائرا فيهم بكأس الحمام

وثباتا كيوم بدر لأقدا

م جنود لنا ذوي إقدام

(97) ديوان الصرصري ص 504.

ص: 65

قل الهي ثبت قلوب رجال

عن حريم الاسلام أضحت تحامي

واقذف الرّعب في قلوب عداهم

وارمهم بالشتات بعد التئام

وكان يخاف على بغداد ويسميها «بيضة الاسلام» لمكانتها في قلوب الناس، واحتضانها العلماء والصالحين ويدعو الله ان يصونها من كيد الاعداء وحقد الخبثاء فيقول «98» :

وفتنة التتر العظمى التي قرحت

منها لوقعها الأحشاء والكبد

أودت بمن حولنا فتكا وليس لنا

الا وعدك الميمون مستند

لا تستبيح من الاسلام بيضته

يد العدا وإن اعتدوا وان حشدوا

ان دعاءه لحفظ بيضة الاسلام من الطغاة البغاة لم ينقطع من مدائحه للرسول صلى الله عليه وسلم ألذي أسر جوارحه ولهج بذكره طوال حياته، فهو يقول «99» :

(98) نفسه ص 110.

(99)

نفسه ص 31.

ص: 66

محمد خير مبعوث بمرحمة

من خير بيت عليه أجمع العرب

وداره بيضة الاسلام ليس لها

بوعده من جميع الناس منتهب

ونحن أمته ما صدّنا رهب

عنه ولا غالنا عن حبه رغب

فليخسأ التتر الطاغون من فئة

لها الصّغار وذلّ القهر والعطب

وبقي يدعو في مدائحه النبوية الى الحيطة والحذر والتهيؤ لملاقاة الطامعين في ديار المسلمين، ولم يسكت الى يوم استشهاده في حوادث بغداد الدامية سنة 656 للهجرة، فمن استشفاعه برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله «100» :

يا سيّد البشر المختار من مضر

يا جار مضطهد ضاقت به الحيل

أجب نداء شج مستصرخ قلق

من فتنة أمعنت انيابها العصل

البر من رعبها والبحر منزعج

والحرث والخيل والانعام والخول «101»

(100) نفسه ص 393.

(101)

الخول: ما يعطيه الله سبحانه للعبد من النعم.

ص: 67

فاسأل لنا الله نصرا قاهرا لهم

مثبتا لقلوب شفّها الوجل

ومن الاشياء البارزة التي يلاحظها القارىء في بعض المدائح النبوية، ولا سيما في البيئات الصوفية، فكرة الحقيقة المحمدية او النور المحمدي، اذ جعل كثير من هؤلاء الصوفية «مخبة الرسول جزءا من محبة الذات الالهية، بل ان محبتهما واحدة، وحقيقتهما واحدة، فلا فريق بين الحقيقة المحمدية والحقيقة الالهية التي تمثلت في الانبياء وتتمثل في اقطاب الصوفية من بعدهم، ولعل متصوفا لم يتغنّى بأزلية الوجود المحمدي كما تغنى ابن عربي الصوفي المشهور» «102» ، وكذلك جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري، مثل قوله في احدى نبوياته «103» :

لما بنى الله السماوات العلى

سبعا تعالى الله أكرم باني

فسمت وزانتها بحكمة صنعه

ز هو النجوم وزانها القمران

والارض سبعا مدّها فتذللت

وتزيّنت ببدائع الالوان

(102) فصول في الشعر ونقده ص 232.

(103)

ديوان الصرصري ص 547.

ص: 68

ورست عليها الشامخات بإذنه

فحمت جوانبها من الفيدان «104»

وأتمّ خلق العرش خلقا باهرا

فغدا من الاجلال ذا رجحان

كتب الاله اسم النبي محمد

فوق القوائم منه والاركان

فسرى السكون به وقد كتب اسمه

في جنّة المأوى على الاغصان

وخيامها وقبابها وعلى مصا

ريع القصور تفضّل المنان

فلذاك آدم حين تاب دعا به

متوسلا فأجيب بالغفران

لولاه لم يخلق أبونا آدم

وجحيم نار او نعيم جنان

قد كان آدم طينة ومحمد

يدعى نبيا عند ذي الاحسان

لقد اسرت الحقيقة المحمدية او النور المحمدي قلوب كثير من الشعراء المتصوفة وجعلتهم يذكرونها في قصائدهم التي نظموها في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، منهم جمال الدين محمد بن ابي بكر بن رشيد البغدادي

(104) الميدان: الاهتزاز والاضطراب.

ص: 69

الوتري (ت 662 هـ) الذي خصص جلّ شعره «105» لبيان عظمة خاتم الانبياء والمرسلين وفضله على البشرية في انقاذهم من الضلالة والاوهام وجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وابراهيم بن أبي المجد الهاشمي «106» المعروف بسيدي ابراهيم الدسوقي (ت 676 هـ) ، واحمد بن علي «107» المشهور بالسيد البدوي (ت 675 هـ) ، وضياء الدين علي بن محمد بن يوسف الخزرجي «108» (ت 686 هـ)

وقد بالغ بعض الشعراء في الحقيقة المحمدية ونسجوا حولها كثيرا من التهويلات، مثل قولهم: لولاه ما ظهر شمس ولا قمر ولا نجوم ولا أنهار ولا ثمار ولا بدر ولا جبال وغير ذلك

مثل قول ابن نباتة المصري «109» :

لولاه ما كان أرض لا ولا أفق

ولا زمان ولا خلق ولا جيل

ولا مناسك فيها للهدى شهب

ولا ديار بها للوحي تنزيل

ومثل قول ابن الساعاتي (ت 606 هـ) من قصيدة له في مدح

(105) ينظر ديوان الوتري ص 6.

(106)

ينظر الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 181.

(107)

ينظر الجواهر السنية ص 62، 100.

(108)

ينظر عيون التواريخ 21/ 410.

(109)

ديوان ابن نباتة المصري ص 373.

ص: 70

الرسول صلى الله عليه وسلم «110» :

لولاه لم تك شمس لا، ولا قمر

ولا الفرات وجاراها ولا النيل

ولم يجب آدم في حال دعوته

نعم ولم يك قابيل وهابيل

ويرى شرف الدين البوصيري ان محمدا صلى الله عليه وسلم دان الانبياء قبل ان يخلق «111» :

وكل آي أتى الرسل الكرام بها

فإنما اتصلت من نوره بهم

فإنه شمس فضل هم كواكبها

يطهرن أنوارها للناس في الظلم

فهذا الغلو لا يفهم الا اذا عرفنا انه يرجع الى اصل من أصول التصوف، وهو القول ب «الحقيقة المحمدية» ، اذ كان تمجيد عدد من المتصوفة البالغ للرسول اساسا في تمجيدهم وفنائهم في الخالق الاعظم «112» .

(110) ديوان ابن الساعاتي ص 44.

(111)

تنظر تفاصيل ذلك في (التصوف الاسلامي) لزكي مبارك 1/ 268.

(112)

وفيات الاعيان 1/ 169.

ص: 71

ان حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والهيام بذكره، وزيارة ضريحه، والتعطر بأريجه، والتعبد في جواره، والتهجد في ظلاله، كانت الامنية الكبرى لكل مسلم مؤمن، وقد احسن ابو العباس احمد بن محمد المعروف بابن العريف (ت 536 هـ) وصف اولئك الذين شدوا الرحال وازجوا المطي وتوجهوا في سفرهم الى زيارة نبيهم وحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم:

شدّوا المطيّ وقد نالوا المنى بمنى

وكلّهم بأليم الشوق قد باحا

سارت ركائبهم تندى روائحها

طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا

نسيم قبر النبيّ المصطفى لهم

روح اذا شربوا من ذكره راحا

يا واصلين الى المختار من مضر

زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر

ومن أقام على عذر كمن راحا

وقفنا من خلال عرضنا السابق على المضامين والمعاني التي احتوتها القصائد، وننتقل الان الى خواتيمها وابرز ما حفلت بها من المعاني.

بعد ان رانت الاحزان والآلام في عصر الحروب الصليبية، وثقلت وطأتها، على القلوب، وعجز المسلمون في كثير من الاحيان دفع الضر

ص: 72

الذي اناخ بكلكله عليهم، التجأوا الى رسولهم وملاذهم محمد صلى الله عليه وسلم، متضرعين ان يزيل هذا الضر، ويعمهم برحمته، وينزل عليهم صيبا من نعمائه، ويغفر عن ذنوبهم وزلاتهم وما اقترفت السنتهم من سوء وما قدمت ايديهم من قبيح الاعمال وشائن الافعال.. فها هو ذا جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري يتوجه الى نبيه ان يكون شفيعا له عند الله في رفع الخطب الثقيل الموجع عنه وان يجعله واهله واولاده وقرابته في أمن وايمان وعافية ويجنبهم من كل سوء واذى «113» :

يا سيدي يا رسول الله يا سندي

في كلّ خطب ثقيل موجع الالم

أنا المقرّ بذنبي قد قصدتك كي

تستوهب الله لي ذنبي ومجترمي

فاستغفر الله لي يا من اذا نزلت

بي شدّة فيه أنجو من النّقم

واقبل تضرّع عبد واثق بك في

دفع الخطوب العوادي عنه معتصم

واسأل لاهلي واولادي وذي سبب

به وصلت واخواني وذي رحم

أمنا وصونا وإيمانا وعافية

من كلّ سوء وبشرى عند مختتم

(113) ديوان الصرصري ص 518.

ص: 73

عليك من صلوات الله أطيبها

تبقى بقاء نعيم غير منصرم

ويستغيث شمس الدين محمد بن عفيف الدين سليمان المعروف بالشاب الظريف بشفيع الورى محمد صلى الله عليه وسلم ان يخلصه من ذنوبه التي تعاظمت «114» :

فيا خاتم الرّسل الكرام ومن به

لنا من مهولات الذنوب تخلّص

أغثنا، أجرنا من ذنوب تعاظمت

فأنت شفيع للورى ومخلّص

ويتأمل ابو محمد فتيان بن علي الاسدي الشاغوري (ت 615 هـ) من خير الانام شفاعة يكسب بها نعيم الخلد وظله الوارف «115» :

أؤمّل من خير الانام شفاعة

بها في نعيم بالجنان أخلّد

فأنت رسول الله وهي شهادة

أقرّ بها حتى المعاد وأشهد

(114) الديوان ص 154، وينظر السمو الروحي في الادب الصوفي ص 336.

(115)

ديوان فتيان الشاغوري ص 108.

ص: 74

وقصد كمال الدين ابن الزملكاني (ت 727 هـ) الرسول صلى الله عليه وسلم كي يخفف عن نفسه هم الذنوب التي اصبحت لا تفارقه، ويسأله العصمة فيما بقي من عمره، ونعمة كافية تقيه ذلّ السؤال «116» :

يا أفضل الرّسل يا مولى الانام ويا

خير الخلائق من انس وأملاك

ها قد قصدتك أشكو بعض ما صنعت

بي الذنوب وهذا ملجأ الشاكي

قد قيّدتني ذنوب عن بلوغ مدى

قصدي الى الفوز منها فهي أشراكي

فاستغفر الله لي واسأله عصمته

فيما بقي وغنى من غير امساك

عليك من ربك الله الصلاة كما

منا عليك السلام الطيب الزاكي

وغلب على شعر المتصوفة الذين كثر عددهم في عصر الحروب الصليبية وازدحمت بهم التكايا والزوايا هذا الطابع، وهو البكاء من ثقل الخطايا والاوزار وطلب الصفح والعفو والمغفرة، كما يلاحظ في شعر احد الصوفية الكبار، الشيخ الفقيه ابي الحسن علي بن عبد الله الششتري (ت 668 هـ) الذي تميز بالسهولة والليونة والانحدار

(116) فوات الوفيات 4/ 9.

ص: 75

احيانا نحو العامية ولا سيما أراجيزه وأزجاله التي غطت على جزء كبير من ديوانه، مثل قوله في القطعة الآتية وقد جاءت في مقدمتها «117» :

«الابيات الثلاثة الاولى معروفة في التاريخ الاسلامي، أنشدها الانصار في حضرة النور الاعظم محمد بن عبد الله حين اشرف على المدينة يوم الهجرة الاولى، واستعارها الششتري هنا واضاف اليها، ويتوارثها شاذلية دمياط حتى الان ينشدونها في حضرتهم:

أقبل البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أيّها المبعوث فينا

جئت بالامر المطاع

أقبل البدر علينا

واختفت منه البدور

مثل حسنك ما رأينا

قطّ يا وجه السرور

أنت شمس انت بدر

انت نور فوق نور

(117) ديوان ابي الحسن الششتري ص 439.

ص: 76

أنت إكسير وغالي

أنت مفتاح الصدور

ما رأينا النوق حنّت

في الدّجى الا اليك

والغمامة قد اظلت

والقمر سلم عليك

وأتاك الجذع يبكي

وتذلل بين يديك

واستجار يا حبيبي

عندك الظبي النفوز

ومما يلاحظ في خواتيم كثير من القصائد ابيات مخصصة للصلاة والتسليم على النبي الهادي البشير صلى الله عليه وسلم وعلى آله واصحابه الغر الميامين، مثل قول جلال الدين محمد بن احمد بن عبد الرحمن الكندي (ت 711 هـ) في خاتمة قصيدة له في المديح النبوي «118» :

فبمن عليك صلاته وسلامه

ولديك منه الرّوح والريحان

لا تنسنا من فضل جاهك عندما

تطوى السماء وينشر الديوان

(118) الطالع السعيد ص 493.

ص: 77

صلى عليك الله ما هطل الحيا

وسرى النسيم ومالت الاغصان

وعلى صحابتك الذين أتاهم

من ذي الجلال النصر والرضوان

وقول تاج الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب المعروف بابن بنت الاعز (ت 695 هـ) في خاتمة قصيدة نظمها بعد ان قضى فريضة الحج وزار مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وانشدها بها «119» :

صلوات ربك والسلام عليك ما

حييت من متوجه متعبد

وعلى صحابتك الكرام وآلك ال

برءاء من قول الجهول المفسد

وعلى ضجيعيك اللذين تشرفا

بالقرب منك بمقعد وبمرقد

لقد وقف كثير من الشعراء «120» ، وبقلوب خاشعة، ونفوس هائمة، بباب رسولهم مصلين عليه، ومسترحمين وطالبين ان يفرج عنهم، كما

(119) فوات الوفيات 2/ 281.

(120)

ينظر: السمو الروحي في الادب الصوفي 278، 283، 284، 286، 287، 298، 302، 347.

ص: 78

يقول محمد بن محمد بن عيسى الشيباني (ت 707 هـ) في خاتمة قصيدة طويلة «121» :

وقفنا ببابك نشكو اليك

من الكرب والكرب قد عمّ كلّا

وأنّى نظرت لنا نظرة

تلاشى بها كربنا واضمحلا

فلا تتخلّ عن المذنبين

اذا المرء عن والديه تخلّى

وصلّى عليك الغفور الرحيم

وسلّم ما صام عبد وصلّى

وهكذا حظيت المدائح النبوية في عصر الحروب الصليبية باهتمام كبير من عامة المسلمين، وعدّوها احدى الوسائل التي تنجيهم من المصائب والويلات والكروب، وتدفع عنهم أذى الجائرين وسطوتهم، وتخلصهم من نكد الدنيا، وتوسع لهم في الرزق والمعاش، وتغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وآثامهم وما تأخر، وتجلب لهم رضى الله ورحمته، وتدخلهم فسيح جنته.. وقد تميزت هذه المدائح بحرارة العاطفة، وصدق التعبير، وعذوبة الالفاظ، والبعد عن التعقيد والاغراب..

وتجدر الاشارة الى ان المدائح النبوية كانت تقرأ في حلقات الذكر

(121) الطالع السعيد ص 618.

ص: 79

عند المتصوفة ويغلب على اسلوبها البساطة واليسر، والتجاوز احيانا عن الفصاحة والجزالة كما يلاحظ في شعر الصوفي الكبير ابي الحسن الششتري، او الالتجاء الى لغة دارجة او متحررة من قواعد الاعراب وقوانين الشعر كما قال ابن حجر العسقلاني في احد الشعراء:«كان ابن البصيص- توفي سنة 716- ينظم نظما عاريا من الاعراب على طريقة الصوفية» «122» .

(122) الدرر الكامنة 4/ 377، الادب في العصر المملوكي 1/ 232.

ص: 80